يشكل النفط في الاقتصاديات الريعية أحد شرايين الاقتصاد إن لم يكن هو الاقتصاد ذاته، ومنه تتفرع الحياة العامة والأطر الهيكلية للدولة النفطية التي تُبنى عليها السياسة العامة، ومنها تصاغ السياسة الخارجية لها. ومن هنا تكمن تلك العلاقة مع البلدان المستهلكة للنفط سواءً في البحث عن اتفاقات أو صفقات تجعل من الدول المنتجة بمثابة خزان لها يضمن لها أسعار عادية كضمان لاقتصادياتها المنتجة دون تداخل في المصالح ولا تراجع في السوق النفطية .
تحاول دراستنا هذه ربط حلقة ما بعد النفط بتحولات العولمة نفسها كونها تمثل بعدًا استراتيجيًا سواءً تعلق الأمر بالدول المصدرة له أو المستهلكة له على حد سواء. إلا أن نضوب مادة النفط في الآجال القليلة القريبة أو البعيدة المدى تشكل بحق بالنسبة للدول المتقدمة تطورًا نسبيًا بالرغم من حاجاتها الملحة والأساسية في الصناعة المتطورة والتكنولوجية المتقدمة والذخيرة العسكرية، بينما تمثل للدول المصدرة تحديًّا نوعيًا. لكن الإشكال القائم هو أن الكل يعرف بأن هنالك نهاية للنفط؛ إلا أن القليل جدًا من لا يعرف متى وكيف ولماذا تكون هذه النهاية؟
ومن هذا المنظور يحاول اهتمامنا بالموضوع تسليط الضوء على خفايا وخلفيات بعض الحقائق المتعلقة بالنفط وآفاقه خاصة تلك المؤشرات التي تتبدى مليًّا لدى الدول المصدرة للنفط. علمًا أن هذه النظرة الجيوبوليتيكية لما بعد النفط تحاول إجراء قراءة شبه معمقة في ملف الدول العظمى عما تتبناه سياستها وتمارسه اقتصادياتها كون أن هذا الموضوع ليس ذي أهمية قصوى فحسب، بل بالغة الحساسية في موازين القوى الاقتصادية الدولية وفقًا لكثرة الطلب وقلة العرض في الثروة النفطية . ومن هنا كثيرًا ما ترتسم الخارطة العالمية على أساس أن هذا التحول يقوم بدوره على التنافس بين الدول الصناعية الغربية مقابل الحاق بالدول المصدرة ل'الذهب الأسود'' فوضى واضطرابات حالت دون بلوغها مستوى التنمية والرقي بالرغم من وجود مصادر مالية معتبرة في الخزينة العامة لحكوماتها .
أولاً : أسئلة منهجية
لماذا النفط ولماذا ما بعد النفط ؟ ماذا قدمت الدول المنتجة للنفط إلى كل من الصناعة والاقتصاد؟ وما ستقبل الدول المصدرة له على تقديمه إلى كل من البيئة والتلوث والتكنولوجيا عن طريق الطاقة النووية أو الشمسية أو بالعودة إلى الفحم ؟ هل السؤال اقتصادي محض أم يعود بنا إلى الأنتروبولوجية الاقتصادية المتزامنة مع الرجل الاقتصادوي Homo Economucus أم إلى فلسفة الاقتصاد ؟ ومن المستفيد أولاً وأخيرًا من النفط دول الأوبك المصدرة للنفط والتي تشمل كل من : الجزائر،أنغولا،إندونيسيا ،إيران، العراق،الكويت،ليبيا،نيجيريا ،قطر،المملكة العربيةالسعودية،الإماراتالعربيةالمتحدةوفنزويلا أم الدول المستهلكة له والمتربعة على الاقتصاد العالمي ؟ ومن الأهمية بمكان أن ذلك مرتبط بفترة وجيزة من القرن الواحد والعشرين قياسًا بما تمت الاستفادة منه ومنذ عقود خلت على أن مادة النفط هي التي صنعت العالم بحسب هذه الشاكلة والذي سوف يتغير لا محالة إذ تدخل البشرية بموجبه عالم آخر لكن من نوع جديد بحسب طبيعة الاستراتيجية الاقتصادية المسيطر عليها، وذلك إما امتدادًا له أو بإحداث قطيعة معه ومن نوع آخر من حيث أساليب العيش ووسائل التنقل وأدوات التعامل وسبل التواصل وحلقات الاتصال ...والتي تتغير هي الأخرى وبشكل غير منتظم ، الخ.
