array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 103

شمال إفريقيا .. بين التواري الأمريكي والبزوغ الروسي

الأحد، 03 كانون2/يناير 2016

مع انحسار التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بعد الحروب التي خاضتها في العراق سنة1991 م، ثم سنة 2003م، ومن قبلها في أفغانستان على أثر هجمات 11 سبتمبر 2001 م، التي أججت حربا عالمية على الإرهاب، وتنامي العداء للسياسات الأمريكية المتغطرسة في المنطقة والمنحازة لإسرائيل، اندلعت ثورة 14 يناير 2011م، في تونس لتزيد الأمور تعقيدا بعد أن تمددت لتشمل مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا. وإن كان الوضع في تونس قد استقر نسبيا منذ انتخابات 2014م، فإن تردي الوضع السياسي والأمني في بعض البلدان الأخرى أدى إلى حروب أهلية وفوضى عارمة، خاصة في ليبيا وسوريا واليمن، وكان الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكيةهواللاعب الرئيسي فيها. وبتدخل روسيا في الصراع الدائر في سوريا، انقسم العالم إلى شقين، وقد زاد ذلك من حدة التوتر وتفاقم الصراع السياسي بين الدول العظمى، كل منها يريد الدفاع عن مصالحه وفرض رؤيته حول كيفية إنهاء هذا الصراع الدامي الذي أصبح يهدد العالم بأسره. ولم تسلم منطقة المغرب العربي، وخاصة تونس، من تداعيات هذا الواقع المضطرب الذي تفشت فيه ظاهرة التطرف والعنف، وانتشار الأسلحة وتفاقم التهريب والجريمة المنظمة، مع بروز منظمات إرهابية كالدولة الإسلامية في العراق والشام التي بات طموحها يتجاوز هذين البلدين ليصبح عالميا بعد نشر خرائط مجالها المرتقب الذي يضم أجزاء من آسيا وأوروبا إضافة إلى كامل المنطقة العربية بعد أن بدلت اسمها ليصبح " الدولة الإسلامية". فبايعتها عدة منظمات إرهابية أخرى "كأنصار الشريعة" المتمركزة أساسا بالقطر الليبي والتي تهدف إلى زعزعة النظام في تونس تساندها "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وكتيبة "عقبة بن نافع". فما هو تأثير التواري الأمريكي والبزوغ الروسي في منطقة الشرق الأوسط على الدول العربية في شمال إفريقيا؟ وما مدى تداعيات هذا الواقع الجديد المتسم بتغير موازين القوى بالشرق الأوسط وتفكك الدولة في ليبيا على مواجهة الإرهاب والتطرف في شمال إفريقيا، وما هو مستقبل المنطقة في ظل هذه المتغيرات؟ هذا ما سنحاول طرحه في هذه الورقة البحثية.

1. فتور اهتمام واشنطن بمنطقة الشرق الأوسط وتقدم روسيا  

لا يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تفقد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي، ذلك أنها لا تزال تمسك بخيوط اللعبة السياسية رغم التدخل الروسي القوي في سوريا، وقبله في الملف النووي الإيراني. ورغم أن التواجد العسكري الأمريكي في العراق، وقبله في أفغانستان البلد القريب والمتواصل جغرافيا مع المنطقة، قد انحسر بجلاء معظم القوات، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تمتلك أوراقا هامة أولها التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل، ومع تركيا القوة الرئيسية للحلف الأطلسي في المنطقة، كما تربطها عدة اتفاقات تعاون عسكري واستراتيجي مع بلدان المنطقة كالسعودية وقطر والبحرين والكويت. ولكن يمكن القول بأن منطقة الشرق الأوسط كانت في السابق ثم أصبحت الآن تعد إحدى ساحات التنافس الرئيسية على النفوذ بين القوتين الأمريكية والروسية؛ فسوريا ساحة صراع واشتباك سياسي وعسكري، وكذلك العراق. أما مصر، فهي ساحة تنافس سياسي ودبلوماسي وكذلك اليمن. ويسعى الطرفان إلى الحصول على مكاسب أهمها اقتصادية، ثم دبلوماسية مع إيران.

