عندما عقد المهرجان الثقافي الإفريقي بالجزائر في أكتوبر عام 1969م، جمع المهرجان القيادات الثورية من جميع أنحاء القارة الإفريقية، نحت القائد الثوري املكار كابرائيل، تعبير " مكة الثوريين " فحسب قوله" النصارى يذهبون إلى الفاتيكان، والمسلمون يذهبون إلى مكة والثوار يذهبون إلى الجزائر"؟ على اعتبار أن الجزائر أصبحت قلعة للثوار من مختلف أنحاء العالم الثالث، فبعد استقلال الجزائر توجه قادة الثوار من أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا إلى الجزائر لدراسة تجربة الثورة الجزائرية، ثورة المليون ونصف المليون شهيد (1954-1962م)، فزارها تشي جيفارا، نيلسون مانديلا، وياسر عرفات، وغيرهم من قيادات حركات التحرر في العالم، ومنهم املكار كابرائيل نفسه الذي كان يقود حركة التحرر في غينيا بيساو ضد الاستعمار البرتغالي ولكن تم اغتياله 1972م، قبل أن تتحرر غينيا من الاستعمار البرتغالي بثمانية شهور. ولقد اقتبس جيقري بايرن هذا التعبير لعنوان كتابه الذي صدر عن دار اكسفورد عن الثورة الجزائرية Mecca of revolution: Algeria, Decolonization and the Third World order 2016. ، حتى جماعة الفهود السود الأمريكية توجهت للجزائر بعد الاستقلال مما أزعج الولايات المتحدة الأمريكية.
البندقية والدبلوماسية
يعتبر الاستعمار الفرنسي من أبشع أنواع الاستعمار، فعندما استعمرت فرنسا الجزائر، كانت تريدها قطعة من فرنسا وعملت بكل جهودها لطمس الهوية العربية والإسلامية في الجزائر وحاربت اللغة العربية بكل الوسائل وظهرت المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي منذ القرن التاسع عشر بزعامة الأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883م)، وغيره من رجال المقاومة، والعلامة عبد الحميد بن باديس( 1889-1940م) والبشير الإبراهيمي ( 1880-1966م)، وكان لهولاء وغيرهم دور في المحافظة على اللغة العربية والإسلام مما أشعل المقاومة المسلحة فيما بعد ضد المستعمر الفرنسي، فبدأت الشرارة المسلحة عام 1954م، ضد فرنسا التي أرادت استعمال حلف الناتو لإخماد الثورة الجزائرية وظهرت بطولات الرجال والنساء في المقاومة، التي ما زالت تدرس تجربتها حركات التحرر والمعاهد الأكاديمية في العالم. كما استغل قادة الثورة الجزائرية جميع الوسائل الدبلوماسية بالإضافة للمقاومة المسلحة، مستغلة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ودول العالم المناهضة للاستعمار والتنافس بين أوروبا العجوز التي خرجت ضعيفة بعد الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة. كانت الولايات المتحدة ضد الاستعمار الفرنسي على اعتبار أن الاستعمار يوفر مبررًا للاتحاد السوفيتي لمهاجمة الرأسمالية الغربية ويجد له موطئ قدم في الدول التي تطالب بالاستقلال لأنه يدعم حركات التحرر، فلذلك واشنطن كانت تضغط على بريطانيا وفرنسا بالانسحاب من مستعمراتها.
ودعمت الدول العربية المستقلة الجزائر وكان للجامعة العربية آنذاك دور في المحافل الدولية، ولكن الدعم القوي كان من أكبر دولة عربية، مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت الأسلحة تصل للثوار الجزائريين من البحر شمالاً والصحراء جنوبًا مما أقلق فرنسا مما جعلها تشارك في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، بل قامت فرنسا بالمساهمة في بناء المفاعل النووي الإسرائيلي نكاية في الموقف المصري الداعم للثورة الجزائرية.