هذا ما سيعطي انبعاثًا جديدًا بل مقومًا أساسيًا لإنسان الغد وهو يعيش على نفس بساط الأرض من خلال تعامله مع حاجياته اليومية تلبية لغرائزه وظروفه المعيشية من مصادر أخرى للطاقة. إن عصر ما بعد النفط يعني عهدًا جديدًا ليس إلا ؛ لكنه مليء بالتهديدات والمخاطر حيث الأقوى فيه هو صاحب من يعتني بالتربية والعلم والإبداع والإنتاج.. إلا أن موضوع ما بعد النفط يعد كذلك موضوعًا هامًا بل في غاية الأهمية كونه جديد بالمرة إذ يوليه المفكّر الاقتصادي والمنظّر السياسي على حد سواء أهمية معتبرة ما دام يمس مصير العالم ومصادر الطاقة ومستقبلها فيه.
كما يشكل هذا الموضوع نقلة نوعية في الاقتصاديات العالمية بحسب طبيعة كل دولة وبنية تشكيلاتها الاقتصادية وأطرها السوسيولوجية ومعطياتها الاقتصادية منتجة كانت أو رعوية. لأن اقتصاد الغد يتماشى مع السوق وليس مع الدولة من خلال توسع رقعة التكنولوجيا الالكترونية والمعلوماتية والرقمية والبرمجية وغيرها، ما جعل علاقة الإنسان بالكون بأن يبحث عن بديل على الأرض وفي الفضاء بوسائل أخرى أكثر تطورًا تقنيًا وأقل خطرًا من حيث التكلفة. لكن هذا ما يمس العلاقات الاقتصادية الدولية بشيء من الاختلالات والهزات نتيجة الأزمات المالية والاقتصادية المتعاقبة في تاريخ الاقتصاد العالمي التي عرفها في 1929، و1986، و2008 و2014م، والتي أصيبت بها الدول النفطية في المقابل أكثر من غيرها من الدول المستهلكة، خاصة الدول الصناعية منها تحديدًا.
لذا يرتبط موضوع ما بعد النفط بما تنوي القيام به كل دولة مصدرة له لا من حيث واقعها المهدّد فحسب، بل مستقبلها المجهول. وعليه بات لزامًا على أن كل دولة أن تعتني بالفرد لديها أولاً وأخيرًا كونه مصدر للنمو والتنمية بحكم أنه لم يعد مصدر للشرعية السياسية فحسب، بل مصدر للثروة ومورد للطاقة وعمود البيئة (كرأس مال اجتماعي) بحيث بدونه لا يمكن لاقتصاد ما بعد النفط أن تقوم له قائمة . لكن السؤال المثير للجدل هو: هل بالعودة إلى الفرد في هذه الحالة سيكون له أثره الايجابي على الحكومات أم تتغير المنظومة السياسية بتغير حول الأوضاع الاقتصادية ؟ بحيث أن ندرة مصادر الطاقة تعني وصولاً إلى بدائل جديدة وبأقل كلفة (Revue Alternatives économiques, 2006). هذا ما يتفرع عنه التساؤل الموالي: هل عالم ما بعد العولمة سيقوم على بناء علاقات جديدة لم تعهدها البشرية من ذي قبل كون أن الاقتصاد عصب الحياة كما قال ابن خلدون هو الذي سيكون له دون شك أثر عميق على تحولات الدول ورهانات المجتمعات ؟
ثانيًا : اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي ما بعد النفط
لقد طالب الخبراء الاقتصاديون دول مجلس التعاون الخليجي بالاستعداد لمرحلة ما بعد النفط بتقليص الضغوط على موازناتها العامة مما يضمن لها عوائد خارج النفط . علمًا أن عائدات النفط لدول مجلس التعاون الخليجي والمتكونة كل من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، وقطر والبحرين وعمان تشكل نسبة 49 % من الناتج المحلي الإجمالي، أي بما يعادل حوالي 50 % تقريبًا، وذلك كونه مؤشر قوي بحكم أنه يفسر ما مدى ارتباط الاقتصاد بالنفط من خلال علاقاته بالاقتصاد العالمي وذلك نظرًا لوجود شيئين اثنين هما:
- ارتباط الوضع الاقتصادي بمداخيل الدولة الواحدة ما يعكس ما مدى المستوى المعيشي فضلاً عن واقع التنمية السائدة عن طريق وتيرتها السائدة بها .
