يحتل العالم العربي موقعًا استراتيجيًا هامًا، ويملك من أسباب القوة الموارد المتعددة الاقتصادية والبشرية التي يمكن أن تجعله قوة مؤثرة في النظام الدولي، في حال استغلالها، حتى أن أحد علماء السياسة في الولايات المتحدة رينهولد نيبورNiebuhr (1892-1971م)، قال : إن الذي يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على أوروبا وبالتالي يسيطر على العالم وهو العالم العربي، ولكن المشكلة التي يعاني منها الانقسام والخلافات بين دوله. ويذكر ديفيد فرومكين في كتابه (سلام ما بعده سلام 1989م) عن الموسوعة البريطانية عن العرب " إن العرب من حيث التكوين الطبيعي هم من أقوى وأنبل العروق البشرية في العالم.. فأما ذهنيًا فإنهم متفوقون على معظم أجناس البشر ولا يحد من مسيرة تقدمهم سوى النقص الملحوظ في القدرة على التنظيم وعجزهم عن القيام بعمل مشترك؟"ص124. إن العرب عبر تاريخهم تكمن قوتهم في عقيدتهم ووحدتهم في دولة واحدة، ولذلك عرف أعداؤهم أنه لا بد من تفكيك رابطة الوحدة بينهم سواء الوحدة الدينية أو الوحدة القومية وتشجيع القطرية على حساب الوحدة والتضامن لسهولة الانفراد بهم.
إن الدول الاستعمارية سعت لتفكيك المنطقة، ففي عام 1914م، أرسلت دائرة الشؤون الخارجية في حكومة الهند البريطانية مذكرة إلى وزارة شؤون الهند في لندن جاء فيها " ما نريده ليس شبه الجزيرة العربية موحدة، بل نريدها مقسمة وضعيفة، ممزقة إلى إمارات صغيرة، خاضعة إلى أقصى ما يمكن لسيطرتنا -ولكنها عاجزة عن القيام بعمل منسق ضدنا، وتشكل حاجزًا في وجه قوى الغرب". وعملت كل من بريطانيا وفرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى على تمزيق الهلال الخصيب إلى دويلات من خلال اتفاقية سايكس –بيكو 1916م، والتخطيط لإقامة دولة يهودية، وعد بلفور 1917م، في قلب المنطقة للحيلولة لوحدتها وتماسكها ولإضعافها واستنزاف خيراتها، ولذلك جاءت الدولة القطرية العربية ليست ظاهرة محلية، بل شيئًا أجنبيًا ومستوردًا من الخارج، فالقوى الخارجية هي التي رسمت الحدود وقررت من يحكم وما شكل الحكم، ويذهب كل من روجر أوين وبهجت قرني إلى القول أن الدولة القطرية العربية ثمرة هجينة ولدت ولادة غير طبيعية وبواسطة قوى أجنبية. يقول قرني "إنها مشوهة ومحاصرة ومأزومة وكأنها وجدت لتبقى، وذلك بفعل قوى خارجية مهيمنة على النظام الدولي، ولا مصلحة لها في اختفاء هذه الدول من ناحية، وبفعل قوى داخلية، إما أن لها مصالح فيها أو تعودت واستمرأت وجودها من ناحية أخرى"؟ ولذلك نرى أن الخلافات داخل الدول العربية لها جذورها في نشأة النظام الإقليمي العربي، لأن رسم الحدود منذ البداية أدى إلى الصراعات والخلافات بين دوله، وعدد الدول العربية اليوم 22 دولة يتنازع 18 دولة منها؟ مما يضعف تعاون هذه الدول في مجالات التعاون الأمني والاقتصادي والاجتماعي، وفي الوقت الذي يشهده النظام الدولي تكتلات إقليمية فعالة في سبيل تحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية كما حال الاتحاد الأوروبي ومجموعة آسيان، فدول الاتحاد الأوروبي التي خاضت الحروب الطاحنة فيما بينها ورغم تعدد الأعراق واللغات إلا أنها نجحت في تجاوز الماضي والتعاون المشترك، وأصبح وجودها فعال في النظام الدولي، رغم أنها 28 تتحدث 24 لغة رسمية في الوقت الذي تراجعت فيه الدول العربية ذات التاريخ والدين واللغة المشتركة على المستوى الإقليمي والدولي مما جعلها عرضة للاختراق الناعم والخشن من الدول الأجنبية القريبة والبعيدة .
