كثيرة هي النتائج التي ترتبها الأزمات الإقليمية والدولية ويأتي في مقدمتها استدعاء أطراف مباشرة وغير مباشرة في تلك الأزمات الأمر الذي لا يؤدي إلى التأثير في مسار الأزمات فحسب بل إعادة ترتيب الأدوار الإقليمية بل والدولية ،ولا يعني ذلك أن تلك سمات لكل الأزمات بل يرتبط ذلك بشكل وثيق بمدى أهمية تلك الأزمة للأطراف الإقليمية والدولية ،وتقدم الأزمة السورية نموذجاً واضحاً على كيفية تحول الأزمات من المستوى المحلي نحو الإقليمي ثم العالمي وانطلاقاً مما سبق تقدم هذه الرؤية تحليلاً لتطور العلاقات الروسية الإيرانية ضمن الأزمات الإقليمية، ومع أهمية تحليل مصالح الطرفين فإنه سيكون من التبسيط بمكان أن يتم تناول تلك العلاقات بمعزل عن البيئتين الإقليمية والدولية اللتان بقدر ما أتاحتا فرصاً لتعزيز تلك العلاقات بين الجانبين فإنها في الوقت ذاته قد أفرزت تحديات لكبح جماح تلك العلاقات.
وتستهدف تلك الرؤية الإجابة على أربعة تساؤلات:
الأول: هل كانت الأزمة السورية منشأة للتقارب الروسي الإيراني أم كاشفة له؟
الثاني: ما هي المؤشرات المهمة في ذلك التقارب؟
الثالث: ما هي نقاط الالتقاء والتباين الروسي الأمريكي حول الدور الإقليمي لإيران؟
الرابع: ما هي الخيارات الاستراتيجية لدول مجلس التعاون تجاه تطور العلاقات الروسية الإيرانية؟
أولاً: الأزمة السورية والتقارب الروسي الإيراني:
بداية ينبغي التأكيد على أن الأزمة السورية لم تكن منشأة للتقارب الروسي الإيراني بل كانت كاشفة لتلك العلاقات التي تضم "ندين متنافسين" لكل منهما مصالح تتلاقى أحياناً وتتقاطع أحايين أخرى.
بالنسبة لروسيا:
إن المسألة تتجاوز التقارب مع إيران حيث أنه منذ أن تولى بوتين سدة الحكم لديه رؤية استراتيجية لنهوض روسيا مجدداً كقطب دولي وقد أتاحت له البيئتان الدولية والإقليمية ذلك كما يلي:
فمن ناحية أولى: فإن التصعيد الأمريكي تجاه روسيا، فضلاً عن محاولات حلف الناتو للتمدد في المجال الجيواستراتيجي لروسيا كان دافعاً لروسيا لمناوأة الولايات المتحدة وحلف الناتو في مناطق تحتوي على مصالح استراتيجية لكل منهما وذلك للحد من الضغوط الغربية على روسيا بشأن الأزمة الأوكرانية والقبول بالوضع الراهن ،وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى المناورات الضخمة التي بدأها حلف الناتو في البحر المتوسط في أعقاب التدخل الجوي الروسي في سوريا في التاسع عشر من أكتوبر 2015م، والتي استمرت خمسة أسابيع وكانت الأكبر من نوعها منذ أكثر من عقد من الزمان وشارك فيها 36 ألف جندي و230 وحدة عسكرية و140 طائرة وأكثر من 60 سفينة حربية.
ومن ناحية ثانية تذبذب السياسة الأمريكية تجاه الأزمات الإقليمية -حيث لم ترد الولايات المتحدة إنهاء تلك الأزمات بل إدارتها دون وجود أفق زمني محدد لإنهائها وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى تصريح نائب وزير الدفاع الأمريكي أمام حوار المنامة أكتوبر 2015م، بأن الولايات المتحدة نفذت 7 آلاف ضربة جوية ضد تنظيم داعش على مدى أربعة عشر شهراً ذلك التردد كان أمراً مواتيًا لروسيا للتدخل وبقوة في تلك الأزمات ومحاولة ملء الفراغ الإقليمي من خلال الاعتماد على شريك إقليمي وهو إيران.
