من أهم أدوات السياسة الخارجية، لأي دولة من الدول (الأداة الاقتصادية)، حيث تقع في منطقة وسط بين الأداة الدبلوماسية والأداة العسكرية، في الوقت الذي تخدم فيه الأداة الاقتصادية الدبلوماسية، إلا أنها لا تستبعد تمامًا العمل العسكري.. وإن كانت كلتا الأداتان (الاقتصادية والعسكرية) تعدان امتدادًا لحركة الأداة الدبلوماسية، لكن بوسائل متقابلة.. وبتكلفة متفاوتة.. وبعائد مختلف، وكذا بتوقعات متضاربة النتائج.
المعونات الاقتصادية والعقوبات الاقتصادية
كثيرًا ما تلجأ الدول لخيار الأداة الاقتصادية في محاولتها خدمة مصالحها الوطنية، ودعمًا لأمنها القومي. الدول، وخاصةً الغنية منها، تلجأ لنظام المعونات الاقتصادية بمثابة "الجزرة"، التي تجذب الدول الأكثر احتياجًا لها، من أجل دعم الأخيرة السياسي وتعاطفها مع القضايا، التي تتصدى لها الدول المانحة للمعونات الاقتصادية، على المستويين الإقليمي والدولي. أيضًا: نفس الأداة تستخدم سلبيًا كـ "العصاة" للتأثير على سلوك الدول الأخرى لتتوافق مع مصالح وأمن الدولة أو الدول، التي تلجأ لنظام العقوبات أو المقاطعة الاقتصادية. في كلتا الحالتين تتفاوت عوائد وتكلفة اللجوء للأداة الاقتصادية، بتفاوت القضايا التي تُستخدم من أجلها.. وكذا بتفاوت حاجة ومكانة الدول موضوع نظام العقوبات الاقتصادية.
في كل الأحوال: نظام العقوبات الاقتصادية، أشد قسوة وتكلفة على طرفي الصراع، كما أنه بالنسبة للأطراف التي تتعرض له أشد مقاومةً وأقل تسامحًا، ربما في بعض الأحيان، تفوق تصميم وإرادة الدول المقاطِعَة، التي تلجأ لخيار العقوبات الاقتصادية.. وأحيانًا: قد يُعد، اللجوء لخيار العقوبات الاقتصادية، من قبل الدول التي يُفرضُ عليها، عدوانًا يرقى لمستوى التهديد بالحرب. بالإضافة إلى أن العائد على الدول، التي تلجأ إلى خيار العقوبات الاقتصادية، غير مضمون ومن الصعب توقعه، في غالب الأحوال، خاصةً: إذا ما طال أمد العقوبات الاقتصادية، ونجحت الأطراف الدولية المستهدفة منه، على تجاوز أو تحمل تبعاته، ولم يلق تعاونًا إقليميًا ودوليًا لإحكام فرضه.
تكلفة العقوبات الاقتصادية الأخلاقية
الأخطر: في قرار اللجوء إلى نظام العقوبات الاقتصادية، ذلك البعد الأخلاقي الذي يطال جوانب إنسانية، كان يجب على طرفي الصراع، خاصةً: تلك الأطراف التي تلجأ لخيار المقاطعة والعقوبات الاقتصادية، عدم إقحامها والمجازفة بالأخذ بخيارها في معمعة الخلاف بينها. كثيرًا ما تتولد مآسٍ إنسانية نتيجة لفرض العقوبات الاقتصادية على دول هي في الأساس تعاني من مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية مزمنة، وفي أمس الحاجة للمعونة الاقتصادية، من أن تتعرض للعقوبات الاقتصادية، لأسباب ودواعٍ سياسية، هي في كثير من الأحيان، تمس قضايا السيادة الحساسة، أكثر من اعتبارها عقوبة على مروقٍ أو تجاوزٍ على قيم النظام الدولي المرعية.. أو لمواجهة سلوكٍ من شأنه أن يخل باستقرار العالم وأمنه، كما تحاول الدول التي تلجأ لخيار العقوبات الاقتصادية تصويرها، أو حتى اختلاقها، من أجل تبرير الأخذ بخيار العقوبات الاقتصادية لإدارة أهداف سياستها الخارجية.
