"الشأن العام" لأي بلد يمكن أن يعرف بأنه: الأمور والمسائل العامة المتعلقة بشؤون ذلك البلد الداخلية والخارجية. إنه كل ما يهم المواطن – أينما كان – من شؤون داخلية وخارجية عامة تتعلق، مباشرة وغير مباشرة، بحياته، وحياة أبنائه وأحفاده. وبالتالي، يصبح من حق المواطن " المشاركة " في صنع القرارات التي تتعلق بالشأن العام لبلده، بالأصالة، أو بالوكالة. وصدور القرار الرشيد في الشأن العام، من قبل المعنيين أنفسهم، أو من يمثلهم، لا يتم إلا بعد " حوار " (وطني) مكثف ... تعرض فيه كافة الرؤى ومختلف وجهات النظر، وتحدد المصالح المختلفة .... ثم تتم بلورة صيغة للقرار شبه المتفق عليه، تطرح للتصويت (الاستفتائي). فإن أقرتها غالبية المتحاورين تصبح قرارًا ملزمًا للجميع، بما في ذلك السلطة التنفيذية في الحكومة. الحوار يعنى: تبادل الآراء ووجهات النظر بين أطراف مختلفة، ذات توجهات ومصالح مختلفة. وجوهر الحوار هذا ينطبق– أكثر ما ينطبق ويطبق – في البرلمانات.
هكذا فهمت كلمة " حوار " عندما طلب مني الكتابة تحت هذا العنوان. أما " الحوار " خارج إطار عملية صنع القرار السياسي، فإنه يعتبر، مهما بلغت أهميته، حوارًا جانبيًا، أو هامشيًا، وأن شارك فيه مواطنون من فئات مختلفة. البرلمان الحقيقي لأي بلد هو الميدان الأهم والأنسب لإقامة الحوار الوطني الدائم والشامل لكل شيء، وليس المقتصر على موضوع واحد بعينه ... يتم تداوله، والبت فيه، وبعد ذلك ينفض السامر. البرلمان الحقيقي هو مصنع القرار الوطني الأهم ... وهو القرار الصادر عن غالبية المعنيين، والمراعي لتوجه ومصلحة وفائدة هؤلاء. إنه القرار الصادر عن أكبر منابر الحوار الوطني (National Forum) والذي يسمي أحيانا بـ " مجلس الأمة "، أو الشعب ... الخ. ولعل هذه التسميات تؤكد الطبيعة الرئيسة للمجالس التشريعية، أينما كانت.
البعض قد يطلق على حوارات البرلمانات ومجالس الشورى نقاشًا، أو مداولة تعقد في جلسات، وتضبط بمحاضر. ولكننا عندما نتمعن في هذه الجلسات، سرعان ما يتبين لنا أنها عبارة عن حوارات مختلفة، ينصب كل منها على قضية بعينها، تهم الوطن والمواطنين، وتمس جانبًا من اهتماماتهم. وتتم بشأنها التسويات والتوفيقات، والوصول إلى حلول وقرارات تقبلها غالبية المتحاورين المعنيين.
وبذلك، فإنني أقترح على هيأة تحرير مجلة " آراء " الموقرة أن تغير عنوان تقريرها الشهري الشامل هذا، ليصبح: الأهمية البالغة للحوار الوطني المستدام داخل السلطات التشريعية الخليجية وليسمحوا لي بفهم الموضوع على هذا النحو، والانطلاق من هذه القناعة للحديث عن مجلس الشورى السعودي، كنموذج للحوار الوطني الأهم، كما هو كائن، وكما يجب أن يكون.
لقد توصل الفكر السياسي العالمي، وعلى مدار ثلاثة آلاف سنة ـ تقريبًا ـ واستنادًا إلى التجارب العملية، وأحداث التاريخ السياسي لبني الإنسان، إلى صيغة عامة معروفة.... لما ينبغي أن تكون سلطة التشريع عليه، من حيث: التكوين والصلاحيات، وما إليهما. فالحكومة – أي حكومة – هي: السلطة العليا العامة في البلاد – أي بلاد – بفروعها الثلاثة: التشريع، التنفيذ، القضاء. الحكومة – أي حكومة – وفي أي مكان وزمان ,هي في الواقع، عبارة عن: جهاز إداري ضخم.... يشرع وينفذ ويقاضي ... وتعتبر " السلطة التشريعية " أهم السلطات الثلاث ... كيف لا ؟! وهي التي تضع القوانين، المتفق عليها وطنيًا، وتجيز السياسات، وترشد القرارات والاتفاقات، وتراقب التنفيذ وتتابعه.
