من أهم معالم استقرار عهد الأمم المتحدة، عقب الحرب الكونية الثانية، تطوير سلاح ردع غير تقليدي جديد (السلاح النووي)، يتمتع بخاصتين استراتيجيتين غير مسبوقتين في تعاقب الأنظمة الدولية الحديثة، منذ نهاية القرن الخامس عشر. الخاصية الأولى: قوته التدميرية الشاملة، لدرجة الهلاك والإبادة للجنس البشري، بل وشكل الحياة الموجودة على الأرض. الخاصية الثانية: قوة الردع غير المرنة، التي يمتلكها، لدرجة استحالة استخدامه، دون المجازفة برد الخصم بضربة نووية ثانية، ربما تفوق في ضررها الضربة الأولى، فترتفع بذلك تكلفة استخدامه، في مقابل عدم القدرة على توقع رد الخصم بما بقي لديه من سلاح نووي، حتى لو أجهزت الضربة الأولى على معظم ترسانته النووية.
العالم إذن يعيش، منذ إسقاط أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما وبعدها بأيام على مدينة نجازاكي اليابانيتين (٢، ٩ أغسطس ١٩٤٥م)، قرب نهاية الحرب الكونية الثانية، وفق نظام فتاك دقيق وصارم للقوة يقوم على حركيّة للتوازن غير التقليدي، عرف بتوازن الرعب النووي، غير ذلك النظام التقليدي لتوازن القوى التقليدي، الذي كان سائدًا من قبل، وحتى نهاية الحرب الكونية الثانية، وكان يعتمد على التسلح التقليدي، ولحدٍ ما غير التقليدي، في شكله الكيمائي والبيولوجي والجرثومية، بمحدودية خطره في ساحات القتال.. وعدم حاجته لوسيلة توصيل بعيدة المدى، للمناطق المأهولة، خارج ساحات المواجهة العسكرية القريبة، كما كان الحال خلال الحرب الكونية الأولى (١٩١٤-١٩١٩م).
فاعلية وكفاءة نظام توازن الرعب النووي
بدايةً، ما كان العالم ليرضى أن تتسيد الولايات المتحدة العالم وهي تحتكر هذا الرادع غير التقليدي الجديد الفتاك، وإلا فإن استقرار العالم... بل وبقاء البشرية واستمرارها سيكونان على المحك. مهما كانت عقلانية صانعي السياسة الخارجية للدولة المحتكرة للسلاح النووي، إلا أن إغراء اللجوء إلى السلاح النووي، خارج آلية متبادلة وفعالة وكفوء للردع المتبادل الفعّال، يكون أمضى من أي رادع سياسي أو أخلاقي أو قانوني، قد يتوفر محليًا أو يتطور دوليًا، يحول دون الإقدام على استخدام السلاح النووي، صورة رعناء وغير مسؤولة. الدليل على ذلك: أن الولايات المتحدة نفسها لم تستطع مقاومة إغراء استخدام السلاح النووي على جبهة الباسفيك مع اليابان، نهاية الحرب الكونية الثانية، رغم أنه كان من الناحية الاستراتيجية والتكتيكية، لا يحتاج الأمر لإنهاء الحرب على تلك الجبهة، لاستخدام الرادع النووي ـ النووي.
لذا لم يمضِ سوى أربع سنوات على احتكار الولايات المتحدة للرادع النووي، ويُجري الاتحاد السوفيتي أول تجاربه النووية (٢٩ أغسطس ١٩٤٩م). من يومها جرى تطوير نظام للتوازن غير التقليدي للقوة أُطلق عليه (توازن الرعب النّووي). للغرابة: لقد كان هذا النظام الجديد فعالاً ، بالرغم من قوته التدميرية الشاملة والمهلكة، لدرجة يُعزى له السلام الذي يعيشه العالم إلى الآن، بالرغم من التكهنات التي سادت في بداية نشوء نظام توازن الرعب النووي من أنه سيكون نظامًا غير مستقرٍ للقوى يحمل في طياته دمارًا شاملاً لدرجة احتمال هلاك البشرية والحياة على وجه الأرض.
