array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 127

البعد الغائب: دور الاقتصاد والثقافة بتعزيز الأمن في البحر الأحمر

الخميس، 15 شباط/فبراير 2018

على الرغم من أن البحر الأحمر غالبًا ما يقترن في التاريخ والجغرافيا العربية بالبحر المتوسط، إلا أن الثاني أحيط بهالة من الجاذبية والإشعاع الثقافي والفكري الذي جعل لدوله وشعوبه نكهة خاصة أصبحت محل اعتزاز منها جميعا، لما يشار إليه من أحداث مرت على البحر المتوسط وأسهمت في تلاقح الأفكار والثقافات والحضارات عبر التاريخ.

لذلك يتحدث المفكرون والمثقفون والسياسيون الذين تطل دولهم على البحر المتوسط بقدر من الفخر والاعتزاز عن انتقال الثقافة والأفكار المتوسطية، وعن حضارات شمال وجنوب المتوسط. وضمن ذلك جرى عقد حوارات بين دول جنوب وشمال المتوسط، وهناك عدد من المنظمات المسماة باسم البحر المتوسط، من ذلك منظمة الاتحاد من أجل المتوسط، وهي منظمة دولية تضم 43 بلدًا هي: دول الاتحاد الأوروبي الـ 28، فضلا عن 15 دولة متوسطية شريكة من شمال إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا.

أولاً: قصور النظرة إلى البحر الأحمر:

على النقيض، لم يلق البحر الأحمر الاهتمام الواجب عبر التاريخ القديم والحديث، فجرى النظر إليه كمحض أداة انتقال للبضائع والسلع، ولم يجر التركيز على دوره الحضاري والثقافي، ولم ينظر إليه كمجال تدفق للثقافات والحضارات على الرغم من ثرائه الهائل كسجل للتواصل البشري وكنوزه التاريخية التي تحتاج إلى إعادة تنقيب واكتشاف وحفر، وفي التاريخ الحديث تسيدت النظرة إلى البحر الأحمر كمعبر للوصل بين قناة السويس وباب المندب، وغاب الحديث عن كونه أساسًا لثقافة أو منشئا لتفاعلات ثقافية تطبعه وتميز الدول المتشاطئة عليه. وبينما جرى تقديم دول المتوسط على أنها تمتاز بثقافات وحضارات عززتها روايات وأحداث تاريخية كبرى، قلما يشار إلى أنماط انتقال الثقافة والفكر وهجرات البشر بين ضفتي البحر الأحمر، على الرغم من الاحتياج إليها في مشروع إحيائي توظيفي للتاريخ والاستراتيجية والأمن لخدمة مشاريع ورؤى المستقبل الواعدة.

لقد ظلت ثقافة البحر الأحمر ثقافة منزوية وجزئية محلية، حيث تعتز الدول المحيطة بإطلالتها عليه، لكنها لا تتشارك الكثير مما يمكن تسميته بثقافة أو حضارة البحر الأحمر، حتى الدول القريبة من بعضها بعضًا تاريخيًا وثقافيًا مثل المملكة العربية السعودية ومصر، واللتان ترتبطان تاريخيًا بعلاقة خاصة عززها ارتباط المصريين بالأماكن المقدسة وهجرات القبائل من الجزيرة العربية إلى مصر، لا يمكن القول بأنهما يمتلكان ثقافة مشتركة يمكن تسميتها بثقافة البحر الأحمر، وهو أمر ينطبق على الرؤى الاقتصادية والأطروحات السياسية لدول البحر، حيث لا توجد رؤى أو خطط أو مشروعات مشتركة بينها جميعًا أو بين مجموعة منها بخصوص تنمية البحر الأحمر والتفكير في مستقبله، وتقتصر الجهود على المشروعات الخاصة بكل دولة.

