روســــــــــــــيا الـــــــــــــــــيــــــــــــوم:مقدمــــــــة ضروريـــــة:
بعد انهيار" الاتحاد السوفيتي" السابق، عام 1991م، ظهرت خمسة عشر جمهورية، كانت تكون معًا (إضافة لبعض المقاطعات) ذلك الاتحاد، الذي قام عام 1917م، واستمر لحوالي ثلاثة أرباع القرن. وكانت جمهورية روسيا الاتحادية أكبر وأهم هذه الجمهوريات، وهي الجمهورية التي كانت تقود الاتحاد السوفيتي، الدولة العظمى السابقة، والتي أصبحت الوريث الشرعي لذلك الاتحاد. فهي الأكبر والأهم بين مكونات الاتحاد السوفيتي المندثر. تقدر مساحة روسيا بـ (17،075,400كم2) أي حوالي ضعف مساحة الولايات المتحدة الأمريكــــية (9،666،532 كم2) وبمـــا يمثل76% من كــــامــــل مساحـــة" الاتحاد السوفيتي" المنتهي... وهي تمتد من بحر البلطيق غربًا إلى المحيط الهادي شرقًا. ومن حدود الصين والجمهوريات الإسلامية (السوفيتية-سابقًا) جنوبًا، إلى المحيط المتجمد الشمالي شمالاً.
وتحتوي هذه المساحة الشاسعة على ثروات وموارد طبيعية ضخمة... إذ تضم روسيا أكثر من 50% من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة في الاتحاد السوفيتي السابق. وتنتج ما يوازي 60% من مجموع الإنتاج الــــزراعـــــي السوفيتي. كما تنتج حوالي 68% من إنتاج الطاقة السوفيتية. وتحتوي على أكثر من 70% من احتياطي المعادن الرئيسية، في الاتحاد السوفيتي السابق.
وتمثل البنية الصناعية فيها ما يعادل 62% من كامل البنية الصناعية السوفيتية. ويقدر سكانها حاليًا بحوالي 150 مليونًا... أي ما كان يعادل 53% من سكان الاتحاد السوفيتي. وتسيطر روسيا (ذات التاريخ العريق كدولة كبرى سابقة) على حوالي 85% من مجموعة أسلحة الدمار الشامل التي كان يملكها الاتحاد السوفيتي الزائل. وقامت روسيا بسحب معظم الأسلحة النووية المتواجدة في الجمهوريات السوفيتية الأخرى السابقة.
****
كل هذا هيأ ظهور روسيا كدولة كبرى، وربما "عظمى" في المستقبل القريب. ولكن روسيا واجهت مشاكل وأزمات اقتصادية وسياسية خانقة، منذ زوال الاتحاد السوفيتي ... تمثلت في: تدهور اقتصادي حاد، نجم عن التحول نحو النظام الرأسمالي، وسوء الإدارة والفساد. كما عانت من صعوبات الانتقال للنظام الديمقراطي/ الرئاسي، وما نتج عن ذلك من مشاكل وعوائق وأزمات كبرى... أسهمت في إضعافها، وتخلفها، ومواجهتها لكوارث، وصلت لحد المعاناة من الإفلاس، وانفصال بعض أجزائها، واختراق الاستخبارات الأمريكية والغربية لمعظم مؤسساتها.
وكانت " مرحلة انتقالية " (1989 – 2001م) صعبة ... أثناء رئاسة "بوريس يلتسين"، وبداية رئاسة " فلاديمير بوتين". إذ كانت روسيا خلالها عبارة عن دولة متخلفة... تعصف بها أزمات مدمرة... وتمتلك ترسانة نووية هائلة. كانت خلال هذه الفترة في موقف جد ضعيف، في مواجهة أمريكا وحلفائها. ولم يكن أمامها من خيار سوى الرضوخ لإملاءات أمريكية وغربية مذلة.
****
خلال هذه " الفترة الانتقالية "، مارس الغرب (بزعامة أمريكا) شتى مظاهر الابتزاز والهيمنة على روسيا، التي اضطرت للتوجه نحو الغرب... محاولة الاستفادة الاقتصادية منه، ومساعدتها للوقوف على قدميها، لتجاوز كبوة التحول المريعة. ولهذا السبب، كانت روسيا تتسامح مع سياسات الولايات المتحدة، وتعمل جاهدة على تجنب المواجهة معها، كما كان يحدث أيام الاتحاد السوفييتي، خلال فترة " الحرب الباردة ". وعند حدوث أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، أعلنت روسيا تحالفها مع الولايات المتحدة لـ " محاربة الإرهاب ". وجنت روسيا من هذا التحالف فوائد اقتصادية وسياسية كثيرة، من أهمها: الحصول على مساعدات اقتصادية مهمة.... مكنت روسيا من التخفيف من معاناة التحول لاقتصاد السوق الحر، ودعمتها في حربها ضد انفصالي الشيشان، وغيرهم. وتم إنشاء مجلس " ناتو – روسيا " المشترك، لتنسيق التعاون الأمني والسياسي بين حلف الناتو وروسيا. ومقابل ذلك، كانت روسيا في منتهى التسامح مع السياسات الأمريكية، بما فيها سياسات رأى البعض أنها تضر بمصالح روسيا، في المدى الطويل.