للتدليل على استقرار نظام توازن الرعب النووي توفيره السلام، الذي مكن البشرية خلال سبع عقود من التنمية والتقدم، رغم نشوب الحروب التقليدية المحدودة في بعض بؤر العالم المتوترة. لقد انتقل العالم، في ظل نظام الأمم المتحدة، خلال السبع عقود الماضية وحتى الآن، إلى آفاق تنموية وعلمية غير مسبوقة في تاريخ البشرية. يكفي أنه خلال سبع عقود لم تنشب حرب كونية واحدة بين قطبي النظام الدولي. قارن هذا بعدم كفاءة نظام توازن القوى التقليدي من حماية نظام عصبة الأمم. وماهي إلى عشرين سنة، وينهار نظام عصبة الأمم بمؤسساته وترسانته العسكرية التقليدية، لتنشب الحرب العالمية الثانية، لتصبح -إلى حين -آخر الحروب الكونية الفاصلة، التي كانت تاريخيًا، وراء تعاقب الأنظمة الدولية الحديثة، منذ نهاية القرن الخامس عشر.
النادي النووي الدولي
نهاية عقد الأربعينات، منذ تفجير الاتحاد السوفيتي لقنبلته الذرية الأولى، بدأ سباق التسلح النّووي يسود العالم، بدأً بباقي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (بريطانيا ٣ أكتوبر ١٩٥٢م، فرنسا ١٣ فبراير ١٩٦٠م، وأخيرًا: الصين ١٦ أكتوبر ١٩٦٤م). ولم يقتصر الأمر على القوى العظمى الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، الذين يعتبرون المؤسسين الأوائل لما عُرف بعد ذلك بالنادي النووي الدولي، سرعان ما لحقت بهم قوى إقليمية، أنشأت بين بعضها توازن رعب نووي، من نوع ومستوى آخر، ليأخذ سباق التسلح النووي بعدًا إقليميًا أوسع انتشارًا، كما هو في حال نظام الردع النووي المتبادل بين الهند، التي دخلت النادي النووي الدولي في ١٨ مايو ١٩٧٤م، وباكستان ٢٨ مايو ١٩٩٨م). وكانت آخر الدول، التي تمكنت من امتلاك الرادع النّووي كوريا الشمالية حيث نجحت في تفجير أول قنبلة نووية لها (٩ أكتوبر ٢٠٠٦م).
هذا لا يعني أن السلاح النّووي حكرًا على أعضاء النادي النّووي الدولي " الرسميين"، و" وغير الرسميين" الثمانية، إذا جاز التعبير، بل هناك دول يُشَك بأنها تمتلك السلاح النّووي.. أو لديها الإمكانات اللازمة لتحضيره وتجهيزه في وقت قياسي، متى أتخذ قرار سيادي بهذا الخصوص. إسرائيل تأتي في مقدمة هذه الدول، التي لم تعترف بامتلاكها للسلاح النووي ولم تُجرِ رسميًا أي تجربة نووية، وإن كانت هناك تقارير تؤكد امتلاكها لأكثر من ٢٠٠ رأس نووية. إسرائيل، وإن لم تعلن أنها تمتلك سلاحًا نوويًا، إلا أنها تمتلك رادعه الاستراتيجي، اعتمادًا على نظرية (الغموض البناء). إسرائيل في حقيقة الأمر - ليست في حاجة إلى الإعلان عن إمكاناتها النووية، لتُدخل نفسها في جدل إقليمي ودولي، له محاذيره السياسية والاستراتيجية والأخلاقية، هي في غنىً عنها، في الوقت الذي يكاد يجزم فيه خصومها الإقليميين، العرب على وجه الخصوص، أنها تمتلك الرادع النووي.
كما تدور شكوك حول امتلاك بعض الدول للسلاح النووي، مثل جنوب إفريقيا. بالإضافة إلى أن هناك تقارير تقول إنه بمقدور أكثر من ٣٠ دولة صناعة القنبلة النووية، إذا ما اتخذت حكوماتها قرارًا سياسيًا بذلك، نظرًا لامتلاك هذه الدول التكنلوجيا.. والموارد الكافية، ولتمتع معظمها باستقرار سياسي، مثل: ألمانيا، وإيطاليا، وكوريا الجنوبية، وكندا، والبرازيل، والأرجنتين.
