رغم الاعتقاد بوجود " مؤامرة " غربية كبرى – إن صح التعبير – ضد العرب والمسلمين، إلا أنه لا يصح (أبدًا) رد سوء الوضع العربي وترديه إلى تلك " المؤامرة " المفترضة فقط. فهناك مسببان رئيسان لما الأمة (المنطقة) فيه من ضعف وتخلف وهوان، هما:
أ -المسبب الذاتي: ويتجسد في الأسباب الرئيسة الأربعة المتفرعة والمتداخلة التالية: الاستبداد السياسي، سيادة تفاسير مختلفة ومتناقضة للدين الإسلامي الحنيف، الأمر الذي أدى لنشوء " المذهبية " بكل مساوئها المعروفة، وجود تعدد طائفي في كل مجتمع، غالبا ما يخضع للطائفة الأقوى، وتغمض حقوق الطوائف الأقل قوة. وذلك لعدم وجود إطار قانوني مدني يعطي لكل ذي حق حقه. وذاك يكاد يلغي مفهوم " الدولة المدنية " التي يتعايش فيها جميع المواطنين. إضافة إلى وجود جماعات متطرفة ومتشددة، بعضها مسلح ... تمارس الإرهاب، باسم الدين، متجاوزة الدولة.
ب -المسبب الخارجي (الأجنبي): ويتجلى أساسًا في: حركة " الاستعمار الجديد " وما يحيكه من دسائس وخطط مدمرة، ضد هذه الأمة، بالتحالف مع الحركة الصهيونية. إضافة إلى سياسات " فرض ومد ودعم النفوذ " التي تمارسها القوى الدولية العظمى والكبرى بالمنطقة.
****
ويجب – في رأيي-تحميل " المسبب الذاتي " النسبة الأوفر والمسؤلية الأكبر عن الوضع المزري الذي فيه أغلب الأمة العربية (المنطقة) ... فمن يهن يسهل الهوان عليه. ومع كل ذلك، فإن " المسبب الخارجي " لا يجب التقليل من تأثيره السلبي، ودوره الهدام. فالمسببان مترابطان، ومتداخلان، أشد التداخل. وهذه العلاقة الوثيقة تدفع للقول بأنه: لولا " المسبب الذاتي " ما وجد وإستشرى " المسبب الخارجي " ... ولولا " المسبب الخارجي " ما كان " المسبب الذاتي " مستتبًا ومتمكنًا بالقوة التي هو عليها الآن.
****
ولا شك، أن هناك دائما " خطة " غربية كبرى، أو سياسة سلبية غربية، تجاه العالمين العربي والإسلامي – باعتبارهما من العالم النامي الجنوبي، وحسابهما على دين ... معاد للغرب وقيمه – كما يعتقدون هم في الغرب، على الأقل. إن هذه الخطة (السياسة) هي عبارة عن: " أهداف " (غالبها سلبي) يسعى الغرب المتنفذ لتحقيقها في الوطن العربي، و" وسائل "، تستخدم لتحقيق هذه الأهداف.
إنهم يعتبرون " الإسلام "، الآن، تهديدًا كبيرًا لدينهم (المسيحي) ولقيمهم الأساسية. وقد قدم المتطرفون" الإسلامييون " للغرب " ذرائع " ... لشن حروبه المعروفة، وآخرها ما يسمى بـ " الحرب على الإرهاب " ... وبالمنطقة العربية إمكانات وموارد، يسيل لها لعاب الطامعين، وأولها: الثروة النفطية الهائلة. وتتلخص الأهداف الغربية المذكورة في: محاولة استغلال المنطقة العربية، وإخضاعها لنفوذ الغرب الأقوى – الدائم. وعبر وسيلة " الهيمنة السياسية " غير المباشرة، والتمزيق والإضعاف، يتم هذا الاستغلال، ويتم ضمان بقاء ورفاه إسرائيل، وتسيير الأمور في معظم العالم العربي على النحو الذي يذلل إمكاناته لهذا الغرب.
