تحميل ملف الدراسة
يعود تاريخ العلاقات بين الهند والخليج إلى ما لا يقل عن 8000 عام، حيث تكشف عمليات التنقيب الأثرية في دلمون بالبحرين وفي صُور بعمان عن وجود روابط مع حضارة هارابا ترجع إلى عام 2300-2000 قبل الميلاد. وقد كان القطن من الصادرات الرئيسية للهند، كما عُثر على مشط من العاج وأواني فخارية لحمل الحبوب في ولاية صُور. كذلك ترجع علاقات الهند مع حضارات بلاد الرافدين غالبًا إلى القرن التاسع قبل الميلاد، حيث يمكن الاستدلال على التجارة مع وادي السند، والتي تضمنت عمليات استيراد أحجار نفيسة وشبه نفيسة، من خلال الألواح الطينية من الحضارة السومرية والأكادية. أما الصادرات السومرية فتمثلت في الأقمشة المنسوجة وأسلحة من البرونز والمجوهرات المرصعة باللازورد.
كذلك تُظهِر الألواح المسمارية من حقبة سرجون الأكدي (2300 ق.م) سرور الحاكم أمام العدد الكبير من السفن التي تملأ ميناء أكاد، والوافدة من دلمون ومَجَان (عمان) وملوكة (وادي السند). كما توضح التنقيبات الحفرية في منطقة أور وقصر نبوخذ نصر صور لقرود وفيلة وجمال بالإضافة إلى خشب الساج من الهند، إلى جانب جماعات التجار الهنود من مكران وبلوشستان في مدينتي عيلام وسومر في بلاد الرافدين.
ووفقًا للسجلات اليهودية، كانت السفن أثناء حكم الملك سليمان (حوالي800 ق.م.) تفد إلى الموانئ الشرقية كل ثلاث سنوات وتعود "بالذهب والفضة والعاج والقرود والطواويس وأشجار الصندل والأحجار النفيسة" إلى ميناء "أوفير" في الهند، والتي تعرف بسوبارا في منطقة ثين بالقرب من مومباي.
الروابط التجارية الأولى
لقد تيسرت الملاحة عبر المحيط الهندي عن طريق الإلمام بالرياح الموسمية. فقد انتقلت السفن الهندية من ميناء بروتش في كجرات إلى القرى الساحلية العربية والإفريقية حاملةَ الأخشاب والأرز وزيت الطعام والقطن والعسل، وعادت حاملة اللآلئ والتمور والخمور. وقد كان خشب الساج الذي استخدمه البحارة العمانيون واليمنيون لصناعة القوارب مصدره منطقة مالابار على الساحل الغربي لولاية كيرالا. ومع عدم وجود المسامير المعدنية، كان يتم بناء القوارب بطريقة "اللحام والربط" التقليدية باستخدام الحبال الليفية من مزارع جوز الهند على ساحل المحيط الهندي.
وفي الكتب الموجودة في مكتبة الملك الآشوري آشوربانيبال (توفى عام 626 ق.م.(، استُخدمت كلمة "Sindhu" (سندهو) للإشارة إلى القطن الهندي، بينما اشتُقت الكلمة العبرية"Karpas" (كارباس) من الكلمة السنسكريتية "Karpasa" (كارباسا). وتشير الوثائق التاريخية إلى التجارة في المعادن من جنوب الهند، مثل الأواني المصنوعة من الحديد والصلب والنحاس الأصفر والبرونز.
وفي القرن السادس قبل الميلاد، سيطرت الإمبراطورية الأخمينية في بلاد فارس على التجارة في المحيط الهندي بعد الاستيلاء على صُحار ثم الشريط الساحلي لعمان بالكامل حتى صُور خلال حكم كورش الكبير (550 ق.م.). وفي السنوات اللاحقة، أرسل داريوس الأول (520 ق.م.) سفنه لاستكشاف مصب نهر السند، والسواحل العمانية والحضرمية حتى البحر الأحمر. وبعد غزو مصر وسوريا وفارس، أرسل الاسكندر الأكبر قافلة بحرية خلال نهر السند لوضع خريطة للنهر ثم استكشاف السواحل الفارسية والعربية في الخليج ورسم خريطة لها.