****
أمعنت أمريكا والغرب في اتخاذ سياسات استفزازية بالنسبة لروسيا. من ذلك ما سمي بـ "محاصرة وتطويق روسيا"، عبر توسيع حلف الناتو شرقًا، ليضم معظم ما كان يعرف بـ " أوروبا الشرقية ". وهي مناطق نفوذ سابقة للاتحاد السوفيتي (روسيا) ومتاخمة لروسيا. وكذلك: إصرار الولايات المتحدة على بناء ما يعرف بـ " الدرع الصاروخي" في كل من بولندا وتشيكيا، والذي تقول الولايات المتحدة أن الغرض منه هو: صد الصواريخ التي قد تطلقها الدول " المارقة " (إيران، كوريا الشمالية) باتجاه أمريكا والغرب...؟! بينما يرى الروس أن الهدف الحقيقي منه هو: تطويق روسيا صاروخيًا، وتحديد وإعاقة القوة الصاروخية الروسية.
****
أدى تعامل الغرب المهين مع روسيا، إلى تنامي الشعور القومي الروسي، وتعالت الأصوات الروسية المنادية بـ " الحفاظ على الكرامة الروسية "، ووقف " الإهانات الأمريكية والغربية ". وجاءت تلك الدعوات من قبل اليمين الروسي، الذي بدأت سطوته تقوى في الساحة السياسية الروسية. الأمر الذي أدى إلى: ظهور قيادة سياسية روسية جديدة.... تحاول التصدي لأمريكا والغرب، واستعادة هيبة روسيا السابقة، أو أكبر قدر ممكن منها. ومن أهم أسباب ظهور هذه السياسة الروسية (الجديدة) إضافة إلى تنامي المد القومي الروسي، وجود قيادة روسية وطنية... تعمل جاهدة على جعل روسيا دولة كبرى، وبما يتناسب مع إمكاناتها البشرية والمادية، والتي تجسدت في القيادة الوطنية الروسية الفذة للزعيم " فلاديمير بوتين"، قائد حزب روسيا الموحدة (الحاكم الآن). وبدأت المرحلة البوتينية (2001م – الآن) إن صح التعبير.
اتسمت المرحلة البوتينية بتجاوز روسيا، بشيء من النجاح، للمرحلة الانتقالية الصعبة، التي تمثلت اقتصاديًا في التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية (ذات الضوابط) وسياسيًا: في التحول من ديكتاتورية الحزب الواحد إلى " الديمقراطية " الموجهة. ودعم تزايد دخل روسيا من تصدير النفط، بسبب تزايد أسعاره، هذا التوجه القومي الروسي.
****
تجسدت هذه السياسة الروسية الجديدة في عدة أقوال وأفعال، منها:
- الاجتياح الروسي لجورجيا: وتقديم الدعم السياسي والعسكري لإقليمي " أوسيتيا الجنوبية"، و" أبخازيا".
- دعم روسيا لما يعرف (أمريكيًا) بـ "محور الشر" (إيران، كوريا الشمالية، سوريا).
- تهديد بعض دول الجوار (خاصة أوكرانيا) من مغبة التمادي في التعاون مع الغرب ضد روسيا، بما في ذلك التدخل في شرق أوكرانيا، واحتلال جزيرة " القرم " وضمها للاتحاد الروسي.
- التدخـــل العســـكري الروسي المباشر في سوريا إلى جانب نظام الأسد.
- إعادة تفعيل تحركات روسيا العسكرية في المياه الدولية، عبر تسيير رحلات روتينية روسية لبعض قاذفاتها وبوارجها العسكرية.
- العمل على تحديث السلاح الروسي الاستراتيجي، وإنتاج أجيال متقدمة من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى.
****
كل هذه الإجراءات أصبحت تعني: أن السياسة الخارجية الروسية، وخاصة تجاه أمريكا وحلفائها، قد تغيرت، وأضحت أقرب إلى سياسات الاتحاد السوفيتي، أثناء فترة "الحرب الباردة" الماضية. وبدأت روسيا تبرز كمنافس (جديد) للولايات المتحدة، وليس كشريك استراتيجي. انتهى عصر الوفاق التام مع أمريكا والغرب، وبدأ سباق التنافس، والخلاف بين الجانبين، وخاصة في وحول ما يعرف بالحدائق الخلفية لروسيا، وهي: أوروبا الشرقية، ووسط آسيا، والشرق الأوسط. ويبدو أن روسيا ما زالت تريد علاقات اقتصادية وثيقة مع الغرب بعامة، ولكنها ترفض التبعية السياسية الروسية لأمريكا. كما أن الروس قلقون من حقيقة التحالف الأوروبي ــ الأمريكي، ويشيرون إلى "عداء تقليدي" أوروبي متأصل ضد روسيا. وهذا ما قد يصعد من سياساتهم المستقلة الجديدة، ويدفعهم لمقاومة حــلف الناتــو، الذي ينظرون إليه الآن بعيون ملأها الشك والريبة. وتزيد العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا الآن من احتمالات قيام "حرب باردة" جديدة. بل أن البعض يرى أن هذه الحرب قد اندلعت بالفعل.