التحديات الداخلية والحاجة للعمل العربي المشترك
تواجه كل الدول العربية تحديات داخلية تتعلق بالأمن الغذائي والبطالة والأمية وانتشار ظاهرة العنف والإرهاب، كل هذه التحديات لا يمكن حلها بشكل منفرد علما بأن العالم أصبح اليوم في ظل العولمة قرية كونية، ونجد أن مجموعة آيبك APEC تكتل المحيط الهادي الآسيوي، تجمعت وهي مختلفة أيديولوجيا وسياسيًا من أجل المصالح الاقتصادية، ويمكن للتعاون العربي المشترك حل المشكلات الاقتصادية فهناك دول ذات مساحات شاسعة تتوفر فيها المياه يمكن الاستثمار الجماعي العربي أن يحقق الأمن الغذائي كما هو حال دولة مثل السودان، والتعاون في مجال الصناعات المشتركة على اختلاف أنواعها تشكل قوة للدول العربية بديلا عن التبعية الصناعية للدول الغربية، فالصناعات المختلفة والثقيلة تشكل قوة يمكن الاستفادة منها، لقد أصبحت دول كانت متخلفة صناعيا مصدرة للصناعة اليوم، كما هو حال كوريا الجنوبية وتركيا والهند، فقد كانت مصر أفضل حالا من كوريا الجنوبية في الستينيات من القرن الماضي، واستثمار رؤوس الأموال العربية بداخل المنطقة كفيل بالنمو الاقتصادي ويعمق التعاون السياسي بعيدًا من الاعتماد على الاستيراد من الدول الأجنبية. كما أن العمالة الأجنبية في بعض الدول العربية تحول مليارات العملة الصعبة لبلدانها وفي حالة التكامل العربي في العمالة يوفر عملة صعبة لدول عربية ويعمق علاقاتها مع الدول الشقيقة، فالتجانس الثقافي واللغوي يمكنه التغلب على مشكلات العمالة الأجنبية، التي تغزو بثقافتها وتقاليدها، ودول الاتحاد الأوروبي تفضل انتقال العمالة من دول الاتحاد على غيرها من الدول خارج الاتحاد؟ ونشاهد أيضًا أن عدم الاستقرار في بعض الدول العربية ناتج عن الأوضاع الاقتصادية وانتشار أزمة البطالة والسكن وغيرها، فكان عدم الاستقرار في دولة عربية أدى إلى دومينو عربي انتقلت من تونس إلى مصر واليمن وليبيا، كان يمكن للتضامن العربي والعمل المشترك أن يسهم في حل كثير من المشكلات التي سببت عدم الاستقرار، وما نشهده من الاضطرابات في الدول العربية سببه عدم التعاون العربي المشترك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وخسرت الأمة مليارات الدولارات واسهمت في التدخل الخارجي والحروب الطائفية والعرقية، والعدالة الاجتماعية توحد النسيج الاجتماعي ودولة الرفاه تحقق الاستقرار ولكن الجوع والبطالة تدفع للتطرف .
إن حجم التجارة العربية البينية حسب ما أعلنه الأمين العام للجامعة العربية في مارس 2017م، لا تتجاوز 8-10% من مجمل التجارة العربية الخارجية، كما أن التعاون الثقافي في أدنى مستوياته، التعاون في انتقال الطلاب بين الجامعات العربية بما يدرس في الجامعات الغربية خاصة مع انتشار فروع للجامعات الغربية في الدول العربية وما له من آثار سلبية على الثقافة والحضارة العربية.
ويمكن الاستفادة من تجربة ماليزيا أيضًا التي كانت أعداد المواطنين الذين تحت خط الفقر عام 1970م، وصلت 52% ولكن سياسة التصنيع جعلت هذه النسبة تنخفض عام 2002 م، إلى 5% فقط، لأن ماليزيا أخذت بالتصنيع حيث أن خطة مهاتير محمد للنهوض بماليزيا اعتمدت ثلاثة محاور التعليم ومحور التصنيع والمحور الاجتماعي. فقد انفقت ماليزيا عام 1996م، 2.9 مليار دولار بنسبة 21.7% من إجمالي حجم الإنفاق الحكومي وازداد هذ الإنفاق عام 2002م، إلى 3.7 مليار دولار ما يعادل نسبة 27.8% من إجمالي النفقات الحكومية.
إن دول النظام الإقليمي العربي تملك رأس المال واليد العامة والمهارات اللازمة وفي حالة الاعتماد المتبادل بينها يمكن أن تتخلص من تحدياتها الداخلية بالإرادة السياسية والتعاون والعمل المشترك لأن الأمن القومي العربي متداخل بين هذه الدول.