وأثناء فترة حكم البطالمة لمصر، انتعشت التجارة مع الهند بعد أن اكتسب الإغريق مثل هيبالوس المعرفة عن الرياح الموسمية من البحارة الهنود (116 ق.م.).
وفي الوقت الذي حافظ فيه الرومان اللاحقون عام 30 ق.م. على العلاقات مع الهند خلال البحر الأحمر، حوَّل الحكام الساسانيون في بلاد فارس عام 225 م الروابط البحرية الرئيسية مع الهند لتكون عبر الخليج. واستمر ذلك حتى ظهور الإسلام عندما انتقلت السلطة من الفرس إلى العرب.
وقد أدت عمان دورًا محوريًا على مر قرون عديدة في الروابط التجارية بين الهند وموانئ غرب المحيط الهندي. وتصور سجلات من القرن التاسع قبل الميلاد ميناء صُور العماني على أنه أساس لمجتمع تجاري متعدد يضم اليهود والفرس والهنود والعرب.
كما كان للتجار العرب دور محوري أيضًا في التجارة بين الهند والإمبراطورية الرومانية، وكذلك بين الهند ومصر. وقد استوردت مصر الأحجار النفيسة والتوابل والبخور والموسلين، سواء مباشرة من الهند من خلال التجار العرب أو من خلال التجار الهنود الذين استقروا في موانئ عربية مختلفة مثل ميناءي عدن وسُقطرة.
وبذلك كان الناس في الهند وغرب آسيا قبل ظهور الإسلام يمارسون التجارة فيما بينهم لما يزيد عن 2000 سنة، وعاشوا لفترات طويلة على أراضي بعضهم البعض، وتعرفوا على ديانات وثقافات وعادات وقيم وأساليب حياة بعضهم البعض. وبقدوم الإسلام، لم تتعزز العلاقات التجارية فحسب، بل تكونت علاقة أكثر عمقًا تضم انتماءً دينيَا وثقافيًا ترسخ بمرور الوقت.
التفاعل مع الإسلام
كان الاتصال الأول للمسلمين العرب مع شمال الهند عند فتح السند بجعلها جزءًا من الخلافة الإسلامية في 718-800 م. وكما أشار العالم الهندي مالك محمد، لم يكن هذا الفتح ذا أهمية سياسية على وجه الخصوص، ولكن كانت قيمته الثقافية "عميقة وممتدة". وأردف قائلاً إن "العرب اندهشوا من تفوق حضارة الهند. فقد كان سمو الأفكار الفلسفية الهندية وثراء الفكر الهندي اكتشافًا غريبًا عليهم."[1]
وقد نتج عن التواجد العسكري تفاعل مثمر للغاية بين الحضارتين عندما تُرجمت المعارف الهندية القديمة في مجالات الطب والفلك والرياضيات من اللغة السنسكريتية إلى العربية. وفي حكم الخليفة العباسي المأمون (813-833 م)، استخدم عالم الرياضيات الخوارزمي (780-840 م) الأرقام السنسكريتية في الرياضيات العربية.
وإلى جانب التواصل الفكري، استمد الحكام العرب فائدة عملية كبيرة من الخبرة الهندية، خاصةً في فن إدارة الدولة. وقد تحقق ذلك من خلال تعيين الهنود في محاكم الخلفاء.
كما أظهر العرب المسافرون إلى الهند اهتمامًا كبيرًا بالدين والثقافة في الهند وترجموا العديد من النصوص الهندية المقدسة والنصوص الأدبية إلى اللغة العربية. وكان أبو الريحان البيروني (973-1050) من أبرز المفسرين للثقافة الهندية، حيث سافر على نطاق واسع عبر البلاد وترك وراءه ثمانين فصلاً يتضمن ملاحظاته على الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية في الهند.
وفي الوقت الذي أتى فيه المسلمون إلى شمال الهند كمقاتلين، ذهب المسلمون إلى جنوب الهند كتجار ومسافرين، متبعين تقليدًا يعود إلى قرون من الزمن، ورحَّب بهم الحكام المحليون ترحيبًا وديًا. ومن المأثورات التي وردت في كتاب كيرالولباتي "Keralapathi“ [2] أن تشيرامان بيرومال، آخر حكام بيرومال في كيرالا قد اعتنق الإسلام وأدى مناسك الحج في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم توقف عند ميناء صلالة العماني في رحلة العودة حيث وافته المنية. ويزور ضريحه مئات الهنود حتى وقتنا هذا.
