على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي أنشئ بموجب معاهدة واشنطن عام 1949م، يعد تحالفًا عسكريًا للدفاع عن أراضي أعضائه وفقًا للمادة الخامسة من الميثاق المنشئ للحلف والتي تضمنت أن أي هجوم على دولة أو أكثر من دول الحلف يعتبر هجومًا على دوله جميعها بما يمنح تلك الدول حق الدفاع الذاتي عن النفس بشكل فردي أو جماعي، فإن ذلك لا يعني أن عمل الحلف ظل محددًا بأراضي أعضائه في ظل تغير البيئة الأمنية العالمية وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة،إذ ظهرت بيئة أمنية جديدة أفرزت تهديدات عديدة ليس أقلها سعي بعض الدول لتطوير طاقة نووية لغير الأغراض السلمية ومنها إيران، ومع أن الناتو كمنظمة لم يكن طرفًا مباشرًا في المفاوضات النووية التي أسفرت عن توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول ال5+1 في يوليو 2015م، فإن الحلف معني بتلك القضية كجزء من تفاعل الحلف في بيئة أمنية متغيرة أوجدت تهديدات ليست بالضرورة أن تكون مباشرة لأراضي دوله وإنما ترتبط بتحديات لدى شركاء الحلف سواء في مبادرة الحوار المتوسطي عام 1994 أو مبادرة اسطنبول عام 2004م، ناهيك عن علاقات التحالف الإيرانية-الروسية.
ويثير ما سبق تساؤلات ثلاثة أولها: ما هي أسباب ومظاهر اهتمام حلف الناتو بمسألة الانتشار النووي عمومًا وفي منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص؟ وثانيها: ما هو مضمون الرؤية الأطلسية للبرامج النووية الإيرانية؟ وثالثها: ما هي آليات الناتو لردع إيران؟
أولاً: أسباب ومظاهر اهتمام حلف الناتو بمسألة الانتشار النووي عمومًا وفي الشرق الأوسط على نحو خاص:
فمن ناحية أولى نجد أن حلف الناتو يولي أهمية للتصدي للانتشار النووي لأسباب ترتبط بالحلف من حيث الهوية والهدف، فالحلف أنشئ كتحالف دفاعي بين الدول الغربية عام 1949م، فضلاً عن أن القوى النووية العالمية هي ذاتها الدول الكبرى في الحلف بما يعني أن عملية التصدي للانتشار النووي في العالم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعامل الردع الذي يعد جوهر عمل الحلف، وهو ما يفسر دعم الحلف لمعاهدة الحد من الانتشار النووي عام 1968م، ورفض معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي اعتمدتها الأمم المتحدة بموافقة ثلثي أعضائها في يوليو2017م، والتي تعد أول اتفاق متعدد الأطراف ذو طبيعة إلزامية يتم التوصل إليه بعد مفاوضات استغرقت زهاء عشرين عامًا والتي تتضمن إجراءات متكاملة بشأن الأسلحة النووية مثل قضايا تطوير واختبار وإنتاج وتصنيع واستحواذ أو امتلاك أو تخزين الأسلحة النووية أو غيرها من الأجهزة المتفجرة النووية، بالإضافة إلى استخدام تلك الأسلحة أو التهديد باستخدامها. حيث صدر بيان عن مجلس حلف الناتو مفاده أن تلك المعاهدة لا تعد كافية لمواجهة مسألة الانتشار النووي لكونها تتجاهل واقع البيئة الأمنية الدولية بالنظر إلى أنها لن تكون فعالة تجاه دولة تمتلك ترسانة أسلحة نووية بالفعل، كما أنها تقوض دعائم معاهدة حظر الانتشار النووي التي كانت جوهر الجهود العالمية على مدى عقود خلت والتي بدأ التوقيع عليها عام 1968م، وأكد بيان الحلف أن" الناتو لن يكون طرفًا في معاهدة حظر الأسلحة النووية ولكنه سيبقى تحالفًا نوويًا من أجل الحفاظ على السلام وردع عدوان القوى النووية".
