ليس هناك شعار في ظاهره حق، وما قد يتمخض عنه غير ذلك، مثل شعار: نحن أولاً. لنستعيد عَجُزَ بيت شعرٍ شهيرٍ لأبي فراس الحمداني، يقول فيه: إذا مِتُ ظمآناً فلا نزل القَطّرُ! وقول آخر منسوب لمدام بمبادور عشيقة لويس الرابع عشر، تقول فيه: أنا وبعدي الطوفان! إن كانت الحالة الأولى تُعَدُ أنانيةَ ضرورة، فالثانية أنانيةً مَرَضِيَة. بالتبعية: كما ينتاب الناس، مثل هذه المشاكل النفسية، سلوكيات الدول، أيضًا، ليست بعيدة عن الأحوال النفسية لنخبها الحاكمة.
متلازمة "نرجسية" الحكم و"عشق" الدولة
يصعب إذًا: إخراج شعار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (أمريكا أولاً)، وهو يرسم معالم سياسة إدارته الداخلية والخارجية، عن سياق البيئة الشعبوية، التي دعمت وصوله للبيت الأبيض. إنه شعار، رغم ظاهر وطنيته، إلا أنه تاريخيًا عادةً ما يرتبط بـ "نرجسية" في الحكم.. و"هوس" شعبوي تلازمًا تاريخيًا، مع أنظمة حكم شمولية، كانت وبالاً على بلدانها، قبل أن تكون كارثية على العالم. كثيرٌ من النخب الحاكمة، وهذا ليس حكرًا على بلدان العالم الثالث، ما تلجأ إلى مثل هذه الشعارات الشعبوية، من أجل ترسيخ حكمها.. وسيادة قيم الأيدلوجية، التي تؤمن بها.. ومحاربة خصومها السياسيين وتبرير التنكيل بهم، عن طريق مثل هذا "الوله" المتطرف بالدولة و"العشق" الأجوف بوطنية مزيفة، للتغطية -في كثير من الأحيان -على فشل ذريع وعدم كفاءة مزمنة لمؤسسات الحكم القائمة، أو للدخول في صراعات دولية أو إقليمية، بغرض التوسع والعدوان، على حساب دول وشعوب أخرى.. أو التجاوز على قضايا قومية وإقليمية، تشكل ركيزة رئيسية من ركائز الشرعية السياسية لتلك الأنظمة، التي تحكمها مثل تلك النخب، حيث استبدادها وطغيانها، يتخفيان وراء تلك الشعارات الشعبوية.
هتلر كان يريد أن تحكم ألمانيا العالم، وأن يسود الجنس الآري البشر. وما كان هتلر بمغامرة دخوله الحرب الكونية الثانية، يرغب فقط في الثأر من الحلفاء، الذين انتصروا على ألمانيا في الحرب الكونية الأولى وأرغموها على القبول باستسلام مذل بموجب معاهدة فرساي (٢٨ يونيو ١٩١٩م). لقد بالغ هتلر في تقدير قوة ألمانيا، مقارنة لما بدا له من ضعف خصومها الدوليين.. واستغل عواطف شعبه الوطنية.. وتنبأ أن يسود الرايخ الثالث العالم لألف سنة، ولم يستمر إلا لست سنوات!؟ موسيليني كان ينفخ في (الأنا) الإيطالية ليستعيد مجد روما الإمبراطوري والكنسي، وليعيد اللحمة لإيطاليا، التي تمزقت لـ "دوقات"، منذ انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوط البابوية الكاثوليكية، في روما (٤١٠ م)، حال اعتناقها المسيحية. سرعان ما اكتشف الشعب الإيطالي، بعد زوال فاشية نظام موسيليني، إن الطريق للتقدم والازدهار والانصهار واللحمة الوطنية، لا يأتي عن طريق تضخيم (الأنا) القومية، بقدر ما يأتي عن طريق العمل الدؤوب.. والتكامل الاقتصادي مع الجيران، والسلام معهم.