****
ويعتقد البعض أن أبرز أسباب ما تعاني منه معظم أرجاء المنطقة من اضطراب وعدم استقرار وصراعات، يعود لوجود التحالف الاستعماري – الصهيوني، الذي يعمل على استغلال أوضاع المنطقة وتناقضاتها من أجل أن يتحكم أكثر في أغلب مقاليد الأمور فيها، وغالبًا عبر " وكلاء " من نفس المنطقة. ولكن هؤلاء يقللون، بغير مبرر منطقي، من تأثير المسببات الذاتية. وبدون فهم كل القوى والعوامل التي ذكرت آنفا، وفهم طبيعة العلاقات فيما بينها، لا يمكن فهم واستيعاب حقيقة ما يجري بالمنطقة – بصفة عامة – فهمًا صحيحًا، وما يسود فيها من أوضاع، اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية، غير سارة في غالبيتها.
هذه المنطقة هي المنطقة الوحيدة في عالم اليوم، التي تعاني من هذا الابتلاء ... المتمثل في: المطامع الاستعمارية وسياسات ما يعرف بـ " الاستعمار الجديد "، وقيام ونمو وتوسع وعربدة إسرائيل. إضافة إلى معاناة بعض بلدانها من ظاهرة " الرؤساء الضرورة ". إن فهم هذه القوى، وفهم أهدافها ووسائلها، وطبيعة علاقاتها، يسهل فهم " شرق العجائب الأوسط ".
ويمكن أن ترد السياسة السلبية الغربية تجاه العرب والمسلمين، إلى العصور الوسطى ومرحلة الحملات الصليبية في المشرق العربي. ولكن هذه السياسة الغربية تجددت وتبلورت منذ إبرام اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة في العام 1916م. ثم تبلورت أكثر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م. وفي كل فترة، يبرز زعماء غربيون، ينبئ تحليل نظرتهم وسلوكهم وأقوالهم وأفعالهم ومجمل فكرهم وسياساتهم نحو العرب والمسلمين، عن كونهم من رموز وقادة هذه السياسة الغربية السلبية، أو السياسة الغربية السوداء، إن صح التعبير، وسنلقي بعض الضوء على بعض أبرز هؤلاء الساسة فيما يلي.
****
قادة ينفذون:
في الفترة المعاصرة، برزت عدة شخصيات وزعامات سياسية غربية ... تعمل جاهدة على تنفيذ هذه السياسات تجاه الأمتين العربية والإسلامية، فتراهم يبذلون قصارى جهودهم، ويراوغون، ويناورون، ولا يتوانون لحظة في العمل على تحقيق الهدف الرئيس لهذه السياسات السوداء، وهو: إضعاف الأمة، وإنزال أكبر أذى ممكن بها ... عبر غمط حقوقها، والتلاعب بمصيرها وقضاياها، وتكريس ضعفها، وترسيخ تخلفها، وزيادة درجة خضوعها للمطامع الاستعمارية.
ومن أبرز هذه الزعامات الغربية التي لعبت دورًا سلبيًا موجعًا تجاه العرب والمسلمين، في الفترة المعاصرة، نذكر كلا من المسؤولين السابقين التالية أسماؤهم: هنري كيسنجر (وزير خارجية أمريكا) جورج بوش الابن (رئيس أمريكا) نيقولاي ساركوزي (رئيس فرنسا) خوسيه ماريا أزنار (رئيس وزراء إسبانيا) مارك روتا (رئيس وزراء هولندا)
ستيفان هاربر (رئيس وزراء كندا) توني بلير (رئيس وزراء بريطانيا) كاثرين أشلي (المفوض الأوربي للسياسة الخارجية) وغيرهم كثير.
والمذكورون يمكن اعتبارهم من أكثر المعادين المعاصرين (صراحة وضمنًا) للعرب والمسلمين، والمحاربين بخبث لهم ولمصالحهم الحيوية. وفي هذا الصدد يتسم هؤلاء بخصائص مشتركة كثيرة عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين (دون غيرهم من الأمم) ومن بعض أهم كتاباتهم وسلوكياتهم الملاحظة في هذا الشأن، يمكن أن نستشف هذه الخصائص فيما يلي:
1- النظر باستخفاف، واحتقار أحيانًا، للعرب والمسلمين بصفة عامة.