ويُقال إن بيرومال أرسل بعض الأسر العربية إلى كاليكوت مع تعليمات بحسن معاملتهم وإرشادهم بنطاق سيادته. وقد تم استقبالهم بترحاب والسماح لهم ببناء المساجد، فقد تم بناء أحد عشر مسجدًا على طول ساحل مالابار.[3] وقد رأى الرحالة العربي محمد ابن بطوطة (1304-1377) أثناء رحلاته على طول الساحل الغربي للهند العديد من المسلمين من بلاد فارس واليمن والذين كانوا يحظون باحترام كبير ومراكز مزدهرة.
وقد أعطى الخليفة العباسي (750-1258م) أولوية للتجارة مع الهند والصين وساحل غرب إفريقيا. وقد تمثلت أهمية الهند في واردتها للأرز والتوابل والفاكهة – وفي المقام الأول – خشب الساج الذي كان ضروريًا لبناء السفن. كما سافر ماركو بولو إلى ظفار في عمان عام 1290 ووصفها بأنها "مدينة عظيمة ونبيلة وراقية، تشهد حركة مرور نشطة مع الهند، حيث يأخذ التجار أعداد كبيرة من الخيول العربية إلى ذلك السوق مما يساعدهم في الحصول على مكاسب كبيرة من ورائها."
وقد امتدح الكتاب العرب في بدايات الفترة الإسلامية حكام راشتراكوتا في هضبة ديكان لحمايتهم أفراد الجالية العربية الوافدة وممتلكاتهم، وتسهيل التجارة ومنحهم حرية العبادة. وسرعان ما اندمج المجتمع العربي في الشؤون المحلية وخوض الحروب بالنيابة عن الحكام الهندوس وتقديم خدمات وهبات لصالح الأفراد المحليين وحتى تولي مناصب رسمية في إدارة الدولة.
وعلى مر القرون، توطدت الأواصر الهندية العربية في جنوب الهند من خلال الزيارات المتكررة للتجار والمسافرين والعلماء. ففي المناطق التي تتحدث باللغة التاميلية، تم إدخال بعض الكلمات العربية إلى اللغة، مثل كلمة “sukkan” التي يأتي أصلها من "سُكَّان" العربية بمعنى موجِّه المركب أو السفينة، وكلمة "malumi " المشتقة من كلمة "مُعَلِّم" للإشارة إلى قائد السفينة.
وبما لا يدعو للدهشة، كان هناك تأثر كبير بين الأديان في الفترة بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر، لا سيما ببدء حركات الإصلاح الهندوسية على يد قديسي الديانة الفايشنافية والشيفية "Vaisnava and Shaivite" الذين كانوا يحاولون تحويل الأفراد المحليين بعيدًا عن جاذبية البوذية والجاينية ونحو عبادة آلهة الهندوس شيفا وفيشنو. ويفيد العالم الهندي تارا تشاند:
"لقد تجلى الاتصال بين الإسلام والهندوسية في الجنوب حيث أحدث الإسلام انتعاشًا لدى الأعداد المتزايدة لتابعي الفكر الهندوسي. ... وبذلك كان القرن الثامن فترة نشاط ثوري في الدين والسياسة. فخلال تلك الفترة من النشاط الشاق، تم إرساء لبنات التطور الديني فيما بعد في الجنوب."[4]
ويشير تارا تشاند أن أثر الإسلام في مدارس الإصلاح كان "انتقائيًا وغير مباشر" في البداية، ومعتمدًا بشكل كبير على الملاحظات الشخصية للشعائر والتقاليد الإسلامية. وقد أصبح ذلك التفاعل فيما بعد هو الأكثر فائدة واستمرارًا في عملية الاتصال بين الهندوس والمسلمين. ففي فكر ورؤى الحكماء اللاحقين مثل رامانوجا وفيشنوسوامي ومدافا ونيمباركا (القرن الثاني عشر إلى الثالث عشر)، كان هناك "توافق وثيق" مع