array(1) { [0]=> object(stdClass)#13386 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 125

"نيوم" ..التخطيط للقوة الناعمة السعودية وإعادة اكتشاف المملكة

الخميس، 30 تشرين2/نوفمبر 2017

جاء الإعلان عن إطلاق مشروع "نيوم"، من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ليبرق بالكثير من الإشارات حول آفاق التحول الاستراتيجية المقبلة في المملكة وبالإقليم. حيث أتى الإعلان عن المشروع في سياق سلسلة من عشرات القرارات والمشروعات التي طرحت في السنتين الماضيتين، ما دفع بحالة حراك إقليمي تتحسب له مختلف دول الإقليم، وثورة فكرية غير مسبوقة في الداخل السعودي، مع طغيان مشهد جديد لمملكة سعودية جديدة.

ولقد دفعت هذه الحالة البعض لأن يطلق عليها "عودة الروح"، أو "الربيع السعودي" أو "السعودية الجديدة" أو "الدولة الرابعة" أو "التأسيس الثاني". كما لم يكن غريبًا أن يصف البعض مشروع "نيوم" بأنه "مشروع القرن" أو "معجزة القرن" أو "مدينة الحالمين"، وأن يعتبر آخرون الإقدام عليه بأنه "قرار الانتماء إلى العصر".

  ولا تنحصر أهمية المشروع في أهدافه المادية من بنية تحتية ومنطقة أعمال عالمية عملاقة في شمال غربي المملكة، تربط ثلاث قارات، ولكن فيما ينتظر أن يحدثه من تغيير وعبور اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي للسعودية وللعالم العربي والإسلامي، يصعب الإحاطة بأبعاده.

بالتأكيد إن الجوانب الفنية للمشروع جرى التخطيط لها منذ فترة، ولكن المؤكد أيضًا أن التخطيط للمشروع قد اشتمل على أن يترافق إنشاؤه مع إحداث نهضة فكرية ثقافية دينية، والدفع بعملية تحول كبيرة في المجتمع السعودي وفي الإقليم، بالاتجاه من التقليدية إلى الحداثة، ومن نزعات الاقتتال والصراع على الآخرة إلى التدافع على عمارة الدنيا، وتحسين الواقع وتكريس ثقافة التسامح والتعايش، وذلك لم يعد تحديًا ثقافيًا، وإنما تحديًا استراتيجيًا يتوقف عليه الرهانات المعقودة على مستقبل المنطقة.

 

مشروع نيوم

يقع المشروع شمال غرب المملكة، على مساحة 26,500 كم2، ويطل من الشمال والغرب على البحر الأحمر وخليج العقبة بطول 468 كم، ويحيط به من الشرق جبال بارتفاع 2,500 متر، ويبنى على موقع استراتيجي متميز يتيح له أن يكون نقطة التقاء تجمع أفضل ما في المنطقة العربية، وآسيا، وإفريقيا، وأوروبا وأميركا.

تركز "منطقة "نيوم" على 9 قطاعات استثمارية متخصصة وهي: مستقبل الطاقة والمياه ومستقبل التنقل ومستقبل التقنيات الحيوية ومستقبل الغذاء ومستقبل العلوم التقنية والرقمية ومستقبل التصنيع المتطور ومستقبل الإعلام والإنتاج الإعلامي ومستقبل الترفيه ومستقبل المعيشة.

وسيعمل مشروع "نيوم" على جذب الاستثمارات الخاصة والاستثمارات والشراكات الحكومية،وسيتم دعم المشروع بأكثر من 500 مليار دولار من قبل المملكة، وصندوق الاستثمارات العامة، بالإضافة إلى المستثمرين المحليين والعالميين.

يطل المشروع على ساحل البحر الأحمر، الذي تمرُّ عبره قرابة 10% من حركة التجارة العالمية، ويمكن لـ 70% من سكان العالم الوصول له خلال 8 ساعات كحد أقصى. وسيشتمل المشروع على أراضٍ داخل الحدود المصرية والأردنية، حيث سيكون أول منطقة خاصة ممتدة بين ثلاث دول.