وإن رمزنا إلى الصيغة العامة للسلطة التشريعية، كما توجد الآن في بلاد العالم المتقدمة، وكما ينبغى أن تكون، بالرمز " س "، ثم رمزنا إلى معظم مجالسنا الخليجية المشابهة بالرمز " ص " ... سنجد أن " ص " ما زالت بعيدة – نسبيا– عن " س "، أو الصورة المثلى لـ " س ". ولكن توجد في " ص " الكثير من ملامح وعناصر " س ". كما أن " ص " هذه ليست جامدة، بل أنها تتطور ... مقتربة – مع مرور الزمن – أكثر من " س ". ويعتقد أن غالبية المعنيين في المنطقة تريد لـ " صادنا " أن تصبح " سيناً "، لكن في إطار ثوابتنا الدينية والوطنية المعروفة – وهذا رأى كاتب هذه الأسطر. ومن حق كل بلد، بالمناسبة، أن تقيم "سينها " وفق ثوابتها المختلفة. بل أن هذا هو الحاصل في بلاد العالم التي سبقتنا في التطور الحضاري والسياسي.
إن مجرد تواجد " ص " يعتبر – في حد ذاته -أمرًا إيجابيًا، كما يعتبر نقلة نوعية كبيرة في التاريخ السياسي لدول الخليج الناشئة. فالتواجد غالبًا ما يكون أفضل من العدم.
وبالنسبة لمجلس الشورى السعودي، أستطيع القول: أن هذا " المجلس " قد تطور نحو الأفضل بسرعة مقبولة. ومن أبرز ملامح هذا التطور: تفعيله بقوة (عبر نظامه الجديد الصادر عام 1412هـ) وزيادة أعضائه من 60 في الدورة الأولى إلى 150 عضوًا، اعتبارًا من الدورة الرابعة له، وتوسيع بعض صلاحياته ... مبتعدًا عن " الاستشارة " فقط، ومقتربًا نحو " التشريع الأساسي ". كما انفتح المجلس على المجتمع ... وزاد تفاعله مع المواطنين، عبر زياراتهم له، ومشاركتهم غير المباشرة، في مخرجاته. وواكب ذلك انفتاحًا إعلاميًا ... جعل معظم ما يدور في المجلس معروفًا لدى المواطنين، ومقدرًا من قبلهم ... كون ما يدور فيه يتحسس مشاكلهم وآمالهم، ويكرس الفكر والجهد لإيجاد الحلول الأنجع.... للمشاكل والآلام، والسبل الأسلم لبلوغ الطموحات والآمال.
وتبث مقتطفات من جلسات المجلس عبر التليفزيون السعودي (القناة الأولى) يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وتقدم الصحف المحلية السعودية ملخصًا لما يدور في كل جلسة من جلسات هذا المجلس. وذلك يحقق شيئًا من التواصل الضروري بين المواطن والمجلس ... ويزيد في تقريب المجلس – كمؤسسة تشريعية حوارية – نحو الصورة المثلى المأمولة.
ومبدئيًا، أرى أن المجلس يمكن اعتباره الآن مركز ترشيد القرارات والنظم والقوانين، الصادرة عن الحكومة، والمنظمة لحاضر ومستقبل شعبنا. ويتطلع الكثير من المسؤولين والمواطنين، بمختلف فئاتهم، ومستوياتهم، إلى أن يصبح هذا المجلس " قطب الرحى " في نظامنا السياسي السعودي .... عبر تحويله ـ المتأني والمتدرج ـ إلى سلطة تشريعية ملتزمة وموجهة ... لها ما لهذه السلطة من اختصاصات وصلاحيات، وعليها ما عليها من واجبات واستحقاقات. وذلك في المدى المنظور، أو المتوسط. ففي التأني السلامة، وفي التدرج النجاة، والازدهار، خاصة في الظروف (المحلية والخارجية) التي تحيط ببلادنا العزيزة.