- . تأثير الاقتصاد حيث الاحتياط المالي الضخم والذي يعد ارتباطًا رئيسًا يعقب الأسواق العالمية للنفط.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى ماذا يعود هذا ؟ وما هي الدواعي في ذلك؟ كما حذّرت جل الدراسات المرتبطة بإنتاج النفط بالجزم بأن هذا الأخير سيتضاءل لا محالة في الأعوام الثلاثين القادمة، وأن نضوب حقوله في مناطق عديدة من العالم سيولد قطيعة عميقة مع حركية العالم المعهودة حاليًا. وبالتالي نستطيع القول بأن الاقتصاد العالمي سيوجه على أسس وسينطلق من مصادر طاقوية أخرى، الأمر الذي جعل العديد من الدول تتسابق حول البحث عن خيارات بديلة بغية تنميتها خاصة أمام اقتصاد عالمي أدمن على النفط كأهم مصادر الطاقة من جهة، وحتمية نضوبه من جهة أخرى (سميعي، 2005م، ص54).
ولئن هبطت أسعار النفط بعدما اعترت عتبة تفوق 68 %، أي ما يعادل 120 دولار للبرميل، وذلك منذ يوليو 2014م، إلى مستويات 40 دولارًا إلى غاية الوقت الحاضر أو ما يعادلها شيئًا ما إلى قرابة 50 دولارًا والمرتبطة بتراجع معنويات الاقتصاديات الدول الناشئة كالصين وروسيا ودول منطقة اليورو . وإذا كانت اقتصاديات دول الخليج تقوم تحديدًا على النفط كمصدر رئيس وأحادي الأجانب للدخل القومي فإن صندوق النقد الدولي ما زال يحذّر من مغبة الأمر مع إعطاء تحذيرات بهذا الشأن على خلفية إنجاز التنويع بالتخلي تدريجيًا عن هذا المصدر الطاقوي الفريد من نوعه والمتمثل في النفط، وذلك قصد معالجة الاختلالات البنيوية لإعطاء دفع جديد لتطورات خارج أسواق النفط. هذا ما حذّر منه خبراء الطاقة جميع الحكومات الخليجية على ضرورة التفكير فيه مليّاّ بل سويّاً لاتخاذ التدابير اللازمة والقرارات الصائبة بخصوص إطلاق إصلاحات هيكلية ذات طابع اقتصادي متفتح والتي تقبلتها من جهتها بشيء من المباركة وهي آخذة حيز التنفيذ تقول التقارير الرسمية . كما تشكل هذه التدابير غير المسبوقة ضرورة تنويع مصادر الدخل بهدف تقليل الارتباطات على الاعتماد على الإيرادات النفطية . إلا أن التوجه الغالب في هذا الشأن بالرغم من صعوبته وذلك ليس بجعله قابلاً للتطبيق على أرض الواقع فحسب، بل يتطلب حيزًا من الوقت الكافي بجعل التدابير الموصدة في سبيله ناجحة من خلال تعويضه بما هو أفضل من النفط .
