ما هو مستقبل مجلس التعاون الخليجي في ضوء التباينات السياسية والخلافات الداخلية غير المسبوقة؟ تساؤل يتردد عند كل أزمة، داخلية أو إقليمية، فكيف الآن في ظل مجموعة أزمات كثيرة، كل واحدة منها، تمثل خطرًا وجوديًا على الدول الست بصورة متباينة ومتتالية بعد سحب الحماية الأمريكية عن الخليج، وانفتاحه على أطماع ومخاطر قوى دولة أو اللا دولة، وهل من المتصور أن تحول سلطنة عمان بوصلتها من الخليج نحو إيران؟ هذا التساؤل يطرح في ضوء تجاذبات أتهام مسقط بالانحياز نحو الحوثيين عبر مزاعم تهريب أسلحة لهم عبر أراضيها، وهو ما تنفيه مسقط على لسان يوسف العلوي وزير الدولة للشؤون الخارجية.
وقد شغل اتهام مسقط، ونفيها، أقلام خليجية، وبالذات الذين ينتمون لسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، شغلت الرأي العام الخليجي وشتته، وجعلته يغرد خارج الاتهامات المستحقة، ولم نقرأ أي مقال يدعو إلى الخروج من هذا المستنقع، مما ظهرت مسقط وكأنها قد خرجت عن الإجماع الخليجي بعد رفضها المشاركة في التحالف العربي ضد اليمن، وبسبب مواقفها من مجموعة أزمات معاصرة مثل أزمة الملف النووي الإيراني، والأزمات السورية والعراقية واليمنية، وصل ببعض الأقلام إلى دعوة إقامة الاتحاد الخليجي دون مسقط.
هل غرق صناع القرار بدورهم في هذه المعمعة المشتتة؟ وهل تأثرت المسيرة الخليجية المشتركة بتلك التباينات السياسية والخلافات الداخلية؟ من الأهمية بمكان الوقوف عند ما تطرحه مثل تلكم التساؤلات من قضايا لإدارة المرحلة الراهنة، لعلنا نخفف من توترها النخبوي والشعبي من جهة ونرسم صورة واقعية لفكر صناع القرار في الخليج، ومدى ترسيخ البرغماتية في العمل المشترك أو طغيان عواطفهم على مصالحهم الاستراتيجية، ومن ثم كيف تمضي المنظومة الخليجية نحو المستقبل في ظل تلكم التحديات والاكراهات الكبرى وغير المسبوقة؟
* تصويب الجنوح .. بتفكك التكتل الخليجي.
من المعلوم، أنه منذ إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981م، والخلافات البينية الخليجية متجددة ومستمرة، والتباين السياسي حول قضايا إقليمية وعالمية ، سمة بارزة في العلاقات البينية الخليجية، لن نغوص في تاريخية التباينات السياسية والخلافات البينية الخليجية، وإنما سنذكر على سبيل الاستدلال فقط الأزمة الدبلوماسية التي أنجمت عقب قيام الإمارات والبحرين بسحب سفرائها من الدوحة رفضًا للسياسة القطرية إزاء القاهرة، بعد أحداث الثالث من يوليو 2013م، وقيامهم بالضغط عليها لطرد بعض قيادات الإخوان، وتعديل سياسات قناة الجزيرة تجاه القاهرة.