الإسلام. وقد أصبح ذلك التأثير المتبادل أكثر ترسخًا في شمال الهند في الفترة بين القرن الثالث عشر والسابع عشر، وأدى إلى ظهور حركة باكتي " Bhakti "التحررية في الهندوسية. وكما أشار مالك محمد، كانت حركة باكتي عبارة عن دين حب وتفاني، أنشأه "القديسون الهندوس الذين كانوا يكنون الاحترام للدين الإسلامي ويعجبون ببساطته والثبات على وحدانية الله إلى جانب المثل العليا مثل المساواة بين البشر ومبدأ الأخوة العالمية."[5]
إن تأثير الإسلام الذي جاء به المجتمع العربي إلى ولاية تاميلنادو الهندية الجنوبية له أهمية خاصة. فمعظم أفراد المجتمع البالغ عددهم مليوني فردًا في الولاية يفتخرون بانحدارهم من الأشخاص الذين اعتنقوا الإسلام خلال حياة النبي، وبالتالي يعتبرون أنفسهم أقدم جماعة مسلمة في البلاد. وفي نفس الوقت، كان المسلمون من الرجال والنساء من ضمن أبرز العلماء المفسرين للملحمة التاميلية رامايانا التي ألفها كامبان، وهي تُعرف باسم إرامافاتارام Iramavataram أو كامبا رامايانام Kampa Ramayanam.[6]
إن أكثر الأعمال عن الإسلام شهرة باللغة التاميلية هو "سيرابورانام"أو سيرة النبي لكاتبها عمارو بولافار (عمر الشاعر) (توفي في 1703) وقد عاش في كيلكاري. فالعنوان وحده يشير إلى تداخل اللغتين: "سيرا" تشير إلى العربية "سيرة" والتي تعني قصة حياة شخص، وتُستخدم خاصةً مع حياة النبي، أما "بورانا" (من التاميلية: بورانام) فتشير إلى الجنس الأدبي الهندوسي الذي يتضمن أوصاف دينية لأعمال كائن مقدس، وغالبًا وصف تجسد الذات الإلهية.[7]
الدخول الأوروبي للمحيط الهندي
بالرغم من السيادة العسكرية للبرتغاليين على طرق المحيط الهندي البحرية بعد رحلة فاسكو دي جاما في 1498م، إلا أنهم لم يتمكنوا من جمع السفن لفرض السيطرة الكاملة على التجارة عبر المحيط، حتى أن معظم عمليات التجارة استمرت من خلال السفن العربية والهندية. وفيما بعد، دخلت السفن الهولندية والبريطانية والفرنسية المحيط بدايةً من القرن السابع عشر، ودفعت البرتغاليين بالتدريج بعيدًا عن المنطقة. وفي 1620-1622، قام الفرس بدعم من البريطانيين بإزاحة البرتغاليين من "بندر عباس وهرمز"، بينما أدت انتفاضة عمانية محلية إلى إجلائهم عن مسقط في 1649. وبعدها، أقامت أسرة آل يعرب أسطولاً في ترسانة الإمبراطورية ماراثا على الساحل الغربي للهند. ودمرت قلاع البرتغاليين في 1670-1673 في ديو وباسين.
وقد أقامت بعدها الأسرة العمانية آل بو سعيد والتي مازالت تحكم البلاد حتى هذا اليوم سيطرة ملاحية وبحرية على غرب المحيط الهندي من أواخر القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن التاسع عشر، أيضًا اعتمادًا على السفن التجارية المسلحة، بما فيها ليفربول ذات السبعين سلاحًا، والتي بُنيت في الترسانة البحرية في بومباي وكوتشين، في الفترة بين 1814-1842. ومع إدخال السفن البخارية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انتهت حقبة سيادة التجارة العمانية في المحيط، وبدأت السيادة البريطانية على التجارة في المحيط الهندي.