هذا ما تحاول المملكة العربية السعودية تداركه بإعلان استعدادها المطلق عن طريق خطة لعصر ما بعد النفط في 25 أبريل 2017م، وذلك بحسب تصريحات ولي ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان، مؤخرًا لشبكة بلومبرج . فضلاً عما عبر عنه الخبير الاقتصادي السعودي عبد الواحد الحميد بأن ''فكرة اقتصاد ما بعد النفط مطروحة خليجيًا منذ عقود، ولكن لم يتم اتخاذ خطوات جادة سوى خلال الأشهر الأخيرة نتيجة تزايد الضغوطات على الموازنات العامة ''. أما الإمارات العربية المتحدة بدورها فقد عبّرت بقبولها الفكرة أو المشروع في يناير الماضي عن خطتها لعصر ما بعد النفط ضمانًا منها لتنويع الاقتصاد الوطني عن طريق تحقيق توازنات بين قطاعاته بما يضمن استدامته للأجيال المقبلة. وفي هذا الصدد أكد ولي عهد أبو ظبي الشيخ زايد آل نهيان من جهته في نوفمبر 2015م، على ''أن الإمارات بدأت استعداداتها المبكرة ل'' وداع آخر قطرة نفط '' في هذا البلد الذي يتجه استراتيجيًا نحو مصادر الطاقة المتجددة بخطة كبرى تناهز 82 مليار دولار ''.
ومهما يكن حتى وإن دخلت السعودية كأكبر احتياط عالمي مجال البحث عن طاقات بديلة للنفط عن طريق تبني سياسة اقتصادية رشيدة مراعاةً منها عدم الوقوع في قطيعة اقتصادية مع الواقع الراهن خاصة مع المداخيل المرتبطة بالموازنة العامة من ناحية، وفي علاقاتها الخارجية مع العالم من ناحية أخرى، فإنها عزمت الدخول هذا الصرح منذ أزيد من عقد عن طريق بناء حصص في شركات حكومية مثل عملاق النفط '' أرامكو''، فضلاً عن فتح استثمارات لتطوير الأصول غير المستغلة كالحيازات الكبيرة من الأراضي والثروات في قطاع التعدين. هذا إلى جانب تحويل أجزاء من منظومة الرعاية الصحية الحكومية إلى شركات تجارية وغيرها من الإجراءات الأخرى تباعًا .
أما الكويت من جهتها فإنها تقوم بخطوات جادة بالمثل في هذا السياق بحيث يقول الخبير الاقتصادي الكويتي عدنان الدليمي والذي يحذّر من مغبة الأمر كون أن الوضع العام ليس بالسهل بهدف الاعتماد على الذات من خلال التخلي عن النفط والاستعداد لما بعده خصوصًا وأن دول مجلس التعاون الخليجي اعتمدت عليه بنسبة 80 % من اقتصادياتها ومنذ فترة طويلة . وبالرغم من اعتماد الكويت كأول دولة في مجلس التعاون الخليجي على هذه المادة الحيوية خاصة في القطاع النفطي بنسبة 85 % من إجمال الناتج المحلي حيث شكلت الإيرادات النفطية أكثر من 83 % من إجمالي إيرادات السعودية (http://www://alanba.com).