كانت الثورة الجزائرية حاضرة بقادتها في مؤتمر باندونغ، المؤتمر الأفروآسيوي 1955م، والذي حضره الرئيس جمال عبد الناصر وقادة الدول المستقلة الإفريقية والآسيوية مثل الزعيم الهندي نهرو والرئيس أحمد سوكارنو رئيس إندونيسيا ورئيس وزراء الصين آنذاك شو إن لاي ، مما وفر دعمًا قويًا للجزائر بنشاطها الدبلوماسي، ودعم حق تقرير المصير للجزائر في الأمم المتحدة بالإضافة إلى دعم دول عدم الانحياز للثورة الجزائرية، وحضرت الحكومة الجزائرية المؤقته التي أعلنت عام 1958م، مؤتمر عدم الانحيار في بلغراد 1961م، حيث كان الرئيس اليوغسلافي تيتو من مؤيدي الثورة الجزائرية، وكان مع عبد الناصر ونهرو من أشهر قادتها عند إنشائها. كما استفادت الثورة الجزائرية بنشاط قادتها من العلاقات مع الاتحاد السوفيتي والصين وحتى الولايات المتحدة لتحقيق الاستقلال في يوليو 1962م. أخذت الجزائر الدولة المستقلة سمعة ثورية على مستوى دول العالم وشعوبها بسبب بطولات وتضحيات الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي الذي استمر 130 عامًا حتى أن دبلوماسية الجزائر أثناء الثورة جذبت اهتمام الباحثين، فكان كتاب مثيو كونللي عن الدبلوماسية في كتابه A Diplomatic Revolution: Algeria's Fight for independence and the Origins of the Post-Cold War 2002.
الحياد الإيجابي بين الشرق والغرب
كما كان دعم الاتحاد السوفيتي لحركات التحرر فكانت الولايات المتحدة داعمة لسياسة التحرر من الاستعمار في القارة الإفريقية، فقد كان الرئيس الأمريكي جون كيندي من المؤيدين لاستقلال الدول الإفريقية قبل انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، فعندما كان في مجلس الشيوخ كان يتبنى سياسة استقلال الدول الإفريقية وحق تقرير المصير وخاصة الجزائر، وعندما انتخب رئيسًا كان داعمًا لاستقلال الجزائر وكانت الخلافات بين واشنطن وباريس بسبب رغبة فرنسا استعمال الناتو ضد الثورة الجزائرية وهو ما رفضته واشنطن، فحلف الناتو للدفاع عن أوروبا وليس التدخل خارج القارة.
زار الرئيس أحمد بن بيلا أول رئيس للجزائر واشنطن أكتوبر عام 1962م، واجتمع بالرئيس جون كيندي، ولكن الوفد الجزائري الزائر انتقل من الولايات المتحدة إلى كوبا والاجتماع مع الرئيس كاسترو، مما أقلق واشنطن خاصة أنها جاءت في أثناء أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا فيما يعرف بأزمة كوبا. إن السياسة الجزائرية مستقلة فالعلاقات مع الاتحاد السوفيتي لا تعني أنها على حساب واشنطن، كانت موسكو مصدرًا للسلاح للجزائر في وقت كانت فيه العلاقات الاقتصادية مع الغرب والولايات المتحدة خلال السبعينيات من القرن الماضي ، كانت الولايات المتحدة المستورد الأول للغاز الطبيعي الجزائري.
ورغم تبني الجزائر للاشتراكية في سياستها الاقتصادية إلا أنها كانت بعيدة عن الماركسية فقد حظرت الحكومة الجزائرية نشاط الحزب الشيوعي في الجزائر، لأنها دولة الحزب الواحد جبهة التحرير الجزائرية، فأخذ يتردد في بعض الأوساط السياسية والإعلامية على سبيل التندر أن الجزائر اشتراكية بلا اشتراكيين. والمثير للانتباه أن جارتا الجزائر كل من المغرب وتونس رأسمالية وموالية للمعسكر الغربي، ولكن الحزب الشيوعي في البلدين يمارس نشاطه بشكل قانوني وبحرية، فالحزب الشيوعي المغربي تأسس 1943م، وتحول لاسم حزب التحرر والاشتراكية عام 1969م، ثم استقر على اسم حزب التقدم والاشتراكية، أما في تونس فتأسس الحزب الشيوعي عام 1920م، في عهد الاستعمار واستمر بعد الاستقلال وشارك في الانتخابات عام 1959م، ولم يحصل على أي مقعد في البرلمان.