هناك عشرات المؤسسات والمسميات التي ترتبط تسميتها بالبحر الأحمر في مختلف الدول المطلة عليه، وهو ما يشير إلى جزء من البعد الثقافي والحضاري، حيث أن المسميات تعكس شخصية المكان وموقعه من دوائر الاهتمامات في الدولة؛ هناك مثلا محافظات ومدن وولايات وموانئ وهيئات ومؤسسات في مختلف الدول المطلة تسمى باسم هذا البحر، بدءا من محافظات وولايات ومدن ومؤسسات سياحية وحتى الجامعات والمستشفيات والأندية والمطاعم، وهو ما يشير إلى تناثر الأهمية التاريخية والثقافية للمكان على مختلف الدول المطلة في أشكال وصور رمزية مختلفة، وخصوصًا في المناطق والمدن الساحلية، أو المناطق القريبة من الساحل، وهو ما يشير إلى امتداد أثر البحر الأحمر على سواحله وضفافه. ففي مصر هناك محافظة البحر الأحمر، وفي السودان هناك ولاية البحر الأحمر، وفي السعودية المشروع العملاق الذي يجري بناؤه باسم مشروع البحر الأحمر، وفي أغلب الدول المطلة هناك هيآت ومؤسسات باسم البحر الأحمر.

لقد تأثرت مختلف دول البحر (وهي دول عربية وإسلامية -باستثناء إسرائيل وإريتريا) بأحداث هذا البحر التاريخية بأشكال مختلفة، وعلاوة على ذلك، فإنها أثرت خلفها على الجانب الإفريقي في حاضنات جغرافية كبرى، وتشاركت تواصلاً تاريخيًا وثقافيًا مع شعوب وثقافات إفريقية محلية مختلفة، البعض منها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأحداث وذكريات عميقة في التاريخ العربي الإسلامي، وهنا يشار بشكل أساسي إلى محطات أساسية في التواصل البشري والثقافي.

وفي حوار له مع صحيفة الأهرام المصرية (نشر بتاريخ 1 نوفمبر 2014م)، رصد د. عبدالرحمن الأنصاري أستاذ الآثار السابق بجامعة الملك سعود كيف شكل البحر الأحمر أهم منفذ يربط الجزيرة العربية بإفريقيا وعبرها إلى أوروبا، فانتقلت عن طريقه عدة مجموعات بشرية بين شرق إفريقيا وجنوب الجزيرة العربية، ويرصد الأنصاري علاقات مصر ببلاد بونت، والجزيرة العربية، ويشير إلى الفترة ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، والتي شهدت امتدادًا لنفوذ ممالك جنوب الجزيرة إلى شرق إفريقيا، وانتشار المعتقدات الدينية والطرز المعمارية التي كانت سائدة بجنوب الجزيرة إلى الحبشة واستخدم الأفارقة خط المسند العربي.

وعلى غرار علاقات دول وحضارات البحر المتوسط، شهدت علاقات العرب بالأفارقة محطات متعددة، بعضها شهد حروبًا وصراعات، من ذلك غزو الأحباش لمملكة حمير وإسقاطهم لها عام 521 م واستيلاء أبرهة الحبشي على اليمن، وبعضها تمثل في تدفقات وهجرات عربية إلى الحبشة، وهنا يذيع صيت أحداث الهجرة الأولى في تاريخ الإسلام، حين هاجر المسلمون إلى الحبشة وتقابلوا مع ملكها العادل الذي وفر لهم الحماية في بلاده. وفي هذه الجزئية تحديدًا يستدل د. الأنصاري من اختيار الرسول للحبشة تحديدًا على معرفة العرب الوثيقة بها وترحالهم المتكرر إليها لأجل التجارة. وبعد الإسلام أصبح البحر الأحمر طريقًا للحجاج القادمين من غرب وشمال إفريقيا، ثم كان هذا البحر شاهدًا على هجرة عدد من القبائل العربية إلى مصر وشمال إفريقيا، وعلى الصراع العربي الصليبي، والانتصار العثماني على البرتغاليين. وهكذا هناك دلائل وتاريخ وأحداث تؤكد أن البحر الأحمر لعب دورًا كممر للتواصل الحضاري بين الجزيرة العربية وإفريقيا قد لا يقل عن دور البحر المتوسط، لكنه في حاجة إلى إعادة اكتشاف وتعريف من وحي قراءة تاريخية مغايرة، تطيح بما استقر من قناعات خاطئة اكتسبت الصفة العلمية من فرط تكرارها.