فمثل هذه الخلافات لم تؤد إلى تفكك أو انهيار التكتل الخليجي، وإنما تؤدي تداعياتها إلى تأخر العمل المشترك، ربما يكون هذه المرة، الخلافات أعمق وأكثر خطورة من كل ما سبق، فالمنطقة التي تحيط بدول مجلس التعاون الخليجي أكثر اضطرابًا من كل الجهات، وقابلة للاشتعال في أية لحظة، وللدول الست مواقف متباينة وخلافات جوهرية، وهذا ما يجعل البعض يرجح خيار التفكك، خاصة في ضوء مواقف سلطنة عمان المتباينة عن مواقف بقية الدول الأخرى من قضايا مستجدة وخطيرة مشار إليها سابقًا، وتبرز مسقط بسببها أكثر دول مجلس التعاون الخليجي استفرادًا في قضية التباين السياسي، وبالتالي يُنظر إليها على أنها أكبر المهددين لمستقبل المنظومة الخليجية، وهذه مجرد تحليلات، ويُعاب عليها أنها تحلل التفاعلات السياسية من منظورها التحليلي المجرد بعيدًا عن المقاربات التاريخية والاستقرائية، وهى بذلك ترتكب أخطاءً تاريخية في تشكيل رأي عام خليجي وعربي مشوه غرق فيه مؤخرًا بعض الأقلام الخليجية، وحتى ممن استعان الخبراء بالمقاربة التاريخية، فقد وظفها سلبًا، بمعنى أنهم استدعوا مواقف عمانية سابقة، وجعلوها حكمًا نهائيًا لنتائجهم، مثال رفض مسقط لتوسيع المنظومة الخليجية لتضم الأردن والمغرب، وكذلك رفضها الانتقال من صيغة مجلس التعاون إلى الاتحاد الخليجي، والتساؤلات التي ينبغي أن تطرح هنا، لماذا تظهر السلطنة في موقع الاستفراد الآن؟ هل تغير موقفها المعروف عنها حتى يمكننا الحديث الآن عن تداعيات تبايناتها السياسية على التكتل الخليجي؟ لو احتكمنا للمقاربتين التاريخية والاستقرائية في تحليلنا للتباين السياسي العماني البارز عن بقية الدول الخليجية، سنلاحظ ثبات السياسة العمانية رغم متجددات الأزمات ومتغيراتها، سنرجع ذلك إلى تفجر مجموعة أزمات إقليمية في فترات زمنية متلاحقة، مما يحتم على مسقط تطبيق منهجها الحيادي وسياستها التي تجنح عن التوترات والاحتكاكات، كاللازمة السورية واليمنية وأزمة الملف النووي الإيراني، من هنا برزت السلطنة في ذلك الموقف اللافت، على عكس السابق الذي كان يشهد انفجار أزمة بعد كل فترة تاريخية، ومثالنا هنا الصراع بين إيران والعراق، وما جرى عقب الغزو العراقي للكويت، فوقوف مسقط على الحياد لم يغضب أياً من الأطراف، وواصلت دبلوماسيتها الهادئة في الحفاظ على علاقاتها مع كل تلك الدول، حتى مع وَضْع القطيعة العربية مع مصر على إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ظلت مسقط على علاقاتها مع القاهرة .
ولم يأت الحديث عن احتمالية تفكك المنظومة الخليجية أو قيام الاتحاد دون مسقط في خضم مجموعات الأزمات المتعددة الراهنة.
وصلت المسألة إلى حد تصوير2016م، بأنه سيكون عامًا خليجيًا أسود على العام الجديد 2017م، وأنه ستحقق في هذا الأخير أسوأ الاحتمالات، لكننا لم نغادر العام الحالي بذلك الاحتمال السلبي، فقد فاجأتنا الأنظمة الخليجية الست ببرغماتية تنم فعلا عن وعي سياسي عميق في احتواء التباين والخلافات مهما كانت حدتها، وبعثت برسالة سياسية تلجم الأقلام المأجورة أو تلك التي تريد الفتنة، وتؤكد للشعوب الخليجية أن المنظومة الخليجية خيار استراتيجي لا رجعة فيه، وكيان جماعي للدول الست كلها، وهذا ما سنحاول تأكيده عبر الفقرات التالية:
- خارطة المخاوف الجديدة.. تكبح جماح التباينات والخلافات.
دائما تشكل المخاوف من التهديدات الأمنيةُ العامل المشترك الذي يدفع جميع دول مجلس التعاون الخليجي إلى الحوار والاتفاق دون النظر إلى الخلافات القائمة بينهم؛ غير أنه أضيف الآن المخاوف الاقتصادية بعد انهيار أسعار النفط في منتصف عام 2014م، فالمخاوف المحتملة من كل من إيران والعراق قد أدَّت إلى نشأة المجلس عام 1981م، والمخاوف من إرهاب القاعدة وداعش، يعزز ذلك العامل الآن، ويجعله مستدامًا لدى الدول الست، إذ أنها جميعها تشكل منطقة جغرافية مستهدفة للإرهاب القديم والجديد وتجار المخدرات، لتداخل حدودها وللعامل الديموغرافي المشترك، وللبعد الثيولوجي (الديني) الواحد والمتعدد في مكونه الفكري.