الجماعات الهندية في الخليج
تميز الحكم البريطاني في الهند ليس فقط في امتداده عبر شبه القارة الهندية، ولكن بضمه أراضي خليجية. فكما أشار جيمس أونلي، أخذت بريطانيا على عاتقها مسؤولية الدفاع عن عمان في 1829 والمسؤولية عن إمارات الساحل المتهادن [8] في 1835 وعن الكويت في 1899 وقطر في 1916.[9]
تولت حكومة الهند البريطانية مهمة التطبيق الفعلي لتلك المسؤولية الإمبريالية، وقدمت حكومة الهند البريطانية التمويل والأفراد لهذا المشروع. وقد أدى ذلك إلى تشكيل صلة سياسية واقتصادية وثقافية حقيقية وجامعة إلى حد كبير بين الهند وشعوب الخليج. ويصف أونلي الاتصال الخليجي الهندي كالتالي:
"لقد كان الاعتماد الاقتصادي للمنطقة (الخليجية) على الهند وأثر الهند الثقافي والسياسي العميق في المنطقة حتى 1947 كبيرًا للغاية، لدرجة أن الأفراد المحليين كانوا يقدرون الهند والهنود بما يعادل تقديرهم للغرب الآن. وقد شكلت مشايخ شرق شبه الجزيرة العربية جزءًا من امبراطورية بريطانيا الهندية لعدة أجيال حتى انسحاب بريطانيا من الهند. فالهند والهنود كانا يمثلان القوة والهيبة.[10]"
وتأتي أول الروايات عن المجتمع الهندي في الخليج من المؤرخ العربي أبو زايد حسن والذي يشير في كتابه سنة 916 م إلى أكثر من 100 تاجر هندوسي ممن كانوا يعيشون في ميناء سيراف الإيراني. وقد انتقل ذلك المجتمع إلى كيش ثم إلى ميناء الخليج الرئيسي وبعدها إلى هرمز وبندر عباس ومسقط. ويعود أصل المجتمع الإيراني في مسقط، غالبًا من منطقة كوتش، إلى القرن الخامس عشر، ويليه مجتمع المنامة في القرن السابع عشر، ومجتمع لواتي من السند في سبعينيات القرن الثامن عشر.
وفي الوقت الذي كانت تستورد فيه موانئ الخليج الأقمشة والمواد الغذائية والأخشاب والمعادن من الهند، كان اللؤلؤ المادة الرئيسية المصدرة من الخليج إلى الهند، حيث كان تُباع إلى كل أنحاء العالم. وأصبحت الموانئ الهندية مراكز مصرفية للتجارة الخليجية، بينما شاع استخدام الروبية الهندية في موانئ الخليج بدايةً من القرن السابع عشر، وقد استمر ذلك الوضع حتى ستينات القرن الماضي.
وبدايةً من القرن الثامن عشر وما بعده، جاء التجار الهنود للسيطرة على القطاعين التجاري والمالي في الخليج. وفي عام 1869، وقد أشار المبعوث البريطاني في الخليج آنذاك إلى أن تجارة مسقط بالكامل كانت في يد التجار الهنود، وهي الملاحظة التي كررها القنصل البريطاني في عام 1920 ولكن بالنسبة إلى ميناء بندر عباس.
كما وفر العديد من التجار الهنود في الخليج الائتمان إلى التجار العرب والفرس، وبالتالي ربطوا بين المراكز المالية الخليجية والهندية. وبسبب تقديم معظم الدائنين المحليين ممتلكاتهم كضمان على قروضهم، كانت عدم قدرتهم على تسوية قروضهم تعني أن العديد من التجار الهنود أصبحوا من كبار أصحاب الأملاك أيضًا.
وكان للهند أثر كبير على الحياة الثقافية في الخليج من حيث العمارة المحلية والأزياء والمطبخ الهندي. كما اجتاحت المباني ذات الطابع الهندي السواحل الخليجية، وارتدى الرجال الخليجيون غطاء الرأس الهندي، واستخدم بعض أفراد الأسرة الملكية في الخليج أوشحة الكشمير كعمائم. كذلك، تناول عرب الخليج والإيرانيون لحم الحمل بالكاري والسمك مع الأرز الهندي. وسرعان ما أصبح طبق البرياني الهندي والشيش كباب وحتى السمبوسك المتواضعة من الأطباق التقليدية في المطبخ الخليجي العربي.