أمريكا: تاريخ طويل من العزلة
صحيح أن الولايات المتحدة دولة غنية بمواردها.. ومتفوقة بتقدمها التكنلوجي، وجبارة بقوتها الاستراتيجية الطاغية. إلا أنها تظل تعاني من مشكلة اقتصادية وإنسانية كونها دولة محدودة الموارد، كبقية دول العالم فقيرها وغنيها، حتى لو تمكنت من مضاعفة حجم ثروتها الاقتصادية والإنسانية، بمعدلات تفوق ما يتطور في مجتمعات العالم الأخرى. بالتالي: لا تستطيع الولايات المتحدة، أن تعيش في عزلة عن العالم، ليس من أجل مدها بما لا يتوفر لديها من موارد لازمة لمواصلة نموها وتفوقها التكنلوجي والعلمي والحضاري.. ولا من أجل فتح أسواق خارجية لمخرجات اقتصادها الضخم، فحسب... بل أكثر: من أجل ضمان أمنها القومي، من الناحية الاستراتيجية الصرفة.
الولايات المتحدة جربت اقتراب العزلة من مسرح السياسة الدولية كثيرًا... بل أن تاريخها القصير، نسبيًا، مقارنة بامبراطوريات أممية سبقتها، يكاد يكون في معظمه تسوده استراتيجية العزلة. لعل أكثر فترات العزلة شهرة في السياسة الخارجية الأمريكية، تلك التي سادت في فترة ما بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية، وحتى جزء من الحرب الكونية الثانية، عندما أعلنت الولايات المتحدة الحرب على اليابان (٨ ديسمبر ١٩٤١م)، بعد الهجوم الكاسح التي تعرض له أسطولها في المحيط الهادي من سلاح البحرية الياباني (٧ ديسمبر ١٩٤١ م). أعقب ذلك إعلان ألمانيا وإيطاليا، اللتان كانتا تشكلان مع اليابان دول المحور، الحرب على الولايات المتحدة (١١ ديسمبر ١٩٤١م). وكان أن دخلت الولايات المتحدة الحرب الكونية الثانية، بعد ٢٢ سنة من العزلة، التي لم تعد إليها تماماً، إلى اليوم، وإن كانت أيدلوجية العزلة مازالت تتمتع بتيار سياسي قوي، داخل الولايات المتحدة، ربما تكون إدارة الرئيس ترامب الحالية تشكل أهم منعطفاته الخطرة.
ترامب: العودة للعزلة من جديد!؟
اليوم، في ظل إدارة الرئيس ترامب، تخطو السياسة الخارجية، نحو انعزالية جديدة، لن تقود -إن هي مضت قدمًا فيها -أن تفقد الولايات المتحدة ميزتها التنافسية استراتيجيًا، بوصفها القوة العظمى الرئيسية في عالم اليوم، بل ذلك من شأنه، أيضًا: أن يُعرض أمن الولايات المتحدة للخطر. الرئيس دونالد ترامب في زياراته المتكررة لحلفائه التقليديين في أوربا، منذ تقلده منصبه كرئيس للولايات المتحد (٢٠ يناير الماضي)، ضمن منظومة معاهدة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لا يخفي ضجره من التكلفة المادية الضخمة، التي تفرضها التزامات واشنطن الدفاعية، تجاه حلفائها التقليديين في الناتو. بل أن الرئيس الأمريكي الجديد، يذهب إلى أبعد من المطالبة بزيادة نصيب حلفاء أمريكا التقليديين في الناتو في ميزانية المنظمة الدفاعية، إلى المطالبة بأن يدفع شركاء واشنطن في معاهدة حلف شمال الأطلسي، ما دفعته واشنطن، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية في تكلفة المظلة النووية الأمريكية للدفاع عن أوربا الغربية واليابان!؟
سلوك انعزالي، بامتياز، لا يختلف كثيرًا عما أقدمت عليه الولايات المتحدة، عقب الحرب الكونية الأولى، التي كان لموقفها الاستراتيجي المميز، دورٌ كبيرٌ في حسم تلك الحرب، لصالح الحلفاء دفاعًا عن الديمقراطية والعالم الحر، كما كان يُقال. تخلي الولايات عن حلفائها في الحرب الكونية الأولى.. وتخليها عن الدفاع عن سِلْمِ العالم واستقراره، أدى إلى تعرض أمنها القومي لخطر مباشر، أجبرها لدخول الحرب الكونية الثانية، رغم قوة تيار الانعزالية في داخل الولايات المتحدة، الذي حال دون الولايات المتحدة ودخول الحرب الكونية الثانية أكثر من عامين كاملين، كانتا كافيتين لاجتياح النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، لكل أوربا غرب الأورال، بل حتى التوغل داخل أوربا الآسيوية، شرق الأورال حيث عرين الدب الروسي.