2ـ الوقوف ضد قضايا العرب والمسلمين الكبرى، ومن ذلك: دعمهم الخفي وغير المحدود للكيان الصهيوني ... نكاية بالعرب والمسلمين في أغلب الحالات.
3ـ تحين وإستغلال أي فرصة مواتية للإضرار بالبلاد العربية، وشن الحروب والاعتداءات ضد بعضها.
4ـ العمل الدؤوب لتكريس ضعف وتخلف البلاد العربية بشكل مباشر وغير مباشر.
يحمل كل من هؤلاء الزعماء الغربيين ــ كما يبدو ــ حقدًا على العرب والمسلمين، وكراهية للدين الإسلامي، ورغبة جامحة في الإضرار بهم ما أمكن. ولكنهم ينكرون وجود هذه المشاعر لديهم. بل ويحاولون الظهور بمظهر " الصديق " المتفهم لقضايا العرب، وآمالهم وآلامهم. ويدعون من حين لآخر الموضوعية، وعدم حمل أي مشاعر سيئة تجاه أي فئة بعينها ... في الوقت الذي يعملون فيه العكس. ومن حقهم، بالطبع، أن يحبوا أو يكرهوا ما شاءوا، ولكن ليس من حقهم أن يضروا ملايين ظلمًا بسياساتهم.
****
توني بلير مثالا:
ويعتبر " توني بلير " رئيس وزراء بريطانيا السابق، في الفترة 1997 -2007م، أحد أبرز الأمثلة المعاصرة الواضحة على هذا النوع من الزعماء الغربيين. وقد أمسى هذا السياسي سيئ السمعة، في بلاده وغيرها، نظرًا لانكشاف كذبه والاعيبه وخدعه. وما زالت هناك ضغوطًا شعبية بريطانية وعالمية كبيرة تدعو لضرورة محاكمته، وإنزال العقوبات المناسبة به، على ما قام به خلال فترة رئاسته للوزارة، خاصة جريمة غزو واحتلال وتدمير العراق، بالمشاركة مع جورج بوش الابن، رئيس أمريكا السابق، وغيره.
ولكن النفوذ الصهيوني الإمبريالي تدخل بقوة، لإنقاذه، والاكتفاء بترك رئاسة الوزراء ... ثم تنصيبه، في نفس يوم تركه رئاسة الوزراء (يوم 27 / 6 / 2007م) رئيسًا لما سمي بـ " لجنة السلام الرباعية " التي أنشئت لحل القضية الفلسطينية، على أساس حل الدولتين ...؟! فقام الرجل ببذل أقصى ما يستطيع من جهد لتمكين إسرائيل، ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، ومفاقمة معاناة الشعب الفلسطيني لعقود قادمة. ونلقي فيما يلي بعض الضوء على ما قام به ضد العرب والمسلمين، تحقيقًا لأهداف السياسة الغربية السوداء.
****
ولد بلير عام 1953م، ودرس الحقوق واشتغل بالمحاماة. انضم لحزب العمال، وأصبح سنة 1994م رئيسًا لهذا الحزب، وقاده للانتصار في الانتخابات البريطانية العامة لثلاث مرات متتالية. أخذ عليه اتباعه الأعمى للسياسة الأمريكية، رغم ما نجم عن تلك التبعية من خسائر تكبدتها بريطانيا.
ويمكن أن نوجز أبرز أعماله المناوئة للعرب في النقاط الثلاث التالية:
1ـ ساهم بلير بقوة في جريمة غزو واحتلال وتدمير العراق عام 2003م، التي نجم عنها مقتل وجرح وتشريد ملايين العراقيين، وتدمير بلادهم. وأقحم بلاده في حرب لا هدف لها سوى إرضاء قيادة أمريكية رعناء، وخدمة إسرائيل وتمكينها. وتكبدت بريطانيا، من دخولها هذه الحرب، خسائر فادحة، من جراء تآمره هذا. وأقيمت لجنة بريطانية للتحقيق في هذا الحدث ... موجهة أصابع اتهامها إلى بلير ... الذي حاول كثيرًا أن " يبرر " فعلته هذه ... حتى أضطر (بتاريخ 26/10/ 2015م) لتقديم ما يشبه الاعتذار عن قراره ذاك، معللاً إياه بعدم توفر معلومات كافية وقت اتخاذ قراره ...؟!