لكن السياسة الخارجية الأمريكية تمر بتحولات كبيرة منذ بدء فترة الرئيس "باراك أوباما" الثانية، أبرزها اعتماد نظرية "الارتكاز الآسيوي (Asian Pivot)الذي أعلنه "أوباما" عام 2011م، والذي بمقتضاه تصبح منطقة شرق آسيا منطقة ذات أولوية قصوىبالنسبة للسياسة الأمريكية ، التي تشهد صعودًا غير مسبوق للصين، وتوسعا لها في منطقة بحر جنوب الصين، بما يهدد التوازن الاستراتيجي مع دول مثل اليابان وأستراليا، وهو التوازن الذي تمثل الولايات المتحدة عماده الأساسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية صعود الصين في تلك المنطقة من المحيط الهادي تهديدالمصالحها، ليس عسكريًا واستراتيجيًا فقط، ولكن اقتصاديًا أيضًا، لأن دولا مثل اليابان وأستراليا ومجموعة "الأسيان" تمثل ركائز هامة للاقتصاد الأمريكي.

هذا الالتفات الأمريكي نحو شرق آسيا صاحبه انطواءو انسحاب جزئي من منطقة الشرق الأوسط، برغم الحاجة المتواصلة لموارد الطاقة فيها، التي لم تعد تمثل الأهمية القصوى بالنسبة  للولايات المتحدة، وذلك بسب استكشاف واستغلال "الغاز الصخري" الذي جاء بثورة جديدة في عالم الطاقة، وامتلاك أمريكا لكميات هائلة منه، والذي من المتوقع أن يجعل من الولايات المتحدة لاعبًا مهمًا في عالم الغاز، ومصدّرًا ذا وزن خلال عقود، وهو ما يعني تحرّرًا جزئيًا من أعباء الإدارة اليومية لشؤون الشرق الأوسط، التي فرضتها أهمية النفط الخليجي للاقتصاد الأمريكي على امتداد عقود ..

وقد نتج عن هذا الانسحاب الجزئي الناتج عن تحويل الجهد إلى آسيا قصد احتواء الصعود السريع والمتنامي للصين، وبعد خروج القوات الأمريكية من العراق، ودخول "إيران" كلاعب قوي في السياسة الشرق أوسطية، إعادة الحسابات من طرف الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة، خاصة منها المملكة العربية السعودية وتركيا، وذلك فيما يتعلقباعتمادها على الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار والتوازن الاستراتيجي؛ فوجدت هذه الدول نفسها مضطرة للتصرّف في "الإرث الاستراتيجي" أو الفراغ السياسي والعسكري الذي تركته أمريكا وأن تلعب دورها في التعامل مع التعقيدات الأمنية في المنطقة الأمر الذي حدى بالمملكة العربية السعودية أن تشرع في معالجة القضايا الأمنية بالمنطقة دون ترقب الدعم أو حتى الموافقة الأمريكية لانطلاق عمليات عاصفة الحزم . ولكن هذا لا يعني تخلي الولايات المتحدة الأمريكية نهائيًا عن المنطقة نظرًا لخطورة ملف الإرهاب، ثم لسعيها للمحافظة على استقرار أسعار النفط واستمرار تدفقه، ولوجود مصالح سياسية واقتصادية كبيرة مع دول الخليج، لأن عدم استقرار هذه الدول سيؤثر بشكل كبير على أمريكا.

   ويعود عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخل البري العسكري في الصراعات الدائرة في المنطقة إلى الكلفة العالية لهذا التدخل في الأرواح والمال من جهة، وإلى التخوف من إثارة الرأي العام الداخلي الذي يخشى التدخل في هذه المنطقة من جهة أخرى، ثم إلى أن حماية إسرائيل تأتي على رأس الأولويات وليست كالملفات الأخرى التي يمكن معالجتها سياسيًا ودبلوماسيًا.

ويمكن اختصار الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط والخليج العربي والشرق الأوسط الكبير في جملة المبادئ ووسائل العمل التالية:

 أولا العمل على تحقيق إصلاحات سياسية في بلدان هذه المناطق والتعامل مع مسألة تكريس الديمقراطية بها حسب الحالة.

ثانيا، تحقيق التوازن الاستراتيجي بين الدول والتحكم فيه.

ثالثا، اعتماد رؤية ليبرالية جديدة في الملف الاقتصادي.