في الجانب الآخر من العالم توغلت اليابان غربًا، فجرى احتلال الصين وصولاً إلى التبت.. وجنوبًا، حتى كادت الفاشية العسكرية في طوكيو تحتل استراليا، بعد ما سيطر الجيش الإمبراطوري الياباني على الهند الصينية، ليقترب من أبواب شبه القارة الهندية. كادت الفاشية أن تسيطر على العالم وفي ذهن هتلر وموسيليني والجنرال هيديكي توجو، الجائزة الكبرى للحرب (الولايات المتحدة).
عزلة الولايات المتحدة في الفترة ما بين الحربين، كادت أن تطرق أبواب الولايات المتحدة الحصينة، بعد أن كانت الغواصات الألمانية تُمارس ما يشبه الحصار على طول ساحل الأطلسي شرق الولايات المتحدة، بينما يصل الأسطول الياباني، إلى وكر الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر (هاوي) ويدمره، ليصبح الطريق البحري أمام اليابانيين مفتوحًا، تجاه سواحل الولايات المتحدة الغربية على المحيط الهادي.
تكلفة العزلة وعوائد التداخلية
كما أن الرئيس ترامب، عند محاولته ابتزاز حلفائه في معاهدة حلف شمال الأطلسي، بمطالبته إياهم زيادة إسهاماتهم في ميزانية الناتو الدفاعية، بل ومطالبتهم بدفع ما سبق ودفعته واشنطن مقابل إعادة إعمار أوربا ونشر المظلة النووية الأمريكية للدفاع عن القارة العجوز، كما يُطلق عليها رواد التيار الانعزالي للمحافظين الجدد في واشنطن، إنما في حقيقة الأمر يقفز على حقائق تاريخية واستراتيجية، كانت ولا زالت تصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي وفي المكانة المميزة للولايات المتحدة، التي تحظى بها واشنطن في عالم اليوم.
الولايات المتحدة، بعد الحرب الكونية الثانية مباشرةً كان هاجسها الأمني يتجه نحو منافسها الكوني الجديد، على مكانة الهيمنة الكونية التي تبوأتها بعد الحرب، التي هي - في نفس الوقت - وثيقة الصلة بأمنها القومي. خطر الاتحاد السوفيتي الذي اقتسم مع أمريكا أوربا والعالم.. وكذا خطر الأيدلوجية الماركسية، ببعدها السياسي الفاشي، الذي ورث مناطق واسعة من التوسع الياباني أثناء الحرب، في الصين وجزء من الهند الصينية، مما شكل خطرًا استراتيجيًا محدقًا وناجزًا للولايات المتحدة، الأمر الذي اضطر الولايات المتحدة للدخول في حروبٍ إقليمية محدودة، خارج مجالها الحيوي التقليدي في العالم الجديد، في كوريا (١٩٥٠-١٩٥٣م) وفيتنام (١٩٥٥-١٩٧٥م).. وكذا تطوير استراتيجيات دفاع غير تقليدية، مثل استراتيجية الاحتواء وحافة الهاوية وحرب النجوم، حتى اقتربت من تبني عقيدة الضربة الأولى، لفرض حصار حديدي على الاتحاد السوفيتي للحد من تمدده في مناطق حيوية لمصالحها وأمنها القومي، مثل: الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية وإفريقيا. بالإضافة إلى حساسية واشنطن الأمنية والاستراتيجية الصارمة تجاه احتمال اقتراب الخطر الاستراتيجي للاتحاد السوفيتي من مناطق نفوذها الحيوي التقليدية في أمريكا اللاتينية، حتى أنها كادت أن تخاطر بسلام العالم وأمنه، طوال ١٣ يومًا (١٤ أكتوبر ١٩٦٢-٢٨ أكتوبر ١٩٦٢م)، حبس فيها العالم أنفاسه، فيما عرف بأزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا.