إن إحداث نقلة نوعية خاصة في الاقتصاد النفطي إلى ما بعده ليس بالأمر الهيّن، بل يتطلب رؤى وجهود جبارة بل قدرات وطاقات معتبرة من حيث الاستعداد لتقبل المرحلة بشيء من القناعة والإرادة الصلبة حيث التخلي عن هذه المرحلة حيث النفط هو سيد الموقف، بل العمود الفقري على مدار عقود خلت إذ يتوجب الاستثمار في الفرد كرأس مال اجتماعي قادر على تعويض النفط بالأفكار والبرامج والمشروعات الهادفة من أجل خلق فائض القيمة . هذا ما ينطبق على باقي دول مجلس التعاون الخليجي خاصة قطر مثلاً والتي تعتمد على 70 % من الإيرادات المالية نتيجة بيع كل من النفط والغاز. أما البحرين وسلطنة عمان (حيث يعدان الحلقة الأضعف بالمجلس في الموارد النفطية ) حيث تصل عوائدهما بنسبة 25 % من الناتج المحلي لدى الأولى، أما الثانية فتقدر بنسبة 50 % .
لكن كل ما في الأمر أنه بالرغم من الإلحاح القوي في التفكير جديًّا حول الاستعداد لما بعد النفط فإن الحكومات الخليجية عليها أن تأخذ هذا الاتجاه محمل الجد بزيادة الاستثمارات في القطاعين الخاص والأجنبي مع تسهيل الإجراءات القانونية والتشريعية لضمان نجاحهما بجعلها يتماشى مع روح العصر مع توسيع نطاقهما عبر الأنشطة والقطاعات الحيوية الأخرى في ذلك كالزراعة والنقل والتعليم والصحة والخدمات والسياحة .
ثالثًا: الصعوبات والعراقيل
لقد سجلت دول مجلس التعاون الخليجي عجزًا ولأول مرة في موازنتها العامة مما أجبر بعضها إلى الاقتراض أو السحب من السندات أو الاحتياطات الدولية، الأمر الذي حتم عليها انتهاج سياسة التقشف لترشيد النفقات العامة عن طريق خفض الإنفاق، وإصلاح منظومة دعم الوقود في إطار تبني سياسة اقتصادية منفتحة كبرامج الخصخصة وتحرير بعض القطاعات وفتحها أمام المستثمرين المحليين والأجانب .
ومن الصعوبة بمكان إيجاد حلول مناسبة لعهد ما بعد النفط يتماشى ومستوى وتيرة التنمية التي حققتها عائدات النفط سابقًا إذ تتطلب قدرًا وافيًا من الرؤى والجهود الفكرية فضلاً عن التمويل من أجل تعويض هذا الواقع الاقتصادي بأفضل منه من خلال تجاوز صعوبة المرحلة بكل قناعة واقتناع في إطار التنمية المستدامة بدءًا من توزيع مصادر الدخل لضمان نمو يليق بالفترة الحالية إلى ما بعدها بكل سلاسة عن طريق الاستعداد المبكر والتهيئة الكاملة والكافية في تخطيها وبكل سهولة من خلال توافر جملة من الشروط والآليات .
إن الاستثمار في قطاعات حيوية وذات مردودية اقتصادية خارج النفط يتطلب بدوره الابتعاد التدريجي شيئًا فشيئًا عن '' ثقافة النفط '' بإحلال بدائل عقلانية وتبني خيارات رشيدة ذات بعد استراتيجي غير مسبوق كونها مدعمة من قبل الجميع سواءً المسؤول أو المسؤول عنه عن طريق الاقتصاد وبيئته أو ما يتعداها ويدور في فلكه من سياسات عامة مساعدة لبلوغ حاجيات الفترة وتحدياتها . فالأمر يقوم على كل من التفكير والتخطيط الإستراتيجيين عن طريق إنشاء مكاتب للدراسات وشبكات تواصل مع الفواعل الاقتصادية والشركاء الاجتماعيين في هذا الخصوص وذلك بجمع المعلومات وصبر الآراء واللامشروط في تلقي المرحلة والتجاوب معها بكل أريحية خاصة في شقيها النفسي/ السوسيولوجي أو الاقتصادي / المالي، وذلك ليس في تجاوز خطورة المرحلة الراهنة وتداعياتها فحسب، بل في العيش في ما يلي هذه المرحلة بكل هدوء وسكينة لمواصلة العهد خارج النفط مع مصادر طاقوية أخرى كالغاز الطبيعي والزيوت والوقود الحيوي (الكوارثي،2009، ص25-34).