ومن ناحية ثالثة تعد الأزمة السورية فرصة سانحة لروسيا التي طالما رغبت في تغيير معادلة النظام الدولي الراهن من خلال الدخول على خط التفاعلات مع الولايات المتحدة وحلف الناتو ومناوأتهما في نقاط التماس الاستراتيجية ومنها سوريا ومما يؤكد ذلك الطرح تأكيد ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين "أن إيران وروسيا أكدتا على وجهة نظر واحدة بينهما لمواجهة الطابع غير المقبول لمحاولات خارجية لإملاء فرضيات حول تسوية سياسية في سوريا" وذلك خلال مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتدى الدول المصدرة للغاز بإيران في الثالث والعشرين من نوفمبر2015 ،وربما أرادت روسيا عدم تكرار الأخطاء الاستراتيجية السابقة وهي الابتعاد عن الأزمات الإقليمية في السابق وخاصة أزمتي الغزو الأمريكي للعراق 2003م، والتدخل الأطلسي في ليبيا عام 2011 م، حيث أن تداعيات هاتين الأزمتين كبدتا روسيا ثمناً باهظاً سواء على صعيد النفوذ الدولي أو على صعيد مصالحها مع الشركاء الإقليميين.
أما بالنسبة لإيران:
من ناحية أولى: ترى إيران أن التعاون مع روسيا ضرورة استراتيجية لتعزيز نفوذها الإقليمي حيث يلاحظ أن الوجود الإيراني الآن يتمركز في مناطق النفوذ السوفيتي السابق وهي سوريا والعراق واليمن ومن ثم فقد التقت مصالح الطرفين حيث أن التدخل الروسي في الأزمة السورية قد يكون مقدمة لاستعادة ذلك النفوذ الروسي السابق بدعم إقليمي من إيران ،بمعنى آخر فإن النفوذ الإقليمي لإيران يمنح روسيا عمقاً استراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط مما يعد فرصة لروسيا للدخول على خط التفاعلات الإقليمية ومن ذلك على سبيل المثال صدور تصريحات عراقية مضمونها إمكانية طلب العراق من روسيا توجيه ضربات مماثلة لتنظيم القاعدة على أراضيه، فضلاً عن تأكيد المسؤولين في بغداد مشاركتهم مع روسيا وإيران وسوريا لمواجهة تنظيم داعش بهدف تكوين مركز تنسيق تتكون قيادته من الدول الأربع .
ومن ناحية ثانية تتمثل المصالح الاستراتيجية لإيران في الاحتفاظ بحلفائها الإقليميين سواء من الدول" سوريا" أو الجماعات دون الدول" حزب الله" في ظل صراعها "المزمن" على الصعيدين الإقليمي والدولي - وفقاً للرؤية الإيرانية في هذا الشأن-بما يعني أن مسألة بقاء الأسد أو وضع سوريا مستقبلاً ليس هو هدف إيران من التدخل في المسألة السورية وإنما عدم فقدان سوريا كحليف حتى لو أن هناك بديل مقبول للأسد في المناطق التي يسيطر عليها النظام في الوقت الراهن بما يضمن المصالح الإيرانية في سوريا.
وواقع الأمر أنه لا يمكن الفصل الحاد بين مصالح الجانبين حيث أنه في ظل عدم قدرة الولايات المتحدة على إنهاء الأزمة السورية فإن كافة السيناريوهات تظل قائمة بما فيها نجاح الجماعات المناوئة للنظام السوري السيطرة على أجزاء أكبر من سوريا وهو ما يمثل تحدياً مباشراً لكل من إيران التي تعتبر سوريا حليفاً إقليمياً مهماً وروسيا التي تخشى من وصول تلك الجماعات إلى أراضيها من خلال الشيشان ومناطق القوقاز الشمالية.
ثانياً: مؤشرات التقارب الروسي-الإيراني:
تتعدد مظاهر التعاون الروسي-الإيراني وبوجه عام يلاحظ أن أهم مجالات التعاون هي الاقتصاد والتسلح لسببين:
السبب الأول: هو سعي روسيا لاقتناص الفرص المواتية للخروج من أزمتها الاقتصادية الراهنة بتعزيز التعاون الاقتصادي مع إيران ومن ذلك ما أشارت إليه التقارير من أن روسيا وإيران تعملان على إبرام صفقة قيمتها 20 مليار دولار تتضمن شراء النفط الإيراني مقابل سلع روسية ومعدات عسكرية الأمر الذي دفع الكونجرس الأمريكي بالتهديد بإيقاف قرار تخفيف العقوبات عن إيران|،فضلاً عن تأكيد النائب الأول لوزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني أن روسيا وافقت على منح قرض لإيران بقيمة 8 مليارات دولار لتنفيذ مشروعات مشتركة ،الجدير بالذكر أن الجانبين اتفقا خلال العامين الماضيين على مشروعات مشتركة تبلغ قيمتها نحو 40 مليار دولار.