قرار سيادي بامتياز
على أي حال، قرار امتلاك الرادع النّووي، هو في الأساس قرار سيادي في المقام الأول، من صميم اختصاص الدول، ويخضع لتقديراتها الاستراتيجية، في مدى حاجتها إليه.. ومدى قدرتها على دفع تكلفته السياسية والقانونية والأخلاقية، خاصة إذا كانت موقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (١ يوليو ١٩٦٨م). في الواقع، وبصفة عامة لا توجد دولة في العالم تمتلك أو تتطلع لأن تمتلك الرادع النّووي، تكتفي بتوفر حماية نووية من قبل طرف دولي آخر يمتلكه. كما لم يكن مثل هذا القرار، إطلاقًا، ثمرة لتعاون مع دول أخرى، مهما بلغ شكل هذا التعاون أو حتى لنقل متانة التحالف الاستراتيجي بينها. باختصار قرار امتلاك الرادع النّووي هو قرار وطني سيادي في المقام الأول لا تشارك الدولة في اتخاذه أو صنعه مع أية جهة دولية أخرى، مهما بلغت درجة التحالف الاستراتيجي بينها.
ومن ثم الكلام عن قنبلة إقليمية يخدم رادعها مجموعة من الدول التي تربطها ببعض أواصر قوية من التعاون والتحالف والرؤية الاستراتيجية الواحدة أو المتطابقة، هذا إذا كان هناك في السياسة الدولية، ما يمكن أن يُطلق عليه الرؤى الاستراتيجية المتطابقة مهما بلغت أواصر التحالف والتعاون بين مجموعة ما من الدول، إنما هو - في أفضل الحالات - ينم عن عدم جدية في المضي في المشروع. ذلك أن قرار امتلاك الرادع النووي يلزمه قرارٌ آخر لا ينفك عنه، وربما أشد خطورة منه، ألا وهو: قرار استخدامه.. أو الاستعداد لاستخدامه، أو التهديد باستخدامه.
قرارات مثل هذه تأتي في قمة أعمال السيادة، الخاصة بالدول وحدها، التي لا يمكن أن تساوم عليها، دون التضحية بأمنها، بل وحتى ببقائها. الدول عادة ما تفشل في اتخاذا قرارات جماعية في قضايا أقل مصيرية.. وتعيد التفكير في جدوى الاستمرار في الصيغة التكاملية مع دول أخرى. بريطانيا، على سبيل المثال: خرجت من صيغة الاتحاد الأوربي، بموجب استفتاء ٢٣ يونيو ٢٠١٦م، بعد انخراطها القوي في تجربة الاتحاد الأوربي، منذ تفعيل مشروع السوق الأوربية المشتركة، لما يقرب من ستة عقود. كما أن إدارة الرئيس ترامب حاليًا تفكر في خروج الولايات المتحدة من اتفاقية التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية مع كندا والمكسيك (النافتا)، بعد ربع قرن من التكامل الإقليمي الناجح والمطرد بين الدول الثلاث. إذا كان استمرار تعاون الدول في قضايا تكاملية إقليمية "سلمية"، غير مؤكد ومضمون، مهما طال العمل به وثبوت منفعته المشتركة لأعضائه، فما بالك في اتخاذ قرار مصيري من الدرجة الأولى، مثل الضغط على زر إطلاق السلاح النّووي.
أسطورة الأمن النووي الجماعي
في عصر الأسلحة الفتاكة ذات إمكانات الدمار الشامل المُهلك، مثل السلاح النووي، لا يمكن لأي طرف دولي أن يثق عند تطور أي مواجهة دولية أو إقليمية محتمل استخدام الرادع النووي فيها، أن يعتمد في أمنه القومي، على إمكانات الردع الاستراتيجي لأي حليف دولي آخر، مهما بلغ عمق الروابط الاستراتيجية بينهما. في النهاية لن يقبل ذلك الحليف الاستراتيجي الذي يمتلك الرادع النووي التضحية بأمنه هو من أجل الدفاع عن أمن مَنْ يشمله تحت مظلته النووية، مهما كان تقديره الاستراتيجي لأهمية الحليف بالنسبة له.. ومهما بلغ التزامه السياسي والقانوني والأخلاقي، بل حتى المصيري بأمنه. ذلك لأنه عند اتخاذ قرار المواجهة الاستراتيجية، تحت آلية ومنطق توازن الرعب النووي، لن يفكر مَنْ يمتلك الرادع النووي إلا في أمنه هو لا في أمن أي حليف له يعتمد على مظلته النووية في الدفاع عن نفسه، حتى لو ذلك يعني التضحية ببقاء ذلك الحليف.
