عودة روسيا الاتحادية لتلعب دورًا مهمًا على الساحة الدولية، كان محل ترحيب من دول المنطقة باعتباره يأتي في وقت فتر فيه الاهتمام الأمريكي بالمنطقة سواء لتغير الظروف الدولية وتوجه الولايات المتحدة شرقًا، أو للتخبط الأمريكي الداخلي وانعكاس ذلك على سياسة واشنطن الخارجية وما يصدر عن إدارة ترامب ومن قبله إدارة أوباما من رسائل سلبية أضعفت ثقة العديد من دول المنطقة في الولايات المتحدة.
لكن حتى الآن مازالت سياسة موسكو تجاه الشرق الأوسط لا تعكس دور قوى كبرى أو عظمى عائدة إلى ممارسة هذا الدور على الساحة الدولية، فهي مازالت تبدو في طور المواجهة مع الولايات المتحدة وكأن عقدة الحرب الباردة ما زالت تسيطر على سياسة موسكو الخارجية، فهي تقف في صف الدول المناهضة لواشنطن، وكأنها تعطي إشارات لأمريكا أنها عادت للشرق الأوسط للمنافسة وملء الفراغ والتحدي، وهذا ما يترجمه تواجدها العسكري في سوريا منذ عام 2015م، فما تقدمه موسكو لسوريا يبدو أنه تعزيز لموقف الرئيس بشار الأسد ودعم تحالفاته على الأرض، باعتبار أن ذلك مناهض لسياسة أمريكا، وأيضًا مناهض لتوجهات الدول العربية التي تعتبرها موسكو حليفة لواشنطن، كما أن العلاقات الروسية مع إيران تبدو أنها ضد الولايات المتحدة، رغم أن ذلك لا يتوافق مع سياسة الدول العربية الرافضة لعسكرة البرنامج النووي الإيراني، كل ذلك يحدث رغم الاستراتيجية الروسية التي يتبناها الرئيس بوتين، والتي يريد من خلال تطبيقها عودة روسيا للقيام بدور الاتحاد السوفيتي، بل ذهب بعيدًا عندما يعتقد أن تكون روسيا مركز العالم وقلبه، بعد أن ضمن وجوده على سدة الرئاسة حتى عام 2024م.
وتعتمد الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط على مرتكزات منها بناء التحالفات الصلبة مع الدول التي تغرد خارج السرب الأمريكي مع فتح أسواق جديدة لمنتجاتها وأسلحتها في الشرق الأوسط، وكذلك التواجد المؤثر في أزمات المنطقة بالتنسيق مع القوى الصاعدة لاستعادة مكانتها في النظام الدولي.
هذه التوجهات من جانب موسكو تخدم مصالحها الآنية المؤقتة ولا تعيدها إلى دور الاتحاد السوفيتي، فهي تحتاج إلى شراكات طويلة الأمد ومتنوعة خاصة أنها تركز على بناء اقتصادها الذي ليس بقوة الاقتصاد الأمريكي أو الصيني، فهي تحتل المرتبة الثانية عشر عالميًا طبقًا للناتج المحلي الإجمالي، وتخطط لأن تتبوأ المرتبة الثامنة عالميًا عام 2030م، إضافة إلى توجهها لأن تكون منافسًا حقيقيًا في مجال التسليح والصناعات العسكرية وأنظمة الدفاع الجوي وغيرها من الأسلحة التي قطعت شوطًا في تطويرها ؛ وهذا مرهون بتعاونها البناء وسلوكها الإيجابي. ولقد أقبلت الدول العربية بالفعل على روسيا الجديدة، وأبرمت معها اتفاقيات مهمة في التسليح سواء دول مجلس التعاون الخليجي أو مصر، إضافة إلى علاقتها التقليدية القديمة مع الجزائر، وكذلك تعاونها مع منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" بالتنسيق مع المملكة العربية السعودية، باعتبار أن روسيا أكبر منتج للنفط من خارج "أوبك".
لكن، رغم سقوط الأيديولوجية السوفيتية وانتهاء الحقبة الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو، لم تتخل روسيا نهائيًا عن المعايير السابقة في التعامل مع الدول ويبدو أن عقدة الشعور بالدونية تجاه أمريكا والغرب التي لازمت روسيا لمدة 20 عامًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مازالت موجودة، ودلالات ذلك محاولة الثأر من واشنطن وتعقب أثرها والتعاون مع المختلفين معها، وهذا يتنافى مع دور القوى الكبرى التي تريد روسيا أن تكون منها في عالم متعدد القطبية، وعليها أن تترفع عن التحدي والوقوف ضد مصالح الدول والشعوب ذات العلاقة مع الغرب، وأن تنفتح على الجميع دون مواقف مسبقة أو ظنًا منها أن هذه السياسة موجهة ضد أمريكا والغرب، فالدور الروسي في سوريا تشوبه شوائب كثيرة، نتمنى أن تتضح وأن يكون دور موسكو لصالح سوريا وشعبها وليس لأسباب خاصة بمصالحها، وأيضًا تبدو موسكو متناقضة مع سياستها في محاربة الإرهاب، ففي حين تقف ضد الإرهاب ، فهي تدعم حزب الله وحماس، إضافة إلى دورها غير الفعال في إنهاء الانقلاب الحوثي باليمن، وكذلك وقوفها في صف إيران النووية التي قد تكون ضارة لروسيا بقدر ضررها لدول العالم الأخرى، كما أن دورها في مساندة القضية الفلسطينية لم يعد كما كان في ظل الاتحاد السوفيتي حتى من زاوية الدعم المعنوي فقط.
العرب يريدون روسيا دولة كبرى وأن تعود لدورها الفعال غير الانتقائي على الساحة الدولية، وأن تعيد الثقة فيها كشريك يُعتمد عليه، وتمحو من الذاكرة العربية أن الروس شريك ينكص بوعوده، حيث لا مناص من عالم متعدد القطبية تلعب فيه روسيا والصين والهند دورًا حيويًا في عالم سقطت فيه الأيديولوجيات، وما نأمله نحن أن يكون للدول العربية دور في عالم متعدد الأقطاب للمساهمة في تحقيق التوازن وتعدد الشراكات مع مختلف القوى لتحقيق عالم أفضل مما نعيشه الآن.