array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 113

توسع المياه الإقليمية الصينية وتنامي إنفاقها العسكري وراء التوتر المنطقة التصعيد العسكري في جنوب شرق آسيا: التأثير المباشر على أمن الخليج

الأربعاء، 02 تشرين2/نوفمبر 2016

ترتبط منطقة الخليج مع دول منطقة جنوب شرق آسيا وفي مقدمتها الصين واليابان وكوريا بعلاقات سياسية واقتصادية متطورة، وتعتبر عملية التنمية الإقتصادية في آسيا من أكبر محركات الإقتصاد العالمي في العقود القادمة ومن أهم القوى الداعمة لسوق الطاقة وفي مقدمتها النفط والغاز القادمة من دول المنطقة.  الأمر الذي يستدعي الإهتمام الكبير بما يجري هناك من أحداث وتطورات قد تكون لها تداعيات مباشرة على أمن المنطقة وإقتصادياتها.  ولعل من أهم التطورات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا تصاعد حدة الصراع السياسي والعسكري في شرق آسيا والذي برز في أوجه عدة منها التجارب النووية والصاروخية في كوريا الشمالية، والتنافس العسكري الأمريكي-الياباني من جهة مع الصين من جهة أخرى، والزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري لدول المنطقة. هذه التطورات وغيرها كثير تثير العديد من التساؤلات عن مستقبل المنطقة وإستقرارها وديمومة عملية التنمية هناك. 

لعل من أبرز التطورات الأمنية التي حصلت في المنطقة في الفترة الأخيرة إعلان رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي سلسلة من التشريعات الغاية منها تغيير النظرة اليابانية الى القوة العسكرية ودورها,ومن ذلك السماح للقوات المسلحة اليابانية بلعب دور في حفظ السلام العالمي خارج الحدود، واتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي وقعها مع الرئيس الأمريكي أوباما، وهي جميعًا من الأمور التي كان ينظر لها على أنها مخالفة للدستور الياباني الذي يمنع اليابان من امتلاك قوة هجومية، أو المساهمة في النزاعات المسلحة خارج نطاق الدفاع عن النفس. جاءت هذه القوانين في  الوقت الذي تشهد فيه منطقة المحيط الهادي تجاذبات عسكرية بين الصين من جهة والولايات المتحدة وحلفائها اليابان وكوريا الجنوبية وإستراليا من جهة أخرى حول حرية الملاحة وتعريف المياه الإقليمية للصين. هذه الأمور منفردة ومجتمعة تهم المنطقة، لذلك أردنا أن نقدم هذه الورقة التي تشتمل على دراسة خلفية الخطوات اليابانية وطبيعتها وآثارها المحتملة على توازن القوى في المحيط الهادي وخاصة بين اللاعبين الأساسيين هناك اليابان والصين والولايات المتحدة. لذلك كان ولابد من العودة إلى التاريخ البعيد لكي نفهم مواقف القوى الإقليمية مثل روسيا والصين وكوريا من اليابان وحساسيتها الشديدة تجاه القوة العسكرية اليابانية، وكذلك التأريخ القريب لنهاية الحرب العالمية الثانية التي خاضتها اليابان وخسرتها تلك الخسارة المدوية وما نتج عنها من خراب ودمار، ومن وضع أمني لا يريد العديد من اليابانيين التفريط فيه تحت أي مبرر.

مغامرات عسكر اليابان في القرن التاسع عشر:

أخذت إصلاحات الإمبراطور الشاب ميجي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي وحدت اليابان وأنشأت صناعات متطورة على النموذج الأوروبي، تؤتي ثمارها فإزدادت ثقة الياباني بنفسه كما وزادت من حاجة اليابان إلى الأسواق والمواد الأولية التي هي بأمس الحاجة لها، فوجدت نفسها وجها لوجه في منافسة مع العديد من القوى الإقليمية والعالمية، وكان أول هذه القوى الإمبراطورية الصينية المتهالكة التي تمتلك العديد من الموارد الأولية التي تحتاجها الصناعة اليابانية وفي مقدمتها الفحم الحجري والمعادن، لذلك فكرت اليابان في بسط نفوذها على منشوريا وشبه الجزيرة الكورية. قامت اليابان بإعلان الحرب على الصين في عام 1894م واستطاعت قواتها الحديثة التسليح أن تهزم القوات الصينية التقليدية وأن تفرض عليها الإستسلام والقبول بشروطها المجحفة لإيقاف الحرب، والتي كان منها تنازل الصين لليابان عن كوريا ومنشوريا وجزيرة فرموزا (تايوان)، وأن تفتح موانئها أمام السفن اليابانية وتقوم فوق ذلك كله بدفع غرامات وتعويضات حرب لليابان.

خرجت اليابان من حربها على الصين وقد ذاقت حلاوة النصر وهي أكثر ثقة بنفسها من السابق مما زاد في شهية العسكر للمزيد من المغامرات. تزامن ذلك مع ظهور منافس إقليمي آخر يطمع إلى ملء الفراغ الذي حصل باندحار الصين أمام اليابان، وهو روسيا القيصرية التي هي الأخرى أصبحت بحاجة ماسة ليس إلى الموارد الطبيعية، بل إلى الوصول إلى المياه الدافئة جنوبًا، ذلك أن الميناء البحري الجديد الذي دشنته في (فلاديفوستوك) لم يكن يصلح للملاحة في موسم الشتاء فاتجهت صوب ميناء (بورت آرثر) في منشوريا.  هذ الإندفاع الروسي وضعها في جبهة صدام مع المصالح اليابانية في المنطقة وأوصل الأمور الى حالة الصراع العسكري المباشر.  فشلت جميع الجهود الرامية إلى الوصول إلى حل عن طريق التفاوض بين الطرفين، فأعلنت اليابان الحرب على الإمبراطورية الروسية في شباط (فبراير) عام 1904م، وبادر الأسطول الياباني بمفاجأة الأسطول الروسي في (بورت آرثر) وذلك من خلال القيام بهجوم مباغت قبيل إعلان الحرب بساعات وألحق به خسائر فادحة[1] لم يستطع بعدها الأسطول الروسي الذي أفقدته الهجمة اليابانية المفاجئة توازنه، من استرجاع زمام المبادرة، واضطرت روسيا بعد خسارة عدة معارك أخرى من القبول بمبادرة السلام الأمريكية خصوصًا وأن الضغوط الداخلية في روسيا أخذت بالتزايد لأنه لم يعد هناك من يعتقد بإمكانية القوات الروسية الصمود أمام اليابان وقواتها الحديثة. كانت نتيجة المفاوضات بين الطرفين التوقيع على اتفاقية (بورتسموث) والتي تنازلت بموجبها روسيا عن نصف جزيرة ساخالين لليابان وأقرت بحق اليابان في إيجار ميناء (بورت آرثر) لمدة 25 سنة.  كان الانتصار الياباني غير المتوقع كبيرًا، كما وأنه يمثل المرة الأولى التي تنتصر فيها قوة آسيوية على قوة أوربية عظمى في العصر الحديث.  هذا الانتصار الياباني أحدث تغييرًا بموازين القوى العالمية أصبحت اليابان بمقتضاه من القوى الإقليمية الصاعدة التي يحسب لها حساب ومهد لها الطريق لكي تصبح من القوى العسكرية العالمية التي خاضت الحرب العالمية الأولى مع الحلفاء وخرجت منها منتصرة وبأقل الخسائر.  هذه الانتصارات على القوى الإقليمية المنافسة التي جاءت بعد عقود قليلة فقط من توحيد اليابان التي كانت حينها من أضعف دول المنطقة وتملى عليها الإتفاقات من جانب واحد فأصبحت هي التي تملي شروطها على الدول المجاورة، مكنت المؤسسة العسكرية في اليابان من تقوية نفوذها والإمساك بزمام الأمور داخليًا وإحكام قبضتها على العملية السياسية من خلال تغذية المشاعر الشوفينية, فأصبحت هي الحاكمة الفعلية خصوصًا مع صعود الأمبراطور (هيروهيتو) عام 1921م، بوصفه وصيًا على عرش والده، وإمبراطورًا عام 1926م، بعد وفاة والده الإمبراطور (تايشو)، والذي شهد عهده ازدهارًا للديمقراطية والمشاركة السياسية، وهي الأمور التي لم تكن تريح العسكر.