ولكن في الجزائر الاشتراكية، بعد استقلالها، حظر نشاط الحزب الشيوعي 1964م، مما يؤكد استقلالية السياسة الجزائرية ومع دستور التعددية السياسية عام 1989م، بدأ نظام التعددية الحزبية وعاد لممارسة نشاطه. إن الجزائر على الحياد وتتصرف وفق مصالحها بعيدة عن سياسة الدول الكبرى، وكان على رأس الدبلوماسية الجزائرية منذ الاستقلال حتى عام 1979م، الرئيس الحالي للجزائر عبد العزيز بوتفليقة الذي كان رفقيًا للرئيس هواري بومدين وعضو مجلس قيادة الثورة حتى وفاة بومدين.
العالم الثالث كمشروع سياسي
إن ميراث الثورة الجزائرية، شكل المرجعية الرئيسة للسياسة الخارجية الجزائرية، وكانت النخبة السياسية الحاكمة من الرئيس بن بلا والرئيس هواري بومدين ترى في الجزائر قلعة الثوار، وأخذت الجزائر سمعهتا الدولية بالتاريخ الثوري في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ولذلك فإن رفض الإمبريالية والاستعمار في جذوره يرجع إلى تاريخ الحركة الثورية، ولذلك فتحت الجزائر ابوابها للحركات الثورية على اختلاف اتجاهاتها العقدية، وكانت للحركات الثورية الإفريقية رعاية خاصة عند القيادة الجزائرية، فاستقبلت القيادات الثورية من انجولا، الكاميرون، الكونغو، موزمبيق، النيجر، غينيا-بيساو، جنوب إفريقيا وناميبيا، كما أن القادة الكاريزمية من أمثال نكروما وباتريس لوميمبا، قبل اغتيالها كانت لهما مكانة في الجزائر مع توطيد العلاقات مع الرئيس كاسترو في كوبا والدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية والدعم السياسي والعسكري للحركات الفلسطينية وأصبحت كلمة بومدين عن تأييد ودعم فلسطين مثلاً حتى اليوم في الجزائر " مع فلسطين مظلومة أو ظالمة"؟
إن الجزائر من مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية 1963م، (الاتحاد الإفريقي الآن)، كما أصبحت من الدول الرئيسة في حركة عدم الانحياز، وأصبح الدفاع عن قضايا العالم الثالث مشروعًا سياسيًا في السياسة الخارجية الجزائرية من خلال عدم الانحياز ومجموعة الـ 77، وتميزت خطابات الرئيس الجزائري بومدين ووزير خارجيته بالدفاع عن حركات التحرر في العالم الثالث كخطاباته في الجمعية العامة ورئاسة منظمة الوحدة الإفريقية 1968-1969 م، وتولت الجزائر السكرتيرية العامة لحركة عدم الانحياز 1973-1976م، وكانت قمة عدم الانحياز قد عقدت في الجزائر وألقى بومدين خطابه في الجمعية العامة في عام 1974م، وكان أول رئيس يخطب باللغة العربية بدون مترجم بعد اعتمادها لغة رسمية في مؤسسات الأمم المتحدة. كما انتخب وزير الخارجية الجزائرية بوتفليقة الرئيس الحالي رئيسًا للجمعية العامة 1974م، ولعبت دورًا مهمًا في إلقاء رئيس منظمة التحرير الفلسطينية خطابًا في الجمعية العام 1974م، مما يؤكد على الدور الطلائعي للجزائر في خدمة قضايا التحرر مما أكسبها سمعة ثورية في السياسة الدولية وفي دول العالم الثالث.
