مع بداية الألفية الثالثة وقف العرب على حقيقة موجعة، أكدت ما كانت تتداوله التقارير ودراسات المراكز البحثية حول عدم الاطمئنان أو الثقة في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، حيث كشف المحافظون الجدد حقيقة هذه السياسة بالتخلي عن المبادئ التي صدرت من البيت الأبيض منذ مبدأ ترومان عام 1947م، ثم مبدأ أيزنهاور عام 1957م، وبعد ذلك مبادئ نيكسون، كارتر، ريجان، وكلينتون والتي أولت جميعها اهتمامًا كبيرًا بالشرق الأوسط خاصة منذ حرب السويس إلى ما بعد قيام الثورة الإيرانية، ثم كشفت إدارة أوباما عن حالة من التخبط والتناقض، أرجعها البعض إلى ضعف هذه الإدارة، والبعض الآخر اعتبرها أعراض مرض اضمحلال الولايات المتحدة وأفول نجمها كقطب واحد وهذا ما ذهب إليه زينغو برينجكسي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس كارتر في كاتبه ( رؤية استراتيجية: أمريكا وأزمة السلطة العالمية) فهو يرى أن بلاده تعيش أعراض الانحدار داخليًا وخارجيًا بعد أن أضاعت فرصة قيادة العالم إثر انتهاء الحرب الباردة، و يتوقع قفز الصين والهند إلى قمرة القيادة العالمية وتقهقر بلاده اعتبارا من عام 2025م، وطرح برينجسكي أربعة أسئلة على الإدارة الأمريكية الحالية حول كيفية التمسك بدور واشنطن العالمي، وكان السؤال الرابع عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ونصه (ما الذي تحتاج إليه أمريكا لاستعادة نشاطها والانخراط في الديناميكية الجديدة في الشرق الأوسط) وهذا يعكس قلق النخب الأمريكية من إدارة بلادهم، ويوضح أهمية الشرق الأوسط لأمريكا، ويرى برينجسكي أن بلاده فشلت في العراق وأفغانستان، وأنها تواجه معضلات جيو ـ سياسية كبرى من شرق السويس وحتى غرب الصين تتمثل بالفشل في حل القضية الفلسطينية، وصعود الأصولية الإسلامية، وإيران النووية، وزيادة العداء الشعبي لأمريكا وزيادة عزلتها في هذه المنطقة الحساسة.
وبالإضافة إلى ما تناوله برينجسكي من أسباب تراجع أمريكا في المنطقة، جاءت أسباب أخرى تتمثل في خسارة واشنطن للدول والشعوب الصديقة في المنطقة لأسباب تأتي جميعها في إطار أعراض الضعف الأمريكي، فبعد تعامل أمريكا مع ما يُسمى بثورات الربيع العربي، جاء قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب المعروف بقانون " جاستا" ليعكس تخبطًا أمريكيًا، وضعف الإدارة الحالية، وسوء تقدير الكونجرس، وصعود جماعات الضغط وأصحاب المصالح الذين يلهثون وراء منافع شخصية تضر بالمصالح الأمريكية العليا، فتمرير هذا القانون من الكونجرس وكسر حصانة الفيتو الرئاسي، يدل على قوة السماسرة الأمريكيين الذين سبق أن تقدموا بمشروع هذا القانون عدة مرات منذ عام 2008م، باعتبار أنه يسمح للمحاميين وشركات التأمين والسماسرة بالحصول على ثلث مبالغ التعويضات المأمولة لأسر ضحايا أحداث 11 سبتمبر 2001م.
بعد تمرير هذا القانون المشبوه تنبه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ إلى خطورته على أمريكا نفسها وطالب 28 عضوا بمراجعته بما يتوافق مع المصالح الأمريكية، وهم يرون أن أمريكا سوف تقع تحت طائلة القانون نفسه بسبب عملياتها العسكرية الخارجية سواء في الحروب التي خاضتها، أو قصف المدنيين تحت شعار الحرب على الإرهاب، بينما الدول العربية تقوم بمواجهة الإرهاب الحقيقي الذي يهدد مصالحها ومصالح أمريكا والاستقرار العالمي، وكان الكشف مؤخرًا عن الـ 28 صفحة من تحقيقات المكتب الفيدرالي الأمريكي حول أحداث 11 سبتمبر، التي كانت سرية وخلت من وجود أي صلة للمملكة العربية السعودية بهذه الأحداث، بمثابة صفعة للإعلام والمحاميين الأمريكيين الذين اعتقدوا أن هذه الصفحات تحمل لهم كنزًا لإدانة السعودية وابتزازها, لكن خاب ظنهم!.
الكونجرس حاليًا في ورطة بعد أن شعر بفداحة التسرع والرضوخ لرغبة السماسرة، خاصة بعد ظهور الرفض الدولي، ومراجعة المخاطر المحدقة بالمصالح الأمريكية في الخارج، وخضوعها لتعويض العديد من الضحايا حول العالم عن جرائمها، لذلك جاءت تحركات من الكونجرس ومراكز الفكر الأمريكية لإعادة صياغة هذا القانون.
وإذا كان اعتراض 15 دولة وثلاث منظمات إقليمية كبرى (الجامعة العربية ـ مجلس التعاون الخليجي ـ الاتحاد الأوروبي) نجحت في تحريك الكونجرس، وكذلك مسؤولين في الإدارة الأمريكية منهم آن باترسون مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجعلتهم يطالبون بمراجعة هذا القانون، فيجب تكثيف التحرك العربي الجماعي المنظم لتوضيح مخاطر هذا القانون على العلاقات العربية ـ الأمريكية، ولفت انتباه الرأي العام الأمريكي المشغول بالانتخابات الرئاسية، وعديم الاهتمام أصلًا بالسياسة الخارجية لبلاده إلى خطورة هذا العبث، وهنا يجب أن تضطلع بهذا الدور مؤسسات العمل العربي المشترك ووسائل الإعلام، وجماعات المجتمع المدني، والمراكز البحثية، وجماعات الضغط العربية والإسلامية في أمريكا من أجل التصدي للمؤامرات التي قد تضر بمصالح الجميع.