الدعوة إلى الحوار الخليجي مع دول الجوار الإقليمي ليست جديدة؛ فهناك حوارات استراتيجية منتظمة يجريها مجلس التعاون الخليجي مع العديد من القوى العالمية والإقليمية، وتجري هذه الحوارات في الإطار الجماعي تحت مظلة مجلس التعاون؛ هناك الحوار الخليجي ـ التركي، والخليجي ـ الهندي، والخليجي ـ الروسي، والخليجي ـ الأوروبي، والخليجي ـ الصيني. وتعتبر آلية الحوار آلية مؤسسية مستقرة داخل منظومة المجلس في علاقاته الدولية.
ويكتسب الحوار الخليجي مع دول الجوار الإقليمي أهمية مضاعفة؛ مع حق الجوار، وعدم إمكان الانعزال عن الجار القريب، ومحدودية الاختيار في علاقة الجوار التي تفرضها "دكتاتورية الجغرافيا" والجيوبوليتيك؛ فعلاقات الجوار الإقليمي هي معطى طبيعي وجغرافي لا اختيار فيه، وهذا الجوار يفرض على أطرافه الدخول في علاقات تشابكية قد تكون تعاونية أو صراعية، واحتمالات الصراع بين المتجاورين مماثلة لاحتمالات التعاون، حيث أن الجوار عامل محايد في العلاقة، وهناك مئات الشواهد التي لعب فيها الجوار الجغرافي دورًا في إذكاء الصراعات، ومئات الشواهد التي لعب فيها دورًا في إرساء أسس التعاون.
وهنا سوف يجري الاقتصار على علاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع ما يمكن تسميته بدول الجوار الإقليمي ذات المشروع التوسعي "النشط"، ويقصد بها تركيا وإيران تحديدًا؛ فعلى الرغم من إمكانية تناول الحوار الخليجي مع دول جوار إقليمي قريبة وبعيدة للخليج مثل: باكستان، والهند، والصين.. إلخ، فإن قصر التحليل على الحوار مع تركيا وإيران يشير إلى خصوصية العلاقة الخليجية بهاتين الدولتين، اللتين تشكلان دول تعاون وتهديد نشطة لدول المجلس، يجسدها مقياس متذبذب ومضطرب، يميل أحيانًا ناحية التعاون ليصل إلى حد الدعوة إلى بناء تحالف وهيكل استراتيجي أمني واقتصادي ومنطقة تجارة حرة، ويميل أحيانًا أخرى ناحية الصراع ليشير إلى علاقات عداء وتهديد بالحرب.
أولاً: دوافع الحوار الاستراتيجي مع دول الجوار الإقليمي:
ثمة الكثير من الدوافع التي تكرس قيمة الحوار الاستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي وكل من تركيا وإيران، من ذلك تراجع الخيار العسكري كأداة لتسوية الأزمات؛ حيث أنه على الرغم من العديد من الأزمات والحروب المشتعلة في العالم، وانتشار حروب الوكالة والتهديدات بالحرب وأشكال الردع والتوازن الإقليمي، إلا أن الخيار العسكري يميل إلى الانحسار، ومن الصعب تصور اتجاه دول الخليج لفض خلافاتها بالوسائل العسكرية مع دول الجوار الإقليمي، ولذلك على الرغم من الأسباب الكثيرة لعداء أغلب دول الخليج العربية لإيران، هناك نفي خليجي مستمر لاحتمال الخيار العسكري في حل القضايا مع الجمهورية الإسلامية.
ويدفع إلى الحوار الخليجي الإقليمي، واقع العلاقات والتشابكات الاجتماعية والشعبية في القرن الحادي والعشرين؛ فهناك الملايين من الرسائل وقضايا الحوار بين شعوب دول الخليج والشعبين التركي والإيراني تملأ الفضاء الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، وهناك قضايا خليجية أصبحت في عمق الجدل الداخلي في إيران وتركيا، وبالمقابل هناك قضايا تركية وإيرانية أصبحت في عمق الجدل الخليجي الداخلي، ولا إمكانية فيها لقرارات القطيعة أو العزلة. وبينما كان من الممكن تتبع الرسائل البريدية من سلطات وأجهزة الدول، فإن أدوات التواصل الاجتماعي خلقت نوافذ يتعذر تتبعها جميعها، ويصعب قطعها، ولقد مكن ذلك كل بلد أن يكون له أنصار وجبهات خلف صفوف الآخر (العدو أو الصديق). وعلاوة على ذلك هناك تعقد وتشابك اقتصادي يؤخذ في الحسبان في القرارات، ويفرض على الأطراف التعاون مهما كانت درجة النفور السياسي.