النظام الاقتصادي العالمي الجديد ومطالب العالم الثالث
كانت الدول الرأسمالية تسيطر على الأسواق، وتتحكم في أسعار المواد الخام المنتجة من الدول النامية، كما تتحكم أيضًا في أسعار صادراتها إلى أسواق الدول النامية، ولذلك عندما عقدت قمة عدم الانحياز في الجزائر عام 1973م، اعتبرت قمة اقتصادية تدافع عن مطالب الدول النامية، ولذلك تبنى المؤتمر المطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد يحقق العدالة للدول النامية، وقدمت مجموعة الـ 77 باسم دول عدم الانحياز مطالبها للجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت عليها وكانت الجزائر رئيس الجمعية العامة آنذاك، وقد تم التصويت على هذه المطالب في دورة خاصة للجمعية العامة في مايو 1974م، وتم صدور القرار 3281 بأكثرية 120 دولة صوتت في صالح القرار ومطالب الدول النامية وعارضته الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا. وكانت مطالب الدول النامية في قمة الجزائر تتمثل فيما يلي:
1-إصلاح التبادل التجاري بالسماح لبضائع الدول النامية بالوصول لأسواق الدول الصناعية. 2-إصلاح المؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فيما يحقق مصالح الدول النامية.
3-الاعتراف بمشكلة الديون للدول النامية.
4-زيادة المساعدات المقدمة من الدول الصناعية للدول النامية.
5-الاعتراف بحق الدول النامية بسيادتها على مواردها، حق التأميم لمواردها من سيطرة الشركات المتعددة الجنسية.
6-رفع أسعار المواد الخام المصدرة من الدول النامية بما يتناسب مع أسعار المنتجات الصناعية المصدرة من الدول المتقدمة صناعيًا. ولذلك نلاحظ أن الجزائر لعبت دورًا حيويًا بالدفاع عن المطالب العادلة للدول النامية وكانت عضوًا فعالاً في مجموعة الـ 77 في قضايا دول عدم الانحياز، وكان العصر الذهبي للجزائر في حركة عدم الانحياز في عهد الرئيسين أحمد بن بلا وهواري بومدين؟
كما لعبت الجزائر دورًا مهمًا في الإصلاح بين الدول النامية وخاصة الخلافات بين الدول الإفريقية جنوب الصحراء، والخلافات بين الدول العربية وجيرانها من الدول الإسلامية، كالمصالحة بين العراق وإيران الشاه حول الخلافات حول شط العرب وهي ما عرفت باتفاقية الجزائر عام 1975م، وبهذه الاتفاقية توقف دعم ِشاه إيران للأكراد الذي يقودهم مصطفى البرزاني ضد الحكومة العراقية، وكانت الموساد الإسرائيلي والمخابرات المركزية الأمريكية CIA تدعم الأكراد من خلال إيران الشاه.
الأزمة الداخلية وتراجع الدور العالمي
قامت الجزائر في سياستها الداخلية منذ الاستقلال على سياسة الحزب الواحد، جبهة التحرير الوطني الجزائري، ورغم محاولات الإصلاح الاقتصادي في عهد بومدين وتبني سياسة التسيير الذاتي على التجربة اليوغسلافية، فبعد وفاة بومدين ديسمبر 1978م، الشخصية الثورية الكاريزما، تعثر الاقتصاد، وزادت نسبة البطالة وتراجع النمو الاقتصادي وتراجع التعليم والصحة ومع النمو السكاني برزت مشكلة أزمة السكن، وكانت المؤسسة العسكرية التي تهيمن على حكم البلاد منذ الاستقلال جاءت بالشاذلي بن جديد رئيسًا للبلد (1979-1992م)، وهو قادم من هذه المؤسسة وفي نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين زادت الأحوال الاقتصادية سوءًا، فحاولت الحكومة الجزائرية تخفبف رد الفعل الشعبي على الأزمة الاقتصادية عن طريق التعددية الحزبية، وإنهاء سياسة الحزب الواحد، وكانت التعددية الحزبية في الجزائر عام 1988م، حتى وصل عدد الأحزاب 60 حزبًا سياسيًا، ونهاية هيمنة جبهة التحرير الجزائرية على سياسة البلاد .