نهاية الحرب العالمية الثانية ونزع سلاح اليابان

دخلت اليابان الحرب العالمية الثانية إلى جانب المحور المكون من ألمانيا وإيطاليا، هذه المرة، وضعت الحرب أوزارها في أوروبا بعد سنوات عجاف من الدمار وعشرات الملايين من القتلى، فعقد قادة دول الحلفاء المنتصرة لقاء قمة في مدينة (بوتسدام) القريبة من العاصمة الألمانية (برلين) في الفترة بين 17 يوليو (تموز) و2 أغسطس (آب) 1945م حضره الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) والرئيس الصيني (تشانغ كاي شيك)، و(جوزيف ستالين) رئيس الاتحاد السوفيتي ورئيس الوزراء البريطاني (تشرشل) والذي خسر الانتخابات العامة في بريطانيا أثناء حضوره المؤتمر ولذلك إضطر لمغادرة المؤتمر الذي تأخرت إجتماعاته لحين حضور رئيس الوزراء العمالي الجديد (آتلي). كان اللقاء قبيل إستسلام اليابان، ولذلك أرسل القادة المجتمعون رسالة شديدة اللهجة إلى القيادة اليابانية بضرورة إنهاء الحرب أو مواجهة العواقب، كذلك قاموا بوضع شروط الإستسلام أمامها والتي من أهمها:

- يجب إزالة كل سلطات وتأثير القيادات التي خدعت وأضلت الشعب الياباني في سبيل خوض مغامرة غزو العالم, ونحن نصر على إقامة نظام مبني على السلم والعدالة والأمن وأن هذا سوف يكون مستحيلا حتى يتم إزالة النزعة العسكرية من العالم.

- وإلى أن يتم التأكد وبالدليل القاطع أن الآلة الحربية قد أزيلت، فإن اليابان سوف تبقى تحت احتلال قوات الحلفاء وذلك لضمان تحقيق البنود التي تم الاتفاق عليها.

- القوات المسلحة اليابانية بعد أن يتم نزع سلاحها سوف يسمح لأفرادها بالعودة إلى ممارسة حياة مدنية.

- على الحكومة اليابانية العمل على إزالة كل العوائق أمام الديمقراطية وحرية التعبير وحرية العبادة ....

- يسمح لليابان بالحفاظ على الصناعات الضرورية لضمان إدامة الإقتصاد ودفع تعويضات الحرب ويستثنى من ذلك الصناعات التي تمكنها من إعادة التسلح.

- قوات الحلفاء سوف تنسحب من اليابان عندما يتم تحقيق هذه الشروط وسوف يتم إقامة حكومة مسالمة حسب إختيار ورغبة الشعب الياباني

يتضح بأن إعلان (بوتسدام) الذي صدر في 2أغسطس (آب) 1945م، لم يشر بأي شكل من الأشكال إلى أن اليابان معرضة للتدمير بالسلاح الذري في حالة عدم الاستجابة لمطالب الحلفاء. يعتقد البعض بأن الرئيس (ترومان) أطلع (جوزيف ستالين) في أثناء المؤتمر على أن الولايات المتحدة قد طورت السلاح النووي وأنها تنوي إستخدامه ضد اليابان لإجبارها على الاستسلام، حيث قامت الولايات المتحدة بإلقاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما بعد صدور إعلان بوتسدام بأربعة أيام وتبعتها بقنبلة أخري على مدينة (ناكازاكي) بعد هيروشيما بثلاثة أيام فقط لتعلن اليابان إستسلامها بناءً على إعلان بوتسدام في الخامس عشر من أغسطس (آب)، ولتصبح اليابان بعدها تحت إحتلال قوات الحلفاء بقيادة القائد الأعلى لقوات الحلفاء في المحيط الهادي الجنرال مكارثر، الذي بدوره قام بمساعدة اليابانيين على صياغة دستور جديد يضع شروط الحلفاء موضع التنفيذ، حيث جاءت المادة التاسعة من الدستور الياباني الجديد والتي نصت على نزع سلاح اليابان على الشكل التالي:

"ترنو اليابان بإخلاص إلى سلام عالمي شامل قائم على العدالة والنظام، ولذلك فإن شعب اليابان ينبذ الحرب كحق سيادي للدولة والتهديد أو إستخدام القوة في فض النزاعات الدولية، ومن أجل تحقيق ما ورد أعلاه، فإن إمتلاك أية قوات برية أو بحرية أو جوية أو أية قوات أخرى تمتلك القدرات على شن الحروب لن يسمح بامتلاكها، كما وأن حق الدولة في الإعتداء لن يعترف به أبدا".

جاءت هذه المادة بناءً على رغبة الحلفاء وأيضًا الجمهور الياباني الذي ضاق ذرعًا بالمؤسسة العسكرية اليابانية، التي في رأيهم أدخلت البلاد في مغامرات عسكرية خارجية لم تجن اليابان من ورائها إلا الخراب والدمار وسيطرت على الإمبراطور والحياة العامة وخنقت الحريات.  كما وأن قادة اليابان الجدد الذين ورثوا البلاد في حالة دمار شامل وشعب جائع يبحث عن لقمة العيش، كان همهم الأول توجيه الجهود نحو تضميد الجراح وإعادة الإعمار وبناء إقتصاد متطور يوفر لليابان الموارد التي تفتقدها، كل ذلك كان يقتضي تقليص الإنفاق العسكري وتوفير الموارد نحو إعادة هيكلة الإقتصاد.

إعتمدت اليابان في هيكليتها الجديدة على مبدأين مهمين في سبيل تحقيق أمنها، وهما الاعتماد الكلي على المنظومة الأمنية الأمريكية والعمل من خلال المنظومة الدولية على تحقيق الأمن العالمي.   وهي الأسس التي بنيت عليها إتفاقية سان فرانسيسكو لعام 1951م، التي اشتملت على اتفاقيتين هما:

 الأولى معاهدة السلام المسماة بمعاهدة سان فرانسيسكو الموقعة بين اليابان ودول الحلفاء والتي انتهت بموجبها حالة الحرب، تعهدت بموجبها اليابان بدفع تعويضات الحرب لدول الحلفاء وللمتضررين من الأسرى الذين أساءت اليابان معاملتهم. هذه الإتفاقية بنيت على أسس ميثاق الأمم المتحدة والإعلان الدولي لحقوق الإنسان.

أما الوثيقة الثانية فهي إتفاقية التعاون الأمني بين الولايات المتحدة واليابان والتي عرفت "بنظام سان فرانسيسكو" التي منحت اليابان الإستقلال السياسي تحت الحماية الأمريكية، واحتفظت الولايات المتحدة بموجبها بحق إستخدام القوة على الأراضي اليابانية من أجل الحفاظ على السلم في منطقة شرق آسيا، وكانت الصياغة الأولية تمنح الولايات المتحدة الحق في استخدام القوة لفض النزاعات الداخلية في اليابان.

بالإضافة إلى اعتماد اليابان على الولايات المتحدة في توفير الحماية العسكرية فقد عوضت عن القدرة العسكرية بالإعتماد على أنظمة السلام والأمن العالميين من خلال لعب دور نشيط في المحافل الدولية وخصوصًا الأمم المتحدة ومؤسساتها ومنها مجلس الأمن. هذه الأمور مكنت اليابان من تقليل إنفاقها العسكري الى الحد الأدنى ووفرت الإمكانيات لذلك فقد كان الإنفاق العسكري الياباني يعتبر الأقل بين الدول المتقدمة.