قضايا التحديات الخارجية والتضامن العربي
واجهت الأمة العربية عدة تحديات منذ استقلالها، وكان أخطر تحد هو إنشاء دولة إسرائيل لتكون عائقًا ضد وحدة الأمة وخاضت الدول العربية عدة حروب ضد إسرائيل، وشاركت جيوش الدول العربية عام 1948م، في الحرب ضد إسرائيل وكانت قيادة عربية موحدة ، ومع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، كان موقفًا عربيًا مشتركًا شعبيًا ورسميًا، ورغم الحرب الباردة العربية في الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين، إلا أن هناك تضامنًا عربيًا، ورغم انتكاسة عام 1967م، فقد شاركت الجيوش العربية، وكانت قمة الخرطوم في سبتمبر من نفس العام التي عرفت بقمة اللاءآت الثلاثة محل إجماع عربي، وكانت المصالحة المصرية –السعودية وتقديم الدول العربية البترولية المساعدة لدول المواجهة للعدوان وكان تضامنًا عربيًا قويًا.
وأثناء حرب رمضان /أكتوبر 1973م، والانتصار الذي حقق العبور لقناة السويس وخط بارليف ، استعمل الملك فيصل رحمه الله ملك المملكة العربية السعودية سلاح البترول ضد الدول المؤيدة لإسرائيل، وكانت قمة التضامن العربي الإسلامي، قبل ذلك عام 1969م، إثر حريق المسجد الأقصى استطاعت الدول العربية في حشد الطاقات الإسلامية بعلاقات الملك فيصل بالدول الإسلامية، وعلاقات الرئيس عبد الناصر الإقليمية والدولية وكانت قمة الرباط التي أسست لمنظمة التعاون الإسلامي، فكان التعاون بين الدول العربية آنذاك كافلاً لحشد الدول الإفريقية والآسيوية لدعم القضايا العربية، فقد قطعت بعض الدول الإفريقية التي لها علاقات مع إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية .
إن الخلافات السياسية خلال العقود الماضية كان يتم تجاوزها لتحقيق الأمن القومي العربي قبل أن ينهار النظام الإقليمي العربي في السنوات الأخيرة.
أما التحدي الآخر فهو تحدي تصدير الثورة الإيرانية 1979م، والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988م، وهو التحدي الذي وقفت دول المجلس الخليجي وأغلب الدول العربية متضامنة مع العراق، واستطاع الدعم الخليجي يحقق على صمود العراق ونهاية الحرب ، في ما يسمي آنذاك بالجبهة الشرقية، ولكن احتلال العراق للكويت في أغسطس 1990م، كان كارثة على التضامن العربي وانقسام الصف العربي وأدى إلى التدخل الأجنبي في المنطقة، وبعد أن كان الخطر على الأمن القومي العربي نابعًا من القوى الإقليمية والدول الكبرى، أصبحت بعض الدول العربية تخشى بعضها ودفعها لعقد تحالفات مع الدول الأجنبية لحماية نفسها، وأسهم انهيار التضامن العربي إلى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م، مما فتح المجال لتوسع النفوذ الإيراني في كل من العراق وفيما بعد في سوريا واليمن ولبنان، وهذا يحتاج إلى إعادة التضامن العربي لمواجهة هذا الخطر القادم من الجبهة الشرقية .
وتأتي القضية الثالثة التي تواجه الأمن القومي العربي وتحتاج موقفًا عربيًا موحدًا، فهي قضية المياه، فإن تحويل إسرائيل لمياه نهر الأردن كان أحد أسباب حرب يونيو 1967م، وكانت أول قمة عربية قد عقدت عام 1964م، لمواجهة خطر تحويل مياه نهر الأردن، ونجد الخطر الحالي بناء السدود في إثيوبيا على منابع نهر النيل مما يهدد الأمن القومي المصري والسوداني، فسد النهضة يمثل كارثة للأمن القومي المصري وبالتالي العربي، ولعبت إسرائيل دورًا حيويًا في دعم بناء السد بالمستشارين والدعم المالي للتأثر على أمن مصر وهذا يحتاج إلى تضامن عربي لمواجهة الخطر المائي الإثيوبي، فأمن مصر نقطة ارتكاز للأمن القومي العربي.