ويزيد من ضرورات الحوار الخليجي الإقليمي تزايد ظواهر الدول الافتراضية (إمارات الجهاد والإرهاب)، وهي ظواهر يصعب مواجهتها دون آليات حوار وتنسيق بين الدول، وخصوصًا دول الجوار الإقليمي، فهناك اختلاف حول المفاهيم والمسميات بخصوص هذه الجماعات والإمارات لا تستفيد منها سوى قوى الإرهاب المتخطّية للحدود، ومما يدعو للحوار الخليجي بشأن ذلك، أن كلا من تركيا وإيران منخرطتان بكثافة في علاقات مع جماعات الجهاد/ الإرهاب، السنية والشيعية على حد سواء، وأسستا هياكل تعاون تحتية تطرح تهديدات كثيرة على استقرار وأمن الدول الوطنية القائمة، حيث تساند إيران جماعات الجهاد/ الإرهاب الشيعية في سوريا والعراق وغيرهما، وتساند تركيا جماعات الجهاد/ الإرهاب السنية في البلدين. ومن المرجح أن تكون لهذه الظواهر تأثيراتها وتداعياتها على المستقبل الجيوسياسي للإقليم.
ويدعو للحوار تزايد قضايا الاشتباك الخليجي – الإقليمي، على نحو يميل لأن يجسد حروب الوكالة التي تهدد بأن تتطور إلى حروب مباشرة، فعلى مدى السنوات من 2011 وحتى 2017م، تطور الصراع الخليجي الإيراني على الجبهات العراقية والسورية واليمنية، وبعض هذه الصراعات تنامى بدافع المناكفات والمكايدات الإقليمية، وذلك بسبب الافتقاد إلى منصات دبلوماسية وسياسية للحوار الإقليمي. ومن شأن توفير آليات ومنصات حوار خليجية إقليمية أن تعزز مفاهيم التعايش وتخلق جسورًا من التعاون والتفاهم، التي تنعكس على تخفيض حدة صراعات الوكالة.
ويعظم من أهمية الحوار الخليجي الإقليمي، التداخل السياسي الإيراني مع ثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي(سلطنة عمان، قطر، الكويت)، والتداخل الاقتصادي للجمهورية الإيرانية مع أغلب دول المجلس، والجوار البيئي والبحري، علاوة على التداخلات الإقليمية غير المشروعة في شؤون دول المجلس كالتدخل المهدد لاستقرار السعودية والبحرين والكويت، سواء في شكل خلايا تجسس أو دعم حوادث عنف طائفية وغير طائفية أو تصريحات عدائية. ويضاعف من ضرورات الحوار حقيقة التداخل والتشابك الإيراني التركي في ساحات سوريا والعراق وفي العلاقة مع روسيا، ووصول التجارة بين البلدين إلى نحو 20 بليون دولار والتخطيط لرفعها إلى 30 بليونًا، وضرورة أخذ ذلك في الحسبان عند تفكير دول مجلس التعاون بتطوير العلاقة مع كلتا الدولتين.
علاوة على كل ما سبق، تتأكد مظاهر التكالب والانتهازية الزائدة في السلوك السياسي للدولتين الإيرانية والتركية، والسعي لتفتيت البيت الخليجي ودعم محاور نفوذ داخله، دون مراعاة لخصوصية المنظومة الخليجية الفرعية. فالسلوك السياسي لكل من تركيا وإيران في الأزمة الخليجية المصرية الأخيرة مع قطر، يحتاج إلى إرساء أسس جديدة في علاقات الخليج بهاتين الدولتين على نحو يحول دون تكرار ذات المواقف؛ حيث كشفت الأزمة عن سلوك غير مسؤول لكلتا الدولتين، من ناحية المواقف والتصريحات السياسية التي برزت عدائية أحيانًا، وتعكس الرغبة الشديدة في الاستفادة المصلحية من الأزمة لأقصى مدى ممكن، وهو ما برز في الاستجابة السريعة لكلا البلدين لخطاب التصعيد العسكري بإرسال قوات أو عناصر من القوات إلى قطر، دون إعطاء مجلس التعاون مهلة للعمل على تسوية الأزمة داخل البيت الخليجي.