فقد أصبح يتقاطع مع الهاجس الأمني، الهاجس الاقتصادي، وسيكون له نفس التأثير على لجم أو كبح مسألة التباين في السياسات الخارجية والخلافات الداخلية ، فمع الموازاة مع انخفاض أسعار النفط قامت دول الخليج بخطوات لمواجهتها عبر خفض حجم الإنفاق وتعزيز مساعي إصلاح منظومة دعم أسعار الوقود في مقابل تفعيل آلية الضرائب، ووقف التوظيف نهائيًا والترقيات في بعضها كمسقط، وهذا يؤسس لعهد جديد في الخليج غير مسبوق تمامًا، وسوف يكون له تداعيات اجتماعية مقبلة، قد تمس الاستقرار والأمن، وبالتالي، فإن أنظمة الدول الست تجد نفسها تغلب ما هو أهم على المهم، فجبهتها الداخلية متصلة ومتفاعلة مع بعضها البعض، وهى لا تقل أهمية عن الجبهة الخارجية، بل هي الأهم، والخوف كل الخوف هنا، من إملاءات صنادق البنك الدوليين لهذه الدول، فهاتين المؤسستان لهما أجندات صهيونية وماسونية لم تعد سرية، وفي تاريخنا الخليجي على صعيد كل دولة من التجارب التي تبين لنا عن علاقة عصر الضرائب بالثورات، فهل ينبغي الاستفادة من هذا التاريخ ؟
- الانتقال من التعاون إلى التكامل الاقتصادي.
يبدو أن قدر الدول الست ألا تتحد إلا في ظل وجود أخطار إقليمية، فقد أسسوا المنظومة الخليجية عام 1981م، بسبب خطر إقليمي، والآن، يتجهون إلى نقل مسيرتهم من التعاون إلى التكامل وصولًا إلى الوحدة الاقتصادية بعد أن تحطمت فكرة الوحدة السياسية فوق صخرتي الرفض والتحفظ، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن التباينات والخلافات الخليجية ــ الخليجية قد أصبحت من المسلمات المقبولة بها في إطار ضرورات التعايش المشترك وحتمية المصير الواحد، وتعني أيضًا، أن الدول الست قد انضجتها الأحداث الكبرى إلى درجة الإيمان ببقاء هذه المنظومة، وتعزيزها من خلال التوافقات، وترك الخلافات جانبًا.
وقد حدثت هذه النقلة البنيوية في الفكر السياسي من خلال القمة الخليجية التشاورية السادسة عشرة التي عقدت في جدة السعودية في 1/6/ 2016م، حيث شهد فيها اتفاق جماعي على الانتقال من التعاون إلى التكامل الاقتصادي، وهذا حلًا برغماتيا، يستوعب طموح الاتحاد ويسحب مبررات الانسحاب، ويواجه مرحلة الأسعار النفطية الرخيصة، وخرجت هذه القمة بالموافقة على إنشاء هيأة الشؤون الاقتصادية والتنموية بالإجماع، لما لمسوه من تأخر تنفيذ القرارات المعتمدة خلال السنوات الماضية من عمر المجلس منذ إنشائه، وهذه الهيأة تعبر عن ست إرادات نحو تحقيق التكامل الاقتصادي، فهي تحل محل اللجان واللقاءات السابقة بين دول الخليج المعرقلة للمسيرة التعاونية، وستكون لهذه الهيأة صلاحيات البت في المواضيع وإيجاد الحلول وطرحها على القادة مباشرة لإقرارها، حيث الفكرة من إنشاء الهيأة هي اتخاذ القرارات اللازمة لتطبيق التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وفي 12/11/2016م، عقدت هذه الهيأة أولى اجتماعاتها على مستويات عليا، واتفقت على خمس أولويات للنقلة التكاملية، جديرة بالمتابعة الفورية، أولى هذه الأولويات هي اتخاذ جميع القرارات والخطوات التنفيذية التي من شأنها الارتقاء بالعمل الاقتصادي الخليجي المشترك، وتحقيق نقلة نوعية في هذا المجال، والأولوية الثانية، وضع جميع القرارات الاقتصادية التي سبق اتخاذها ولم تنفذ، أو نفذت بشكل جزئي، موضع التنفيذ الكامل والسريع، واعتماد الآليات اللازمة لذلك، والثالثة، إجراء مراجعة شاملة للسياسات والبرامج والمبادرات الاقتصادية والتنموية لمجلس التعاون بهدف تطويرها، وضمان كفاءتها وفاعليتها وفقاً لأفضل الممارسات الدولية المتبعة، والرابعة، تهيئة جميع العوامل القانونية والهيكلية والمالية والبشرية اللازمة لتطوير البعد الاقتصادي للعمل الخليجي المشترك، والوصول به إلى المستويات المتقدمة التي تم إحرازها في العديد من الميادين والمجالات الأخرى، أما الخامسة فهي الاهتمام بجميع المواضيع والأمور ذات الصلة بالشأن الشبابي، وتوفير جميع أوجه الدعم والمساندة للابتكار ولرواد الأعمال من الشباب، على النحو الذي يكرس دورهم كرافد أساسي من روافد الاقتصاد الخليجي، وقد تم تحديد عدد من الخطوات لتحقيق هذه الأولويات، من بينها مضاعفة كفاءة البنى الأساسية التحتية والمعلوماتية والمعرفية الحالية، والاستمرار في تطوير النظام التعليمي عبر مراحله المختلفة، وتعزيز قدرته على تخريج كوادر بشرية مؤهلة، أيضًا من ضمن تحديث بنية الإطار التشريعي، على نحو محفز لنمو الاستثمار، ومواكبته للمستجدات الراهنة، إضافة إلى إيجاد المزيد من قنوات وأدوات التمويل المبتكرة، التي توفر الدعم اللازم للأفكار والمبادرات الابتكارية، وذلك على صعيد المشاريع الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وتمثل الدول الست في الهيأة بشخصيات مؤثرة في صناعة القرار، وهذا ما يجعلنا نلمس من وزرائها وعي سياسي عميق متضمن إرادة سياسية جديدة لنقل المسيرة من التعاون إلى التكامل، وهى تضم، محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، ومنصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات، وناصر بن حمد آل خليفة رئيس اللجنة العليا للتعاون والتنسيق المالي في البحرين، وخالد بن هلال بن سعود البوسعيدي وزير ديوان البلاط السلطاني العُماني، ومحمد بن عبدالرحمن وزير خارجية قطر، ومحمد عبدالله المبارك الصباح وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في دولة الكويت، بالإضافة إلى عبداللطيف بن راشد الزياني، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي.