ويبدو أننا، كمواطنين خليجيين، نريد لـمجالسنا أن تتطور، ولكن في إطار الثوابت الدينية والوطنية لبلادنا... وليس في أطر أخرى. إن الحفاظ على ثوابتنا الدينية والوطنية، فوق أنه واجب على كل منا، فإنه يقينا – بعد الله – من شرور لا حصر لها، ونوازل قد تقضي على الأخضر واليابس. وقد لمسنا أن المسؤولين يريدون أن يكون هذا المجلس، وما شابهه، أداة فعالة ... لخدمة الوطن والمواطن. فهو لم ينشأ للتفاخر أو الادعاء، أو التمويه، وإنما أنشئ ليكون عونًا فاعلاً وإيجابيًا للسلطة التنفيذية، في تسيير أمور الدولة، وتصريف شؤون البلاد، عبر: حوار وطني مستمر ومتواصل ومستدام ... يستهدف الوصول إلى قرارات تخدم المصلحة الوطنية، مؤيدة من قبل غالبية الشعب السعودي، أو من ينوب عنه، بمختلف أطيافه
ولا أدل على ذلك من حرص المسؤولين على الدقة والموضوعية، في إختيار الأعضاء، وعلى التوسيع التدريجي لصلاحيات المجلس واختصاصاته. ومن يحضر أغلب النقاشات في هذا المجلس، سيرى بأم عينه، ويسمع بأذنه، كيف أن الأعضاء يتبارون في تصيد أي خطأ أو قصور للسلطة التنفيذية، ويحاولون جهدهم تقويم أي تجاوز، بما يبدونه من آراء خلاقة وجريئة ونزيهة، وفي لطف تام وأدب جم.
وبالطبع، فإن أهم خصائص واختصاصات أي برلمان هي: امتلاكه لكامل السلطة التشريعية الملزمة (بما في ذلك مناقشة ميزانية الدولة، وإقرارها، ومتابعتها، والمساءلة بشأنها)، إضافة إلى كون أعضائه منتخبين ـ بعدد مناسب ـ عبر الاقتراع الشعبي المباشر. وغالبًا ما يتراوح عدد النواب بين 50 ــ 600، في أغلب دول العالم ذات الحكومات الديمقراطية. هذا عدا أشخاص المجلس الآخر ـ إن وجد ـ من السلطة التشريعية، التي يتكون معظمها من مجلسين شبه مستقلين، وخاصة في الدول الفيدرالية ...
لذلك، لا يستغرب أن تنصب أهم وأبرز " المطالب " الشعبية، والخارجية تجاه أغلب دول الخليج العربية، على " تطوير" مجالسها النيابية ... لتتضمن عناصر من أهم خصائص البرلمانات. حتى أن أهم ملامح ما يعرف بـ"الإصلاح"، أو "التطوير"، هي: أنه يجب ــ في رأي الكثير من المعنيين ــ أن يبدأ بمجالس الشورى والمجالس النيابية، وينتهي بها.
وهذا نابع من كون " التنمية السياسية "الإيجابية هي أساس (المتطلب الأساس) التنمية الشاملة، في كل مجالات الحياة، وكون " المشاركة الشعبية " هي "أس" التنمية السياسية الإيجابية، وجوهرها. وهذه التنمية تتطلب، وكما هو معروف، وجود لجنة سياسية (دستورية) مشرفة شبه دائمة، من المختصين والخبراء، تعمل على تنمية البلاد سياسيًا.
ونكرر إن التدرج والتأني أمران مطلوبان، بشدة وإلحاح، في حالتنا السعودية والخليجية بالذات. لهذا، فان أي تطوير للبرلمانات الخليجية الراهنة، يجب أن يتم بالتدرج المناسب، في إطار الثوابت الدينية والوطنية لشعوب دول الخليج العربية ... لتستمر هذه المجالس في مواصلة الحوار الوطني، والخليجي، بشكل أفضل، ومضمون يعود بالفائدة الكبرى المأمولة على هذه الدول، وعلى مستقبل شعوبها.
حري بالدول الخليجية العربية أن تشجع وترعى الحوارات الوطنية، بأنواعها، وأن تعطى الأولوية في اهتمامها هذا للحوار الأهم والأكبر والأشمل ... ألا وهو الحوار البرلماني الوطني المستدام. ذلك من أهم متطلبات الاستقرار واستتباب الأمن والازدهار.