مراحل إعادة بناء المؤسسة العسكرية اليابانية بعد الحرب:

كما أسلفنا فإن قوات الحلفاء قامت بإلغاء المؤسسات العسكرية اليابانية وتسريح العاملين فيها.  ولكن سرعان ما نشأت الحاجة الى تطوير قوات الأمن الداخلي، ولذلك فقد وافق الحاكم العسكري الجنرال دوغلاس مكارثر في عام 1950م، على قيام الشرطة الوطنية.  بعد التوقيع على إتفاقية سان فرانسيسكو وضمن التفاهم الياباني-الأمريكي قامت اليابان بتطوير بعض القدرات الدفاعية في سبيل تخفيف العبء على القوات الأمريكية والتي كانت مشغولة بالحرب في شبه الجزيرة الكورية، لذلك فقد تم الإعلان في عام 1954م، عن إنشاء "وكالة الدفاع الذاتي اليابانية" تابعة لسكرتير مجلس الوزراء.  إشتملت الوكالة على قيادات القوات البحرية والبرية والجوية.

الحاجة إلى تطوير القدرات العسكرية اليابانية:

إرسال قوات الدفاع الذاتي إلى العراق:

قامت الولايات المتحدة، الشريك الأمني والاستراتيجي لليابان، بقيادة تحالف دولي لتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين لها عام 1990م، لكن حكومة اليابان آنذاك قررت عدم المشاركة في التحالف عسكريًا مكتفية بالمساعدة المالية في تغطية بعض النفقات مما دفع بأصدقاء لوصفها بأنها "عملاق اقتصادي وقزم عسكري"، وهي القضية التي سببت الحرج الكبير لقادة اليابان خصوصًا مع الحليف الأكبر الولايات المتحدة التي كانت تتوقع دورًا أكبر من اليابان. 

لكن الوقت لم يمض طويلًا حتى جاءت الفرصة الثانية عام 2003م، عندما قامت الولايات المتحدة بقيادة تحالف دولي لغزو العراق وإسقاط حكم صدام حسين بدعوى إمتلاكه أسلحة دمار شامل.  وقد سارعت العديد من الدول خصوصًا الحليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا واستراليا بإرسال قوات إلى العراق.  لكن اليابان لم تكن قادرة على مجاراة الحلفاء بإرسال قوات إلى مواطن النزاع بسبب القيود الدستورية، ولأن العراق كان ساحة حرب.  تولدت لدى رئيس الوزراء الياباني الأسبق (جونيتشيرو كوئيزومي) بأن الوقت قد حان لإعادة النظر في هذه القضية باعتبارها خطوة في طريق تطبيع أوضاع اليابان، كما وأنه لا يريد تكرار ما حصل في حرب الخليج الأولى، خصوصًا وأن الحليف الأكبر لليابان يضغط بشدة في هذا الإتجاه ليس في العراق فقط وإنما هناك رغبة عامة من الولايات المتحدة في أن ترى اليابان وهي تلعب دورًا أكبر في تطوير قدراتها العسكرية للمساهمة في حفظ السلام العالمي خصوصًا في منطقة المحيط الهادي لتخفيف العبء عنها.  قام كوئيزومي بالطلب إلى مجلس النواب (الذي كان يمتلك فيه أغلبية مريحة) لإصدار قانون خاص يسمح بإرسال قوات يابانية في مهمة غير حربية للمساهمة في إعادة الإعمار وبالفعل حصلت الموافقة في جلسات لمجلس النواب شهد عراكا بين المؤيدين والمعارضين، تم إرسال القوات إلى مدينة السماوة جنوب العراق، لكن الشروط التي وضعها المجلس والتنازلات التي قدمتها الحكومة دفعت بالحكومة التي كان السيد (شينزو آبي) يشغل المنصب الثاني فيها بعد رئيس الوزراء، وهو سكرتير عام الحكومة والمسؤول المباشر عن وكالة الدفاع الذاتي اليابانية، إلى التفكير الجدي إما بتعديل المادة التاسعة من الدستور أو تغيير التفسير الرسمي الذي يحكم تطبيق المادة في الواقع.