إن الانفتاح السياسي بالتعددية الحزبية في ظل التراجع الاقتصادي له خطورته على استقرار النظام السياسي في البلاد، ولذلك اعتبرت جبهة التحرير الجزائرية مسؤولة عن هذه الأحوال خلال حكومة الحزب الواحد، وبالتالي يفسح المجال للأحزاب السياسية التي لم يجربها الشعب ، أن تجذب أفراد الشعب في حالة الانتخابات البلدية والبرلمانية، وهذا ما حدث بالفعل في الانتخابات عام 1991م، حيث فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية بأغلب المقاعد النيابية في الدورة الأولى، في ظل تراجع جبهة التحرير الجزائرية، حيث حصلت جبهة الإنقاذ على 188 مقعدًا من أصل 232، مما دفع المؤسسة العسكرية لإلغاء الدورة الثانية من الانتخابات، مما أدى إلى صراع الشرعية السياسية حيث اعتبرت جبهة الإنقاذ على أن فوزها أعطاها الشرعية السياسية للحكم فيما تتمسك جبهة التحير ومن خلفها المؤسسة العسكرية بالحكم، مما أدخل الجزائر في دوامة العشرية السوداء، الحرب الأهلية، حتى مجيء عبد العزيز بوتفليقة رئيسًا للبلاد وبدعم المؤسسة العسكرية وبتراثه الثوري وارتباطه بالعصر الذهبي للجزائر طرح المصالحة الجزائرية مما أدى إلى انفراج في الأزمة السياسية الداخلية والتوجه بالبلاد إلى الاستقرار السياسي والمصالحة الجزائرية بين التيارات السياسية بالبلاد، وكانت العشرية السوداء قد أساءت إلى سمعة الجزائر الثورية وتراجع دورها كمدافع عن قضايا العالم الثالث بسبب صراعها الداخلي ؟
بوتفليقة وعودة التوازن في العلاقات الخارجية
كان المحور الرئيس في حملة بوتفليقة الانتخابية للرئاسة عام 1999م، عودة الدور الإقليمي والدولي للجزائر ـ خاصة لأنه كان مهندس السياسة الخارجية الجزائرية خلال فترة الحرب الباردة ومكانة الجزائر في عدم الانحياز، فتبنى مبدأ المصالحة بالداخل الجزائري مما حقق الاستقرار السياسي من خلال التوازن في السياسة الداخلية، وحاول إعادة الدور للعلاقات الجزائرية الإقليمية والدولية وخاصة دورها في القارة الإفريقية ، المجال الحيوي وهو ما عبر عنه الرئيس بومدين في عهده بقوله :" إن المغرب العربي والمنطقة الفاصلة بين القاهرة وداكار تمثل منطقة أمن قومي بالنسبة للجزائر، وأنه لا يمكن أن يحصل أي تغيير في هذه المنطقة دون اتفاق مع الجزائر". ولا زالت هذه السياسة حتى اليوم الدائرة الإفريقية والساحلية بشكل خاص منطقة حيوية في السياسة الخارجية، ولذلك لعبت الجزائر دورًا حيويًا في الأزمة مالي 1991-1995، 2006م، وهي أزمة الطوارق في مالي، وكذلك الوساطة في النزاع بين إرتيريا وإثيوبيا وفي لم شمل الدول المصدرة للنفط في الجزائر 2016م. وتتحرك الدبلوماسية الجزائرية في الأزمة الليبية والتوفيق بين الأحزاب التونسية لأنها مجاورة لها وتتأثر بما يحدث بها. وعندما حاولت بعض الجماعات انفصال إقليم أزواد في شمال مالي كان للجزائر دور في تحقيق الاستقرار ووحدة مالي لأنه يمس الأمن القومي الجزائري .