في المقابل: وامتدادًا لهذا البعد الإنساني والأخلاقي السلبي لخيار العقوبات الاقتصادية، فإن الكثير من الدول، التي تتعرض لأنظمة العقوبات الاقتصادية، يهمها استقرار أنظمتها السياسية، ولا تلتفت للآثار السلبية لاستمرار العقوبات الاقتصادية على شعوبها. في هذه الحالات: تتغلب شعارات الحفاظ على السيادة.. وبقاء الدولة، واستقلال قرارها السياسي، ولو من باب المزايدة السياسية، على مدى فاعلية النظام السياسي وكفاءته في أداء وظائفه والقيام بأعباء مسؤولياته، ومن ثَمّ محاولة تسخير موارد الدولة المحدودة والفقيرة، ليس من أجل مقاومة تبعات العقوبات الاقتصادية.. وتخفيف عبئها عن الناس، بل لترسيخ دعائم النظام السياسي القائم، وتشديد قبضة استبداده.
لكن، في معظم الحالات لا يبدو نظام العقوبات الاقتصادية مجدياً للدول التي تلجأ لفرضه، مهما كان وضع الدول التي تتعرض له ضعيفًا وهشًا، من الناحية الاقتصادية. هذا بالإضافة إلى أن نظام العقوبات الاقتصادية، مع الوقت قد يزيد من كفاءة أنظمة الدول التي تتعرض له باكتشاف أو تطوير إمكانات ذاتية.. وكذا إيجاد بدائل محلية وخارجية، للتعامل مع المشكلة، ما كان يمكن أن تحدث لولا المعاناة الناتجة عن العقوبات الاقتصادية، خاصةً: إذا ما كان النظام السياسي القائم يحظى بشعبية قوية، قائمة على شرعية سياسية راسخة، تعكس إرادة الناس الحقيقية.
أو أن تكون الدولة المستهدفة من نظام العقوبات الاقتصادية غنية ومستقرة نسبيًا، بل وحتى قوة كونية عظمى، كما في حالة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي على روسيا الاتحادية، بسبب غزوها للقرم وحربها ضد أوكرانيا (٢٧ فبراير ٢٠١٤م) أو ذلك النوع من العقوبات الاقتصادية، التي مازالت الولايات المتحدة ودول الغرب تفرضه على الصين، بدعاوى الانتصار لحقوق الإنسان في الصين، التي فرضت عقب أحداث ساحة تيانانمن ( ١٥ أبريل ١٩٨٩م ).
وكما سبقت الإشارة إليه، فإن الضغوط التي تُمارس على الدول موضوع العقوبات الاقتصادية، قد لا تقود إلى تغيير في سياساتها وتوجهاتها، بقدر ما تقود إلى ترسيخ دعائم أنظمتها السياسية، مهما كانت قمعية، بضخ المزيد من الموارد الفقيرة والمتناقصة في شريان النظام السياسي، بهدف تعزيز سطوته وزيادة فرص بقائه في السلطة، وربما التمادي في عناده، بما قد يشكل تهديدًا مباشرًا وناجزًا على سلام العالم وأمنه، كما هو في حال نظام العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة على كوريا الشمالية.
كذلك: فإن الجانب الأخلاقي السلبي لخيار اللجوء للعقوبات الاقتصادية لا يقتصر على الأثر السلبي المتمثل في الإضرار المباشر بحياة الشعوب الفقيرة، التي فُرضت العقوبات الاقتصادية على دولها عقابًا لسلوك أنظمتها السياسية، مهما كانت مبررات اللجوء لخيار العقوبات الاقتصادية من قبل الدول، التي تلجأ إليها. كثيرًا ما يتمثل فُحْشُ نظام العقوبات الاقتصادية من قبل دول الغرب، التي تزعم انتصارها لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، حيث يعكس نفاقًا سياسيًا وازدواجًا في المعايير في السياسة الخارجية لتلك الدول الغربية الغنية.