جاءت الخطوة الأولى في هذا السبيل بعد صعود (شينزو أبي) إلى رئاسة الحكومة حيث أصدر قانونًا جديدًا في عام 2007م، تم بموجبه تحويل وكالة الدفاع الذاتي إلى وزارة سيادية باسم "وزارة الدفاع" وتعيين السيد (فوميو كيوما) أول وزير للدفاع في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن أمد حكومة السيد آبي لم يطل حيث إضطر إلى الإستقالة لتدخل بعدها اليابان مرحلة من عدم الاستقرار السياسي انتهت في عام 2009م، بوصول الحزب الديمقراطي المعارض إلى الحكم في فرصة لم تتكرر في أكثر من نصف قرن سوى مرة واحدة ولفترة قصيرة جدًا في الثمانينات.  جاء الحزب الديمقراطي تحت شعار التقارب مع الصين ولعب دور متوازن بين الولايات المتحدة والصين رغبة في تخفيف الصراع وعدم اللجوء إلى تنمية القدرات العسكرية خوفًا من عودة العسكر إلى السياسة.  لكنه سرعان ما أكتشف القادة الجدد أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر، ولم يستطع الحزب تحقيق تلك القفزة الكبيرة لأن الصين لم تكن مستعدة لمد يد الصداقة الى الحكومة الجديدة وإحتضان الغريم اللدود.  ولذلك فشل الحزب الديمقراطي في مساعيه وسقط في الإنتخابات التشريعية سرعان ما عاد الحزب الليبرالي-الديمقراطي الحاكم إلى سدة الحكم في عام 2012م، وبقوة كبيرة تدعمها أغلبية في مجلس النواب بقيادة شينزو آبي وكانت إعادة النظر في دور القوات المسلحة من شعارات حملته الإنتخابية. 

التصعيد العسكري في المنطقة

شهدت منطقة جنوب شرق آسيا العديد من التطورات الأمنية التي رفعت من وتيرة القلق ودفعت بالقيادة اليابانية إلى الإسراع في خططها لإعادة النظر في دور القوات المسلحة، ولعل من أهم تلك التطورات مايلي:

-         ارتفاع حدة الصراع في شبه القارة الكورية: قامت كوريا الشمالية في السنوات الأخيرة بعدة خطوات إستفزازية لجيرانها ومن ذلك قيامها بتطوير قنابل ذرية، حيث قامت بأربع تجارب نووية على الأقل منذ عام 2006م، ولحد الآن، هذه المشاريع تثير القلق الشديد لدى الشعب الياباني الذي يعتبر الشعب الوحديد الذي ذاق مرارة الأسلحة النووية في هيروشيما ونكازاكي، والذي آلى على نفسه أن يعمل على عدم تكرار تلك المآسي مهما كان الثمن.  كما وأن كوريا الشمالية لا تخفي عداءها التقليدي لليابان وتجاهر بذلك وتذكر بالجرائم البشعة التي إرتكبها الجيش الياباني أثناء إحتلاله المنطقة. بالإضافة إلى الأسلحة النووية فقد قامت كوريا الشمالية بتطوير منظومة صواريخ متعددة الأغراض تثير الرعب في المنطقة، ومن ذلك العديد من أنواع الصورايخ التي تبدأ من صواريخ (سكود) المتنقلة إلى الصواريخ متعددة المراحل مثل (نادونغ-1) الذي تبلغ حمولته أكثر من 600 كغم ويصل مداه بين 1300 إلى 1600 كم، كما وأن هناك الصاروخ (تايبودونغ-1) المكون من ثلاثة مراحل ويبلغ مداه 6000كم.  كذلك تقوم كوريا الشمالية بتجارب على صواريخ عابرة للقارات حيث أعلنت في الأيام الماضية عن نجاح تجربة محرك جديد لصاروخ عابر للقارات جرت بإشراف الزعيم الكوري الجنوبي كيم جونغ إن، الذي أعلن أن الولايات المتحدة والعالم أصبحت في مرمى الصواريخ الكورية.