ثانيًا: عراقيل الحوار الخليجي مع تركيا وإيران:
على الرغم من أهمية الحوار الخليجي مع كل من تركيا وإيران، إلا أن استكشاف الفرص والمعطيات على الأرض يشير إلى الكثير من المعوقات والعراقيل، سواء مع الدولة التي تعقد معها دول المجلس جولات حوار استراتيجي فعلية مثل تركيا، أو تلك التي لا تزال خطوات عقد حوار استراتيجي معها تتعثر مثل إيران. فلقد عقدت خمس جولات حوار بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون الست ووزير خارجية تركيا، في مقر الأمانة العامة للمجلس بالرياض، كان آخرها في 13 أكتوبر 2016م. وكانت الانطلاقة الأولى لآلية الحوار الخليجي التركي في مدينة جدة السعودية في سبتمبر 2008م، بالاجتماع الأول بين الجانبين على مستوى وزراء الخارجية.
وخلال الجولات الخمس للحوار تحرك الجانبان خطوات سريعة نحو تحقيق الأهداف على نحو برز في النمو المتسارع (500% في التبادل التجاري والاستثمار المشترك بين مجلس التعاون وتركيا بين عامي 2002 و 2012م)، ولقد كشفت الجولات الحوارية عن اتجاه كل طرف لدعم الطرف الآخر في قضاياه الخاصة، فضلاً عن الدعم المتبادل في القضايا السياسية التي يتوافق عليها الجانبان، وهو ما عبرت عنه البيانات التي صدرت عن هذه الاجتماعات، والتي تأكد منها دعم تركيا لدول الخليج بخصوص القضايا الخليجية العامة، والقضايا الخاصة بكل دولة بما فيها دعم الكويت في مطالبتها بضرورة استكمال العراق تنفيذ كافة قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ودعم البحرين في تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق، ودعم قطر في قضية المختطفين القطريين في جنوب العراق في ديسمبر 2015م، ودعم الإمارات بإدانة الاعتداء على سفينة سويفت المدنية التابعة لها قرب مضيق باب المندب، ودعم السعودية في مؤامرة اغتيال سفير خادم الحرمين الشريفين لدى الولايات المتحدة. وعلى الجانب الآخر، دعم دول الخليج للقضايا والمواقف السياسية التركية فيما يتعلق بإدانة عدم وفاء إسرائيل بالتزاماتها تجاه تركيا في هجومها على قافلة المساعدات الإنسانية المتجهة إلى غزة في 31 مايو 2010م، وإدانة "الإرهاب" الذي يمارسه حزب العمال الكردي، والتأييد القوي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والتضامن مع تركيا في مواجهتها محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو 2016م.
ويلاحظ أن فترات انتظام الحوار الخليجي التركي انتعشت منذ 2008م، ومرورًا بفترة الثورات العربية حتى 2012م، التي عقدت فيها جولة الحوار الرابعة في اسطنبول، لكن هذا الحوار تعرض لانتكاسة شديدة على أثر الخلاف الخليجي ـ التركي بشأن ثورة 30 يونيو في مصر، فجرى تأجيل دورات الحوار من 2012 حتى 2016م، حين عقدت دورة الحوار الخامسة. ويبدو أن دورات الحوار الخليجي التركي هي الآن معرضة لانتكاسة ثانية على أثر الأزمة مع قطر.
وعلى الجانب الآخر، لم تنتظم حتى الآن آلية حوار مؤسسية بين دول مجلس التعاون وإيران، على الرغم من بروز دعوات للحوار على الجانبين، والسبب الأساسي في ذلك هو أن سياسات وسلوكيات إيران التدخلية في شؤون دول المجلس لا توفر الحد الأدنى الذي يقنع الدبلوماسية الخليجية بإمكانية تحقيق نتائج إيجابية من الحوار. فالدخول في حوار أو تفاوض بناء بين طرفين يقتضي أن يكف كل منهما سياساته التدخلية أولا بما يعكس نواياه الإيجابية، لكن استمرار التدخلات الإيرانية لا تمكن من بناء آلية حوار مؤسسية صلبة. ومن الصعب تحقيق مكاسب أو فوائد من الحوار مع إيران، في ظل استمرار سياساتها العدائية الواضحة التي تشتكي منها ثلاث دول خليجية.