أما السبب الثاني فهو أن غالبية الدول العربية لاتزال تعتمد في مشترياتها من الأسلحة على الأسواق الغربية ، فيما تعد إيران الشريك الثالث لروسيا على المستوى العسكري، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى إعلان روسيا خلال شهر نوفمبر 2015م، عن عزمها تسليم إيران أنظمة صواريخ سطح جو إس300 وذلك بموجب صفقة تم توقيعها بين البلدين عام2007م، بقيمة800 مليون دولار، وتعد تلك الصواريخ ضمن سلسلة من الصواريخ بعيدة المدى وقد نشرت للمرة الأولى في روسيا عام 1979م، وهي تشبه صواريخ باتريوت الأمريكية ويمكنها استهداف المقاتلات كما يمكنها الاشتباك مع الصواريخ الباليستية . والجدير بالذكر أن السفير الإيراني في موسكو مهدي صانعي أكد أن روسيا بدأت بالفعل إجراءات تسليم إيران تلك الصواريخ تزامناً مع زيارة الرئيس الروسي لإيران للمشاركة في منتدى الدول المصدرة للغاز، فضلاً عن قرار الرئيس الروسي برفع الحظر عن نقل التكنولوجيا النووية المتعلقة بتطوير منشأة آراك وأجهزة الطرد المركزي، كما تضمن القرار ذاته السماح باستيراد اليورانيوم المخصب من إيران بكمية تفوق 300 كجم في مقابل تسليمها يورانيوم مخصب بدرجة أقل وذلك وفقاً للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول ال5+1 الموقع في 15 يوليو2015 م، ويلاحظ أن الرئيس الروسي قد التقى خلال تلك الزيارة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي والذي أشاد بدور الرئيس الروسي تجاه التطورات الإقليمية والدولية الراهنة وقال المرشد الأعلى "أن الخطة بعيدة المدى للولايات المتحدة سوف تلحق الضرر بشعوب ودول المنطقة وتحديداً روسيا وإيران وأنه يتعين إحباط هذه الخطة بحذر وبتعاون أوثق بين الجانبين"
ومع التسليم بأهمية العلاقات الثنائية بين الجانبين بمستوياتها المختلفة فإن هناك ثلاثة أطر أخرى جماعية يتحرك خلالها الطرفان بما يعزز أهدافهما الاستراتيجية السابق الإشارة إليها وتتمثل تلك الأطر فيما يلي:
الإطار الأول: تتمتع كل من روسيا وإيران بعضوية منظمة شنغهاي للتعاون والتي تضم روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزيا وطاجكستان وأوزبكستان بينما لاتزال كل من منغوليا والهند وإيران وباكستان بصفة مراقب إلا أن مساعد الرئيس الروسي لشؤون السياسة الخارجية يوري أوشاكوف قد أكد على أن مسألة انضمام إيران إلى المنظمة بشكل دائم ستكون في أعقاب رفع العقوبات الأممية المفروضة عليها ،وتكمن أهمية تلك المنظمة في كونها تضم دولاً تناوئ السياسات الغربية عامة وحلف الناتو على نحو خاص ويطلق عليها" الحلف الآسيوي الجديد" وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى استطلاع أجراه مركز الدراسات العربي الأوروبي ،حيث يرى حوالي 66% من المستطلعة أن "إيران ذات النوايا النووية تعد العدو المفترض لحلف الناتو مستقبلاً."
بينما يتمثل الإطار الثاني في كون الدولتين من الدول المطلة على بحر قزوين الذي يمثل أهمية استراتيجية بالغة لكليهما.