الولايات المتحدة أعادت إعمار اليابان وأوروبا الغربية من أجل ترسيخ الرأسمالية، في مواجهة الاشتراكية.. ونشرت المظلة النووية في أوربا الغربية واليابان، لردع المد الشيوعي من أن ينجح فيما فشلت فيه الأيدلوجية الفاشية والنازية، للتوسع حتى تهديد الأمن القومي الأمريكي مباشرةً، داخل أمريكا نفسها. بعبارة أخرى: حققت الولايات المتحدة منافع اقتصادية وسياسية كبيرة من خطة مارشال لإعادة إعمار أوربا الغربية واليابان.. ومكاسب سياسية عريضة من جراء تزعمها لما سمي، في فترة الحرب الباردة، للعالم الحر... وأخيرًا، من الناحية الاستراتيجية، امتداد المظلة النووية الأمريكية، في أوربا والأناضول وغرب الباسفيك، أعلى من شأن وكفاءة الرادع النووي الأمريكي، في مواجهة التمدد الشيوعي، حماية لأمن الولايات المتحدة القومي.
باختصار: أوربا واليابان لم تطلبا المعونة الاقتصادية والحماية الاستراتيجية لهما من قبل أمريكا، حتى يأتي الرئيس ترامب ليطلب تسديد فاتورة كل ذلك من الأوربيين واليابانيين.. كما أن الأوربيين واليابانيين، وخاصة الأوربيين، لم يعتمدوا على المظلة النووية الأمريكية حصريًا لحماية أمنهم.. البريطانيون والفرنسيون طوروا رادعهم النووي الخاص بهم.. حتى أن الفرنسيين مبكرًا (١٩٦٦ م) خرجوا من الترتيبات العسكرية لحلف شمال الأطلسي، علمًا منهم وقناعةً عندهم، أنه في حال تطور موقف خطير قد يؤدي إلى استخدام السلاح النووي، فإن الولايات المتحدة ستضحي بلندن وباريس من أجل حماية واشنطن ونيويورك!
كما أن اليابانيين اختاروا منهجًا أكثر نعومة وأتى بنتائج إيجابية، لحد الآن، في التعامل مع خصوم اليابان التاريخيين غربًا في الاتحاد السوفيتي والصين. لقد طورت اليابان، طوال الحرب الباردة واستمر ذلك إلى اليوم علاقات تجارية وتعاون اقتصادي ممتد مع الصين والاتحاد السوفيتي واليوم مع روسيا، وفر لها غطاءً استراتيجيًا، ربما أكثر وثوقًا ومصداقية، من المظلة النووية الأمريكية غير المستقرة وغير المضمونة، بصورة مطلقة، في حالة تطور وضع استراتيجي يحمل احتمالات استراتيجية غير تقليدية، كاحتمال استخدام السلاح النووي، سواء في صورة حرب شاملة.. أو في حالة نشوب حرب نووية محدودة في منطقة غرب الباسفيك، كما هو احتمال ذلك هذه الأيام، نتيجة التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
حمائية العزلة الاقتصادية
اقتصاديًا: من أهم مؤشرات عودة أيدلوجية العزلة، لتهيمن على السياسة الخارجية الأمريكية، في عهد إدارة الرئيس ترامب، تبني هذه الإدارة لسياسة اقتصادية حمائية تطال أوجه التجارة الخارجية الأمريكية، مع العالم. بدأت واشنطن سياسة العزلة الاقتصادية، بالتخلي عن العديد من إسهاماتها التكاملية، مع شركاء تجاريين، دوليين. مُلفتٌ أن يبدأ الرئيس الأمريكي في أول يوم عمل لإدارته بعد تنصيبه بالتوقيع على أمر رئاسي تخرج به الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر الهادي التي تضم ١٢ دولة تقع جميعها على ضفتي المحيط الهادي في أربع قارات، عدا الصين.. وكانت تهدف إلى إزالة العوائق الجمركية أمام التجارة والاستثمار، في مواجهة تكتلات استراتيجية واقتصادية عملاقة، مثل: الصين.. وروسيا، والاتحاد الأوربي.