لهذا في عصر الحرب الباردة قبلت أوروبا المظلة النووية الأمريكية، ولكنها لم تثق في أن أمريكا، إذا ما تطور وضع أمني خطير في أوربا تتوفر فيه إمكانات التصعيد لاستخدام السلاح النّووي أو التهديد باستخدامه. بريطانيا وفرنسا طورتا رادعهما النّووي الخاص لقناعتهما أنه في أية مواجهة محتملة مع السوفييت في أوروبا، لا يمكن تصور أن تضحي الولايات المتحدة بنيويورك أو واشنطن أو سان فرانسيسكو، من أجل لندن أو باريس أو روما.
نفس السلوك نراه يتكرر، على الجبهة المقابلة من نظام الحرب الباردة. الصين عندما فاجأت الشقيق الشيوعي الأكبر (الاتحاد السوفيتي) أواسط الستينيات بامتلاك الرادع النّووي، ذلك الصين لم تكن تثق بأن الاتحاد السوفيتي سوف يضحي بموسكو أو ستالين غراد أو كييف من أجل بكين، في أي مواجهة نووية محتملة بين الشرق والغرب. بل إن الصين، حينها، لم تكن تستبعد حدوث مواجهة نووية مع الاتحاد السوفيتي، نظرًا لطبيعة تعقيد العلاقات التاريخية بين البلدين.. ولطبيعة واقع الوضع الجيوسياسي، إنسانيًا وتضاريسيًا، الذي يفصل بين البلدين.
أما في حالة اليابان وألمانيا، وهما دولتان كبيرتان ومتقدمتان تكنلوجيًا، ويمتلكان إمكانات تطوير رادع نووي خاص بهما، في أي وقت، متى طورتا إرادة سياسية بذلك. إلا أنه هناك محاذير سياسية وقانونية خارجية وداخلية من أن يتصرفا مثل ما ذهبت إليه كل من بريطانيا وفرنسا، بامتلاك الرادع النووي الخاص بهما. اليابان وألمانيا، نتيجة هزيمتهما في الحرب الكونية الثانية، التزمتا سياسيًا وقانونيًا بتحديد قدراتهما العسكرية.. وعدم المشاركة أو التورط في أي نشاط عسكري لهما خارج حدودهما، في مقابل ضمان الولايات المتحدة والحلفاء لأمنهما. كما أنه بسبب الهزيمة العسكرية والإذلال الوطني لهما، الذي سببته هزيمتهما العسكرية في الحرب الكونية الثانية، نتيجة لحكمهما من قبل أنظمة حكم فاشية، تكون رأي عام في داخل ألمانيا واليابان، بتحريم التورط في أي نزاع مسلح خارجي.. ونبذ خيار الحرب بالمرة، كأداة محتملة من أدوات خدمة أهداف سياستهما الخارجية.
لكنه بالرغم من هذا الوضع السياسي والقانوني والأخلاقي الذي يحكم اليابان وألمانيا، فإن إمكانية أن يطورا رادعهما النووي الخاص بهما، ليس مستبعدًا، على إطلاقه، إذا ما تطور ما يمكن أن يقود إلى تعرضهما لاحتمال المواجهة النووية من قبل أطراف دولية أو إقليمية.. وقَدّرتا أنه لا يمكن التعويل أو الثقة في الضمانات الدفاعية النووية الأمريكية، فإنهما لن يترددا في اتخاذ قرار امتلاك الرادع النووي، لتوفر إمكانات ذلك لديهما التكنلوجية والمادية، إذا ما توفر الحافز القومي لتجاوز التزاماتهما السياسية والقانونية والأخلاقية، الخارجية والداخلية.
