المتتبع للغة الحوار العربي ـ العربي، عبر وسائل الإعلام، أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي يكتشف أن اللغة المستخدمة حاليا في أسوأ حالاتها، وتجاوزت تلك اللغة التي سادت في أشد حالات الخلافات العربية في منتصف القرن العشرين، بل أصبحت اللغة الإعلامية حاليًا محفزة أو مشاركة في الخلافات العربية ـ العربية، عبر استخدامها مفردات هابطة تخدش للحياء العام، ما جعل الرأي العام يعتاد على استخدام هذه المفردات المبتذلة ويتكيف معها ويرددها بدون خجل وكأنها من قاموس الحياة اليومية.
هذه اللغة أخرجت الخلافات العربية ـ العربية عن مسارها وسياقها، وحولتها إلى مهاترات لا تسقط من الذاكرة حتى وإن تجاوزت الدول الاختلافات، ويصاحب ذلك انفعال شبكات التواصل الاجتماعي وتتبادل الاتهامات والتخوين والتطاول والهبوط بلغة الحوار ما يجعل الخلافات الحقيقة تتوارى خلف الشتائم، وهناك من يقوم بالتسخين وإشعال حرائق الفتن عمدا لتطبيق نظرية الهجوم خير وسائل الدفاع، وللتغطية على الاتهامات الموجهة إليها باتهامات مسبقة على الاخرين لكي يكون الآخر في موقع رد الفعل والتبرير والدفاع وليس في موقف المهاجم أو متخذ المبادرة.
ولعل نموذج قناة الجزيرة القطرية في السنوات الأخيرة يعد النموذج الأبرز الذي أسس للغة التطاول في الإعلام العربي، والهبوط إلى مستوى التجريح في الشخصيات السياسية والعامة على مستوى الوطن العربي، ولتمرير ذلك أسبغت مسحة حوارية جديدة على الحوارات المتلفزة لجذب جمهور المشاهدين المتعطش للإعلام التفاعلي و للانتقادات العلنية، ومشاهدة برامج غير مسبوقة في الصراع الفكري والجدل غير المألوف، مما مهد لانزلاق الحوار الإعلامي إلى المهاترات، وجر الرأي العام العربي إلى صراعات تافهة مقابل تمرير مشروعات كبرى لتمزيق الدول العربية وسط خلافات مفتعلة والتشكيك في القيادات وتوجهاتها على حساب القضايا العربية الرئيسية، ومن ثم تمرير مخططات دول الجوار الجغرافي أو دول كبرى في المنطقة لها مصالح في تشتيت الرأي العام العربي، وتنفيذ أجنداتها على حساب الوجود العربي نفسه.
وفي الوقت الذي نفذت فيه قناة الجزيرة هذا المشروع، فشلت العديد من وسائل الإعلام العربية الرسمية في المواجهة، وفقدت تأثيرها ووهجها وبدت في موقف رد الفعل والتبرير ، واستفادت "الجزيرة" من ذلك في كسب مساحة كبيرة من جمهور المشاهدين، ثم جاءت موجة الربيع العربي التي اختفت فيها موضوعية الطرح الإعلامي وساد الخطاب الصاخب الذي يشوه الأنظمة العربية ويجمل وجه ما يسمى بثورات الربيع العربي لتسخين الرأي العام الهائج أصلا والذي تقوده عقلية القطيع التي تسود عادة في حالات الهياج الشعبي والحشود حيث تتخلي عن إعمال الفكر الشخصي وتتمكن الشائعات وتنتشر دون تمحيص كون الرأي العام مشغولا بالهياج.
وفي هذا المناخ الملتهب تمكنت الجزيرة وقنوات فضائية أخرى معادية للعرب ومؤيدة لمشروعات التقسيم والتجزئة في زيادة جرعات الاشاعات والتشكيك والتضخيم من تأثير الهياج الشعبي، وكان هذا التوجه قد نجح من قبل في إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003م، ثم توالي هذا النموذج غير الأخلاقي لإسقاط العديد من الدول العربية التي شهدت هياج ما يسمى بثورات الربيع العربي، وإن كان هذا النموذج سقط بعد فشل وصول جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم، و تجلي فشله بصورة واضحة مؤخرا بعد أزمة قطر مع ثلاث دول خليجية ومصر ومعهم العديد من الدول الأخرى حيث سقطت ورقة التوت عن هذه القناة.
وفي ظل هذا التناقض الإعلامي، وعدم وجود نطام إعلامي عربي جماعي رسمي مؤثر يستطيع تنظيم هذه الفوضى، وفي ظل انتشار شبكات التواصل الاجتماعي التي تحركها ثقافات متفاوتة، وجهات غير معروفة، ورأي عام بسيط في الرؤية والطرح ومن سهل التأثير عليه، يكون الخطاب الإعلامي عرضة لاستخدامه وسيلة للتفتيت وتحويله إلى شوكة في الخاصرة العربية، ونقطة ضعف لتحقيق الأهداف الخارجية. والمطلوب من الحكومات العربية حاليا تعزيز امكانيات الإعلام الرسمي للدول، وتقديم المعلومات بشفافية وسرعة لقطع دابر نشر الاشاعات والاجتهادات الخاطئة، والترويج المتعمد لجهات أو أحزاب أو جماعات على حساب الحقيقة وأمن واستقرار ووحدة الدول العربية وشعوبها، مع ضرورة تجريم نشر وبث المعلومات الكاذبة والخاطئة، و تفعيل أجهزة الإعلام العربي المشترك، خاصة دور اجتماعات وقرارات وزراء الإعلام العرب، والزام إعلام القطاع الخاص والفضائيات بشروط لمسؤولية الاجتماعية ووضع ضوابط لعدم الانسياق وراء الإعلانات التجارية التي تؤثر على المضمون، وكذلك وضع قواعد دقيقة للتمويل وتلقي الأموال من الجهات المشبوهة.