وفي القرن التاسع عشر، قبل عصر النفط، كانت هناك بضع آلاف من العائلات المقيمة في الخليج، معظمهم من التجار، ولكن كان من بينهم أيضًا الجواهرجيّة والبنَّائين والنجارين وصانعي السفن وأيضًا مسؤولين في الإدارات الحكومية. وتشير الأرقام في فهرس لوريمر للخليج أن في عام 1905، عاش حوالي 5000 هندي في منطقة الخليج، أصلهم غالبًا من السند وكوتش وكجرات. كما يشير الفهرس أن معظم التجار الهندوس في مسقط، على غرار نظرائهم المسلمين، كانوا يعيشون آنذاك بصحبة زوجاتهم وأطفالهم.[11]
وبينما كانت الجالية الهندية المقيمة في الخليج في عام 1948م، تُقدر بـ 7500 فردًا، حدثت طفرتان رئيسيتان في الوجود الهندي في أوائل القرن العشرين: ففي أثناء الحرب العالمية الأولى، تم حشد نصف مليون جندي هندي في العراق، وفي الحرب العالمية الثانية، تم الاستعانة بعدة آلاف من الهنود لاحتلال العراق وإيران.
كما تم حشد العديد من الهنود في التنظيم الإداري البريطاني الهندي في إمارات الخليج لتشكيل طاقم مصلحة الجمارك والخدمات البريدية والمصرفية ولإنفاذ القوانين المدنية والتجارية والجنائية في الهند. كذلك ساهم الهنود في التطوير الإقليمي الشامل من خلال دورهم في قطاعات البلدية والاتصالات والصحة والتعليم والزراعة. وبتطور صناعة النفط في عشرينات القرن الماضي، كان نقص الموظفين المحليين المؤهلين سببًا وجيهًا لاستقدام الهنود بالآلاف لشغل الوظائف الشاغرة في تلك المجالات الناشئة.
الحركات المتبادلة بين المجتمعات المقيمة
دفعت تجارة اللؤلؤ كبار تجار الخليج العرب لنقل بعض أفراد عائلاتهم إلى بومباي. وتتضمن هذه العائلات: عائلات آل بسام وعلي رضا والقصيبي من السعودية، وآل إبراهيم وآل جيناي من الكويت، وآل زياني وآل عُريِّض من البحرين، وآل مضفى وآل صايغ من المشايخ المتهادنة (الامارات حاليا)، وعائلة آل سلطان من عمان.
وقد تأثرت الجماعات الخليجية في غرب الهند بالجوانب الثقافية والفكرية في الهند نتيجة توسعها في أوائل القرن العشرين. وتدفقت المعلومات المتعلقة بالتطورات في العالم العربي في تلك الأوقات المضطربة إلى بومباي ومنها إلى الخليج. كما ذهبت العديد من العائلات الخليجية، بما فيها بعض أبناء من العائلات الحاكمة، إلى الهند لدراسة اللغة الإنجليزية واستكمال الدراسة الجامعية.
ومنذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، كانت هناك زيادة كبيرة في وجود الجالية الهندية في دول الخليج العربية، فقد بدأت الجالية من خلال مليون فرد تقريبًا في أوائل الثمانينيات، وتزايدت إلى ثلاثة ملايين ونص بحلول 2005 م، إلى أن وصلت إلى ثمانية ملايين تقريبًا بعد عشر سنوات. وتعتبر الجالية الهندية الآن هي أكبر جماعة وافدة في كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، وتقوم بتحويل حوالي 30 مليار دولار أمريكي سنويًا إلى الهند.
ومن الجدير بالذكر أنه إلى جانب حجم الجالية الكبير، فإن الهنود متواجدون بأعداد كبيرة على كل مستوى من اقتصاديات مجلس التعاون الخليجي، فمنهم كبار رجال أعمال، ومهنيين، وفنيين، وعمال. كما شهدت الخمس عشر سنة الأخيرة تغيرًا في شكل الوجود الهندي. فعندما كانت الفئة الأبرز هي العمال ، أصبح هناك تحول ملحوظ لصالح المهنيين الهنود من مهندسين ومعماريين وأطباء ومديرين ومحاسبين. كما يرأس الشركات الخليجية ومتعددة الجنسيات في المنطقة اليوم المئات من الهنود.