أنظمة الكثير من دول الغرب الديمقراطية الداخلية، وخاصةً الولايات المتحدة، تقضي بمعاقبة الأنظمة السياسية، التي ترى أنها أتت إلى الحكم بطرق غير ديمقراطية، خاصةً إذا حدثت تلك المحاولات بطرق عنيفة لتغيير أنظمة الحكم في بلادها. هذه الدول الغربية الغنية، التي تزعم انتصارها علنًا للخيار الديمقراطي وتلتزم بأن تعمل على نشره بين مجتمعات العالم، نراها لا تكتفي فقط بمخالفة أنظمتها الداخلية لتبرير عدم معاقبة أنظمة الحكم التي تأتي بالعنف، بتفادي تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، بل قد تكون نفسها ضالعة في إحداث التآمر على برامج التحول الديمقراطي في كثير من مجتمعات العالم الثالث. حدث مثل هذا في تدخل الولايات المتحدة السافر والمباشر، في انقلاب تشيلي الدموي ١٩٧٣م، حيث كشفت وثائق الخارجية ووكالة الاستخبارات الأمريكية (سبتمبر ٢٠٠٣م) بعد مضي فترة السرية (ثلاثين عامًا)، التي يفرضها القانون للكشف عن وثائق الحكومة الأمريكية السرية، الدور السلبي المتواطئ لواشنطن في تدبير ذلك الانقلاب العسكري الدموي، الذي كلّف الشعب التشيلي أكثر من ثلاثة عقود من الحكم القمعي المستبد، بل وعرقلة مسيرة الديمقراطية نفسها، في دول جنوب الكرة الأرضية. لقد أظهرت تلك الوثائق تورط إدارة الرئيس الأمريكي، حينها ريتشارد نيكسون (١٩١٣ -١٩٩٤م) المباشر في الانقلاب العسكري العنيف، الذي قاده الجنرال أوغستو بونيشيه (١٩١٥-٢٠٠٦) على حكومة الرئيس سلفادور أللندي (١١ سبتمبر ١٩٧٣م)، وأفضى إلى قتل الرئيس أللندي في القصر الجمهوري بالعاصمة سنتياغو إثر قصفه بالطائرات، بعد ثلاث سنوات عاشتها تشيلي في ظل حكم ديموقراطي، عقب انتخاب سلفادور أللندي رئيسًا لتشيلي (٤ نوفمبر ١٩٧٠م).
التأثيرات العكسية المضادة للعقوبات الاقتصادية
كما أنه، في الأمد الطويل قد يثبت نظام العقوبات الاقتصادية كونه عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا وأخلاقيًا على الدول التي تأخذ به، منه على الدول التي هي موضوعه، خاصةً إذا ما كانت تفرضه مجموعة من الدول تتفاوت تكلفة فرضه ودواعي الأخذ به بينها. كثيرًا ما تثبت الدول والمجتمعات، التي تتعرض لنظام العقوبات الاقتصادية أن نَفَسَها في تحمل عبئه تتجاوز توقعات الدول التي تلجأ إليه، رغم شدة وطأته عليها، خاصةً إذا ما كانت أنظمتها السياسية تحظى بشرعية سياسية عند شعوبها.. أو تواجه الدول، التي تفرض نظام العقوبات الاقتصادية، نفورًا أو عدم تعاطف إقليمي أو دولي مع القضايا التي تزعم تبرير لجوئها لنظام العقوبات الاقتصادية لخدمتها. مع الوقت، ليس فقط التعب والملل والشعور بارتفاع تكلفة اللجوء لخيار العقوبات يمكن أن يصيب الدول التي تفرض العقوبات الاقتصادية ومؤيديها، بل أيضًا قد يحملها اليأس من تأخر جني عائد الاستمرار في خيار العقوبات الاقتصادية إلى اللجوء إلى وسائل أكثر عنفًا و"دراماتيكية" مثل الحرب، فتزداد بذلك تكلفة إدارة الصراع والدخول إلى منطقة أكثر خطورة وأقل توقعًا بنتائجها.
هذا بالإضافة إلى الأثر السلبي، طويل الأمد، الذي يتركه خيار اللجوء للعقوبات الاقتصادية، في مرحلة ما بعد الأخذ به، في علاقات أطرافه من الدول، وكذا في شكل التحالف الذي بدأ به عنده بعد التخلي عنه، بين الدول التي شاركت في فرضه. كما أنه، مع الوقت، قد يُحدث نظام العقوبات الاقتصادية تغييرات هيكلية في النظامين الإقليمي والدولي، تتضرر منه أكثر مصالح الدول التي فرضته، لصالح منافسيها الإقليميين والدوليين، بمحاولة اقتراب الأخيرة من الدول التي فُرض عليها ونجحت في مقاومته، ربما بمساعدة تلك الدول المنافسة للدول التي فرضته، مما يزيد من تكلفة وعبء قرار اللجوء لخيار العقوبات الاقتصادية، من قبل الدولة أو الدول التي لجأت لفرضه.