ثانيًا: فرص تعزيز الأمن بالاقتصاد والثقافة:

يمر البحر الأحمر الآن بمرحلة فارقة؛ حيث تتراكم المؤشرات على تزايد المخاطر والتدخلات الخارجية على أمنه، في ظل انتشار القواعد العسكرية على سواحله الغربية في الصومال وجيبوتي وإريتريا، وعلى الرغم من إمكان تفهم الأسباب التي دفعت هذه الدول إلى تأجير أراضيها، والتي تتمثل في الحاجة المادية الشديدة والرغبة في رفد اقتصاداتها بموارد مطلوبة للتنمية والحياة، إلا أن هذه القواعد سوف يترتب عليها تهديدات ومخاطر مستقبلية عديدة؛ فسوف تزداد عسكرة البحر الأحمر، وتتقلص قدرات الدول المطلة عليه في تحديد أهدافها في ظل ارتقاء هواجس الأمن، ومن الآن ستأخذ مؤسساتها وعقائدها الأمنية في اعتبارها وجود تهديدات من دول مجاورة وقواعد عسكرية أجنبية، بما يرفع تكلفة أمنها الوطني، بعد أن تتجه الدول لمزيد من التسلح تحسبًا للأخطار من الجار، وهو أمر يدخل أمن البحر الأحمر في سياق التوترات العالمية.

وعلى جانب آخر، فإن العائدات الاقتصادية للقواعد العسكرية سوف تسهم في إنعاش التنمية والاقتصادات الوطنية للدول الساحلية الفقيرة، التي تحتاج لمثل تلك العائدات لأجل استكمال دورة التنمية وإعالة مواطنيها. ففي جيبوتي على سبيل المثال أصبحت القواعد العسكرية مصدرًا مهمًّا لإنعاش اقتصاد البلاد الصغير الحجم، حيث خلقت وفورات كبيرة للحكومة، ووفرت الوظائف لبعض السكان. وطبقًا للاتفاق بين الولايات المتحدة وجيبوتي تحصل الأخيرة على 63 مليون دولار بعد تجديد الاتفاقية بين البلدين عام 2014م، أما فرنسا فتدفع 33 مليون دولار واليابان 30 مليون دولار سنويًا مقابل قواعدها العسكرية. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على ثلاث دول أخرى تطل على البحر الأحمر، هزتها الصراعات والانقسامات على مدى عقود وهي الصومال وإريتريا والسودان.

وعلى الأرجح أن يؤدي بناء القواعد العسكرية الأجنبية إلى التأثير في أنماط الحياة والثقافات المحلية لدول البحر الأحمر، فهناك نقطة اختلاف أساسية بين نمط هذه القواعد وطريقة النشأة ونمط وطريقة نشأة القواعد العسكرية التي تأسست في بعض الدول الأخرى؛ حيث أن القواعد الأفريقية جرى إقرارها وفقا لنظام الإيجار، وهو ما يعني أنها نشأت لهدف حماية وتعزيز أمن ومصالح الدول المنشئة والمؤجرة لها وليس لحماية أمن الدول الوطنية القائمة على أراضيها، مما يجعل الدول المؤجرة في موقف أضعف إزاء الدول المستأجرة. وعلى جانب آخر، فإن وجود العسكريين الأجانب من مختلف الجنسيات من الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا واليابان وتركيا وإيران وإسرائيل، ودول عربية، هذا التفاعل العسكري البشري، سوف يؤثر في أنماط الحياة في مناطق السواحل على البحر الأحمر، وسوف تنشأ معه مراصد ويترافق معه أجهزة استطلاع واستخبارات متعددة، على الأرجح أن يكون لها تأثيرات سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة.

ولأجل تشغيل هذه القواعد سوف تعمل مصانع ومطاعم وشركات محلية وستدور في ركابها دورات حياة وأنشطة بيزنس ومصالح، يؤدي استمرارها لفترة طويلة إلى تغييرات تدريجية في الثقافات المحلية الوطنية أو على الأقل في مناطق الدولة الأقرب إلى تلك القواعد والتي ترتبط معها بروابط مصلحية، حيث يتوقع أن يرتبط بدوائر المصالح الوطنية المعولمة دوائر وطوائف من الوظائف والخدمات التي ستسعى السلطات المحلية والقطاع الخاص في تلك الدول لتوفيرها وممارسة نشاط اقتصادي يدر عليها عوائد مجزية، ومن شأن ذلك أن تنشأ طوائف مصلحية جديدة ومواطنون ترتبط مصالحهم باقتصادات القواعد وبشركات توظيف دولية أو وطنية بمعايير دولية، وإذا لم يجر الاستعداد لذلك، سوف يكون له تأثيراته الثقافية الهائلة، فالعسكريون في القواعد الأجنبية سيكونون جسورًا لعبور البضائع والسلع وصنوف وأشكال التجارة، وسيؤدي وجودهم مع حركة التجارة من بلدانهم وتفاعلهم مع الأنشطة والمواطنين المحليين إلى تأثيرات ثقافية واجتماعية مختلقة الأشكال. ومن ثم قد يصبح البحر الأحمر ساحة لتنافس تيارات ثقافية كثيرة، ربما يجري الحديث بعد مائة عام عن أن هذه الفترة كانت فترة تحول كبير في تاريخ وثقافة هذا البحر.