 

-         توسيع الصين لمياهها الإقليمية

قامت الصين ببناء العديد من الجزر في بحر الصين الجنوبي الغاية منها توسيع المياه الإقليمية التابعة لها حيث قامت ببناء مطار ونصب بطاريات مدافع وصواريخ في بعضها.  كما وأن الصين واليابان تتنافسان على بعض الجزر الصغيرة وغير المأهولة التي تسمى (جزر سنكاكو) الواقعة بين أوكيناوا وتايوان في بحر شرق الصين. وتدعي الصين بأن اليابان استولت على الجزر خلال الحرب الصينية-اليابانية عام 1894م، ولذلك فاليابان، من وجهة نظرها، مجبرة على إعادة الجزر إلى الصين بحسب اتفاقية سان فرانسيسكو.  لكن اليابان تدعي غير ذلك، حيث قامت وزارة الخارجية اليابانية في عام 2012م، بإنشاء موقع إلكتروني خاص يشرح الموقف الياباني من الجزر، تبعتها بعد ذلك إدارة المحيطات الصينية بوضع موقعها الإليكتروني هي الأخرى عام 2014م، الذي يشرح وجهة النظر الصينية تجاه الجزر المتنازع عليها. وقد قامت القوات البحرية الصينية بزيارة بعض الجزر بين الحين والآخر لإثبات سيادتها عليها، وتقوم القوات البحرية اليابانية كذلك.  وهناك خشية من أن تتطور الأمور فتصبح الجزر نقطة تماس بين الطرفين قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه.

-         زيادة الإنفاق العسكري في الصين

شهد الاقتصاد الصيني نموًا كبيرًا في العقود الثلاثة الماضية، جعل من الصين ثاني قوة إقتصادية في العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي. هذه الموارد المالية الكبيرة وحاجة الصين المتزايدة إلى الأسواق والموارد الأولية ورغبتها في حماية طرق التجارة التي تمر فيها البضائع المصنعة، دفعت بالصين إلى زيادة الإنفاق العسكري وبسرعة كبيرة، حيث أعلنت مؤخرًا زيادة الإنفاق العسكري في الميزانية السنوية بنسبة تبلغ أكثر من 10% ليصل إلى 144 مليار دولار، مع العلم بأن بعض المصادر تؤكد أن الموازنة العسكرية الصينية الحقيقة تبلغ 2015 مليار دولار[2]، لتصبح الصين الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث الإنفاق العسكري.  تأتي هذه الزيادة لتؤكد نهج الصين في توسيع قدراتها العسكرية حيث بلغ معدل الزيادة السنوية على الإنفاق العسكري منذ عام 2010م، أكثر من 10%. هذا وتقدر المصادر ميزانية اليابان العسكرية بحوالي 40 مليار دولار.

 

رسم بياني يوضح نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي في كل من روسيا والولايات المتحدة والصين واليابان (البنك الدولي)

 

يتضح من النسب أعلاه الفرق الكبير بين الإنفاق العسكري في تلك الدول، كما وأن الأرقام توضح أن اليابان حافظت على سقف منخفض للإنفاق العسكري بحدود 1% من الناتج المحلي ومن دون زيادة، وهي أقل من الربع مقارنة مع روسيا والولايات المتحدة، مع العلم بأن العديد من المراقبين يشككون في نسبة الإنفاق العسكري الصيني حيث يعتقد أولئك بأن النسبة الحقيقية هي أكبر من الأرقام المعلنة كما أسلفنا.