والتحدي الرابع وهو نقل الولايات المتحدة السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في 14 مايو وإعلان الرئيس الأمريكي ترامب في ديسمبر 2017م، أن القدس عاصمة لإسرائيل وهو مخالف لقرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية، وجاء هذا الإعلان ونقل السفارة ليعكس حالة الضعف في النظام العربي في الوقت الذي تردد رؤوساء الولايات المتحدة السابقين من نقل السفارة، وقد سميت القمة العربية التي عقدت في الظهران بالمملكة العربية قمة القدس أبريل الماضي، وهي قضية عربية إسلامية واخيرًا عقدت قمة استثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي في استنبول في الثامن عشر من مايو الماضي في محاولة لدعم القضية الفلسطينية وخاصة لعدم تهويد القدس، وتأتي القمة العربية والقمة الإسلامية لتفعيل التعاون العربي والإسلامي لإنقاذ القدس ونقل القضية إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والمحكمة الجنائية ضد جرائم إسرائيل، ولكن إن إقدام إدارة ترامب على هذه الخطوة يأتي لغياب تضامن عربي قوي على غرار حرب 1973م، عنما تضامنت الدول العربية وهددت مصالح الدول التي أيدت إسرائيل.
الدور الإسرائيلي في تفكيك التضامن العربي
إن الاستراتيجية الإسرائيلية وحتى الحركة الصهيونية قبل إعلان إسرائيل كانت تعمل على إثارة الخلافات بين الدول العربية ودعم الأقليات العرقية والدينية في المنطقة العربية لإضعاف الدول العربية . فقد أكدت مراسلات بن غوريون- شاريت على أهمية إثارة النزاع بين الدول العربية ودول الجوار الجغرافي العربي، كما أكدت وثيقة استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات عام 1982م، (Oded Yinon, A Strategy for Israel in the Nineteen Eighties) ، وأكدت بالذات على تقسيم العراق وسوريا والسودان وغيرها، كما قال رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية شلومو جازيت (1974-1979م) على أن إسرائيل تفضل التفاوض مع الدول العربية منفردة لتحصل على تنازلات منها لأن الدول العربية في حالة وفد مشترك يصعب الحصول على تنازلات منهم، ثم أنه من خلال المفاوضات الثنائية تثير النزاعات وعدم الثقة بين الدول العربية. إن إسرائيل لا تملك مقومات القوة لا بشريًا ولا اقتصاديا وليس لها عمقًا استراتيجيًا، ولذلك استراتيجيتها تقوم على الاعتماد على دول عظمى كما تفعل مع الولايات المتحدة وإثارة الخلافات الداخلية بين الدول العربية والنزاعات بينها وأيضًا مع الجوار الجغرافي التي تطلق عليها استراتيجية الأطراف، فقوة إسرائيل نابعة من الخلافات العربية ودعم الولايات المتحدة.
وكانت استراتيجية مناحم بيغن في الدخول في مفاوضات كامب ديفيد 1978م، هي إخراج مصر من المعادلة العسكرية في الصراع العربي – الإسرائيلي لأنها أكبر قوة عسكرية عربية وأكثرها سكانًا، فتقييدها بمعاهدة يجعل إسرائيل لا تخشى من توازن القوة العسكرية خاصة أنها خاضت أربعة حروب مع مصر، وبعد كامب ديفيد شنت إسرائيل حرب لبنان 1982م، لإخراج منظمة التحرير وحروبها المتتالية في لبنان والحرب على غزة.
لقد استطاع وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كيسنجر في عهد الرئيسين نيكسون وفورد في نقل القضية الفلسطينية من صراع عربي -إسرائيلي إلى صراع عربي -عربي ثم تحويلها إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، ووصلت الأمور بعد اتفاقية أوسلو 1993م، إلى خلافات فلسطينية والتنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية مع قوة الاحتلال الإسرائيلي.
ضرورة العودة للتضامن والعمل الجماعي العربي
إن النظام العربي الحالي في حالة لا يحسد عليها، في ظل وجود ثلاث قوى إقليمية الآن، تركيا وإيران وإسرائيل إضافة لإثيوبيا في القرن الإفريقي تهدد الأمن المائي، ولذلك يبدأ التضامن الفعال من البنية الاقتصادية للدول العربية تعاون وفقًا للنطرية الوظيفية في العلاقات الدولية التي نجحت أوروبا بتطبيقها حتى وصلت إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ذلك تحتاج الدول العربية إلى تفعيل العلاقات على مستوى المؤسسات المتعددة مثل النقابات والمنظمات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، تفعيل المنظمات الاجتماعية لإعادة اللحمة الاجتماعية التي تراجعت في ظل القطرية.
وحيث أن الإعلام يلعب دورًا مهمًا في ظل العولمة فلا بد من ميثاق شرف إعلامي للابتعاد عن إثارة الطائفية والعرقية بين الشعوب العربية، ولعل أخطرها هو الغزو الفكري لبعض النخب في العالم العربي والتسميم السياسي بمعنى نشر قيم وأفكار معينة في مجتمع ما وتشكيك الفرد والمجتمع في عدالة قضاياه بطريقة تدريجية من أجل خلخلة البنية العقدية والتماسك النفسي للمجتمع، وهذا ما تركز عليه إسرائيل، فالغزو الثقافي من أخطر ما يهدد تماسك الشعوب العربية.
ويأتي التسميم السياسي من خلال انتشار مراكز الأبحاث الغربية المرتبطة بالأجهزة الأمنية الغربية تحت مسميات متعددة لاختراق المجتمعات العربية والنخب السياسية، مثل مؤسسة راند الأمريكية ومعهد بروكنجز الأمريكي ومؤسسة كارنيجي الأمريكية ومركزها في الشرق الأوسط، بيروت ومعهد المشروع الأمريكي وغيرها.
إن النظام العربي بحاجة لاستراتيجية تتبناها الجامعة العربية والتأكيد على الدبلوماسة الشعبية من أجل التواصل بين الشعوب العربية وهي مع الأسف مهملة من الحكومات العربية علما أن الدول الكبرى مهتمة بها كقوة ناعمة لاختراق المجتمعات الأخرى. وانتشار المجالس الثقافية لكثير من الدول الأجنبية، ونحتاج إلى مؤسسات ثقافية تنشر الثقافة العربية والإسلامية لتقف في وجه الغزو الفكري الذي يسعى لتفكيك المجتمعات العربية وتشجيع النعرات العرقية والطائفية.
والأخطر الذي يهدد التماسك انتشار اللغات الأجنبية في كثير من المجتمعات العربية على حساب اللغة العربية الأم الموحدة للأمة، ونجد التشجيع المشبوه على الحديث باللهجات العامية في المؤسسات التربوية من أجل تعميق القطرية، بل تفتيت البنية الثقافية داخل المجتمعات في داخل الدولة الواحدة، مثل تشجيع الكردية في العراق وسوريا والأمازيغية في بلدان المغرب العربي بدعم من دول غربية مثل فرنسا ودعم اللهجة الأمازيغية. واللغة هي الوعاء الثقافي إلى الأمة وبحاجة إلى إعادة الاهتمام بالمؤسسات الثقافية العربية وتبادل البعثات الدراسية بين الدول العربية، وكما أن هناك فروعًا لجامعات أجنبية، فلماذا لا تكون فروع لجامعات عربية عريقة في دول عربية أخرى.
ويجب تعزيز العلاقات التجارية بين الدول العربية والاستثمارات، فالعلاقات الاقتصادية عامل مهم لربط الشعوب مع بعضها، فالاعتماد المتبادل بين الدول الأوروبية أو بينها والولايات واليابان أدى لعلاقات سياسية جيدة، ووجود تعاون اقتصادي بين الدول العربية مع الجوانب الأخرى الثقافية والأمنية وغيرها تعزز من التعاون بين الأنظمة العربية.
إن الخلافات السياسية بين الدول تختفي ولكن الخطورة أن تتحول إلى خلافات تؤثر على النسيج الاجتماعي للشعوب العربية، ولذلك فلا بد من استراتيجية تعزز العلاقات بين الشعوب لأنها هي صمام الأمان لإعادة الشعور القومي والرابطة الإسلامية بين الشعوب العربية التي بدورها يمكن أن تؤثر على سياسات الدول ودفعها للتعاون فيما بينها، خاصة أن النظام العربي يمر الآن في مرحلة حرجة أدت إلى اختراق القوى الإقليمية والكبرى، رغم ما يتوفر لديه من مصادر القوة، علمًا بأنه لا يمكن لدول عربية منفردة أن تحقق مصالحها الوطنية بعيدة عن الدول العربية الأخرى، فالمصير العربي مترابط، ويحتاج لاستراتيجية شاملة تحقق الأمن والاستقرار وتعيد للنظام العربي دوره الإقليمي والعالمي إذا توفرت الإرادة السياسية للقيادات السياسية العربية.