أمن الدولة أولاً وأخيرًا.. باكستان وإسرائيل
إذا كان الأمن الجماعي، على مستوى حركة ومنطق معادلة توازن الرعب النووي في بعدها الكوني العام "الماكرو"، على مستوى أقطاب النظام الدولي الرئيسية، في عهد الحرب الباردة وحتى الآن، يُعد من أساطير السياسة الدولية، فإنه لا يقل خيالية ورومانسية، في بعده الإقليمي الجزئي "المايكرو". قيل الكثير عن امتلاك باكستان للرادع النّووي، حتى أن البعض حاول تجريد باكستان من قرارها الوطني بامتلاك السلاح النّووي، وأطلق على رادعها النّووي (القنبلة الإسلامية)! بينما واقع الأمر أن دافع باكستان للحصول على الرادع النّووي هو من أجل ردع عدوها الإقليمي (الهند) الذي كان له قصب السبق في تفجير أول قنبلة نووية في شبه القارة الهندية (١٩٧٤م) لقد أخذ من باكستان عقدين من الزمان لتصل لدرجة توازن الرعب النّووي مع الهند. بالتالي: كان مشروع باكستان، في الحصول على الرادع النّووي، دافعه وطني - في المقام الأول - لمواجهة خصم إقليمي يمتلكه، لا ينفع معه لا التحالف مع الصين ولا حتى مع الولايات المتحدة، لردعه.
صحيح أن باكستان دولة إسلامية كبرى تحمل مسؤولية سياسية وتاريخية وأخلاقية تجاه أمن الدول الإسلامية في منظمة التعاون الإسلامي، خاصة الدول العربية تجاه إمكانات الردع النووية التي تمتلكها إسرائيل، بل وحتى احتمالات امتلاك إيران للرادع النووي.. وبالرغم ما قيل عن مساهمة دول عربية لباكستان في تمويل برنامجها النووي ومدى دور ذلك وتأثيره في حقيقة نجاح البرنامج النووي الباكستاني، إلا أنه في النهاية أهداف ومحددات ودوافع امتلاك باكستان لرادعها النووي وطنية خالصة. باكستان لن تستخدم أو تهدد باستخدام رادعها النووي لصالح أي طرف دولي أو إقليمي، مهما بلغت علاقتها الاستراتيجية به، خارج نطاق دواعي أمنها الوطني المباشرة. باختصار باكستان لن تجازف بأمن إسلام أباد وكراتشي وروا البندي، من أجل الدفاع عن أية مدينة عربية أو إسلامية، حتى لو كان الخطر النووي الإسرائيلي والإيراني، خطيرًا وناجزًا.
مثال آخر إسرائيل. ألم تتعهد الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وضمان تفوقها التقليدي في مواجهة الدول العربية جميعًا. مع ذلك إسرائيل لا تثق ولا تطمئن لوعود واشنطن، وعملت منذ الخمسينات على أن يكون لها رادعها النّووي الخاص بها. صحيح إسرائيل لم تعلن نفسها دولة نووية، والصحيح أيضًا، أنها لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. هذا جعل إسرائيل في وضع استراتيجي ممتاز يُطلق عليه (الغموض البناء).
إسرائيل لا تعلن عن نفسها قوة نووية، وفي الوقت نفسه يكاد جيرانها يجزمون بأنها تمتلك من ٢٠٠ إلى ٣٠٠ رأس نووي! حدث يومًا أن طلب السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية من الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز زيارة وفد من الجامعة العربية لمفاعل ديمونة في النقب، من أجل كما قال عمرو موسى أن يطمئن العرب على نوايا إسرائيل السلمية.. وأن تل أبيب لا تعمل على امتلاك أو لا تمتلك القنبلة النووية. رد عليه شيمون بيريز متهكمًا من قال أن إسرائيل تريد طمأنة العرب من أنها لا تمتلك الرادع النووي.. أو أنها لا تسعى لامتلاكه. إسرائيل، إذن: تُسٓخِّر نظرية (الغموض البناء) لتستخدم سلاحها النّووي المفترض سياسيًا واستراتيجيًا، دون الإعلان عن ذلك، وكأنها بالفعل إحدى الدول النّووية أعضاء النادي النّووي الدولي.
العرب بين فكي "كماشة" نووية
عربيًا، كما هو حال واقع تجارب الردع النووي دوليًا وإقليميًا، من العبث الحديث عن قنبلة نووية عربية أو خليجية. ليس هناك في العالم، ما يمكن أن يُطلق عليه الأمن الجماعي النووي، المطلق، حتى ضمن التحالفات الاستراتيجية الكبرى. لا على المستوى الدولي ولا على المستوى الإقليمي هناك طرف دولي قادر وفي حاجة استراتيجية للرادع النووي، في مواجهة عدو أو خصم دولي حقيقي أو محتمل يمتلك أو يسعى لامتلاك الرادع النووي، يعتمد على طرف دولي آخر يمتلك الرادع لتوفير أمنه القومي نوويًا، مهما بلغت الأواصر الاستراتيجية والمصيرية، بين الطرفين.