دلالات المشروع:

في استعراض -مبكر-لأهم الدلالات والرؤى الاستشرافية الاستراتيجية بشأن انعكاسات المشروع، يمكن الحديث عن مجموعة من المردودات والانعكاسات المتوقعة له على النحو التالي:

أولاً: "إعادة اكتشاف" وتعريف المملكة:

تحتاج أغلب الدول في فترات متقطعة إلى "إعادة اكتشاف" ذاتها وتقليب أصولها وثرواتها، وعمل مفاضلة بين نقاط ومكامن قواها الرئيسية، لكي تعيد استثمارها وتوظيفها بما يناسب متغيرات ومكتشفات العالم الجديد، ففي بعض الأوقات تعطي الدول قيمة أكبر لنقاط قوة ومزايا محددة تتميز بها، وتنطلق بها في واجهتها الدولية. ومع التحولات العالمية، يؤدي استمرار التركيز على تلك النقاط إلى إهدار الفرص وتضييع الوقت، واستمرار الإنفاق على مشروعات قليلة العائد.

ويؤكد طرح مشروع نيوم الآن إجراء المملكة لتلك المفاضلات وإعادة اكتشافها مزاياها النسبية، وإعادة اكتشاف ثرواتها، والانتهاء إلى أنها لا تتمثل في النفط فقط، الذي تتراجع عوائده وهو مادة ناضبة. فطرح المشروع يؤكد اكتشاف المملكة ثروتها الحقيقية من البشر، الذين يتجاوزون 20 مليونًا، حصل مئات الآلاف منهم على تعليم راقٍ في أفضل الجامعات وفي مختلف التخصصات، وهم أحوج ما يكونوا إلى أن يسهموا في نهضة بلادهم، وذلك ما تمثل في تعبير ولي العهد حين قال بأن "أكبر عنصر لدينا في «مشروع نيوم» الإنسان السعودي". ثم تأتي الجغرافيا لتشير إلى مساحة 2.150 مليون كم2 أغلبها لا يزال أرضًا بكر. وهو ما يوجه إلى ضرورة الاستثمار في "رأس المال الميت"، التي تؤدي عملية إعادة اكتشافه والاستثمار فيه إلى تعظيم قدرات الدول بمتوالية هندسية، وإدراك هذه الحقيقة هي بمثابة انتفاضة وعودة للروح تعطي دفعة من الثقة في القدرة الوطنية.

وتبرز النظرة السعودية الجديدة الهادفة إلى إعادة اكتشاف الذات من مؤشرات كثيرة في الخطاب السعودي عبر عنها بجلاء ولي العهد، فحتى كون منطقة المشروع من الصحراء والمناطق الخالية هي بالنسبة للنظرة الجديدة ميزة وليس عبئًا، كما أن القطاعات والثروات التي يعتقد بأن العصر يعطيها ظهره ستعود أهميتها وبقوة، وهو ما يشير إليه التصور الجديد لقطاع النفط، وتؤكد تلك الرؤية الجديدة على أن الطلب على النفط لن ينخفض وإنما سيتزايد ما بين 2030 – 2040م، وأن استعمال الطاقة الشمسية لا يعني القضاء على النفط، وذلك على خلاف النظرة التشاؤمية السابقة، التي تنذر بزوال عصر النفط قبل أن ينتهي النفط مثلما انتهى العصر الحجري قبل أن تنتهي الحجارة. وفي الحقيقة، فإنه مهما أتى المستقبل ليؤكد صواب تلك الرؤى أو ليعاكسها، فإن توظيف مثل هذا الخطاب السياسي في اللحظة الراهنة، مطلوب وبقوة لتكريس الثقة الوطنية بالقدرة على الفعل، وهو توظيف سياسي صحيح.  

ويترافق مع عملية إعادة اكتشاف القدرات روح وعزيمة دافعة إلى حرق المراحل والوصول إلى الهدف عبر أقرب الطرق وفي أسرع وقت، وهو ما يعني التمرد على الرتم الاعتيادي البيروقراطي، وعدم إمكان ممارسة الصبر وتحمل العراقيل التي ضيّعت عقودًا من عمر الأجيال.

ولقد لخص عبد الرحمن الراشد المشهد كله في قوله (في مقال له بجريدة الشرق الأوسط، بعنوان "سارت وبسرعة مدهشة" في 9 نوفمبر 2017م): "كان البعض يعتبر السعودية جنازة حارة تنتظر الدفن؛ يستهدفها الإيراني الضخم، والقطري الصغير. اقتصاد ينكمش مع انهيارات أسعار البترول، وبيروقراطية متضخمة، والتزامات على الدولة مستحيلة تجاه مواطنيها وغيرهم، وإنتاجية رديئة من المؤسسات البيروقراطية... كل هذه الدوائر تم إدخالها غرفة العمليات بقرارات وترتيبات في إطار مشروع إعادة بناء المملكة الجديد". وتساءل صالح السعيد (في مقاله بجريدة سبق الإلكترونية في 26 أكتوبر) بتعبيرات بلاغية حزينة: "قفزة هائلة، ونقلات متسارعة، تجعلنا نصاب بدوار، ما الذي يحصل؟!، وكيف تقبلنا ركودنا السابق؟!. أما عبد الرحمن السلطان (في مقاله في صحيفة الرياض في 12 نوفمبر)، فقد أطلق على ما يجري تعبير "الزمن السعودي"، مؤكدا أننا "نخلع رداء التوقف والجمود، ونسابق الزمن لنتجاوز المحيط، ونحاول تعويض ما فاتنا خلال السنوات الماضية". وهذه المقالات الثلاثة التي عبرت عن الحزن على زمن فات –وغيرها الكثير-تجسد أكثر ما تجسد عملية "إعادة اكتشاف" المملكة.

ثانيًا: التخطيط للقوة الناعمة وإدارتها وصناعتها:

في كثير من الأحيان جرى تقديم مصطلح "القوة الناعمة" للدولة، الذي كان أول من طرحه الأمريكي جوزيف ناي، كمعطى موجود بموجب المكرمات والهبات الإلهية، التي تمنح بعض الدول أصولاً ومزايا تجعلها متألقة، بينما تحرم دولا أخرى منها فتغوص في ظلامات التخلف المادي والثقافي، وهو ما يعني إنكار إمكانية صناعة القوة الناعمة والتخطيط لها، باعتبارها فعلاً بشريًا ومن صناعة وابتكار البشر. وعند النظر إلى المملكة العربية السعودية -لمن لازالوا يتدثرون بآثار الحقبة النفطية-تبدو المملكة نضبت من حيث القوة الناعمة، على الرغم من أنها مستقر ومرتكز لمكامن وأسرار ثروة هائلة - وبعضها حصرية مثل الأماكن المقدسة- من صور القوة الناعمة التي لم تستثمر، أو في حاجة إلى تعظيم استثمارها، على النحو الأمثل.

ويؤكد مشروع نيوم أن المملكة لا تكتفي بتقليب ثرواتها من القوة الناعمة القائمة التقليدية المادية والروحية، وإنما تتجه إلى صناعة قوتها الناعمة وابتكارها وتوجيهها عبر وسائل وأفكار غير تقليدية، وهو معنى جديد ينتقل بمفهوم القوة الناعمة من تعريفات تعتبره أسيرًا للهبات الإلهية إلى كونه مفهومًا أكثر إشعاعًا، حين تلتقي فيه الهبات الإلهية بفعل وإضافات البشر. إن توجيه ونقل نصف تريليون دولار للاستثمار في مشروعات في شمال وغرب المملكة يشكل قرارًا وتخطيطًا موجهًا ومستهدفًا لصناعة القوة الناعمة، وهو في النهاية فعل وقرار بشري. ويعني ذلك منذ الآن أن أفكار ومشروعات التطوير لن تترك أسيرة للجدل والتنازع البيروقراطي المعرقل، وإنما سيجري توظيفها هي نفسها والاندفاع بها لتعزيز الطموح والهدف الجمعي.

وفي خضم هذه الأفكار الكبرى، ستظهر مشكلات كثيرة تواجه المملكة لكنها ستوضع في حجمها الطبيعي، ولن تظل مثل الفقاعة المزعجة التي تنال أكثر من أهميتها بكثير، لذلك لم يكن غريبًا أن تنعكس تلك المعاني واللفتات بسرعة على الإدراك السعودي لأزمات الواقع الإقليمي، ما تمثل في قول ولي العهد أن مشكلة قطر "قضية صغيرة جدًا جدًا جدًا"، وقول وزير الخارجية إن قطر قضية صغيرة بالنسبة للمملكة، وتأكيد مستشار الديوان الملكي أن مشروع نيوم أكبر من قطر مرتين. وكل ذلك يؤكد أنه منذ الآن لن تترك المشكلات والأزمات - وإن ظلت مفتوحة-تقضي على الطموحات، وأن الانطلاق في تحقيق الطموح ووضع الأزمات في حجمها الطبيعي هو جزء من إدارة المواجهة معها.  

ثالثاً: التحول في الواجهة الاستراتيجية والجيوسياسية للمملكة:

إن أخذ مشروع نيوم في سياق حزمة المشروعات التي أطلقتها المملكة على مدى السنتين الماضيتين (مثل "مشروع القدية" وهو الخاص بإنشاء عاصمة للترفيه على مساحة334 كم2 غرب الرياض يستهدف: الترفيه وسباق السيارات والرياضة والإسكان والضيافة. ثم "مشروع البحر الأحمر" كمشروع عالمي بين مدينتي أملج والوجه على مساحة 34 ألف كم2، ويستهدف تطوير منتجعات سياحية على أكثر من 50 جزيرة طبيعية، فضلا عن الكثير من المشروعات الأخرى)، وتقدير حجم الاستثمارات الهائل في مثل تلك المشروعات، يشير إلى دولة تعيد تعريف وتحريك وجهتها الاستراتيجية نحو الاستدارة غربًا، إلى جانب -أو عوضًا عن- واجهتها الشرقية التي أصبحت مقلقة، ووضع يدها على مكامن جديدة من مقدراتها الوطنية وواجهتها السياسية، ويأتي مشروع نيوم في سياق الرؤية السعودية الجديدة نحو تعزيز الواجهة الغربية على البحر الأحمر لتشكل الإطلالة المركزية للدولة على الإقليم والعالم، وتكثيف النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمملكة على البحر الأحمر، وإعادة بناء موقع ومكانة المملكة في الإقليم والعالم، وإعادة صياغة الدور والتمحور الاستراتيجي ناحية الغرب، وعلى الأرجح إن ذلك يمثل أكبر عملية تحريك وتحول جيوسياسي هادفة ومخططة في التاريخ الحديث.

ويتواكب هذا القرار الاستراتيجي للدولة السعودية مع تحديات عصر ما بعد النفط والرغبة في تعظيم دور القوة الناعمة الحصرية للمملكة في الأماكن المقدسة (الحج والعمرة وأنشطة السياحة الدينية)، كما أنه يتماشى مع تقدير المخاطر المتراكمة في منطقة الخليج العربي، والتي أصبحت في السنوات الأخيرة تشكل عبئًا كبيرًا على الدولة السعودية وواجهتها الشرقية، كما يتوافق مع الرغبة في تعظيم الاستفادة من الموارد البشرية المتعلمة الجديدة بالتأهيل والتدريب على أعمال المؤسسات والشركات العصرية، وعصر الشبكات وإدارة الثروات غير التقليدية، ويتواءم هذا التوجه أيضًا مع ركائز القوة في العصر المقبل وإعادة اكتشاف كنوز وقدرات المملكة الكامنة في أنشطة الخدمات والسياحة على شواطئها الممتدة على البحر الأحمر.

وهنا تبرز أهمية مثلث السعودية ومصر والأردن، والدول التي تتفق مع هذا المثلث في العقيدة السياسية، كالإمارات والبحرين، لتشكل "مجموعة نواة" استراتيجية جديدة ومركز ثقل عربي ناشئ يمكنه مواجهة التحديات، بعدما اضطربت موازين النظام العربي واختلت بوصلة المنظومة الخليجية.  ويرجح ذلك كفة العقيدة السياسية على الرابطة الجغرافية؛ فلن تكون المملكة في مجال المفاضلة بين الخليج والرابطة الجديدة على البحر الأحمر، ولكن المؤكد أن إطلالتها الجديدة على هذا البحر سوف تغير وجه الحياة في المملكة والإقليم، خصوصًا مع "مجموعة النواة" الاستراتيجية سالفة الذكر، التي يمكنها أن تؤسس لتحالف سياسي وديني وجيواستراتيجي يصعب منافسته، ويعيد ترتيب المشهد الإقليمي بعد طغيان قوى الفوضى والإرهاب.   

رابعًا: موضعة الإسلام الوسطي في قلب العقيدة السياسية للمملكة:

ترافق طرح مشروع نيوم مع أهم حرب تخوضها المملكة والمنطقة العربية بكاملها، وهي حرب أفكار تعمل على إعادة الدين وصيانته، بعدما اختطفته جماعات متطرفة شوهت صورته ، وجعلت التطرف والإرهاب أقرب إلى أن يشكلا الصورة الأساسية أو الوحيدة للدين الإسلامي، ومن ثم فإن مشروع نيوم لا يستهدف تحسين الحياة المادية فقط، كما أنه ليس مجرد مشروع يجري الرهان عليه ما بعد النفط، وإنما يأتي في سياق التخطيط لكسب الحرب مع الإرهابيين، فسوف يكون المشروع بمثابة الواجهة والعنوان الرئيسي الذي يشير إلى الاقتدار السعودي على صناعة هذا التحول في العالم الإسلامي وتقديمه إلى العالم، والتأكيد على أن التطرف لم يكن صناعة سعودية وخيارًا سعوديًا، وإنما هو جديد وطارئ وآن الأوان للعودة كـ"دولة طبيعية"، من باب العودة إلى الصيغة الأصلية للإسلام المعتدل.

وعلى الرغم من أن توجهات المملكة نحو العودة إلى الإسلام الوسطي هو بمثابة قرار وأمر واضح منذ فترة، إلا أن حرص ولي العهد على تأكيد ذلك خلال الإعلان عن "نيوم"، يشير إلى أن هذا الهدف هو أمر حاضر عند تخطيط المملكة وطرحها لهذا المشروع، وأن المشروع سيكون رأس حربة في المواجهة مع التطرف والغلو الديني، وهو جزء من الحرب مع الجماعات المتشددة، من خلال خوض حرب لا متماثلة معهم، تنتصر عليهم من خلال تغيير وتحسين الواقع المادي

خامسًا: التواؤم مع التغيرات العصرية بالداخل السعودي:

هناك متغيرات هائلة تمر بها المملكة، تجعل تنفيذ هذا المشروع ضرورة وليس خيارًا، ومن أبرز هذه العوامل تحولات المجتمع خصوصًا في قطاعي الشباب والمرأة؛ إذ يشكل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا 70% من المجتمع، مئات الآلاف منهم متعلمون في الخارج، وجميعهم طامحون إلى فرص عمل تناسب مستويات تعليمهم، يعزز من ذلك توجهات الدولة نحو الترفيه والإسلام الوسطي، والتحولات الاقتصادية الخاصة بالانتقال لما بعد النفط، والتي تتطلب تغيير في أنماط الحياة وفي العادات والسلوكيات، وتقليص تدفقات الأموال إلى الخارج، والسعي إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات والأموال الخارجية، ويعزز من تلك القناعات إحصائيات تشير إلى أنه في ظل تلك التحديات بلغ حجم إنفاق السعوديين على السياحة في الخارج 590 مليار ريال خلال آخر عشرة أعوام، وأن حجم البطالة في المملكة بلغ حوالي 13%. ويؤكد كل ذلك أن التفكير في إنشاء مثل تلك المشروعات القومية الكبرى والعملاقة والملهمة أصبح أمرًا حيويًا.

سادسًا: نمط من الإدارة الذكية والمتقدمة للأزمات الإقليمية:

مشروع نيوم أبعد أثرًا وهدفًا من أن يجري حصره في كونه جزءًا من إدارة الأزمات الإقليمية كأزمتي إيران وقطر، مع ذلك فهو بذاته -ومن دون استهداف سعودي- يوجه فعليًا ضربات شديدة إلى مواقف الخصوم ويتجه إلى زعزعة أوضاعهم الداخلية، حيث أن الإعلان عن المشروع هو جزء من إدارة الأزمات بأدوات متقدمة؛ ففضلا عن أنه يحرر العقل الوطني في الداخل من الانحصار في أجواء الأزمة، فإنه يفتح الآفاق إلى أفكار جديدة وطليقة تربط المواطنين بالطموح القومي بدلا من أن تشدهم إلى أزمات يريد الخصوم فرضها، ويلاحظ ذلك من أن إعلام الدولتين(خصوصًا قطر) يزداد نقدًا يصل لحد الهزل والفكاهة كلما سعت المملكة إلى إطلاق مشروع كبير، لذلك فإن هذه المشروعات تصوب ضربات شديدة للداخل القطري والإيراني وتزعزع مواقف النظامين على الأرضية الاجتماعية. والمؤكد أنه مهما بلغ تأثير الدعاية السلبية لقناة الجزيرة، فإنها لا يمكن أن تسحب الأضواء أو تهزم جاذبية وقوة الأفكار التي طرحها مشروع "نيوم"، وبالتأكيد أنه إذا كانت هناك حرية لإجراء استطلاعات للرأي العام في قطر أو إيران، فإنه كان بالإمكان الاطلاع على الآراء النقدية والساخطة من مواطني الدولتين ضد حكومتيهما بشأن هذه الأزمات.

ومن المهم في سياق ذلك لمشروع نيوم أن يستهدف -على نحو مخطط ومدروس- وضع السباق والتحدي الخاص بالتقدم والتنمية على رأس أجندة التنافس الإقليمي، بحيث تبدو الحكومات التي تنتهج الصراعات التقليدية والحض على الكراهية والتخريب كحكومات من العهد البائد، فالمؤكد أن المواجهة مع الخصوم لا تكون بالاستعداد العسكري وحده، وإنما بمثل هذه الأفكار (كمشروعي نيوم والبحر الأحمر، ومسبار الأمل في الإمارات الهادف للوصول إلى المريخ) يجري كبح جماح الأفكار الشريرة ووضعها في حجمها الطبيعي، وهو ما يظهر الفارق بين حكومات تسعى إلى الحياة وإسعاد شعوبها وأخرى تتبنى الدسائس والمكائد وإطلاق روح الكراهية والعداء.    

الجدل حول "نيوم":

مع الإعلان عن نيوم حدث ما يشبه ثورة تأييد وثناء على المشروع انعكست في الحوارات على مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات وفي مقالات الرأي داخل المملكة وبدول المنطقة. وعلى جوار هذا الموقف المحلي والخارجي المرحب بقوة، برزت وجهات نظر دعت إلى مزيد من الدراسة والحساب الدقيق للعوائد في مقابل حجم الإنفاق المرصود له، وطرحت الأسئلة بشأن إمكانات نجاحه واكتماله وحذرت من العراقيل. وبالتأكيد أن مثل تلك الآراء تأخذها المملكة في الحسبان.  

ولكن بالمقابل برز أصحاب الصوت الأعلى الذين يطرحون وجهات نظر صاخبة ومعارضة على الدوام، من أنصار مدرسة "الجزيرة" و"الإخوان"، وهم فئات أيديولوجية ومصلحية أخذت تشكل خطابًا جديدًا وناشئًا على هامش قضايا الجدل العربي، يتبنى على الدوام نهجًا رافضًا وهدامًا لكل مشروع أو فكرة جديدة تطرح، خصوصًا في السعودية أو مصر أو الإمارات، وهي الدول التي تقف في الصدارة من التصدي لمخططهم، هكذا دارت المواقف من مشروع نيوم مع دورة الأزمة مع قطر وتركيا والإخوان.

لم يكن غريبًا أن تبرز الأصوات المعارضة للمشروع قبل أن يجري إخضاعه للدراسة العلمية أو التعريف بأهدافه، بل ربما قبل أن تنفض جلسة مبادرة مستقبل الاستثمار؛ حيث ترسخت حالة مزمنة في الواقع العربي، تفاقمت منذ الثورات، تعمل على تسخيف كل فكرة جديدة وتناولها بالنقد الهدام، وتطلق عليها رصاصات الاغتيال قبل أن تعرف عنها أي شيء، ذلك يشير إلى حالة أصبحت أقرب إلى صراع عقيدة وصراع وجود، على الأقل في عقول من يطلق هذه الآراء؛ وكما هناك إرهابيون على الأرض من ممارسي العنف المسلح، هناك إرهابيو الفضاء الإلكتروني والفضائيات.