ومن ناحية ثانية فإن أمن منطقة الشرق الأوسط يرتبط على نحو وثيق بأمن الناتو انطلاقًا من أن تلك المنطقة تضم دولاً ترتبط بشراكات مع الناتو وهي دول مبادرة الحوار المتوسطي التي أطلقها الحلف عام 1994م، وتضم 7 دول متوسطية وهي ( مصر والأردن وموريتانيا والجزائر وتونس والمغرب وإسرائيل) ومبادرة اسطنبول للتعاون والتي أطلقها الحلف عام 2004م، وانضمت إليها كل من الإمارات والكويت والبحرين وقطر، وقد لوحظ أن التصدي لأسلحة الدمار الشامل كان بندًا أساسيًا ضمن مضمون المبادرتين، فمبادرة الحوار المتوسطي على الرغم من كونها إطارًا للحوار السياسي بين الحلف والدول المشار إليها فإنها تستهدف المساهمة في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي من خلال التوصل لفهم مشترك للتصدي للتحديات المشتركة ومنها أسلحة الدمار الشامل، أما مبادرة اسطنبولللتعاون بين الحلف ودول الخليج فيعد التصدي لأسلحة الدمار الشامل أحد بنودها الست الأساسية حيث نصت المبادرة على "المساهمة فيما يقوم به الحلف من أعمال لمواجهة التهديدات التي تمثلها أسلحة الدمار الشامل ووسائل إيصالها"، بما يعنيه أن المبادرة لا تعنى بتهديدات تلك الأسلحة فحسب بل أيضًا بالصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية والتي تعني امتلاك قوة الردع، فلا معنى لتطوير أسلحة نووية بدون القدرة على إيصالها.
ويلاحظ أن حلف الناتو كان جل تركيزه في الماضي على التسلح النووي داخل النطاق الجغرافي لدوله مع إيلاء عملية نزع السلاح النووي أهمية في الوقت ذاته من خلال دوله الرئيسية وليس من خلال الحلف كمنظمة، إلا أنه كان هناك إغفال للدول التي تسعى لتطوير تلك الأسلحة ومنها إيران وكوريا الشمالية على سبيل المثال، الأمر الذي حدا بالحلف لضرورة مراجعة فكرة الردع وهو ما عبر عنه الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرج أمام مؤتمر ميونخ للأمن الذي عقد في فبراير 2016م، بالقول" ينبغي ألا يظن أحد أن الأسلحة النووية قد تستخدم كجزء من صراع تقليدي، بل أنها سوف تغير من طبيعة أي صراع بشكل جذري"، ومع عدم تحديد الأمين العام للحلف دولاً بعينها يستهدفها ذلك التصريح وربما كان المقصود هو التهديدات الروسية للحلف على خلفية الأزمة الأوكرانية فإن التصريح يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن الحلف لن يسمح لأي دولة أن تستخدم السلاح النووي أو حتى مجرد التهديد به ضمن صراعها مع دولة أو دول أخرى حيث أن ذلك سوف يعني تغيير قواعد اللعبة برمتها بشكل جذري لارتباط الأمر بتطبيق مفهوم الردع على أرض الواقع، وهو الأمر الذي يفسر وجود بعض الأفكار الأكاديمية الصادرة عن الحلف وترى أن مفهوم الردع يتعين أن يكون في بؤرة المفاهيم الاستراتيجية التي يصدرها الحلف كل عشر سنوات والتي تعد بمثابة مراجعة أمنية لواقع التهديدات الأمنية التي تواجه الحلف وتحديد آليات مواجهتها تتكامل مع الميثاق المنشئ للحلف ولا تتناقض معه، لأن ذلك سوف يمثل رسالة محددة وواضحة بشأن مدى جدية الحلف بشأن التصدي للانتشار النووي، وأن دخول دائرة التسلح النووي سواء من خلال الاستخدام أو التهديد باستخدام تلك الأسلحة يعني تغيير قواعد اللعبة بشكل جذري.