كل تجارب الردع النووي المعروفة، إما تقوم بين قطبين دوليين أو إقليميين، كلاهما يمتلك الرادع النووي، كما هو في حالة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي روسيا حاليًا.. وعلى المستوى الإقليمي، كما هو الحال بين الهند وباكستان. أو في داخل تنظيمات وأحلاف دولية يصل هاجس الأمن الوطني بداخلها بين بعض أطرافها، حد عدم الثقة أن مظلة الأحلاف الاستراتيجية التي تنطوي تحتها، غير كافية لتوفير الأمان النووي لها، وتكون في نفس قادرة ولديها الإرادة السياسية لامتلاك الرادع النووي الخاص بها، كما هو في حال بريطانيا وفرنسا في حلف شمال الأطلسي.. ووضع الصين والاتحاد السوفيتي رغم الأيدلوجية الماركسية التي كانت تجمعهما.. وعداءهما المشترك للعالم الرأسمالي. أو عندما يصل هاجس الأمن في الدولة إلى مستويات متقدمة من القلق، يفرضه واقع الجغرافيا السياسية، التضاريسي والإنساني، لإقليمها.. أو تاريخ طويل من عدم الثقة في حليفه أو حلفائه الاستراتيجيين، مهما بلغت ضماناتهم الأمنية والاستراتيجية، التي يعدونه بتوفيرها، كما هو الحال في وضع إسرائيل، مع الغرب.. وإلى حدٍ ما وضع كوريا الشمالية، مع الصين شمالاً، وكوريا الجنوبية جنوبًا.
في المقابل، عربيًا يمكن الحديث عن قنبلة نووية سعودية أو مصرية أو جزائرية، ليس بالضرورة ويستحيل أن يكون كذلك، موجهًا ناحية بعضها البعض، بقدر ما هو موجه لعدو مشترك يملك فعليًا الرادع النووي ولو لم يعلن عن ذلك، مثل إسرائيل.. أو منافس إقليمي محتمل، يعمل على امتلاك الرادع النووي، مثل إيران. امتلاك قنبلة نووية لدى أقطاب النظام العربي الرئيسية شرقه وغربه، مثل المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر، ليس فقط من شأنه أن يعزز أمن هذه الدول من مخاطر نووية محتملة من قبل أعداء أو خصوم إقليميين، إنما أيضًا لحفظ توازن إقليمي فعال وكفء، في حالة عدم نجاح وتفعيل مشروع إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.. ورفض إسرائيل توقيع معاهدة حظر الأسلحة النووية والتخلي عن استراتيجية الغموض البناء، وكذا تخلي إيران عن سعيها الحثيث لامتلاك الرادع النووي.
فقرار امتلاك الرادع النووي أو السعي لامتلاكه، إذن: هو قرار وطني سيادي في المقام الأول، قد تقدم عليه دول رئيسية في النظام العربي، بصورة منفردة وإن كانت متسقة، في إطار تفاهمات قومية جادة تحددها اعتبارات الأمن القومي العربي، ضمن صيغة مشتركة للقوة الإقليمية الرادعة للدول العربية الرئيسية، تبرره وتحكمه ظروف استراتيجية وطنية عليا.. وواقع إقليمي غير مستقر، وسعي خصوم وأعداء إقليميين للحصول عليه، بل وحتى يمتلكونه.
ليس هناك من وضع أقل استقرارًا وأشد خطورة في المنطقة من احتمال حصول إيران على الرادع النّووي.. والجزم بامتلاك إسرائيل له. وضع استراتيجي بالغ الصعوبة والتعقيد أن يكون العرب بين فكي "كماشة نووية" إقليمية: من الشرق إيران ومن الغرب إسرائيل، كلاهما عدوين، وفي أفضل الحالات أحدهما عدو (إسرائيل).. والآخر خصم إقليمي لدود (إيران)، لا يقل عدوانية وشراسة وقد تنقصه العقلانية أكثر من الآخر (العدو).. والعالم العربي، من شرقه لغربه، لا توجد به قوة قومية واحدة تمتلك الرادع النووي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة الملك عبد العزيز ـ جدة