وتعاونت الجزائر مع الولايات المتحدة في سبيل مطاردة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء وبالذات الجماعات المتطرفة، ولكنها ترفض استعمال قواتها لخدمة الدول الأخرى.
وتتمتع الجزائر بعلاقات جيدة مع النظام الإيراني الذي تعتبره الولايات المتحدة أحد أعدائها، وتتكرر زيارة المسؤولين الإيرانيين لها والجدير بالذكر أنها لعبت دور الوسيط في أزمة الرهائن بين أيران والولايات المتحدة عام 1980م، وتتمتع الجزائر أيضًا بعلاقات جيدة مع دول الخليج وتقف على مسافة واحدة من أطراف الخلافات في أزمة حصار قطر.
وكما قال محي الدين عميمور مستشار الرئيس بومدين" إن بومدين كان يؤمن بفكر حقيقي بعدم الانحياز، حيث أنه كان يتواجد الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط، مما دفع الجزائر للسماح بتواجد الأسطول السوفيتي في موانئ الجزائر، وفي عهد الرئيس بوتفليقة، ينظر الروس إلى الجزائر بأنها ما زالت حليفًا استراتيجيًا لروسيا، وفي الوقت ذاته ينطر في واشنطن أن الجزائر صديق قديم للولايات المتحدة وخاصة في مجال الطاقة، فهناك حوالي 50 شركة نفط أمريكية للتنقيب وإنتاج الخام في الجزائر ويبلغ حجم التبادل التجاري بين واشنطن والجزائر 19.4 مليار دولار. وتعتبر موسكو المصدر الرئيس للسلاح إلى الجزائر فإن 93% من صفقات السلاح للجيش الجزائري تأتي من روسيا الاتحادية. ولذلك تبقى سياسة التوازن في علاقات الجزائر الخارجية هي المحور الرئيس في تحقيق مصالحها. وترفض الجزائر سياسة المحاور. فقد رفضت الجزائر، كما نشرت Maghreb Intelligence الفرنسية عرضًا أمريكيًا للجزائر بقيادة قوات عسكرية متعددة الجنسيات، أو التدخل بمفردها في ليبيا لإحلال السلام في العاصمة الليبية، ونشر قوات على طول الحدود مع تونس، لكن الجزائر رفضت الطلب الأمريكي رفضًا قاطعًا، فالعقيدة العسكرية الجزائرية منذ أواخر عهد بومدين، وبعد معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1978م، تقوم على عدم إرسال قوات جزائرية إلى خارج حدودها مهما كانت الظروف وعدم الانخراط في أحلاف عسكرية. وعندما تعرضت القنصلية الجزائرية في أبريل 2012م، بمدينة غاو شمال مالي للاقتحام من جماعة المرابطين الإرهابية واختطفت سبعة دبلوماسيين جزائريين، لم تتدخل الجزائر عسكريًا بل فضلت التفاوض السري لانقاذ دبلوماسييها لأنها لا تريد التورط في مستنقع مالي رغم إلحاح فرنسا عليها بالتدخل العسكري في مالي.
وتبقى الجزائر على سياسة التوازن في العلاقات الخارجية لتحقيق مصالحها بعيدة عن الصراعات الدولية والإقليمية مما يؤهلها لأن تلعب وسيطًا سياسيًا كما عملت في فترات سابقة. إن توازن سياسة بوتفليقة الداخلية والخارجية التي يمكن وصفها استمرارًا للحياد إبان الحرب الباردة، دفع أطرافًا جزائرية للمناداة بترشيحه لرئاسة الجزائر للمرة الخامسة، إنها البرجماتية الجزائرية التي أعطتها سمعة ثورية دولية تحظى بالاحترام والتقدير لدفاعها عن حركات التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها.