من المؤكد أن النظام العربي الجماعي المتعارف عليه منذ أن تأسست جامعة الدول العربية في منتصف أربعينيات القرن العشرين، لم يعد قادرًا على التعامل مع المتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية خاصة بعد مرحلة ما يسمى بثورات الربيع العربي، رغم أن هذا النظام نفسه لم يكن فاعلاً كثيرًا قبل هذه، فالجامعة العربية غير قادرة على أن تكون منظمة إقليمية لها قوة فرض إرادتها على الدول الأعضاء لكون ميثاق تأسيس الجامعة لم يجعلها منظمة فوق الدول، بل دون الدولة، إضافة إلى أسلوب التصويت على القرارات، ومعوق التمويل المالي، الأمر الذي أضعف قدرة الجامعة، بل أن القرارات الأكثر أهمية في التاريخ العربي اتخذت خارج نطاق الجامعة ولعل أبرزها قرار حرب أكتوبر عام 1973م، الذي جاء بتنسيق عربي ثنائي بعيدًا عن الجامعة.
لكن تظل الجامعة العربية أو جهاز الأمانة العامة لا تخضع لمقياس القوة والضعف، فقوة الجامعة أو ضعفها هو قرار عربي ومرهون بإرادة بالدول العربية، وليس لجهاز الأمانة العامة دخل في ذلك، فمن البداية، الميثاق لم يفوض الجامعة ولم يمنحها حرية اتخاذ القرار، بل أخضعها لإرادة الدول الأعضاء، وجعلها مرآة عاكسة للوضع العربي وتوجهات الدول الأعضاء وسياساتها ومصالحها، وتجسد مدى توافقها وخلافاتها، إضافة إلى معضلة تمويل الجامعة وربطه بالدول الأعضاء ما جعلها عرضة لنقص التمويل، أو التأثر بمصدر التمويل.
الجامعة العربية لم تُؤسس من البداية لتكون منظمة حاكمة، أو لديها صلاحيات مثل تلك الممنوحة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل هي أقرب إلى نادي أو منتدى إقليمي يعمل تحت شعارات مطاطة، وهذا ما أثبتته الأزمات العربية منذ أن تأسست الجامعة وما تضمنه بيان قمة انشاص شمال شرق القاهرة عام 1946م حول القضية الفلسطينية، وحتى الوقت الحاضر مرورًا بحروب عام 1967م، ثم حربي الخليج الأولى والثانية وحرب احتلال العراق، وأخيرًا تداعيات أحداث الربيع العربي حيث لم يكن للجامعة الحد الأدنى من التأثير في تلك القضايا العربية التي عصفت بالمنطقة ومازالت، بل فتحت هذه الأزمات الباب للتدخلات الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية.
القضية الفلسطينية التي شهدت بزوغ نجم الجامعة، أو التي كانت أهم أسباب تأسيسها مازالت بدون حل، بل تزداد الأوضاع في الأراضي العربية المحتلة سوءًا، خاصة في القدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك.
والخطورة في التدخلات الخارجية بشؤون الدول العربية، ولا يبدو أي دور واضح للجامعة العريقة مثلاً تجاه التدخلات الإيرانية العلنية في شؤون الدول العربية وما تقوم به من نشر الفتن المذهبية والطائفية، وتصدير التشيع ونظرية ولاية الفقيه للخارج ومنها دول عربية، وهذا ما ينطبق أيضًا على إسرائيل وتركيا.
الجامعة "أي العمل العربي المشترك" لم تقدم مشروعًا عربيًا متفق عليه في أي مجال كان رغم وجود مشروعات لدول إقليمية غير عربية واضحة بل تستهدف هذه المشروعات الوجود العربي نفسه، ما جعل الدول العربية تبحث عن صيغ تكاملية أخرى لملء الفراغ في كل منطقة على حدة، فظهر مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي، ومجلس التعاون الرباعي العربي.
في الوقت الحالي يجري الحديث عن سيناريوهات متعددة للنظام العربي الجديد، منها: صياغة نظام عربي جديد يقوم على الدول العربية الفاعلة التي لم تتأثر بأحداث الربيع العربي أو تعافت منها وهي السعودية، ومصر، والإمارات، والبحرين، والجزائر والمغرب، وينضم إليه من يرغب أي ما يسمى تحالف الراغبين الفاعلين، على أن يكون لهذه الدول المؤسسة دور قيادي على غرار الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهذا السيناريو هو الأقرب للتطبيق.
والسيناريو الثاني هو تطوير ودعم جامعة الدول العربية وإصلاح الميثاق وإنشاء المؤسسات المنبثقة عنها ومنها مثلاً محكمة العدل العربية، والقوات العربية المشتركة، السوق العربية المشتركة وغير ذلك.
لكل سيناريو من هذه السيناريوهات المطروحة لمستقبل النظام العربي دوافعه وقدرته على التنفيذ والتجسيد، لكن في كل الأحوال المطلوب رؤية جديدة لنظام عربي جديد يراعي المتغيرات العربية والإقليمية والدولية، بعد أن أثبت النظام الحالي بعد أكثر من 70 سنة عدم قدرته على تجديد نفسه، ولم يستطع الإفلات من غياب الإرادة العربية، ولم يطرح نموذجًا مناسبًا حتى لتمويل الجامعة ذاتها أو يجعل وقفية تدر دخلاً لإدارة الجامعة، ولم يرسم إطارًا عامًا لمشروع عربي يدخل به حلبة المنافسة الإقليمية ويشحذ خلفه أبناء الأمة العربية.