سياسة اقتصادية حمائية يدشن بها الرئيس ترامب استراتيجيته الانعزالية، بدءًا بحلفائه الاستراتيجيين وشركائه الاقتصاديين. كما أن الرئيس ترامب أبدى توجهه لمراجعة أهم صيغة تكاملية في أمريكا الشمالية والوسطى، بين بلاده وكندا والمكسيك (النافتا)، التي أنشئت ١٩٩٢م، وأصبحت سارية المفعول ١٩٩٤م، من أجل مواجهة التكتلات الاقتصادية الناشئة مثل الاتحاد الأوربي، بإقامة منطقة تجارية حرة بين الدول الثلاث. اتفاقية التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية أحرزت تقدمًا كبيرًا في التكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث، حتى أنه تم إلغاء الرسوم الجمركية على السلع والخدمات بين الدول الثلاث عام ٢٠٠٨م.الرئيس ترامب لا يتوعد بتقويض النافتا، اتساقًا مع توجه إدارته الانعزالي، فحسب... بل أن الرئيس ترامب يزمع إقامة فواصل اصطناعية مع جيرانه في الجنوب، ببناء جدار إسمنتي على طول حدود بلاده مع المكسيك!
لنتصور، فرضًا، لو استطاع الرئيس ترامب، المضي في سياسته الحمائية الانعزالية هذه، من أجل استعادة العمالة الوطنية للسوق الأمريكي، عن طريق اتباع سياسة اقتصادية تدخلية بفرض قوانين تحد من حرية حركة رأس المال الأمريكي، هل ذلك، إن كان ممكنًا أصلاً، كفيل بحل مشكلة البطالة في المجتمع الأمريكي.. وتحقيق معجزة العمالة الكاملة، بفرض إن هذا الأخير هدف مجدٍ، ورشيدٍ اقتصاديًا!؟ ثم: هل لو نجح الرئيس ترامب، في فرض سياسته الحمائية ضد واردات الولايات المتحدة من السلع والخدمات، يكون هذا في صالح السوق الأمريكية، بل حتى للمستهلك العادي في أمريكا.. وإن هو فعل ذلك، هل بإمكانه أن يمنع شركاء تجاريين لأمريكا من اتباع سياسة اقتصادية حمائية مضادة.
أمريكا، ببساطة: ليست بهذا النفوذ والقوة والغنى، التي يتصوره الرئيس ترامب. هو شخصيًا يعترف: أن أمريكا ضعيفة، وهو يريد أن يستعيد إليها عظمتها، فكيف للضعيف أن يبدأ مشوار عظمته، وهو لا يقوى على المشي!؟ ثم هل يستطيع السوق الأمريكي، رغم ضخامته، أن يستوعب "عظمة" أمريكا الاقتصادية، التي يعد بها المستر ترامب. لنتساءل، هل يستطيع السوق الأمريكي، في ظل حرب عالمية حمائية، تعززها أيدلوجية انعزالية متطرفة، أن يستوعب صناعة الاتصال في الولايات المتحدة، على سبيل المثال. هل السوق الأمريكي، رغم ضخامته، مؤهل لاستيعاب توسع شركات، مثل: مايكروسوفت وأبل وجوجل وفيس بوك، والواتس أب. وإلى أين يمضي مصير برامج ومشروعات هذه الصروح الاقتصادية الأمريكية العملاقة المستقبلية، في ظل حرب حمائية عالمية يحرض عليها الرئيس ترامب، تفوق طاقة السوق الأمريكية لاستيعاب إمكاناتها الحالية، دعك من مشاريعها المستقبلية الواعدة. ثم ماذا تفعل أمريكا، وهي في عزلة عن العالم، مع ظاهرة التغيير المستمر في أدوات الإنتاج وعلاقاته، التي هي متلازمة تاريخية، لتطور المجتمعات البشرية وإبداعاتها، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا... أليس ذلك من شأنه أن يأتي على الريادة الأمريكية، ويجعلها تتخلف عن كثير من دول العالم النامية، بل وحتى الاقتصاديات الناشئة.