باختصار: لم يحدث أن أثبت نظام العقوبات الاقتصادية أنه خدم، بصورة كفوء وفعالة، الهدف أو الأهداف التي يُتخذ من أجلها، إلا في حالات قليلة ونادرة سيتم التطرق إليها لاحقًا. بل، بالعكس، هناك شواهد تاريخية على فشل نظام العقوبات الاقتصادية من تحقيق الهدف منه... فقد ينتهي بكارثة كونية، كما حدث باندلاع الحرب الكونية الثانية، عندما انتفضت ألمانيا لتثأر من نظام العقوبات الاقتصادية (تعويضات الحرب)، التي فرضها الحلفاء عليها بعد هزيمتها في الحرب الكونية الأولى، بموجب معاهدة فرساي ١٩١٩م.. كما أن احتمالات تكرار مثل هذه الكوارث الكونية وراد، هذه الأيام، إذا ما استحكمت أزمة التوتر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، التي تُعزى في كثيرٍ من منعطفاتها لشدة وقسوة العقوبات الاقتصادية الدولية على بيونغ يانغ. بالإضافة إلى أن فرض العقوبات الاقتصادية، على بعض الدول من المحتمل أن يترك حالة من عدم الاستقرار الإقليمي المزمن، كما حدث للعراق بعد غزوه الكويت لأكثر من ١٣ سنة، لينتهي نظام العقوبات الاقتصادية على العراق، طوال تلك المدة، بغزو أمريكي للعراق، خارج إرادة المجتمع الدولي، مازال العراق ومنطقة الخليج العربي، بل والشرق الأوسط بأسره، في معاناة مستحكمة من تبعاته غير المستقرة، إلى اليوم.
من الحالات النادرة، التي يمكن تتبعها لنجاح نظام العقوبات الاقتصادية، ذلك الذي فُرض على أنظمة الحكم العنصرية في روديسيا وجنوب إفريقيا، إلا أنه لا يمكن إيعاز ذلك حصريًا للعقوبات الاقتصادية، بقدر ما هو راجع للمقاومة الشرسة من قبل السكان الأصليين في روديسيا وجنوب إفريقيا، لنظامي هراري وبروتوريا العنصريين.. والاستهجان الأممي الواسع لنظام الفصل العنصري ( الأبارتايد ) في روديسيا وجنوب إفريقيا، مما وفر غطاءً أخلاقياً قوياً عزز من فرص نجاح نظام العقوبات الاقتصادية الدولية على نظامي الفصل العنصري تلك . بالرغم من ذلك: حصل أن بعض الدول المهمة والكبيرة في النظام الدولي، التي كانت تدعم نظام المقاطعة الاقتصادية ضد نظام بروتوريا العنصري، كثيراً ما تخرق هذا النظام لحاجتها لبعض المواد الأولية التي لا تتوفر بها، ويصعب توفرها من مصادر أخرى، مثل ما اضطرت الولايات المتحدة، في مناسبات معينة، من خرق نظام العقوبات الاقتصادية على جنوب إفريقيا لحاجتها لمعادن استراتيجية، مثل الكروم والبلاتين والروديوم والإريديوم.
المقاطعة العربية لإسرائيل.. استثناء للقاعدة!؟
إلا أنه لا يفوتنا هنا التنويه لنجاح نظام المقاطعة العربية لإسرائيل، قبل لجوء بعض الدول العربية، بصورة متباعدة، لخيار ما يسمى بالسلام مع الدولة العبرية، خاصةً في الفترة ما بين حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ( ٢٦ مارس ١٩٧٩م)، التي كان من أهم بنودها تخلي مصر عن المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، التي امتدت - طوال فترة أوج التزام النظام العربي باستحقاقات المقاطعة الجماعية لإسرائيل - لتشمل مقاطعة الدول العربية لشركات عالمية تابعة لدول عظمى تضررت بدورها من نظام المقاطعة العربية لإسرائيل، مثل شركة كوكاكولا وفورد، حيث خضعت شركات منافسة لتلك الشركات العالمية وتجاوبت مع نظام المقاطعة العربية لإسرائيل مثل: شركة بيبسي كولا وجنرال موتورز. ولا ننسى هنا نجاح الدول العربية المنتجة للنفط، بقيادة المملكة العربية السعودية في فرض حظر لتصدير النفط للدول الداعمة لإسرائيل في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، الذي شمل دولاً غربية صناعية كبرى وغنية، مثل: الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا. وكانت هذه المقاطعة لتلك الدول المؤيدة لإسرائيل في حروب ١٩٧٣م، تكرارًا - ولو بصورة محدودة وأقل تأثيرًا وإحكامًا -في حربي ١٩٥٦م، و١٩٦٧م.