ومما يزيد من عراقيل الحوار مع إيران أن مواقف دول مجلس التعاون متباينة بشأنها؛ فبينما تؤيد الحوار كل من سلطنة عمان والكويت وقطر، على أسس ولأسباب مختلفة، تعترض السعودية والإمارات والبحرين، وهذا التباين في مواقف الدول الخليجية يضعفها. فضلا عن ذلك فإن أهداف دول المجلس الداعية للحوار مع إيران متباينة؛ فبينما تتجه إحداها إلى إيران باعتقاد أنها يمكن أن تشكل عنصر توازن واستقرار ضد دول من داخل مجلس التعاون (على نحو ما ترى قطر)، التي عبرت عن ذلك صراحة في أزمتها الأخيرة، بقول الأمير تميم أن "إيران تمثل ثقلاً إقليميًا وإسلاميًا لا يمكن تجاهله" وأنها "قوة كبرى تضمن الاستقرار في المنطقة"، فإن سلطنة عمان تمارس سياستها نحو إيران اتساقًا مع دبلوماسيتها الحيادية التي اشتهرت بها، من دون سعي إلى توظيف العلاقة مع طهران في علاقاتها مع شقيقاتها الخليجيات، بينما تؤيد الكويت نهج الحوار حفاظا على دورها الوساطي، وكطرف أكثر مقبولية في الوساطة مع إيران -من جانب السعودية والإمارات والبحرين- بالمقارنة بسلطنة عمان وقطر في الموضوع الإيراني تحديدًا.
ثالثًا: الحوار والعقيدة التوسعية للنظامين الإيراني والتركي:
يتضح دور العقائد السياسية وتوجهات أنظمة الحكم وتأثيرهما السلبي على الحوار الاستراتيجي الخليجي/ التركي والإيراني، حيث أن العقائد والتوجهات السياسية للنظام التركي الساعي للخلافة الإسلامية والإيراني الساعي للإمامة والولاية المذهبية، عرقلت استمرار الحوار الخليجي التركي وتعرقل قيام الحوار الخليجي الإيراني، فلم يتمكن النظامان التركي والإيراني من تبديد عناصر عدم الثقة فيهما خليجيًا، أو على الأقل لدى نصف دول المجلس(السعودية والإمارات والبحرين)، وهو النصف الأكبر سكانيًا واقتصاديًا وسياسيًا. ولا يمكن القول بأن هناك فرصًا خليجية ضائعة في الحوار مع تركيا وإيران؛ حيث تغاضت دول الخليج عن مواقف تركيا خلال الثورات العربية، وعلى الرغم من الخلافات بين الإمارات وتركيا بسبب أيديولوجيا أردوغان الإخوانية، فإن ذلك لم يمنع استئناف جولة الحوار الخامسة في الرياض في أكتوبر 2016م، وهو ما يشير إلى قدرة دول من المجلس على تجاوز نقاط خلافها الشديدة مع المشروع التركي، ساعد على ذلك أن الخط الأيديولوجي التركي حتى 2017م، لم يكن فاقعًا في التفرقة بين دول المجلس أو الانحياز لإحداها على أساس الاقتراب الأيديولوجي، وهو الأمر الذي مكنت الأزمة التي تفجرت مع قطر مؤخرا من إبرازه.
فعندما وضع النظام التركي في موضع المفاضلة بين علاقاته مع الدول داخل منظومة مجلس التعاون انحاز إلى جانب النظام الذي يشبهه عقائديًا ويتحرك معه وفق خريطة أيديولوجية ومصلحية تنظيمية، على حساب المصالح الكلية لتركيا في علاقاتها مع منظومة مجلس التعاون، وهو ما جعل تركيا أكثر انحيازًا لقطر منها إلى الموقف الذي تمثله الكتلة الأكبر في المجلس، وهو ما أظهر موقفا تركيا لا يختلف كثيرًا عن الموقف الإيراني. وهذا الموقف الأخير لتركيا في الأزمة القطرية يرجح أن يعرض جولات الحوار الخليجي التركي لنوبات تأجيل تطول بقدر استمرار الأزمة مع قطر واستمرار الإسناد العسكري التركي لها. ويؤكد الموقف الخليجي من تركيا أنه لا مشكلة في الحوار في ظل التباين السياسي والخلاف الذي لا تنعكس فيه الأيديولوجيا والنزعة الامبراطورية ومشروع الهيمنة، وأنه بمجرد بروز التوجه العقائدي والمشروع التوسعي والمسعى التركي لاختراق منظومة مجلس التعاون انحيازًا لطرف على حساب آخر، فإن إمكانية استمرار الحوار تكون أصعب.