 رابعا، تحقيق الاستقرار العالمي من خلال شبكات من القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم، وقوات منتشرة بأوروبا جاهزة للتدخل السريع في المنطقة، بالإضافة إلى جملة المعاهدات الثنائية مع عدة بلدان بالشرق الأوسط.

أما فيما يتعلق بالحضور الروسي، تشير بعض التحاليل إلى أن سبب دخول روسيا إلى سوريا هو تراجع قوات "بشار الأسد " أمام هجمات الدولة الإسلامية، وأن ميناء "طرطوس" أصبح مهددًا مما سيحرم روسيا من المرفق الاستراتيجي الوحيد الذي مازالت تمتلكه في المنطقة ويبقى هذا التحليل بسيطًا نوعًا ما لأن ما هو أهم هو سياسي دبلوماسي أكثر منه عسكري. ذلك أن الرئيس فلاديمير "بوتين" يريد أن يؤكد شيأين رئيسيين: الأول هو أن روسيا تعارض تغيير النظام في سوريا لأسباب سنبينها لاحقا ،وأنها ستدافع عن حلفائها في كل مكان في محاولة لإبراز أنها لا تزال قوة عظمى يحسب لها حساب. وأن مسألة بقاء "بشار الأسد" في الحكم هي مسألة ثانوية بحيث لا يتم تغييره إلا عبر اتفاق تكون روسيا طرفا قويًا فيه أثناء التفاوض عليه وليس طرفًا ضعيفًا. و يتمثل السبب الثاني في أن روسيا يجب أن تكون طرفًا متعاونًا مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب ضد الدولة الإسلامية، والإرهاب الجهادي في العالم، وأنه يتعين التنسيق معها في هذا المجال لأن روسيا تعتبر أكثر عرضة لتداعيات هذا الإرهاب من "أمريكا" في إشارة واضحة إلى منطقة "القوقاز" .

وبالتالي، فإن استراتيجية روسيا تكمن في أن التحالف الذي يمكن إرساؤه مع الولايات المتحدة الأمريكية في ملف مقاومة الإرهاب سيكرس الإقرار بأن "روسيا" لا تزال قوة عالمية كبرى لها شأن في السياسة العالمية، الشيء الذي سيخرجها من العزلة وانحسار النفوذ والتهميش، إذا صح القول، والتي تردت فيه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالساحة الدولية. وهذا التحالف سيحرك الجمود الذي باتت عليه لأزمة بينهما في الملف الأوكراني.

كما أن روسيا تريد أن تستغل الكراهية المتنامية للعرب والمسلمين لتدخل القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا في المنطقة العربية وهو ما جعل منها منطقة توتر متواصل وخراب يخدم بالأساس المصالح الغربية وإسرائيل، بإعطاء الانطباع بأنها الدولة الوحيدة التي تدافع عن الشرعية الدولية وتقاوم فعلًا المنظمات الإرهابية.

وبعد إن لعبت روسيا دورًا مهمًا ورئيسيًا في الملف النووي الإيراني الذي أدى إلى إبرام اتفاق نهائي مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ورفع العقوبات الاقتصادية على هذا البلد، تمكنت روسيا من المحافظة على مصالحها وتقويتها مع إيران التي أصبحت حليفًا استراتيجيًا لها مما سيمكنها من السيطرة على الحدود التركمانية الإيرانية وسيؤمن لها منطقة القوقاز من مزيد التوتر، وهي المنطقة التي تخشى روسيا تنامي الجهاد الإسلامي فيها، بالإضافة إلى صفقات الأسلحة والتعاون الاقتصادي والفني المتزايد مع سوريا التي تمثل البلد الأهم في الشرق الأوسط الذي لا يمكن لروسيا ترك تقرير مصيره إلى الغرب وحده.