فضلاً عن ذلك، ظهرت صفة جديدة في المشهد الاقتصادي الإقليمي وهي زيادة وجود قطاع الشركات الهندي في دول مجلس التعاون الخليجي، في قطاعات البنية التحتية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والخدمات المتنوعة.
الانعزال والتواصل الثقافي
مع الموجة الأولى من تدفق الملايين من الجماعات الوافدة إلى النطاقات الجغرافية في الخليج في سبعينيات القرن الماضي، كان البديهي لدى القيادات آنذاك هو الإسراع إلى عزل مجتمعاتهم الوطنية عن التواصل مع ما كان ينُظر إليه بوصفه ثقافات دخيلة، بما بها من قيم وأساليب حياتية خاصة بها. فقد كان هناك خوف من أن تغطي تلك الثقافة على الثقافة الخليجية وأن تؤدي إلى تآكلها بمرور الوقت إلى أن تنتج ثقافة هجينة مصاحبة للثقافة المحلية في ظل تعدد التأثيرات الخارجية.
ولكن على مر السنوات القليلة الماضية، يبدو أن تلك الحصون الثقافية المنغلقة بدأت تنفتح، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى أن الثقافات الخليجية نفسها بدأت في التحول استجابةً إلى التدفقات المعلوماتية والتكنولوجية والفكرية والثقافية المتولدة من تيارات العولمة. وقد نتج ذلك عن التفاعلات العالمية الواسعة للمواطنين الخليجيين بفضل الشراكات الاقتصادية ووجودهم في المحافل الدولية، إلى جانب الدراسة في المؤسسات الدولية والسياحة في جميع أنحاء العالم.
أما اليوم، مع تحمُّل الجيل الثالث بعد طفرة النفط المسؤوليات العائلية والوطنية، أصبح من السهل التواصل ثقافيًا مع الأفراد من جنسيات أخرى من خلفيات مهنية وفي قطاع الأعمال. وتعتبر الهند محور ذلك التواصل الناشئ والذي يعيد روابط امتدت قرون عديدة بين الخليج والهند تمثلت في درجة كبيرة من الألفة الثقافية المتبادلة. وقد ساعد على تيسير ذلك التواصل الطبيعة التعددية والقيم متعددة الثقافات في الهند ونظامها الديموقراطي المتمثل في حكومة كبيرة ومتنوعة، وإنجازاتها الاقتصادية والتكنولوجية والعلاقات السياسية والاقتصادية المتميزة التي أقامتها مع جميع دول الخليج.
كما تمثل سينما بوليوود الرابطة الثقافية الرئيسية المعاصرة بين مواطني الخليج والهند عن طريق ترسيخ الروح الثقافية المشتركة التي شكلها الشعب الخليجي والشعب الهندي من خلال التفاعلات على مر آلاف السنين. هذا بالإضافة إلى التقدير الكبير لعناصر الرفاهية التي يتم إنتاجها في الهند، من مجوهرات وملابس والمطبخ الهندي الراقي الحديث، وهو ما يعيد الصلات التي كانت موجودة أثناء حضارة هارابا.
ولكن ثمة تفاعلات أوسع نطاقًا وأكثر عمقًا آخذة في التشكل ببطء، حيث تعبر شرائح من المجتمع الهندي في دول الخليج بشكل متزايد عن تفاعلهم مع معضلة الشتات، وذلك من خلال الفن والأدب. ومعظم ردود الأفعال تلك يغيم عليها نبرة من الألم والفقد. فتقول الكاتبة آشا آيرز المقيمة في الخليج في روايتها بعنوان "عواصف رملية وأمطار صيفية" على لسان الشخصية الرئيسية: "كلنا نقع في شباك القدر... لم أرغب يومًا في أن أسافر للخارج، ولكنني فعلت. لقد كنتُ مضطرة. فقد كنتُ متزوجة حديثًا في ذلك الحين. إنني أحمل عبء دموعها عند الوداع في كل وقت."
وتقول الكاتبة سُناينا الهواليا في روايتها "ملاذ آمن" محتفيةً بمشهد السكون والجمال في عمان لدرجة أنها وصفت مسقط بأن لها تأثيراَ شافيا ضد الصراعات والشكوك.