لقد برز من بين هؤلاء من يقول بأن المشروع أطلق خصيصًا لغرض التقارب مع إسرائيل، ومنهم من ألصقه بتوجهات ما يعتقد أنه "العولمة والإلحاد"، ومنهم من قال إن هي إلا أضغاث أحلام ومزيد من فتح المنافذ للفساد. وهؤلاء يشكلون أغلب أطياف ومدارس الإسلاميين الذين يسهل عليهم محاربة كل فكرة باغتيالها ووأدها من المهد، استنادًا إلى قوة القناعات الخاملة التي خيمت على العقل العربي منذ قرون، والتي تجد رواجًا وسط جمهورهم، ومنهم من هم من أصحاب المصالح، وممن تأطروا ضمن صراعات الإخوان وقطر، ومن السهل جدًا اكتشافهم وكشف مدى تلونهم، بعرض فيديوهاتهم المسجلة منذ عامين وحتى أشهر قريبة، ويكفي عرض ما قالوه من ثناء ومديح في المملكة وقيادتها منذ أقل من عام، حين كانت المملكة قريبة من قطر وتركيا.

واللافت في حملة الهجوم على "نيوم" أن النسبة الأكبر من الهجوم أتت من الجهات والأشخاص أنفسهم الذين طالما انتقدوا المملكة على طابعها المحافظ أو انتقدوها على عدم تنويع مصادر الدخل، أو انتقدوا أوضاع الفساد، وهم من ظلوا يجلدون بسياطهم المملكة منذ سنوات على التشدد والانغلاق، وبعضهم كان من أكثر من عقد المقارنات بين المملكة ودبي. وهو ما يشير إلى انتظارهم وترصدهم لأي سبب للنقد، وتوظيفه في سياق "حروبهم المقدسة".

ومن أمثال هؤلاء ينبغي الحيطة في الفترة المقبلة، حيث أنه يتوقع أن يجعل مثل هذا المشروع بضاعتهم عرضة للبوار، وهم الذين استفادوا على مدى العقود من الارتزاق على حالة فكرية وثقافية ودينية تستنيم لتكريس امتيازاتهم، بما يجعلهم مستمرين في صدارة المشهد. إنهم لا يعارضون المشروع فقط لأنه يفقدهم قدرات الارتزاق والتعايش، وإنما لأنهم أيضًا لا إمكانية لهم على التواؤم أو التعامل مع أدوات البضاعة الجديدة في نيوم والتي ستكون معقدة فكريًا وثقافيًا وتكنولوجيًا، والإنسان عدو ما يجهل. وما سيجري في "نيوم" سيحرر الجمهور من عقلية التبعية لعالم الدين إلى الانبهار بعالم الكيمياء والفيزياء والمكتشفات الحديثة، وهذا سيجعل علماء الدين –إذا لم يبتكروا "نيوم ديني وفقهي وسطي ومعتدل"-أشد عنفًا وتطرفًا وانزواءً. إن نجاح "نيوم" سيجعل المملكة في قلب عملية التغيير في العالمين العربي والإسلامي، وذلك يتطلب أن يترافق بناء المشروع مع عمليات ترميم وبناء أخرى للثقافة والفقه ومشارب الفكر التقليدي.

وعند تقييم مشروع نيوم بعد اكتماله ما بين عامين 2025 و 2030م، فإن عملية التقييم لا ينبغي أن تقتصر على الجوانب المادية له من منشآت وإضافات على الاقتصاد والدولة السعودية، وإنما ينبغي أن تمتد لترصد تأثيراته وانعكاساته على المجتمع السعودي والحالة العامة بالإقليم، فمع تجليات هذا المشروع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، فإنه يتوقع أن يحدث تحولا في الأفكار التي يتعاطى بها أبناء هذه المنطقة مع المستقبل، وسيدفع بقضايا الثورة العلمية والمعرفية والتكنولوجية والاتصالاتية إلى قلب عملية التغيير القادمة. ومن ثم فإنه حتى لو تعرض لبعض العثرات فإن المملكة لن تعود إلى ما كانت عليه قبله.

وباختصار فإن هذا المشروع سيكون مثل قاطرة عبور اجتماعية واقتصادية وثقافية للمملكة ولدول الجوار، كما أن انتقالات العمالة والبشر ونوعية التجمعات والمدن الجديدة التي ستنشأ على ضفاف خليج العقبة، وعلى جانبي البحر الأحمر عمومًا، ينتظر أن تحدث نقلة اقتصادية وحضارية فارقة، تدفع بهذا البحر والبلدان المطلة عليه إلى قلب الاستراتيجية الدولية، وهو ما يعظم من الأصول والأرصدة التي تمتلكها هذه الدول، ومن المكانة الاستراتيجية للمنطقة في قلب حركة التواصل الحضاري والنقل الدولي. 

مقالات لنفس الكاتب