لقد بدأ التعاون السوري ـ الروسي على إثر حرب السويس سنة 1956م، وتدعم في أواخر الخمسينات. ودفعت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل روسيا، التي رأت في مصر حلقة ضعيفة من بين حلفائها في المنطقة، إلى مزيد التعاون مع سوريا وتحقيق توازن استراتيجي من خلال التحالف معها لمجابهة التحالف الجديد الذي كرسته معاهدة " كامب ديفيد". أما بالنسبة لسوريا فإنها رأت أن التعاون العسكري والفني مع روسيا سيمكنها من تحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وبالتالي يصبح حافظ الأسد المحاور الذي لا يمكن تجاهله في كل المفاوضات المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي. ورغم أن روسيا زودت سوريا بأنواع من الأسلحة لا تمكن من تحقيق التفوق الاستراتيجي، فإنها أعطت الانطباع بأنها تساند جبهة الرفض والممانعة التي تتمحور حول سوريا وجبهة التحرير الفلسطينية.

وعند وصول " ميخائيل غورباتشوف" إلى سدة الحكم بدأ الوضع يتغير، ذلك أن الاتحاد السوفيتي لم تعد له الوسائل الكافية لتقديم الإعانات العسكرية لسوريا في ظل تفكك الاقتصاد الروسي في ذلك الوقت. ونتيجة لذلك، غيَر حافظ الأسد من سياسته فدعم الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد العراق، ثم ونتيجة لمسار " برشلونة" ازداد التقارب بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في التسعينات وتمتين العلاقة مع قطر والسعودية؛ إلا أن التعاون العسكري مع "روسيا" لم يتوقف، بل تقلص وأصبح مربوطا بمدى قدرة سوريا على دفع المستحقات من شراء الأسلحة.

وفي ظل تنامي معاداة الولايات المتحدة الأمريكية على إثر الحرب في العراق، شرعت روسيا ابتداء من 2003/2004 م، في إعادة ربط علاقاتها بالشرق الأوسط، وكانت سوريا إحدى حلقات السياسة الروسية في المنطقة. ففي سنة 2005 أعاد بشار الأسد محاولة تمتين العلاقات مع روسيا من جديد فتمكنت من محو حوالي 75 بالمائة من ديونها. ولكن اغتيال رفيق الحريري في لبنان واتهام سوريا بتدبير ذلك، زاد من عزلة النظام السوري وساعد على جلاء القوات السورية من لبنان. ثم عادت العلاقات بين البلدين من جديد على إثر أحداث 2011 نظرا للروابط القديمة والقوية بين الشعبين السوري والروسي فتكرس التعاون العسكري والدبلوماسي من جديد. وقد لعب البعد الديني دورا مهما لأن روسيا رأت أنها مطالبة بحماية الأقليات المسيحية الأرثوذكسية بالخصوص، التي تمثل نسبة كبيرة منهم، وبالتالي فإن مساندة النظام البعثي العلماني يكتسي أهمية كبرى لمجابهة الإسلام السياسي المنتشر بقوة في الشرق الأوسط والذي يمثل تهديدا مباشر لروسيا.

لقد كانت التسعينات بالنسبة لروسيا بمثابة العشرية السوداء نظرا لتدهور نفوذها أمام قوة عظمى "فائقة القوة" كما يقول " هوبرت فيدرين" وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كان تدخل الحلف الأطلسي في" صربيا" سنة 1999م، وفرض وجود " كوسوفو" كدولة مستقلة ذات سيادة بمثابة الإهانة لروسيا، ولكن أحداث 11 سبتمبر 2011 م، طورت العلاقات مع "أمريكا" باسم المقاومة المشتركة للإرهاب الشيء الذي مكنها من المعالجة القوية للملف الشيشاني.

ويتجاوز الرهان الحالي في المنطقة الملف السوري، فالولايات المتحدة متوطنة في المنطقة منذ معاهدة " كانسي" Quincy سنة 1945م، المبرمة بين روزفلت والملك "عبد العزيز آل سعود" على متن الباخرة الحربية التي تحمل نفس الاسم والذي يقتضي التعاون لحماية أمن السعودية لمدة 60 سنة والتي تم تجديدها لنفس المدة سنة 2005م، مع الرئيس "بوش الابن". فتواجد الولايات المتحدة الأمريكية في الخليج العربي يمثل إحدى دعامات قوتها العالمية التي لا يمكن الاستغناء عنها خاصة مع تطلع الصين إلى الثروات الطاقية الموجودة فيها، وإلى المواقف الروسية من مختلف القضايا بالمنطقة. وبالتالي فإن المحافظة على ميناء "طرطوس"، وهي القاعدة البحرية الوحيدة لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، يمثل رهانا هاما لها دون أن يكون هذا الرهان هو الأهم، فالروس لا يريدون الاستغناء عن هذا الميناء تماما كما أنهم لا يريدون الاستغناء عن ميناء " سيبستيبول" في "أوكرانيا". ولا يخفى أن محطات الرادار الروسية الموجهة نحو تركيا، ومنها ما هو موجود في المنطقة الشمالية الغربية بسوريا، لا تزال تحت السيطرة الفنية والمتابعة من طرف خبراء روس. ولهذا السبب احتجت روسيا عندما قام الحلف الأطلسي بنشر صواريخ " باتريوت" على الحدود التركية السورية لأن ذلك يهدد المصالح الروسية في سوريا.