هذه فقط أمثلة اقتصادية، لم يسعف المجال التوسع فيها والتطرق لغيرها، تبين مدى الصعاب الحقيقية التي تواجه شعار أمريكا أولاً. النتيجة، بالقطع: تكون كارثية، لاقتصاد أمريكا، ومن ثم لإمكانات نموه، مما ينعكس بالتبعية: على مكانة وهيبة أمريكا، التي تطمع لتحتل مكانتها الكونية قوىً اقتصادية منافسة، لن تستسلم لسياسة أمريكا الحمائية، وستستغل عزلة الولايات المتحدة عن العالم، لتمضي في استراتيجيتها التكاملية الليبرالية. الاتحاد الأوربي واليابان والصين، مرشحة لإقامة اقتصاد عالمي موازٍ، لو أصرت إدارة الرئيس ترامب المضي في سياستها الحمائية، مما قد يأتي على نظام الدولار، الذي يحكم العالم اقتصاديًا، بموجب اتفاقية بريتون وودز النقدية ( ٢٢ يوليو ١٩٤٤ )، قبل نهاية الحرب الكونية الثانية، ليفقد الدولار، ليس فقط مركزه النقدي الكوني المرموق، بل قد يفقد قوته الشرائية في سوق داخلي يعاني من تباطؤ في النمو أو انكماش، أو حتى كساد.. ومن البطالة المقنعة.. والتضخم، والثروة القومية المتناقصة.
ثم إن الولايات المتحدة، بعد الحرب الكونية الثانية أرست نظامًا تكامليًا عالميًا للتجارة الدولية، يقوم على أسس اقتصادية ليبرالية، ففرضت اتفاقية التجارة والتعرفة الجمركية (GATT) ١٩٤٧م، التي اُستبدلت مؤخرًا بمعاهدة منظمة التجارة العالمية (WTO) ١٩٩٥، التي أرست لقيم وممارسات نظام العولمة، ومن حينها أخذت دول العالم تتقاطر للانْضِمام إليها، لتواجه اليوم أعظم تحدياتها على الإطلاق في سياسة الولايات المتحدة الحمائية الانعزالية، التي تتبعها إدارة الرئيس ترامب الحالية.
شعار أمريكا أولاً لن يُبقي أمريكا في المقدمة
الرئيس الأمريكي الجديد عندما يُطلق شعار "أمريكا أولاً".. و"العامل الأمريكي أولاً"، إنما هو في حقيقة الأمر يدشن سياسة خارجية انعزالية وسياسة اقتصادية حمائية بامتياز، في نكوص عن تاريخ طويل نسبيًا أمتد لما يزيد عن سبعة عقود، كانت الولايات المتحدة فيه تتسيد العالم.. وتدعم سلامه.. وتعزز استقراره، وفي نفس الوقت، كانت تلك السياسة التداخلية الطويلة نسبيًا، تصب في مصلحة اقتصاد الولايات المتحدة، رغم التكلفة الكبيرة التي تحملتها عند بدء تدشين تبنيها للنظام الليبرالي الاقتصادي العالمي. بفضل تلك الاستراتيجية الليبرالية التداخلية: الولايات المتحدة أضحت أكثر غنىً.. وأكثر تقدمًا.. وأكثر مهابة ونفوذًا على مستوى العالم، بل وأكثر أمنًا، بالرغم مما واجهته من تحديات أمنية، سواء في فترة الحرب الباردة.. أو ما تواجهه اليوم مما يسمى الإرهاب.
الولايات المتحدة أضحت دولة عظمى ومهيمنة على مقدرات العالم بسياستها الليبرالية التداخلية، ولم تكن كذلك أبدًا، طوال فترات انعزالها وانكفائها على نفسها السابقة. باتباع سياسة انعزالية رجعية متطرفة، تجازف الولايات المتحدة بالكثير. أمريكا بنت عظمتها على انفتاحها الكوني، وسوف تعيدها عزلتها وانكفاؤها على نفسها، حدود منطقتها الجغرافية المحدودة والضيقة، مما سيؤثر سلبًا على وحدتها الداخلية، ربما باستعادة النزعة الكنفيدرالية القديمة.
عزلة الولايات المتحدة عن العالم ستقودها لأن تصبح أقل نموًا.. وأقل أمنًا، وربما أقل استقرارًا. ألم يكن أجدر أن يختار الرئيس ترامب شعار (السلام أولاً)، لتظل أمريكا دائمًا في المقدمة حضاريًا.. ونامية اقتصاديًا.. ومتقدمة تكنولوجيًا وعلميًا.. ومزدهرة اجتماعيًا وثقافيًا.. ومستقرة سياسيًا.. ورائدة للعالم الحر.. وخير ضمان في مواجهة الفاشية، وخير نصير للديمقراطية.