أما الإطار الثالث: فهو مشاركة إيران في المؤتمر الذي دعت إليه روسيا للأمن الدولي في موسكو (إبريل 2015م) ويعد الصيغة المناوئة لمؤتمر ميونخ للأمن، وقد استهدف ذلك المؤتمر تعزيز التعاون بين روسيا والصين والهند وإيران الأمر الذي يعد رسالة واضحة ومباشرة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو بأن تلك الدول- والتي تعد أعضاء في منظمة شنغهاي في الوقت ذاته - ستكون طرفاً أصيلاً في صياغة النظام الدولي حالياً ومستقبلاً وهو الأمر الذي حذر منه الخبير الأمني الأمريكي زبيجنيو بريجنسكي بالقول"تحالف أوراسيا الأوروبية يمكنه أن يمثل تحدياً للهيمنة الأمريكية حيث أنه ربما تراه الصين البديل الأبرز لمواجهة تحالف الولايات المتحدة وأوروبا واليابان بل أن تحالف أوراسيا الأوروبية يمكنه أن يمثل عامل جذب قوي للدول التي بدت ليس لديها رضاء عن السياسات الغربية الراهنة عموماً"
وعلى الرغم من أهمية تعدد العلاقات على المستويين الثنائي والجماعي بين الجانبين فإن ذلك لا يعني التطابق التام في مصالحهما وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ثلاث نقاط:
أولها: أن الوصف الأقرب لذلك التقارب هو "تقارب الضرورة" لأن الندية والتنافس أقرب لوصف العلاقات بين الدولتين من وصف" التعاون والشراكة" صحيح أن الطرفين قد التقيا في المسألة السورية بيد أنهما يعملان بالتوازي والتكامل بما يحقق هدف مرحلي لهما وهو دعم نظام الأسد كمعبر مهم نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي والذي يتمثل في تعزيز دور كل من روسيا وإيران ضمن أي ترتيبات مستقبلية بشأن سوريا ومن ثم منظومة الأمن الإقليمي برمتها.
وثانيها: لم تتردد روسيا في فرض عقوبات أممية على إيران عام 2010م، جراء برامجها النووية إلا أنها في الوقت ذاته عارضت أي توجيه ضربة عسكرية لإيران ليس بهدف الحفاظ على النظام الإيراني أو طموحاتها النووية ولكن لإدراكها أن توجيه أي ضربة عسكرية لإيران لن يكون من شأنها فقدان روسيا شريك إقليمي فحسب وإنما المزيد من تكريس الخلل في توازن القوى الإقليمي والذي تمثلت بدايته في الغزو الأمريكي للعراق بما يعني في الوقت ذاته إعادة هيكلة الشرق الأوسط برمته وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى تصريح مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه بالقول" إن الشرق الأوسط الذي عرفناه لم يعد موجوداً حيث بدأ الزلزال في العراق عام 2003 الذي يعد بداية عملية إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط والتي ستكون مرتهنة بالوقائع على الأرض"
وثالثها: إن تتبع المسار التاريخي للعلاقات بين الدولتين لا يعكس نهجاً تعاونياً بل تأرجح ذلك ما بين الصراع والتعاون، فخلال حقبة روسيا القيصرية اندلعت حروب عديدة بين الجانبين حيث قامت روسيا باستغلال ضعف الدولة المركزية في إيران بعد سقوط الصفويين، كما قامت روسيا بدعم أحزاب يسارية إيرانية ،فضلاً عن دعم الحركات الانفصالية في إقليمي أذربيجان وكردستان الإيرانيين وذلك إبان حقبة الاتحاد السوفيتي، وبعد قيام الثورة الإيرانية دعم الاتحاد السوفيتي السابق العراق خلال حرب الثماني سنوات مع إيران وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي كانت هناك شكوك روسية بدعم إيران للجمهوريات الإسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، إلا أن إيران وروسيا قد وقعتا اتفاقية للصداقة عام 1992م، لبناء مفاعل بوشهر النووي، وبالتالي فإن تطور تلك العلاقات على هذا النحو أو ذاك لم يكن انطلاقاً من رغبة من الجانبين وإنما وفقاً لما اقتضته التطورات الدولية آنذاك بما يعني أن تلك العلاقات هي "علاقات الاحتياج المتبادل".