ثم إن تصلب الموقف الروسي في الملف السوري يعود أساسا إلى عدم رضا روسيا عن تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا إبان الثورة الذي أدى إلى تفكك الدولة. فقد امتنعت روسيا التي تبعتها الصين باتخاذ نفس الموقف عن التصويت على القرار 1973م، بتاريخ 17 مارس 2011م، الذي أوجد منطقة حظر جوي في ليبيا رغم أن هذا القرار لم يحتو على ما يفترض تغيير النظام بهذا البلد. ولكن تورط الحلف الأطلسي ومسؤوليته في القبض على "معمر القذافي" ثم إعدامه مباشرة بعد ذلك جعل روسيا تعتبر أن هذا القرار تم خرقه. وبالتالي، أخذت روسيا هذه المعطيات في الاعتبار فلم تسمح لمجلس الأمن بأخذ قرار يجيز استعمال القوة في سوريا تحت الفصل السابع في مناسبات متعددة. وهذا الموقف، جعل روسيا تبدو أمام الرأي العام في البلاد العربية والإسلامية، وخاصة لدى ذوي التوجه العروبي والقومي، الدولة الوحيدة التي تتمسك بالشرعية الدولية، والقوة العالمية التي يمكن لها الوقوف أمام التدخل الغربي في سوريا. وقد تمكنت روسيا من اقتلاع موافقة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها فيما يسمى باتفاق "جنيف" في 30 جوان 2012 م، حول سوريا حيث وافق الجميع على عدم الاشتراط المسبق لرحيل بشار الأسد لحل المعضلة السورية والاكتفاء بتكوين حكومة انتقالية تضم عناصر من النظام. ولكن "أمريكا" سرعان ما تراجعت عن هذا الموقف. وأصبح اتفاق " جنيف" محل جاذبات بين كل الأطراف. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم ردة فعل روسيا عندما تم الاعتراف بالتحالف الوطني السوري الذي تم إرساؤه في "الدوحة" في 11 نوفمبر 2012 والذي اعتبرته غير مقبول، لأن من شروط الحكومة المؤقتة التي تم الاتفاق عليها هو شرط ذهاب بشار الأسد وعدم الدخول في مفاوضات مع النظام في سوريا. وبالنسبة لروسيا، فإن هذا الاتفاق يتضمن التفكيك السياسي لسوريا وحل الجيش كما حصل بالعراق بعد احتلالها سنة 2003 وهو أمر شديد الخطورة على السلم والاستقرار في المنطقة بأسرها. ويتمثل الهدف الرئيسي للدبلوماسية الروسية في التشبث بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة في سوريا. كما أن الروس يرون أن عسكرة الصراع في سوريا، وتسليح المعارضة، يمثل خطرا جسيما على الغرب نفسه وعلى روسيا، ذلك أن ما حصل في الشيشان لا يزال عالقا في نفسية الروس. وقد حذرت روسيا الغرب من تسليح المعارضة بأسلحة متطورة ومضادة للطائرات لأن ذلك لن يزيد المشكل إلا تعقيدا. وبالتالي فإن روسيا لا تريد إتباع استراتيجية في الشرق الأوسط تعود عليها بالمضرة وهي البلد الذي يعيش فيه أكثر من 22 مليون مسلم.

2. الوضع في ليبيا وتأثيره على مقاومة الإرهاب والتطرف في شمال إفريقيا

مع سقوط نظام "القذافي" وبروز المظاهر المسلحة التي تقودها الجماعات الإسلامية المتشددة، عادت النزعات القبلية إلى ليبيا بصورة أكثر تعقيدا من السابق، وعادت النزعات الانفصالية، لاسيَّما في منطقة "الزنتان" وفي الشرق الليبي الذي يتباهى سكانه بأنهم يمتلكون الثروة النفطية المنهوبة من قبل العاصمة طرابلس بوصفها مركز السلطة.