تثير مسألة عسكرة المجتمع وتنامي القوة العسكرية في اليابان حساسية شديدة لدى دول المنطقة التي لا تريد تكرار المآسي التي تعرضت لها خلال فترة الإحتلال الياباني لدول عديدة في المنطقة مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام بالإضافة إلى شبه الجزيرة الكورية والصين.  هذه المشاعر تتناغم مع العديد من أنصار التيار المدني في اليابان الذين يخشون من صعود العسكر ثانية إلى الحكم وسيطرتهم عليه كما حصل أثناء فترة حكم الإمبراطور (هيروهيتو) قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، تلك الفترة التي شهدت صعود القوى الشوفينية والتي قادت اليابان إلى الهلاك والدمار.  هذه الذكريات هي التي دفعت بالعديد من قوى المعارضة إلى رفع الصوت ضد السياسات الحكومية مما أدى إلى حصول العراك بالأيدي بين أعضاء البرلمان الياباني المعروف بجلساته الخالية من الإثارة.  لكن في المقابل هناك الرأي الحكومي الذي يرى المتغيرات السياسية العالمية الكبيرة وكثرة مشاغل الولايات المتحدة وتنامي الصراع العسكري الناتج عن صعود الصين كقوة إقتصادية عالمية وطموحها في منافسة السيطرة الأمريكية على طرق الملاحة والموارد الطبيعية العالمية.  هذا الفريق هو الآخر له ذاكرته لا يريد تكرارها التي تعود إلى وصول مجموعة السفن البحرية الأمريكية بقيادة الكومودور ماثيو بيري الى موانئ اليابان عامي 1853 و1854م، والتي أملت على اليابان إتفاقية من طرف واحد فرضت على اليابان فتح موانئها أمام الاسطول الأمريكي، تلك الاتفاقية فتحت شهية الدول القوية التي رأت اليابان في حالة ضعف ففرضت عليها هي الأخرى إتفاقيات مهينة، وهي أيضًا مسألة لا يريد الساسة في اليابان تكرارها.

هناك أمر يبعث على الطمأنينة في خضم تلك الضوضاء، وهو أن ارتفاع حدة الصراع العسكري في المنطقة لم يؤثر على العلاقات الإقتصادية التي على عكس المتوقع شهدت تطورًا كبيرًا بين الأطراف الثلاثة، ذلك أن العلاقات الصينية-اليابانية تشبه إلى حد كبير العلاقات الصينية-الأمريكية، فعلى الرغم من حالة التنافس العسكري الظاهرة للعيان بين تلك البلدان، إلا أن العلاقات الاقتصادية بين الدول الثلاث في نمو مستمر، وتعتبر الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول للصين حيث وصلت التجارة البينية بينهما في عام 2015م، أكثر من نصف ترليون دولار، في حين أن التجارة مع اليابان، وهي الشريك الثاني للصين بعد الولايات المتحدة، إذا ما استثنينا هونغ كونغ التي تعتبرها الصين مستقلة إقتصاديًا وهي ليست كذلك، والتي وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى أكثرمن 300 مليار دولار في نفس السنة، والأمل هو استمرار تنمية العلاقات الاقتصادية بين تلك الدول، لما في ذلك من النفع الكبير لتلك الدول وللعالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سفير العراق لدى اليابان للفترة من 2004 إلى 2009 م، ومؤلف كتاب "جذور نهضة اليابان" الصادر عن مؤسسة العبيكان للطباعة 2014م.  

 

[1] كان الميناء من أكثر المناطق تحصينا وبلغ عدد الجنود الروس فيه حوالي 50 ألف جندي. قدرت الخسائر الروسية نتيجة حصار بورت آرثر بحوالي 30 ألف بين قتيل وجريح.

[2] https://en.wikipedia.org/wiki/Stockholm_International_Peace_Research_Institute

مقالات لنفس الكاتب