وفي الحقيقة، كان جمال المشهد مصدر إلهام للفنانين الهنود الوافدين أيضًا. فقد وجدت الفنانة رديكا هملاي هندية الأصل والمقيمة في مسقط الجمال الطبيعي في عمان ملهمًا. فبالنسبة لها "عالم الطبيعة الجميلة ذات الألوان الزاهية والضوء المؤثر" يعتبر مصدرًا "للسعادة القصوى". وبهذا الأثر، "تتوغل بعيدًا في أعماق مكنوناتنا، في أنوثتنا، في المعضلات التي تواجهنا، في كيفية بناء أنفسنا."
الخلاصة
بدأ اتصال الهند بالعرب في الخليج منذ عدة آلاف من السنين، عندما اخترق البحارة في زوارق ضعيفة مياه ورياح المحيط الهندي، وفي الغالب، لم يخلف هؤلاء البحارة أسماءهم ولكن ما نجده هو قطع الفخار والألواح الطينية والأختام والخرز الزجاجي والقليل من الحبوب بالإضافة إلى المجوهرات. ولكن يمكننا أن نتخيل أنهم قضوا عدة أشهر معًا في البحار العالية، تحادثوا وأنشدوا الأغاني، العابثة منها وكذلك تلك التي تعبر عن حنينهم، وتبادلوا القصص والحكايات وذكروا أحبائهم الذين خلفوهم ورائهم، وربما تحدثوا عمن ينتظرهم بشوق في الميناء القادم.
أما التجار المثقفين والعلماء والسفراء بينهم، فتحدثوا عن الدين والفلسفة والعلوم والفنون والآداب والموسيقى والشعر وجميع جوانب الحياة التي ترتقي بالفكر وتثري القلب. كان هؤلاء المسافرون الأوائل على البحار العالية من شبه الجزيرة العربية وفارس والهند مرجعًا للحكمة الموروثة عن هدف البشرية على الأرض، وعن دروس القدماء عن قيم العقل والروح.
لقد تشارك هؤلاء الرجال متعددي الخلفيات والمناصب، القادمون من موانئ مختلفة في مناطق مختلفة من المحيط، في ظل صداقة متينة وانسجام، في توريث التفاهم والتوافق وتشكيل ثقافتنا وقيمنا ومساعدتنا للوصول إلى ما نحن عليه الآن.
[1] مالك محمد: "أسس الثقافة المركبة في الهند" – كتب آكار – نيو دلهي، 2007 – ص58
[2]كتاب يدور بشكل عام حول تاريخ ولاية كيرلا الهندية على الساحل الجنوبي لشبه القارة الهندية (ملحوظة من المترجم)
[3]نفس المرجع المذكور في ملحوظة 1 “أسس الثقافة المركبة في الهند" – ص72
[4] تارا تشاند – "أثر الإسلام في الثقافة الهندية" – إنديان برس ليمتد، الله أباد 1946، ص.86
[5] مالك محمد، ص 248
[6] فاسودا نارايانان "المفردات الدينية والهوية الإقليمية: دراسة سيرابورانام (سيرة النبي) في الثقافة التاميلية"، "تقاليد الهند الإسلامية" لريتشارد إم إيتون – 711-1750 –دار نشر جامعة أوكسفورد – نيو دلهي – 2003، ص393-410.
[7] المرجع السابق
[8]ساحل عُمان أو امارات الساحل المتصالح أو الساحل المُهادنبالإنجليزية : Trucial Statesهي مجموعة من المشيخات تقع في الخليج العربي. شكلت فيما بعد الإمارات العربية المتحدة. ( ملحوظة المترجم )
[9] جيمس أونلي: "بريطانيا ومشايخ الخليج 1820-1971: سياسة الحماية" – صحيفة غير دورية رقم 4، مركز الدراسات الدولية والإقليمية، كلية الشؤون الدولية في قطر، جامعة جورجتاون، 2009، ص1
[10] جيمس أونلي: "المجتمعات الهندية في الخليج الفارسي – " 1500-1947”، “الخليج الفارسي في العصر الحديث: الناس والموانئ والتاريخ" – نسخة لورنس جي بوتر، ص231- مؤسسة نشر بالجريف ماكميلان، نيويورك،2014.
[11] أونلي: "الجاليات الهندية" ص 251