وبدل أن يكون سقوط "القذافي" فرصة لإعادة بناء الدولة الوطنية، فرضت الحركات الإسلامية الجهادية والعصابات المسلحة منطقها الخاص القائم على تصدير الإرهاب إلى الخارج، والعمل على تفكيك وتقسيم ليبيا إلى دويلات القبائل والحركات الجهادية التكفيرية المرتبطة بتنظيم "القاعدة" و" الدولة الإسلامية".

لقد كانت لسقوط النظام السابق في ليبيا تداعيات إقليمية كبيرة. فهناك إجماع داخل الدول الغربية والمغاربية، ودول الساحل الإفريقي، حول خطورة انتشار الأسلحة بصورة كبيرة في ليبيا، وانتقالها أيضاً عبر الحدود إلى الدول المجاورة (تونس، الجزائر، مالي، النيجر، التشاد وموريتانيا) وهي مناطق الصحراء الكبرى، التي ينشط فيها تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وكتيبة "عقبة بن نافع" والمرابطون" والموقعون بالدم" و" حركة أنصار الدين" بالإضافة إلى المتمردين الطوارق في الصحراء الكبرى.

فمنذ الإطاحة بنظام "القذافي"، ظلت تونس ومصر تكافحان لضبط حدودهما مع ليبيا من أجل وقف تدفق الأسلحة. وكانت تونس أعلنت في شهر فبراير / شباط 2012م، تفكيك تنظيم إرهابي تدرب في ليبيا، وسعى إلى إقامة إمارة إسلامية في تونس. وما زاد مخاوف الدول الغربية من استفادة تنظيم القاعدة من وفرة السلاح المسروق من المخازن الليبية، هو مقتل السفير الأمريكي في قنصلية بنغازي في 11 أيلول/سبتمبر 2012م،  والهجوم الذي شنه المتمردون الطوارق ("الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، "حركة أنصار الدين" الإسلامية المسلحة من الطوارق، التي أسسها إياد آغا غالي أحد القادة السابقين لحركة تمرد الطوارق في التسعينات)، ضد القوات المسلحة المالية في منطقة "كيدال" و "ميناكا"، في 17 من كانون الثاني/ يناير 2012 م، للمطالبة بحق تقرير مصير المنطقة الشمالية من مالي، المتاخمة "لموريتانيا" و"الجزائر" و"النيجر" و"بوركينا فاسو". وقد حقق "الطوارق" نجاحاً عسكريا لافتاً من خلال سيطرتهم على شمال مالي، أي ما يعادل 850 كلم مربع. ويمثل شمال "مالي" المنطقة الأكثر خطورة على أمن الجزائر وتونس أيضا.

لقد كانت "حركة أنصار الدين " تطالب بفرض الشريعة في مالي، بعد أن سيطرت على ثلثي التراب المالي، ولولا التدخل العسكري الفرنسي في بداية سنة 2013م، لسقطت مالي لقمة سائغة في أيدي تنظيم " أنصار الدين" و "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". وكانت حكومة مالي اتهمت تنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي" الذي يقيم قواعد في شمالي البلاد بشن هجمات على العديد من دول الساحل انطلاقاً من أراضيها.

وقد صعد تنظيم "القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي" من وتيرة تحركاته مستفيداً من مساحة الحرية المستجدة في تونس، والفوضى العارمة في ليبيا، بهدف رفع الضغط عن عناصره الناشطة بالجزائر. وقد استفاد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من عوامل عديدة حصلت في مرحلة انطلاقة الثورة في تونس ومنها عدم قدرة الدولة على التحكم في الحدود الغربية والجنوبية الشرقية وتفاقم التهريب وتدفق مئات الآلاف من المهاجرين الليبيين الذين فروا بسبب المعارك في بلدهم، وخصوصا عودة المئات من المتشددين والتكفيريين إلى البلاد. هذا بالإضافة إلى الخطاب السياسي الجديد الذي جاءت به أحزاب دينية وإثارتها لعديد من المسائل التي لم تكن تطرح من قبل كمسألة الهوية.