ثالثاً: أوجه الالتقاء والتباين الروسي الأمريكي حول الدور الإقليمي لإيران:
لا شك أن توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول الـ 5+1 لم يكن سوى جزءً من توجه غربي مفاده الرغبة في دمج إيران ضمن منظومة الأمن الإقليمي ومن ثم فإنه في ظل التنامي الواضح للعلاقات الإيرانية الروسية يثار تساؤلان:
الأول: هل إيران تواجه حالة من الاستقطاب الروسي الغربي أم أن هناك "تفاهمات" بينهما حول الدور الإقليمي الذي يتعين أن تنهض به إيران؟
والثاني: هل يمكن لأي من الولايات المتحدة أو روسيا التضحية بمصالحهما لدى الآخر لصالح إيران؟
وللإجابة عن التساؤل الأول :من الصعوبة بمكان القول بأن هناك تفاهمات أمريكية-روسية على تعزيز الدور الإقليمي لإيران الساعي للهيمنة لأنه ببساطة يمكن أن تتحول إيران إلى قوة مناوئة لمصالح الطرفين ولكن ربما رأت كل من الولايات المتحدة وروسيا التعامل مع حقائق التفاعلات الإقليمية الراهنة وموقع إيران من تلك التفاعلات، ويعزز من هذا الطرح عدة أمور، الأول: على الرغم من اختلاف المصالح الإيرانية مع الولايات المتحدة عن تلك التي تربطها بروسيا فربما يكون هناك تفاهم بين كل من الولايات المتحدة وروسيا على الاعتراف بحقائق الوضع الراهن وهو أن إيران جزء من المشكلة وجزء من الحل في الوقت ذاته في كافة الملفات الإقليمية (سوريا، لبنان، العراق، اليمن) مع تحديد سقف أعلى لهذا الدور بحيث لا يمثل تهديداً للمصالح الروسية والأمريكية وليس أدل على ذلك من دعوة إيران للقاءات الخاصة بسوريا ،وقيام المبعوث الأممي إلى اليمن بزيارة إيران ولقائه مسؤولين إيرانيين لبحث الأزمة اليمنية.
والثاني: كان الاتفاق النووي تتويجاً لمظاهر التقارب الأمريكي- الإيراني المعلن وغير المعلن خلال السنوات الأخيرة فبالإضافة إلى أوجه التعاون المتوقعة بين إيران والدول الغربية فإن النتيجة الأهم هي تراجع الولايات المتحدة عن الإطاحة بالنظام الإيراني وهو ما يلتقي مع الرؤية الروسية لأمن الخليج العربي والتي تنهض على عدة مبادئ منها ضرورة حل المشكلات الإقليمية على مراحل على أن يتم البدء بالأكثر حدة ومنها البرنامج النووي الإيراني، وضع تصورات أمنية وإقامة إجراءات لبناء الثقة بين دول المنطقة ،حل النزاعات والمشكلات في منطقة الخليج بالوسائل الدبلوماسية، إخلاء منطقة الخليج من أسلحة الدمار الشامل، الاعتراف بالمصالح الدولية غير الأمريكية في منطقة الخليج العربي، وقد تلتقي الرؤية الأمريكية مع بعض من تلك الأسس وتتقاطع مع بعضها إلا أن الأمر اليقين هو أنه في ظل حالة السيولة الأمنية التي تشهدها المنطقة العربية عموماً فإن ثمة مصالح مشتركة لكل من الولايات المتحدة وروسيا في تعزيز التعاون مع إيران وربما تتخذ تلك العلاقات أبعاد أخرى ،بمعنى آخر قد تتحول إيران في أعقاب رفع العقوبات الأممية إلى محوراً للتنافس الأمريكي- الروسي.
أما بالنسبة للإجابة على التساؤل الثاني فيمكن التأكيد على ثلاثة أمور:
الأول: أن الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا دائما يوصف "بالصراع المنضبط" الذي لا يصل إلى حد التصادم حتى في ذروة الحرب الباردة خلال حقبة الاتحاد السوفيتي السابق وتقدم أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961م، دليلاً على ذلك حيث كان الطرفان على شفا مواجهة نووية إلا أنهما تجاوزا تلك الأزمة.
والثاني: أنه بغض النظر عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه العلاقات الروسية الإيرانية، فإن روسيا لا يمكنها مقايضة علاقاتها بالولايات المتحدة بعلاقاتها مع إيران.
والثالث: هناك أطر للتنسيق الأمريكي-الروسي منها مفاوضات نزع التسلح بين الجانبين، حتى في الأزمة السورية الراهنة برغم الانتقادات الأمريكية للتدخل الجوي الروسي فإنه كانت هناك عدة لقاءات بين الجانبين بهدف عدم التصادم الجوي بين الجانبين، فضلاً عن وجود إطار للتنسيق بين كل من روسيا وحلف الناتو وهو مجلس الناتو – روسيا والذي أنشئ عام2002 كآلية للتشاور والتنسيق بين الجانبين، صحيح أنه ربما تجمدت أعماله بسبب الأزمة الأوكرانية ولكنه لايزال قائماً.