وهناك أولويات مقابلة لتلك الأولويات الخمس، والتي يمكن أن تشكل مجتمعة مرحلة انطلاقة حقيقية من التنافس في اقتصادية الدول الست إلى التكامل، وهى تكمن في أربعة عوامل مشتركة لصياغة السياسات على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، كشفها تقرير "محفزات النمو" الاقتصادي الصادر عن إرنست ويونغ (EY) وهى أهمية التوطين، والتنويع الاقتصادي، وتعزيز المكانة العالمية، والاستقرار، وذلك بوصفها العوامل الرئيسية التي يتوجب على الحكومات والشركات في المنطقة التركيز عليها لضمان نمو الاقتصادات الخليجية في المستقبل، وتشكل هذه العقبات التي تحول دون الاستفادة من الإمكانيات المتاحة على أفضل وجه ممكن، مصدر قلق بالنسبة للشركات العالمية فيما يتعلق باستدامة عملياتها في دول مجلس التعاون الخليجي، فمثلا، يشكل التوطين ضرورة استراتيجية ملحة، حيث يشكل مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي حاليًا نسبة قليلة جدًا من إجمالي القوى العاملة في القطاع الخاص، تتراوح بين 1% في كل من قطر والإمارات، و18% في السعودية، وتتباين هيمنة المغتربين الأجانب على مشهد الأعمال مع تزايد معدلات البطالة لدى الشباب.
لكن، هل ستمكن الأزمة النفطية الراهنة ومخاوفها المقبلة من تحقيق الأجندات الاقتصادية الخليجية؟ ربما يكون الخليج قد فوت على نفسه فرصة العصر الذهبي للنفط، فلو نفذ مشاريع معينة قبل بضعة سنوات فقط مثل مشروع القطار الخليجي، لربما يجد نفسه قريبًا أمام طموح الاقتصاد العالمي السابع دون النفط، ولا تزال الفرصة سانحة إذا تمكنت البرغماتية من سحب البساط من تحت أقدام التباينات والخلافات الراهنة رغم حجمها، وانتقلت بها من التعاون إلى التكامل، والوصول إلى الوحدة الاقتصادية كفيلة بذوبان التباين والخلاف، لعمق وترابطية المصالح، لكن، وهذا الاستدراك الثاني والهام في هذه الخاتمة، هل ستتمكن هذه الدول من حماية اقتصادها العالمي الجديد دون أن يكون لها جيشًا عظيمًا مشتركًا؟ جيشًا دفاعيًا من منظور التوافقات، له فروع في كل واحدة مهددة في وجودها أو أمنها، وقواعد بحرية وجوية ثابتة في دول غير مهددة في تراتبية التهديدات الإقليمية والعالمية الجديدة، هل ممكن؟ الإمكانية متوفرة بعد أن ترسخت القناعة في سرابية الحماية الأجنبية بعد تجربتين مهمتين، سابقًا التجربة البريطانية وحديثًا التجربة الأمريكية، وليس من المصلحة المستقبلية للخليج عودة التجربة البريطانية، فهذه الحمايات لن تمنع مخاوف الخليج من ذوبان كياناتها في جوراها الإقليمي، خيارها الوحيد الحماية الذاتية مع تعدد وتنوع التعاون العسكري مع الدول التي لها مصالح اقتصادية كبيرة مع الخليج.