ولعل الإمارات تعد من دول مجلس التعاون الأكثر مواءمة في تنويع مصادر اقتصادها بنسبة مساهمة النفط والتي تقدر بـ 30 % على عكس ما عرفته في سبعينيات القرن الماضي بنسبة 90 % من خلال ما اتخذته من تدابير جريئة في يونيو الماضي بقرار يقضي بتحرير أسعار الوقود . هذا ما دفع السعودية إلى التوجه نحو تنويع اقتصادها منذ عقدين بحكم استفادتها من قاعدة استثمارية صناعية تقدر ب 150 مليار دولار. وما اتخذته السعودية من تدابير وإجراءات غير مسبوقة لا تقل أهمية عن نظيرتها بدول المجلس التعاون الخليجي بهدف خفض الدعم عن المشتقات النفطية كتعديل أسعار الطاقة وتعريفة استهلاك الكهرباء.
والأمر يكمن في كيفية التوصل في تبني مجالات وإرساء قطاعات جديدة لمشروع ما بعد النفط أمام المواطن ''الريعي'' الذي تعود منذ فترة على مصادر الاقتصاد النفطي بتقبل منه هذه الفكرة الجديدة بالتخلي عنه وتعويضه بمصادر تتناسب معه وتتماشى بحسب مستواه بحيث يكون فيها هو المستثمر والمنتج والمستهلك أيًّا كان وفقًا لوعيه وثقافته وعلاقاته بفكرة الاقتصاد الجديد خارج النفط. فالأمر يتوجب استعدادًا فائقًا من حيث إرساء جملة من الفواعل والعوامل الأساسية في إدارة مرحلة ما بعد النفط. هذا ما تحاول السعودية أن تقوم به من خلال توجيه زيادة حجم صندوقها السيادي للدخول في عهد الاستثمارات التي قد تصل إلى تريلوني دولار كخطوة جادة وجديدة نحو اقتصاد ما بعد النفط .
إلا أن الاتكال على النفط وحده خارج بدائل طاقوية قد يعرّض الاقتصاد إلى هزات مالية لها تداعياتها على أكثر من مستوى، الأمر الذي يعود بنا إلى مجال الاستثمار أكثر وبطرق عقلانية في مجالات كالتربية والثقافة والتعليم والسياحة والطاقة الشمسية وغيرها بهدف تجاوز المرحلة الصعبة خاصة في عهد الأزمة المالية العالمية التي تعصف باقتصاديات العالم أجمع. لكن ربط الاقتصاد المنتج بفترة ما بعد النفط يعني التفكير في انتهاج سياسة تقوم على الإنتاج والإنتاجية عن طريق التصدير بواسطة المرور بالتجارة المربحة خارج النفط مرورًا بالعمل وتقسيمه بما يضمن بناء رؤية استراتيجية اقتصادية فعالة.
وغني عن البيان بأن ربط فكرة الاقتصاد خارج النفط يتوجب مراحل وخطط وآليات مدروسة سلفًا بل مبتكرة من البلد المعني نفسه ومن داخل الاقتصاد النفطي ذاته وذلك ليس بنية تجاوز المرحلة النفطية فحسب، بل بتخطيها بكل قدرة عالية ونفس ثري وعالم بمخاطرها وتحدياتها عن طريق تهيئة الأرضية الصلبة التي يتكئ عليها الاستثمار المباشر ، الآني والمتوسط والبعيد المدى. كما يشمل هذا التوجه إحياء قطاعات ودعم نشاطات جديدة بحكم أنها غير معهودة سلفًا خاصة في كل من الزراعة والصناعة والتعليم والبحث العلمي والسياحة؛ أي بمعنى الاعتماد على الذات دون سواه كخطوة أولية صوب اقتصاد ما بعد النفط .