رابعاً: الخيارات الاستراتيجية لدول مجلس التعاون تجاه تطور العلاقات الروسية الإيرانية:
مما لا شك فيه تطور العلاقات الروسية الإيرانية من شأنه أن يمثل تحدياً للمصالح الاستراتيجية لدول مجلس التعاون وبالتالي أمام دول مجلس التعاون ثلاثة خيارات وهي:
الخيار الأول: تعزيز الشراكة الخليجية-الروسية والتي يتعين أن تؤسس على عدة أمور منها ألا تختزل هذه العلاقات في مجرد شراء دول مجلس التعاون الأسلحة الروسية، أو ضخ الاستثمارات الخليجية في روسيا ولكن ينبغي أن تكون أوسع من ذلك بحيث يتم خلق شبكة من المصالح التي لا يجوز التحلل منها أو تكون مرتبطة بتطورات إقليمية أو دولية ما , ولعل الإعلان عن توقيع 6 اتفاقات ومذكرات تعاون بين روسيا والمملكة في مجالات الطاقة والفضاء والإسكان والاستثمار يأتي ضمن هذا السياق بالإضافة إلى الاتفاقية العسكرية التي تم توقيعها بين الجانبين، فضلاً عن إعلان المملكة عن بناء 16 مفاعل نووي وإعطاء روسيا الدور الأكبر في تشغيل تلك المفاعلات، بالإضافة إلى معدل التبادل التجاري بين الجانبين والذي بلغ 1,46 مليار دولار نهاية العام 2014 م، خلال زيارة ولي ولي عهد المملكة العربية السعودية لروسيا في مايو2015م، فضلاً عن الزيارة التي قام بها سمو أمير دولة الكويت لروسيا خلال شهر نوفمبر 2015 من شأنهما الدفع بتلك الشراكة إلى آفاق أرحب، ومن ناحية ثانية يتعين أن تتفهم روسيا مصالح دول مجلس التعاون وكذلك مخاوف دول المجلس وخاصة تجاه البرامج النووية الإيرانية والتسلح الإيراني التقليدي وهو ما تسهم فيه روسيا بنسبة كبيرة حيث تشير التقارير إلى أن قيمة المبيعات الروسية لإيران من الأسلحة عام 2014م، بلغت نحو 4 ملايين دولار، فضلاً عن صفقة الصواريخ إس 300 والتي من شأنها تكريس الخلل في توازن القوى الإقليمي الخليجي ،ومن ناحية ثالثة يجب أن تقوم روسيا بدعم المواقف الخليجية تجاه القضايا الإقليمية وخاصة داخل المنظمات الدولية ومن ذلك تصنيف روسيا للمتمردين الحوثيين في اليمن" كجماعة دينية" بل ودعوة وفد منها لزيارة موسكو، وتأسيساً على ذلك فقد امتنعت روسيا عن التصويت في إبريل 2015 على قرار مجلس الأمن رقم 2216 الذي يطالب الحوثيين بالانسحاب من المناطق التي قاموا بالاستيلاء عليها في اليمن.
أما الخيار الثاني: فهو تعزيز الشراكة الخليجية-الآسيوية وخاصة مع الدول التي ترتبط مع إيران بعلاقات مميزة ومنها الهند والصين وذلك لموازنة العلاقات الروسية-الإيرانية.
بينما يتمثل الخيار الثالث في الحد من النفوذ الإقليمي لإيران من خلال التعاون مع الدول العربية المحورية وذلك بالانتهاء من تنفيذ مقترح إنشاء القوة العربية المشتركة التي ستكون آلية عربية مهمة لحسم أي أزمات قد تمثل تهديداً للأمن الإقليمي ومن ثم تجريد إيران من أوراقها الإقليمية، بالإضافة إلى أنها ستكون عامل ردع إقليمي من شأنه تحقيق مفهوم توازن القوى الذي يعد الأساس الأهم في تعزيز الاستقرار في الأقاليم عموماً.
والخلاصة الرئيسية هي أن المشكلة لا تكمن في تكوين المحاور أو التحالفات من عدمه حيث أن التحالفات لا تدوم وإنما تظل مرتبطة بالظروف التي أوجدتها وبالتالي مضمون تلك التحالفات ومساراتها المستقبلية بل والأهم البيئة التي تعمل فيها والتي يتعين أن تسعى دول مجلس التعاون لجعل تلك البيئة أكثر تعقيداً بما يحفظ المصالح الاستراتيجية الخليجية ضمن استراتيجية استباقية بحيث تكون دول مجلس التعاون في بؤرة أي ترتيبات إقليمية متوقعة.