وتعكس المفاهيم الاستراتيجية التي تصدر عن الحلف كل عشر سنوات مظاهر اهتمام الحلف بالتصدي للانتشار النووي فقد تضمن المفهوم الاستراتيجي الصادر عام 1999م، أن "الحلف سوف يحافظ في المستقبل المنظور على القدر الكافي من الأسلحة النووية وغير النووية في الأراضي الأوروبية مع المحافظة على تطويرها بشكل مستمر حيثما اقتضت الضرورة ذلك"، أما المفهوم الاستراتيجي الصادر عام 2010م" فقد تضمن أن" انتشار الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل ووسائل إيصالها تهدد بعواقب يصعب حصرها بشأن الاستقرار والرفاه العالمي. وسيتخذ الانتشار خلال العقد المقبل منعطفًا أكثر حدة في بعض مناطق العالم المضطربة .... وأن الحلف سوف يواصل تطوير قدراته من أجل التصدي للتهديدات التي ترتبها الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية وأسلحة الدمار الشامل"، وعلى الرغم من عدم تحديد إيران بالاسم كتهديد محتمل للناتو ضمن هذا السياق فقد نص المفهوم الاستراتيجي في مواضع أخرى على أنه" من شأن حالات عدم الاستقرار في مناطق ما وراء حدود الدول الأعضاء أن تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن الحلف الأمر الذي يتطلب التشاور مع أكبر شركاء الحلف"، وخلال قمة حلف الناتو التي عقدت في وارسو عام 2016م، تعهدت الدول الأعضاء بالعمل على الحد من انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل سواء من جانب الدول أو الجماعات دون الدول، فضلاً عن أن اللجنة الخاصة بالتخطيط النووي بالحلف اجتمعت عشر مرات خلال عام 2016م، لمناقشة المخاطر والتهديدات التي ترتبها أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية والإشعاعية، ومناقشة كيفية تطبيق ما تضمنه المفهوم الاستراتيجي للحلف عام 2009م، بشأن تلك القضية من خلال وضع خطة عمل للناتو للرد على الانتشار النووي على مستوى العالم وقد ضمت تلك المناقشات مسؤولين من كل من فنلندا والسويد وإسرائيل، من ناحية أخرى عقد حلف الناتو مؤتمره السنوي في مايو 2016م، والذي تم تخصيصه لقضية الانتشار النووي وقد ضم 100 مشارك من 44 دولة، بالإضافة إلى مسؤولين رفيعي المستوى من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومسؤولين من منظمة حظر الأسلحة الكيمائية ومنظمة معاهدة الحظر الشامل لإجراء التجارب النووية.
ثانيًا: رؤية حلف الناتو للبرامج النووية الإيرانية:
مع أن حلف الناتو كمنظمة لم يكن طرفًا في المفاوضات التي أسفرت عن توقيع الاتفاق النووي بين دول مجموعة ال5+1 وإيران في يوليو 2015م، فإن الحلف لم يكن بعيدًا عن تلك المسألة بشكل تام فخلال زيارة له لدولة الإمارات العربية المتحدة في مارس 2016م، قال ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف الناتو ردًا على سؤال بشأن مستقبل التعاون بين الناتو ودول الخليج في أعقاب توقيع الاتفاق النووي " إن الهدف من الاتفاق هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي" وأضاف" الولايات المتحدة والدول الأخرى المعنية وأوروبا تصب تركيزها على أهمية تنفيذ بنود الاتفاق وعلى أهمية احترامه" وقال "من المهم أن يكون هناك تنفيذ كامل للاتفاق النووي وأن يتم تنفيذ آليات التحقق من التزام إيران بتنفيذ بنوده كاملة لمنع الانتشار النووي عموماً" مؤكدًا على أن رؤية حلف الناتو تجاه قضية الانتشار النووي عمومًا ترتكز على ثلاثة أسس:
الأول: منع الانتشار النووي كإجراء وقائي من خلال دعم معاهدة الحد من الانتشار النووي عام ،1968 والثاني: نزع السلاح النووي، والثالث: تشجيع الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
ولم يقتصر اهتمام الحلف على البرامج النووية الإيرانية بل تعداه إلى التهديدات الإيرانية غير النووية لاسيما تطوير إيران لصواريخ بعيدة المدى لكونها تبقى هي العنصر الأكثر خطورة حال تمكنت إيران من تطوير سلاح نووي إذ أنها سيكون لديها وسائل إيصال ذلك السلاح مما يمثل تهديدًا ليس فقط لكافة جيرانها الإقليميين بل لدول الحلف ذاتها، وضمن هذا الإطار قال الأمين العام للحلف ردًا على سؤال بشأن مدى التزام إيران ببنود الاتفاق النووي من عدمه" لا يعود للحلف تقييم مدى التزام إيران وإنما إلى الدول الموقعة والوكالة الدولية للطاقة الذرية" وأضاف "إن الاتفاق يشمل الموضوع النووي ولكنه لا يشمل برامج الصواريخ ونحن قلقون بشأن استمرار تعزيز قدرات إيران الصاروخية"، وهو الأمر الذي حدا بإيران للرد على لسان بهرام قاسمي الناطق باسم الخارجية الإيرانية بالقول" أن بيان الناتو بشأن البرامج الصاروخية الإيرانية مرفوض، وأن برنامج إيران الصاروخي لا يمت بأي صلة للاتفاق النووي أو المفاوضات النووية"، مضيفًا أن" تطوير الصواريخ لا ينتهك القرار الأممي رقم 2231"،وقال أن "برنامج إيران الصاروخي يعد ضمن الاستراتيجية الدفاعية المتعارف عليها والتي ستبقى مستمرة"، ولاشك أن مخاوف الحلف بشأن الصواريخ بعيدة المدى تعد أحد الأسباب التي تفسر حرص الحلف على نشر نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية، كما أن سعي إيران لتطوير أجيال متعاقبة من الصواريخ والتي يتراوح مداها بين 2000 إلى 2500 كم مما يمكنها من الوصول لأي مكان في منطقة الشرق الأوسط والدول الأوروبية قد دفع تركيا وهي أحد أعضاء الناتو والجبهة الجنوبية للحلف إلى العمل على تحديث الصاروخ شهاب 3، فضلاً عن العمل تطوير الصواريخ متوسطة المدى والتي يصل مداها إلى 2000 كم،ولا تقتصر مخاوف الحلف على الصواريخ الإيرانية بل من حالة عدم الاستقرار على الجبهة الجنوبية للحلف عمومًا والتي تضم منطقة الشرق الأوسط، حيث أن انتشار الصواريخ الباليستية والصواريخ قصيرة المدى في تلك المنطقة يعد أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار فيها، فوفقاً لتقرير صدر في الولايات المتحدة الأمريكية فإن أكثر من 90%من الصواريخ الباليستية التي استخدمت في النزاعات في دول العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت في تلك المنطقة والتي شهدت إطلاق أكثر من 5000 صاروخ وخاصة التي تمتلكها الجماعات دون الدول مثل حزب الله الأمر الذي جعل دول مجلس التعاون تولي إنشاء شبكات دفاعية لحماية أراضيها وأجوائها أهمية كبيرة.
ثالثًا: آليات الناتو لردع إيران:
ربما يسود اعتقاد مؤداه أن الحلف بعيد عن الملف النووي الإيراني، وواقع الأمر أن البرامج النووية الإيرانية تعد جزءًا من المنظور الأطلسي الاستراتيجي الأوسع لأمن منطقة الخليج العربي التي ترتبط أربع من دولها بشراكات أمنية ودفاعية مع الحلف ضمن مبادرة اسطنبول الأمر الذي تعكسه آليات الحلف لردع إيران كما يلي:
الآلية الأولى: عدم اقتصار اهتمام الحلف على التصدي لسعي إيران لتطوير طاقة نووية لغير الأغراض السلمية بل أيضًا التسلح التقليدي والذي لا يقل أهمية عن تلك الأسلحة ذاتها، حيث تتمثل تلك الوسائل في تطوير صواريخ لديها القدرة على حمل رؤوس نووية لمسافات بعيدة وفي هذا السياق أكد الأمين العام للحلف قدرة الناتو على "مواجهة التهديدات التي تشكلها البرامج الصاروخية التي يجري تطويرها خارج المنطقة الأوروبية الأطلسية من جانب دول مثل إيران، وأضاف أن" نظام الدفاع الصاروخي الذي يقوم الحلف بنشره في دول أوروبا الشرقية ليس موجهًا ضد روسيا وإنما لمواجهة التهديدات التي تأتي من خارج النظام الأوروبي الأطلسي" وقال إن "عددًا من الدول منها إيران تقوم بتطوير أنظمة باليستية متنوعة واختبارها وتقويتها وهو ما يؤكد الدوافع التي تجعل حلف الناتو يواصل تطوير نظامه الصاروخي"، ويفسر ذلك نشر حلف الناتو منظومة رادار متطور ضمن الدفاع الصاروخي للحلف على الأراضي التركية وفقًا لما قررته قمة الحلف في لشبونة عام 2010م، وقد وضعت تركيا شروطًا لاستضافة تلك الدرع الصاروخية منها ألا يكون سببًا لتوتر علاقاتها بدول الجوار ومن ذلك عدم تسمية إيران وسوريا كتهديدات محددة تواجهها الدرع الصاروخية وأن يكون تشغيل مكوناتها من جانب الجيش التركي، والجدير بالذكر أن تلك المنظومة تستهدف اكتشاف واعتراض أي صواريخ مواجهة ضد دول حلف الناتو أو حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وقد جاء نشر تلك المنظومة في أعقاب تهديد إيران غير ذي مرة بإغلاق مضيق هرمز الذي يمر منه 20%من النفط المتداول في العالم، ففي رده على سؤال بشأن جهود الحلف للتصدي لتهديدات الصواريخ الباليستية عمومًا قال الأمين العام للحلف أندريه فوج راسموسن " إن حلف الناتو يرد على التهديدات التي تشكلها الصواريخ الباليستية من خلال تأسيس منظومة دفاع ضد تلك الصواريخ وقد أنشأ موقعين لهذه المنظمة في رومانيا وبولندا ويعمل على تطوير منشآت أخرى في سياق بناء تلك المنظومة الدفاعية، وقال " إنه في سياق الرد على التهديدات التي تشكلها الصواريخ الباليستية نشرت الولايات المتحدة أيضًا سفنًا حربية مجهزة بنظام إيجيس لتوفير مقدرات الدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ البالستية في الوقت نفسه في عرض البحر.
أما الآلية الثانية: فتتمثل في حرص الحلف على ضمان حرية الملاحة البحرية حيث تولى الحلف قيادة عملية مكافحة القرصنة في المحيط الهندي من خلال العملية التي أطلق عليها عملية" درع المحيط" وذلك للمرة الأولى عام 2009م، وفقًا للقرارات الأممية الصادرة بهذا الشأن، كما أنه كان من بين مهام الحلف في تلك العمليةمساعدة دول المنطقة على تطوير قدراتها في مكافحة أنشطة القراصنة حال طلبها ذلك، وتعد جهود الحلف في هذا الشأن تطبيقًا لمضمون المفهوم الاستراتيجي للحلف عام 2010 والذي جاء فيه"تطوير قدرات المساهمة في أمن الطاقة، بما يشمل حماية البنى التحتية الطاقوية الحساسة ومناطق وخطوط نقلها، والتعاون مع الشركاء والتشاور بين الحلفاء وفقا لتقييمات استراتيجية ومخططات للطوارئ"، ولاشك أن تلك الجهود تعد أمرًا مهمًا للغاية في ظل تهديدات إيران للملاحة في مضيق باب المندب ليس أقلها دعم الحوثيين في اليمن.
أما الآلية الثالثة فهي: إعلان الحلف المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في سوريا من خلال إرسال طائرات أواكس لهذا الغرض، بما يعكس مؤشرًا مهمًا على رغبة الحلف في الانخراط في معالجة النزاعات الإقليمية التي تعد إيران لاعبًا رئيسيًا فيها ولكن يلاحظ أن دور الحلف ضمن الجهود الدولية في هذا الشأن.
ومع أهمية تلك الآليات، يثار تساؤل مؤداه ما هي المصالح الاستراتيجية لحلف الناتو والتي تحتم على الحلف العمل للحيلولة دون تطوير إيران طاقة نووية لغير الأغراض السلمية؟ ويمكن تحديدها في ثلاثة أمور:
أولها: أن نجاح إيران في تخطي العتبة النووية سوف يؤدي إلى تكريس خطير في خلل توازن القوى الإقليمي بما يعنيه من تهديد للمصالح الاستراتيجية لدول الحلف في تلك المنطقة ليس أقلها أمن الطاقة حيث أن توقف ضخ النفط لدول الحلف من خلال طرق المرور البحرية سيكون عملاً عدائيًا يستوجب على حلف الناتو التحرك عسكريًا للتصدي لهذا الأمر،صحيح أن حلف الناتو لم يتدخل عسكريًا كمنظمة في الأزمات الإقليمية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط سوى في الأزمة الليبية عام 2011م، بيد أنه لم يكن بعيدًا عن الأزمات التي شهدتها منطقة الخليج العربي حيث كان لأعضاء الحلف الرئيسيين دور مهم إبان الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات لتأمين ناقلات النفط الخليجية فيما عرف بحرب الناقلات، وحرب تحرير دولة الكويت عام 1991م، بما يعني أن الأمن والاستقرار الإقليميين يعد هدفًا أساسيًا للحلف سواء كمنظمة أو كدول بشكل فردي، وتدرك إيران القدرات العسكرية الهائلة لحلف الناتوفعلى الرغم من زيادة إيران ميزانيتها العسكرية بنسبة 128% خلال السنوات الخمس الأخيرة إذ بلغت الزيادة 1,3مليار دولار خلال العام الحالي 2017 م، لتبلغ 11,6مليار دولار، فإن تلك الميزانية تظل متواضعة للغاية مقارنة بالنفقات العسكرية لدول حلف الناتو مجتمعةوالتي بلغت في عام 2017 م، حوالي 915 مليار دولار تم تخصيص 664 مليار دولار للإنفاق العسكري.
وثانيها: أن تحول إيران إلى دولة نووية سيكون تهديدًا للعمق الاستراتيجي للحلف في ظل وجود إيران على نقاط تماس استراتيجي للحلف سواء ضمن الدول الشريكة للحلف في مبادرة اسطنبول أو في آسيا الوسطى والقوقاز وهو ما يعني الحد من نفوذ الحلف في تلك المناطق، أخذًا في الاعتبار استمرار عمل قوات الحلف في أفغانستان والتي لايزال لإيران نفوذًا متناميًا فيها، بالإضافة إلى طبيعة العلاقات الاستراتيجية المتنامية بين إيران وروسيا التي لاتزال تمثل تحديًا للحلف على جبهتيه الشرقية "الأزمة الأوكرانية" والجنوبية"الأزمة السورية"، ففي أعقاب التدخل الروسي في الأزمة السورية عام 2014م، قال أحد مسؤولي الحلف" اعتدنا الحديث عن التهديد الشرقي والتهديد الجنوبي ولكن الجبهتين تشابكتا الآن"، وربما يفسر ذلك سعي إيران للانضمام لتكتلات مناوئة للحلف حيث تحظى بصفة مراقب في منظمة شنغهاي التي تعد جبهة مناوئة لحلف الناتو وتسعى إيران للحصول على عضويتها الكاملة، وتضم تلك المنظمة عددًا كبيرًا من الدول الآسيوية بما يعادل نصف سكان العالم تقريبًا، كما تعد دولها من الدول الموردة للنفط ولدى العديد منها أسلحة نووية.