وتمثل هجمات الإسلاميين المتشددين في تونس على رموز المعارضة اليسارية والليبرالية، والتواجد العسكري الذي حافظ عليه تنظيم "أنصار الشريعة" في تونس  بمنطقة جبل "الشعانبي" على الحدود الجزائرية، وتكرر المواجهات المسلحة بين أجهزة الأمن والجيش التونسية والمجموعات الجهادية التكفيرية المرتبطة بتنظيم القاعدة، نقطة تحول في رؤية الدولة التونسية والدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، على الخطر الذي باتت تمثله ليبيا في ظل سيطرة المجموعات الإسلامية المقاتلة على مناطق شاسعة من البلاد، وامتلاكها ترسانة كبيرة من الأسلحة، وإقامتها معسكرات تدريب للإسلاميين الجهاديين القادمين من تونس وسوريا والعراق.

فبعد الاستقرار النسبي "بـمالي" تظهر تقارير الاستخبارات الأمريكية والفرنسية أن المقاتلين من تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" تمكنوا من اجتياز الحدود من مالي وإنشاء قاعدة جديدة لهم في جنوب غربي ليبيا. وتعتقد أمريكا بأن الزاوية الجنوبية الغربية من ليبيا تجذب حالياً المقاتلين الإسلاميين من جماعة "أنصار الدين" وتنظيم "القاعدة في بلدان المغرب الإسلامي" الذين فروا من مالي وتختلط هاتان المجموعتان مع المجموعات المسلحة المحلية وبينها "أنصار الشريعة" التي تؤكد واشنطن إنها متورطة في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي.

3. مستقبل منطقة المغرب العربي في ظل المتغيرات بالشرق الأوسط

في هذا الإطار، سيبقى الوضع في منطقة المغرب العربي غير مستقر لعدة سنوات أخرى، حيث لا يوجد في الأفق القريب ما يبشر بحل للمشكل في ليبيا، ومن ورائه استقرار الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء (مالي والنيجر) وكذلك المغرب العربي برمته، ذلك أن عدم الاستقرار في هذه البلدان سيضاعف من مخاوف تونس والجزائر ومصر من تفشي التهريب وانتشار الأسلحة، وتفاقم الجريمة المنظمة، وكلها عوامل تساعد على مزيد من ترسيخ وجود الجماعات الإرهابية وتطوير شبكاتها وأنشطتها وتدعيم قدراتها البشرية واللوجستية والعملياتية. وينطبق هذا على المغرب وموريتانيا نظرا لموقعهما الجغرافي الحدودي مع الجزائر والمحاذي لمنطقة الساحل والصحراء. ويعلم هذان البلدان الخطر الداهم، خاصة وأنهما يمثلان منطقة تهريب وعبور وهجرة غير شرعية إلى أوربا. ومن المتوقع أن تستفيد " القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي و"الدولة الإسلامية" من تعثر حل مشكل الصحراء الغربية للتسلل عبر هذا الملف إلى هذين البلدين.

ويسعى تنظيم "داعش" في ليبيا إلى إيجاد ملاذ آمن وملجئ جديد له جنوب البلاد بعد نجاحه في السيطرة على مدن في الشرق (سرت) وفي مناطق أخرى مثل " درنة" و" بنغازي" في حين يضع التنظيم مدينة " أجدابيا" نصب عينيه ويسعى لاتخاذها معقلا له. ويبقى وصول " داعش" إلى جنوب ليبيا وربط قنوات اتصال بين التنظيم وبقية التنظيمات المتطرفة المسيطرة على حقول النفط مهددا بإنشاء تحالفات وجبهات قتال جديدة ستزيد من التوترات والتعقيدات في المنطقة برمتها.