وعلى الرغم من التباين الخليجي مع إيران، إلا أنها ربما تكون أكثر قابلية للحوار معها مستقبلا عن النظام التركي في ظل أردوغان، فالعلاقة التي تجمع إيران بقطر في الأزمة هي علاقة مصلحية مدفوعة برغبة طهران في استغلال الأزمة وتوظيفها لإحكام وضعيتها في الخليج ولتأكيد واقع الانقسام داخل منظومة مجلس التعاون، وهو ما يرجح إمكانية تغيير الموقف الإيراني من الأزمة بحد يفوق إمكانيته مع تركيا، حيث يضع التباين المذهبي الأيديولوجي الإيراني القطري -برغم تشابه التوجهات والميول والسياسات- هامشًا لهذه العلاقة الطارئة، كما أن النظام الإيراني أكثر قربًا من واقع السياسات والمصالح وموازين القوى في الخليج من تركيا، وهو ما يجعل ثمة منافذ للمساومة والحوار والمقايضة معه، متى قررت دول المجلس الإقدام على خطوة من هذا القبيل. وبشكل عام، أحدثتالأزمة الخليجية مع قطر فرزًا في مواقف القوى الإقليمية، وزادت العراقيل فيما يتعلق بمستقبل الحوار مع تركيا، بقدر ما أكدت حقيقة البراجماتية والتوظيف السياسي كنزعة في السياسات الإيرانية، التي وقفت على أهبة الاستعداد لترتيب مصالحها وإحراز مكاسب ونقاط إضافية في اختراق منظومة مجلس التعاون.
الخلاصة:
تؤكد خبرة الحوار الاستراتيحي الخليجي التركي أن هذا الحوار سيظل محكومًا بمستقبل العقيدة السياسية للنظام التركي، وارتباطه الأيديولوجي بجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يعني أن هذا النظام على استعداد للتضحية بعلاقاته السياسية بالدول لحساب علاقاته بجماعات ما دون الدول، أو بدول تدعم جماعات ما دون الدولة، وهو ما يحد من إمكانات وسقف الحوار السياسي والاستراتيجي الخليجي معه، حيث سيظل هذا السقف واقعًا ما بقي النظام التركي الحالي ذو النزعة التوسعية والمشروع العقائدي، ومن ثم فحتى لو تجددت جولات الحوار الاستراتيجي المشترك في اسطنبول أو في الرياض فإنه لن يكون بمأمن من الإخفاق؛ حيث يحمل الطرف التركي في هذا الحوار عقيدة سياسية يمكنها أن تعرض أي توافقات أو مكاسب تتحقق من الحوار لانتكاسات مفاجئة؛ لأنه لا يقيم حساباته وفق قواعد الرشادة والعقلانية التي يجري حسابها بمنظور العلاقات بين الدول، وإنما بمكاسب وحسابات الجماعات الأدنى من الدولة.
كما يتضح –على الجانب الآخر- أنه على الرغم من كل الدوافع التي تدعو للحوار الخليجي التركي والخليجي الإيراني إلا أن الجانب الخليجي على استعداد للتضحية بكل فوائد ونتائج هذا الحوار إذا تبينت له النوايا السيئة من الجانب الآخر، وهو ما تبين من أنه بمجرد ظهور الوجه العقائدي الإخواني للنظام التركي في الأزمة مع قطر فإن مستقبل الحوار يصبح عرضة للإرجاء والتأجيل. ومن ثم سيظل الحوار الخليجي التركي محكومًا بهوامش سياسية وأيديولوجية يفرضها طبيعة النظام التركي. ويلاحظ عمومًا أن الحوار الخليجي التركي اكتسب مصداقية عالية وحقق نتائج في الأوقات الانتقالية وأوقات الاضطراب في العالم العربي، وهي الأوقات التي دفعت دولا في مجلس التعاون للتغاضي عن خلافها الأيديولوجي مع النظام التركي، ولكن بمجرد أن تجاوزت دول الخليج فترات الانتقال، تجدد خلافها الأصلي مع النظام التركي وبرز على السطح.
لكل ما سبق يصعب أن يسفر الحوار الاستراتيجي الخليجي الإيراني أو الخليجي التركي عن نتائج مهمة قبل حدوث تغيير داخلي في تركيا أو إيران ينهي العقيدة السياسية التوسعية لنظامي البلدين، أو تغيير داخلي في مجلس التعاون يعيد وحدة المواقف والسياسات والأهداف. وإلى أن يحدث ذلك، من الممكن الاستثمار في الصيغ غير الرسمية للحوار، والتركيز على دور القوى الناعمة والآليات الاجتماعية للحوار والتفاهم، وهي الآليات التي تقوي الأوراق الخليجية عند استئناف جولات التفاوض مع تركيا أو انطلاق الحوار الاستراتيجي مع إيران في أي وقت. ومن المهم استمرار وإنشاء آليات الحوار بين شخصيات من الحكماء ومؤسسات المجتمع الأهلي والمدني الخليجي التركي والخليجي الإيراني، استعدادًا ليس فقط لتغيير سلوك وممارسات نظامي البلدين، وإنما لتغيير النظامين نفسيهما، وهو احتمال ليس بعيدا بأي حال، كما أنه بشكل مؤقت يحافظ على القوى الشعبية والمجتمعية والنخب المساندة في الداخل التركي والإيراني.