وثالثها: ارتباط جهود حلف الناتو بالتصدي للانتشار النووي بتعزيز الثقة مع شركاء الحلف ضمن مبادراته الإقليمية، صحيح أن فكرة تقديم الحلف ضمانات أمنية لهؤلاء الشركاء تكتنفها صعوبات عديدة بالنظر إلى القيود التي يفرضها الميثاق المنشئ للحلف إلا أن إظهار الحلف القدرة على ممارسة الردع تجاه التهديدات التي تواجه هؤلاء الشركاء تبقى أمرًا مهمًا من شأنه الدفع نحو تطوير تلك الشراكات، وعلى الرغم من عدم صدور تصريحات رسمية من حلف الناتو بشأن المخاطر غير النووية والصاروخية لإيران فإن ثمة كتابات صدرت عن دورية تابعة للحلف ومفادها أن المبدأ الذي ترتكز عليه السياسة الإيرانية تجاه منطقة الشرق الأوسط هو" تمكين الشيعة" من خلال دعم الجماعات المسلحة دون الدول وذلك على غرار استراتيجية الاتحاد السوفيتي تجاه الحركات الشيوعية في العالم الثالث إبان الحرب الباردة، وترى تلك الرؤى أن "إيران لن يحالفها النجاح في النهاية بالنظر إلى رفض الدول السنية تلك السياسات والتصدي لها، فضلاً عن عدم التجانس الداخلي الذي تعاني منه إيران".
ومع التسليم بالتزام دول مجلس التعاون بالمواثيق الدولية المنظمة لتطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية كخيار استراتيجي وهو ما عكسه البيان الختامي لقمة مجلس التعاون عام 2006م، والذي تضمن "الدعوة إلى إيجاد برنامج في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية، طبقًا للمعايير والأنظمة الدولية"، والتي ترتب عليها بدء بعض دول الخليج برامج نووية سلمية مع عدد من دول الحلف بشكل ثنائي، فإن فكرة الردع تظل حاضرة وبقوة في ظل ما يكتنف البرامج النووية الإيرانية من غموض وعدم شفافية، ومن ثم فإن التساؤل المنطقي هو هل يمكن لحلف الناتو أو أحد أعضائه إمداد دول الخليج بمظلة نووية كأحد الخيارات لحماية تلك الدول من احتمال تطوير إيران أسلحة نووية؟ والواقع أنه بالرغم من أن حلف الناتو لم يعلن من قبل فكرة دعم الشركاء في منطقة الشرق الأوسط والخليج من خلال" مظلة نووية" فإن تلك الفكرة قد أثيرت من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وهي أكبر أعضاء الناتو، ففي عام 2009م، اقترحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون إقامة مظلة نووية لحلفائها في منطقة الشرق الأوسط وتضم" دول الخليج ومصر وإسرائيل" إلا أنه لم يكن هناك ترحيب بذلك المقترح وخاصة من جانب مصر، ففي حديث لصحيفة الأهرام المصرية قال الرئيس المصري السابق حسني مبارك" مصر لن تكون طرفًا في مثل هذه المظلة لسببين الأول: لأنها تعني قبول تواجد قوات وخبراء أجانب على أرضنا وهو ما لا نقبله"، والثاني: لأن هذا الطرح ينطوي على قبول ضمني بوجود قوى نووية إقليمية وهو ما لا نرضاه" ، وأضاف "أن الشرق الأوسط ليس في حاجة لقوي نووية لا من جانب إيران أو من جانب إسرائيل، المنطقة في حاجة للسلام والأمن والاستقرار والتنمية" الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تنتهج سياسة المظلات النووية لحماية أمن حلفائها مثل اليابان و كوريا الجنوبية وعدد من الدول الأوروبية،وتركيا، وكندا، واستراليا، وذلك منذ الحرب الباردة وحتى الآن.
وخلاصة القول : إن التحدي النووي الإيراني يعد من القضايا التي يعنى بها حلف الناتو ليس فقط من منظور توازن القوى الإقليمي والوفاء بمتطلبات الشراكة الأطلسية الخليجية وإنما في ظل سعي إيران لتعزيز علاقاتها مع روسيا التي أضحت تناوئ الناتو في مناطق تماس استراتيجي عديدة.