ونتيجة لتداعيات الثورة في تونس نشأت في هذا البلد أزمة فاعلية سياسية أنتجت بدورها أزمة فاعلية إنمائية، فانكمش الاقتصاد منذ سنة 2014 م، وأصبح النمو الاقتصادي في أدنى مستوياته حيث لم تستطع البلاد تحقيق نسبة نمو ايجابية طيلة سنة  2015م، وهذا الأمر زاد من الاحتقان الاجتماعي  فكثرت الإضرابات والاضطرابات وتقلصت نسب التشغيل وخلق الثروة الشيء الذي أدى بالشباب العاطل والفاقد للأمل في غد أفضل إلى انتهاج السلوك الاحتجاجي والفوضوي وشجعهم على الهجرة غير الشرعية إلى أوربا والى الانضمام إلى الجماعات المسلحة في مناطق الصراع  بكل من سوريا والعراق وليبيا وحتى مالي والى اعتناق الفكر التكفيري والفكر الجهادي والانخراط في مسالك الجريمة والجريمة المنظمة. ونتيجة لذلك كانت أولويات السياسة في تونس متمثلة أساسا في محاربة الإرهاب، حيث أعلن رئيس الجمهورية "الباجي قائد السبسي" الحرب على الإرهاب بعد الهجوم المسلح على متحف "باردو" بتونس العاصمة والذي ذهب ضحيته 22 سائحا أجنبيا و 50 جريحا، والذي تبعه هجوما آخر على نزل " مرحبا" بمدينة "سوسا" الساحلية والذي أسفر عن 39 قتيلا و39 جريحا. ومثلت هاتان العمليتان الضربة القاصمة للسياحة في تونس التي تدهورت بشكل كبير وعلى بقية القطاعات الحيوية كالفلاحة والصناعات التقليدية وعلى كل فرص الاستثمار. وفي 24 نوفمبر 2015 م، تم تفجير حافلة للأمن الرئاسي في قلب العاصمة تونس وعلى مقربة 200 متر من مقر وزارة الداخلية مما يزيد من احتمال وقوع هجمات نوعية أخرى، ويجمع المحللون اليوم بأن الحرب على الإرهاب في تونس ستتواصل لسنين طويلة أخرى، ما دام تردي الوضع في ليبيا وغياب الدولة متواصلا.

وختاما يمكن القول بأن تواري  التواجد الأمريكي وبزوغ النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط سيؤثر حتما بشكل ما على الدول العربية بكامل المنطقة وبشمال إفريقيا مع التأكيد على أن التواري الأمريكي لن يكون نهائيا كما أن التقدم الروسي في المنطقة سيظل سلسا ولا يرقى إلى مستوى التواجد العسكري الأمريكي، فالمنطقة العربية تحتوي على عديد من القواعد الأمريكية المنتشرة هنا وهناك من الخليج إلى البحر الأحمر إلى المتوسط ،مع تواجد الأسطول الخامس الأمريكي الّذي يتخذ من المنامة مقرا له بشكل دائم في مهمة مراقبة و ردع دائمة وتموقع الأسطول السادس الأمريكي بالمتوسط مع التواجد العسكري لقوى اخرى كفرنسا وبريطانيا بينما يقتصر الحضور العسكري الروسي على سوريا والبحر الأسود و المتوسط يقابله التواجد الدائم لأساطيل الحلف الأطلسي ويكفي أن نضع أمام أعيننا خرائط نفط وغاز المنطقة ونتفحص شبكة أنابيب وأساطيل نقل الطاقة ونطلع على العدد اليومي لناقلات الغاز والنفط العملاقة التي تتحرك في المضائق وفي المتوسط ويكفي أن نعرف بأن المنطقة تحتوي على  ستين بالمائة من الاحتياطي العالمي للطاقة ونلاحظ توسع" داعش" في قلب المنطقة العربية وفي ليبيا على امتداد سنتين برغم تشكل حلف دولي ضدها بقيادة الولايات المتحدة منذ أكثر من سنة ونلاحظ تفشي الفوضى العارمة وانتشار السلاح  والاقتتال على أوسع نطاق نعي ما يحاك من مقالب ومخاطر وتهديدات جمة لأمن المنطقة ومستقبلها ومستقبل شعوبها وثرواتها .. 

 

 

المراجع والدراسات:

-La puissance Russe au Moyen orient  retour au declin ineluctable—Clement Therme

-Enjeux Regionaux au moyen orient et Etat Islamique en Irak et au Levant—Irnerio Seminatore

-Geopolitique, Renouveau de l’influence Russe sur la scène moyen orientale –Marie France Chatin

-Le grand livre de la geopolitique—Pascal Boniface

مجلة آراء حول الخليج