وعلى خلاف التأثير الثقافي لدى الشعوب والدول المؤجرة للقواعد العسكرية على البحر الأحمر، يمكن رصد عدد من النتائج الإيجابية بين الدول العربية الأخرى المطلة على هذا البحر، حيث أدى إنشاء هذه القواعد إلى ربطها بمزاج تعاوني، صحيح أن بعض هذه القواعد لا يشكل خطرًا على كل من السعودية ومصر والأردن، بالنظر إلى علاقات الصداقة التي تربط بين بعض هذه الدول والدول المستأجرة كالولايات المتحدة وفرنسا واليابان، مع ذلك فإن الإحساس بـ"هجمة" القواعد العسكرية الأجنبية ولد مشاعر من القلق بين هذه الدول، ما دفعها إلى تبني إجراءات متعددة، البعض منها سعى إلى امتلاك قواعد عسكرية في جيبوتي والصومال، مثل السعودية التي استأجرت قاعدة في جيبوتي، كما سعت الإمارات التي لا تطل على البحر الأحمر إلى إنشاء قواعد عسكرية في إقليم أرض الصومال بعد أن وقعت شركة موانئ دبي العالمية اتفاقًا بقيمة 442 مليون دولار مع حكومة الإقليم، يقضي بالاستغلال الحصري للميناء الأكبر والأهم الذي وصفه البعض بأنه مفتاح السيطرة على البحر الأحمر. كما وافق برلمان الإقليم على إنشاء قاعدة عسكرية بحرية وجوية إماراتية قريبة من الميناء. وذلك فضلاً عما يتردد عن قواعد عسكرية إماراتية في إريتريا (ميناء عصب) واليمن (سقطري وميون).

ومع إعلان المملكة العربية السعودية عن مشروع البحر الأحمر ومشروع نيوم العملاق، وإذا أخذنا في الاعتبار سياسة مصر في تعزيز أسطولها البحري في البحر الأحمر (الأسطول الجنوبي)، فإنه يمكن القول بأنه في مقابل التأثيرات السلبية المحتملة للقواعد العسكرية الأجنبية في البحر الأحمر، فقد تعزز ولأول مرة ما يشبه رؤية ومشروعًا عربيًا للنظر إلى بعيد والطموح بلعب دور مستقل ومشترك لمصلحة الأمن الإقليمي للبحر الأحمر. وعلى الرغم من أن الجهود العربية اتسمت بأنها انفرادية تمت بدوافع وحسابات مصلحية ووطنية إلا أنها ليست بعيدة عن تصورات المخاطر المشتركة التي وجدت كل من السعودية ومصر والإمارات نفسها فيها، فانطلقت لتعزيز أمنها في كل الاتجاهات، ويصعب القول بأنه كانت هناك رؤية عربية جرى التخطيط لها، لكنه يصعب القول بأن ما جرى من الدول الثلاث تم بمعزل عن التنسيق المتبادل على مدى السنوات الماضية في التهديدات المشتركة وعلى رأسها الإرهاب.

ثالثًا: النظرة غير التقليدية لأمن البحر الأحمر:

يرتبط جانب مهم من البعد الغائب للأمن بالتحولات التي تمر بها المملكة العربية السعودية وبرؤية 2030، والتي يتوقع أن يكون لتطبيقها انعكاسات داخلية وإقليمية هائلة، سواء من ناحية أبعادها وتأثيراتها الثقافية والحضارية في عمق الدائرة العربية والإسلامية، أو من ناحية تأثيرها في الأفكار التي يتوقع أن تنبعث على أثر خطوات الإصلاح في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر والفن، حين يطلق العنان للأفكار التي ظلت حبيسة لعقود، وهو أمر سيترك صداه في الدول المحيطة بالبحر الأحمر والقريبة من الحدث السعودي، كما أن من شأن مشروع نيوم أن يغير من طبيعة الحياة في مساحة جغرافية كبيرة وبالغة الأهمية، يتوقع أن يكون لها تأثيراتها الممتدة، ووقوع هذه التحولات الكبرى بالمملكة والجوار على مقربة من القواعد العسكرية وتحولات السياسة والأمن والاقتصاد في البحر الأحمر، مع التطويرات بمنطقة قناة السويس على الجانب المصري، مع سيناريوهات التحول في القضية الفلسطينية، كل ذلك يضع منطقة البحر الأحمر في قلب حركة النشاط الاقتصادي العالمي، وفي قلب عملية تحول هائلة في الفكر والثقافة. فتعايش القواعد العسكرية على ضفاف البحر الغربية، ووجودها على مقربة من ثورة التحولات الاقتصادية والمنتجعات السياحية والمدن التكنولوجية ومشروعات الثورة الرقمية، كل ذلك سيطرح مساحات من التلاقي والتواصل، وسيخلق تفاعلات واتصالات يصعب رصدها الآن، لكنها ستترك تأثيراتها في كل الاتجاهات.

وبنظرة شاملة، فإنه على الدول العربية في البحر الأحمر أن تنظر بنظرة غير تقليدية للأمن، بحيث تتجه إلى تعزيز أمنها في ظل وضعية حركة وتغيير دائمة، انطلاقًا من إيمان بأن محددات الأمن ليست ثابتة، واقتناعًا بأنه بالإمكان تحويل المخاطر إلى فرص. ومن وجهة نظر منفتحة، فإنه يمكن النظر إلى تعدد دوائر المصالح وتكثيف الأنشطة الدولية في البحر الأحمر -والذي يشكل وفقًا للمدرسة التقليدية أخطارًا وتحديات- كفرص للانطلاق والتشبيك مع مصالح عالمية هائلة تضع البحر الأحمر ودوله في قلب الاستراتيجية الدولية، فإذا تحكمت بالدول العربية المطلة على البحر المفاهيم التقليدية للسيادة، فإنها ستخسر كثيرًا، ليس فقط بتجاهلها الفرص، وإنما أيضًا بانخراطها في تحديات ومواجهات هائلة أشبه بطواحين الهواء، حيث تدخل معارك لا طائل من ورائها، خصوصًا مع تراجع قدرات الدول على التصدي لانعكاسات العولمة والمصالح الدولية الجارفة التي تتشكل على ضفاف البحر الأحمر.

وفي مواجهة اقتصادات عربية تسعى إلى بناء مشروعات لجذب الاستثمار الخارجي، فإنها تستفيد كثيرًا بجذب أكبر نشاط عالمي ممكن إلى البحر الأحمر. ومن ثم لا تتوجس خيفة من مخاطر تقارب أنشطة الاقتصاد مع القواعد العسكرية، شريطة أن تلعب على البعد الثالث الغائب، وهو العامل الثقافي ودوره في تسكين النتوءات والبروز، وهو ما يتطلب استحداثات في أنماط الثقافة والفكر، وتغييرات بالمجتمعات، وفق رؤى ومشروعات تعليمية وعلمية مخططة، تنقل العالم العربي والإسلامي من واقع إلى واقع آخر يتجاوز محطات ومركبات النقص والفتور التي صاحبت النصف الثاني من القرن العشرين.    

الخلاصة

إذا كان من الصعب فرض منظور عربي لأمن البحر الأحمر سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا، فعلى الأقل يمكن تعزيز أسس الأمن الثقافي بين دوله العربية وغير العربية، من خلال تبني رسالة ثقافية وإعلامية وإنشاء أبنية مؤسسية جديدة تسعى إلى تكريس ثقافة البحر الأحمر، لتدرأ مخاطر المستجدات والحقائق الوافدة التي ستقيم معنا في مشهد دائم. لذلك فإن الدعوة إلى إنشاء منتدى علمي فكري أو مركز ثقافي حضاري أو مركز دراسات إقليمي للبحر الأحمر أو منظمة لتعاون دول البحر الأحمر، غدت مسألة مهمة، والهدف الأساسي من ذلك هو إعادة اكتشاف البحر الأحمر تاريخيًا وثقافيًا، ليرتقي في يوم ما إلى مستوى يمكن من الحديث عن طابع ثقافي وحضاري خاص به، على غرار ما يجري من حديث عن ثقافة وحضارة البحر المتوسط.

مقالات لنفس الكاتب