إن مواجهة الأسوأ جاء من خارج مجلس التعاون لدول الخليجي أكثر منه من الداخل وذلك بمزيد من الضغوطات الخارجية بالرغم من ارتفاع الحاجيات الداخلية وتزايدها على الموازنات العامة للدول المصدرة للنفط عامة، ودول مجلس التعاون الخليجي خاصة. إلا أن تراجع أسعار النفط بات يضغط على الاحتياطات المالية الضخمة التي تتوافر عليها دول مجلس التعاون الخليجي مما جعلها أكثر صمود لهذه الفترة العصيبة في مواجهتها. هذا ما تحاول بعض الدوائر المالية والإعلامية الغربية مغازلته عن طريق التكيف مع الأوضاع والظروف المالية لما يلي فترة ما بعد النفط دون الاستعداد لها استعدادًا كاملاً وكليًا لكنه مدروسًا نحو الاستثمار عن طريق جهد النفس والاتكال على الذات في رفع التحديات القريبة والتهديدات البعيدة أيّاً كانت في زمن العولمة . هذا ما حاولت مجلة ''ذي إيكومينست'' في أحد أعدادها مؤخرًا التطرق إليه وذلك على أساس أن كل من الكويت وقطر والإمارات قادرة على تكييف أوضاعها المالية لمدة عقد آخر من الزمان، على الرغم من الانخفاضات والتقلبات التي تشهدها أسواق النفط، في حين تواجه السعودية وسلطنة عمان والبحرين، ضغوطات أكبر على موازناتها المالية (http :// arabic.rt.com).
ولعل الملفت للنظر أنه بالرغم من امتلاك السعودية احتياطي من العملة الصعبة يتجاوز قيمته 700 مليار دولار في نهاية 2014م؛ إلا أن وتيرة الإنفاق والتسديد اليومي أتت على مبلغ يقدر بـ 115 مليار دولار خلال السنة الموالية 2015م، الأمر الذي بات يفرض عليها تبني سياسة اقتصادية أكثر انفتاحية وملائمة لفترة ما بعد النفط وذلك ليس من خلال الصمود في وجه الأزمة المالية المرتبطة بأسعار النفط فحسب، بل في مواكبتها من خلال الإعداد في كيفية تبني خطوات جبارة لما بعد النفط. بينما نجد على خلاف ذلك كل من سلطنة عمان والبحرين بهما مستويات ديونهما التي وصلت إلى 65 % من ناتجهما المحلي الإجمالي وهذا إلى غاية نهاية 2017م، بحيث أصبح عليهما لزامًا التغلب على هذه المرحلة عن طريق العودة إلى بيع سعر البرميل الواحد مثلما كان عليه الحال 120 دولار لتعديل موازناتهما العامة .
رابعًا : الحلول والمقترحات
إن خير دليل في تجاوز مرحلة ما بعد النفط بكل سهولة ويسر يكمن في ما مدى علاقة النفط بالأسواق العالمية بالرغم من الاحتياطات المالية الضخمة التي تتوافر عليها دول مجلس التعاون الخليجي بحكم ارتباطها الوثيق بما يجري عليه الحال في إطار الارتهان بالخارج لدعم الداخل وتحولاته وفقًا لتطور التنمية لديه . أي بمعنى آخر أن الطفرة المالية سوف تزول ومعها آخر قطرة نفط . فما هي الحلول والاقتراحات الممكنة في هذا الخصوص .
عمليًا، إن تخطي مرحلة ما بعد النفط يكمن في ما بذرته العقود الماضية من ثروات ربما كانت من وراء هذا الظرف الراهن في دورته النهائية والأخيرة إلى توديعه من خلال قدرة دول مجلس التعاون الخليجي في تجاوزه بكل قناعة واقتناع .