ويوم 6 يوليو 2016م، أصدرت اللجنة البريطانية المكلفة بالتحقيق في الحرب على العراق، والتي يشار إليها باسم رئيسها " جون شيلكوت "، تقريرها الذي حملت فيه " بلير " مسؤولية " المشاركة في الحرب قبل استنفاد كل الحلول السلمية ... وكون خطط ما بعد الحرب غير مناسبة " وقد فتحت نتيجة التحقيق هذه باب محاكمة بلير، من قبل عائلات ضحايا الحرب وغيرهم، على مصراعيه. وذلك أرغم بلير على تكرار الاعتذار عما وصفه بـ " الأخطاء المتصلة بغزو العراق " ...؟!
2 -منذ توليه رئاسة اللجنة الرباعية، بذل بلير، وبشهادة بعض مرافقيه، قصارى جهده لتسهيل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية من فلسطين، عبر التستر على سعي إسرائيل المسعور لإقامة مستوطنات صهيونية في طول الضفة وعرضها. كما ضغط على الأوربيين للتغاضي عما تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية من عمليات تهويد واستيطان، ورفع الحظر عن شراء منتجات المستوطنات الإسرائيلية. كما حاول إلغاء المقاطعة الأكاديمية من قبل بعض الجامعات البريطانية لإسرائيل. وفي ذات الوقت، كان يتعامل مع السلطة الفلسطينية بتعال، ويضغط دائمًا عليها للتجاوب مع ما تطلبه إسرائيل ...؟!
3 ـ في محاضرة له، طالب الاتحاد الأوربي بالاهتمام أكثر بالمنطقة العربية بسبب التداخل الجغرافي اللصيق بينها وبين أوروبا، حاثًا الأوربيين للتدخل بقوة في هذه المنطقة، لأسباب أربعة رئيسة حددها، هي: النفط، إسرائيل، الإرهاب، الإسلام. دعى أوربا لضمان انسياب نفط المنطقة إليها بأقل تكلفة ممكنة، وحماية إسرائيل ودعم سياساتها بقوة أكثر. وأيضًا محاربة الإرهاب، الذي تقف وراءه الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولم يكتف بلير بانتقاد التطرف الإسلامي، بل إنه يرى أن الإسلام بصفة عامة (حتى الجزء المعتدل منه) به " الكثير من العنف والتحجر ... ولا بد من تعديله عبر التعليم ..." ...؟! هكذا.
****
كثيرون في بريطانيا وغيرها يعدونه " مجرم حرب " بسبب مشاركته في الحرب على العراق، وكذبه. استمر في رئاسة اللجنة الرباعية ثمان سنوات (حتى 2015م). لقد عين كـ " وسيط سلام " ... ولكنه كان أثناء هذه الفترة يعمل وكأنه مندوبًا لإسرائيل. ونادى نواب بريطانيون، بعد ظهور تقرير لجنة شيلكوت، بتصويت بمجلس العموم على قرار " يعزل رئيس الوزراء السابق بلير سياسيًا، ويحرمه من تولي أي منصب بعد الآن، لكذبه على ذلك البرلمان بشأن الحرب على العراق " وأيد رئيس حزب العمال " جيرمي كوربين " وعدد كبير من النواب العمال والمحافظين هذا الاجراء.
حصل هذا في موطن بلير، وفى الغرب الشعبي بصفة عامة. أما في العالم العربي، أحد ضحايا سياسات بلير ومن معه، فلا رد فعل يذكر، ولا حتى استنكار، أو شجب. بل أن كتابًا عربًا متصهينين أخذوا يكتبون مستخفين بنتيجة تحقيق لجنة شيلكوت، ومدافعين عن بلير ...؟!
لو كان للعرب ردود فعل منطقية وشجاعة، لاتخذت الجامعة العربية (مثلا) موقفًا عقابيًا ضد بلير هذا، ومن شابهه ... حده الأدنى هو المنع من دخول أي دولة عربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عضو مجلس الشورى ــ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة الملك عبد العزيز