لم تنجح المقاطعة العربية لإسرائيل، التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود تخللتها أربع حروب كبيرة بين العرب وإسرائيل ( ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧ و ١٩٧٣م) بأن تكون لها آثارًا اقتصادية مؤلمة على إسرائيل والدول الداعمة لها، بل كانت لها آثار سياسية ممتدة بفرض عزلة سياسية على الدولة العبرية، باعتبارها دولة عدوانية عنصرية تحتل أراضٍ تابعة لدولٍ عربية، صدرت بحقها قرارات إدانة صريحة وملزمة من الجمعية العامة ومجلس الأمن صنفتها صراحة من الدول العنصرية، مثل روديسيا وجنوب إفريقيا، كونها تغتصب حق الشعب الفلسطيني الطبيعي غير القابل للتصرف في سيادته وحريته وقيام دولته المستقلة على أرضه ( فلسطين ).
بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.. وتبعتها الأردن (٢ أكتوبر ١٩٩٤ م).. وقبل الأخيرة، اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية الموقعة في واشنطن (١٣ سبتمبر ١٩٩٣م)، وأخيرًا: أقامت موريتانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل في (٢٨ أكتوبر ١٩٩٩م)، انهار نظام المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل، الذي كان أمضى من خيار اللجوء إلى الحروب، التي خسرها العرب جميعًا، عدا الانتصار، الذي حققه العرب في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، كما ترتب على اعتبار حرب أكتوبر ١٩٧٣م، كما وصفها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بأنها آخر الحروب مع إسرائيل، انهيار تام لمنظومة المقاطعة العربية، بدايةً بالتخلي -كما سبقت الإشارة إليه -عن أمضى أسلحة العرب في صراعهم مع إسرائيل (نظام المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل).
بالتبعية، ونتيجة لذلك السلوك لبعض الدول العربية تجاه إسرائيل، وقضية الأمن القومي العربي، أخذ الخيط الإسرائيلي يتخلل النسيج العربي، كأحد أهداف صراع إسرائيل مع العرب، كما كان يقول وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي ديان (١٩١٥ -١٩٨١م)، حيث بدأت عزلة إسرائيل الدولية تتداعى.. وشرعت الدول، التي كانت تتردد في الاعتراف بإسرائيل، إما تحرجًا من شرعية إسرائيل الدولية والأخلاقية، أو تحسبًا لردع نظام المقاطعة العربية لإسرائيل، ومنها دول أوروبية غربية كانت تاريخيًا صديقة للعرب ومتعاطفة مع القضية الفلسطينية، مثل: أسبانيا واليونان ودولة الفاتيكان، توالت تباعًا بالاعتراف بالدولة العبرية. بل وأخذت دول في العالم الثالث، خاصةً في إفريقيا، التي تقريبًا جميعها لم تعد تقيم علاقات مع إسرائيل، بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، أخذت تتقاطر لتقيم أو تعيد علاقاتها مع إسرائيل بعد أن فقد الإجماع العربي زخمه الهادر، بقرار بعض دوله المهمة والهامشية، التخلي عما يُعرف بمستحقات الأمن القومي العربي، باعتبار إسرائيل العدو الاستراتيجي الأول للعرب.. وبالتالي: تقويض نظام المقاطعة الاقتصادية الكفوء والفعال ضد إسرائيل... دعك من تواري قضية الشعب الفلسطيني لدى النظام العربي الرسمي لمرتبة متأخرة في سلم أولويات العرب القومية الاستراتيجية.
تواضع أداء خيار العقوبات الاقتصادية
نظام العقوبات الاقتصادية، أثبت مع الوقت فشله، عدا في زيادة معاناة الشعوب وترسيخ نظم الحكم المستبدة.. ولم يثبت نجاحه إلا في حالات قليلة ونادرة، عندما يتمتع بشرعية سياسية أممية غالبة.. ويستند إلى قيم أخلاقية وثيقة الصلة بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقواعد التعامل الدولي المرعية في مسرح السياسة الدولية، ويخدم قضايا عادلة تحظى بإجماع أممي كاسح. بالتبعية: في مقدمة متطلبات أي نظام للمقاطعة والعقوبات الاقتصادية، ضد أي دولة أو مجموعة من الدول، أن تتوفر لديه شرعية قانونية وأخلاقية رادعة بأن يحظى، بإجماع دولي أو إقليمي قوي ومحكم، مثل مقاطعة العالم لنظام الفصل العنصري ( الأبارتايد )، في روديسيا وجنوب إفريقيا.. ونظام المقاطعة الاقتصادية والعزلة السياسية، الذي فرضه العرب على إسرائيل، لأكثر من ثلاثة عقود (١٩٤٨-١٩٧٩م).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة الملك عبد العزيز ـ جدة