وبناءً على تطور التكنولوجيا في كل الميادين والقطاعات الحية اليومية والمرتبطة بالدول المستهلكة للنفط فإن التفكير ما زال جاريًا على قدم وساق بالتخلص منه والذي يرمز إلى التبعية الاقتصادية في منظورها الخاص وهي ما زالت تشتكي منه بارتباط اقتصادياتها بمصدر طبيعي قد لا يلزم هذا التطور الفعلي القدرات الاقتصادية والتجارية والمالية الدول المصدرة له . ومن الحلول المقترحة في هذا الصدد تكمن في ما يلي :
- الاستثمار المحلي عن طريق (تحسين التشريعات والإعفاء الضريبي عبر القوانين المالية )؛
- تفعيل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عن طريق (إنشاء صندوق ضمان القروض، إرساء الصناعة التقليدية، وتحقيق التنافس بربطه بالأسواق المحلية والإقليمية فالعالمية بواسطة الدعوة إلى جودة المعايير، والاستغلال الأحسن للموارد المالية والمادية والبشرية، وتشجيع التسويق، وتطوير نظام المعلومات من خلال قدرته على تحليل البيئة التنافسية فضلاً على التنبؤ باتجاهاتها المستقبلية عن طريق دراسة أحوال السوق ومنتجاته الرائجة فيه إلى جانب كل من العرض والطلب المرتبطين به وفيه من خلال علاقته بشريحة المستهلكين مع دراسة مستفيضة لكل المخاطر المحدقة بالسوق في إطار الاستثمار الجاد ذي المردودية الفعالة عن طريق ما يمنحه سوق العمل من فرص للعمل )؛
- الاستثمار الأجنبي المباشر بواسطة (تمويل المشروعات، الترخيص للأجانب الراغبين في الإقامة، تحويل رؤوس الأموال، خلق أسواق محلية وإقليمية ، وتشجيع تنقل الأشخاص والبضائع والخدمات ... ).
الخاتمة :
وعلى وقع هذا السيناريو غير المعهود جراء فكرة نضوب الطاقة على رأسها النفط الذي بات يهدد من الاقتصاديات العالمية على رأسها الدول المصدرة عامة ودول مجلس التعاون الخليجي خاصة في الاستعداد المبكر واللامشروط في تجاوز المرحلة بالرغم من خطورتها وصعوبتها، الأمر الذي يبقى متوقفًا على قناعة كل من الحكومات ورغبة المجتمعات في التصدي له بكل شفافية ووضوح.
ومن هنا تلجأ دول مجلس التعاون الخليجي وفقًا لسياستها العامة في إدارة المرحلة آجلاً أم عاجلاً وبدون قطيعة على أن تسلك منعرجًا حاسمًا بفعل عامل التنمية السائدة ودرجة بلوغه النضج والمردودية والعطاء عن طريق توسيع لمجالاتها الحيوية لا في تقبل مرحلة ما بعد النفط فحسب، بل في التجاوب معها مهما كانت حتميتها المصيرية لأن عهد النفط بدأ يأخذ منعطفًا حاسمًا عن طريق التقلب في أسعاره وفي عمق الأزمة المالية العالمية حيث مداخيل الموازنات العامة في تناقص مستمر من جهة، وأن فكرة نضوب الطاقة على رأسها النفط باتت تدق ناقوس الخطر من جهة أخرى.
وأخيرًا وليس بآخر فإن حتمية التجاوب مع معطيات الفترة وظروفها الاقتصادية والمالية والنقدية يسترعي الاهتمام بالفرد للإسهام أكثر في دواليب الاقتصاد المنتج بجعله قادرًا على العمل والإنتاج والتسويق لمنتجات بلده في ظل تزاحم الثقافات وتباين الحضارات وتنوع الاقتصاديات في العالم على أن الأقوى هو صاحب القدرة على التخلي عن الفترات العصيبة بتغييرها بفترات موائمة وأكثرها عطاءً وازدهارًا في ظل التحولات العالمية والرهانات الإقليمية والتغيرات الوطنية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