****
العلاقـــــــــات الخليجــيـة – الروســـيــــــة:
في هذا الإطار، وانطلاقًا من هذه الحقائق المذكورة سابقًا عن الدب الروسي العتيد، يجب أن ننظر إلى العلاقات الحالية والمستقبلية بين دول الخليج العربية والاتحاد الفيدرالي الروسي. إن العلاقات بين الجانبين الخليجي والروسي قديمة جدًا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك حوالي 20 مليونًا من سكان الاتحاد الروسي يعتنقون الدين الإسلامي، منذ عهد بعيد، وإن بعضًا منهم يأتون للحج والعمرة إلى السعودية. والآن هناك جالية روسية كبيرة نسبيًا تقيم في الإمارات. ونرى أن هناك حرص شديد من روسيا على إقامة علاقات أوثق مع كل دول مجلس التعاون الخليجي التي يبدو أن لديها نفس الرغبة. وكل طرف في هذه العلاقات يسعى – بالطبع – لخدمة مصالحه، وينطلق من حاجاته، وأهداف سياساته.
ولندرك كنه العلاقات الخليجية – الروسية، لابد أن نعرف ماذا تريد روسيا من منطقة الخليج العربية، وماذا تريد دول مجلس التعاون الخليجي من روسيا، وما مدى قدرة كل طرف من هؤلاء على تحقيق ما يريده من الطرف الآخر؟ روسيا تريد ترسيخ قدميها في هذه المنطقة، التي تعتبر أقرب " المياه الدافئة " لها. سرت روسيا بوجودها في سوريا، وبوجود قاعدة عسكرية روسية كبرى على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتريد الحفاظ على هذا الوجود، وترسيخه، وتوسعه. وذلك عبر: إقامة علاقات وثيقة (نسبيًا) مع كافة دول المنطقة، وخاصة دول الخليج العربية.
ويدرك الروس أهمية هذه المنطقة للقوى الدولية الكبرى الأخرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة والغرب، وخاصة الأهمية الاستراتيجية الكبرى الحالية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وسعي أمريكا على إبعاد روسيا، وأي دولة كبرى أخرى، عن هذه المنطقة ... للحيلولة دون تهديد ما تسميه أمريكا مصالحها بالمنطقة ... أي نفوذها العتيد المستتب بالمنطقة، والذي يعطي أمريكا قوة على قوتها، ويدعم هيمنتها الكونية.
فهذه المنطقة العربية، التي يشار إليها عالميًا بـ " الشرق الأوسط "، تحظى بأهمية استراتيجية بالغة. اذ يربط موقعها الهام بين ثلاث قارات، وتمر فيها وعبرها أكثر القنوات والممرات المائية الدولية أهمية (هرمز، باب المندب، السويس، جبل طارق) ناهيك عما يوجد بها من ثروات طبيعية هائلة، أبرزها النفط والغاز. ففيها أكبر الاحتياطيات في العالم من هذين الموردين الهامين. ولا يمكن لدولة كبرى أو عظمى أن تكون كذلك ما لم يكن لها نفوذ بهذه المنطقة. لذلك، نرى تصارع الدول الكبرى والعظمى على المنطقة، هادفين أن يكون لهم نفوذ ووجود دائم فيها.
****
نعم، تحرص القيادة الروسية على إقامة علاقات روسية – خليجية وثيقة ومثمرة. كما يحرص الجانب الخليجي – العربي على التقارب مع روسيا، مع عدم تأثير ذلك بالسلب على العلاقات الاستراتيجية التي تربطهم جميعًا بالولايات المتحدة. وهي معادلة ليس من السهل تحققها في المرحلة السياسية الحالية، التي تشهدها المنطقة، وما يدور فيها من خلافات وصراعــات وحروب. تريد دول مجلس التعاون الخليجي علاقات وثيقة مع روسيا، تضمن دعم روسيا لهذه الدول على الساحتين الإقليمية والعالمية. كما تضمن استفادة دول الخليج العربية من بعض مبيعات الأسلحة الروسية. إضافة إلى ذلك، ضمان " تعاون " روسيا مع دول مجلس التعاون الخليجي في مجال النفط – إنتاجًا وأسعارًا. وذلك باعتبار روسيا منتج ومصدر كبير للنفط.
والخلاصة، أن روسيا تريد تثبيت تواجدها العسكري والسياسي بالمنطقة، عبر عدة وسائل، في مقدمتها: إقامة علاقات وثيقة مع كل دول المنطقة، وخاصة دول الخليج العربية. كما تريد سوقًا لمبيعات أسلحتها، وما تصدره من تقنية متوسطة. ومن الناحية الأخرى، تحرص كل دول مجلس التعاون الخليجي على دعم علاقاتها بالاتحاد الروسي، باعتباره دولة عظمى قادمة، تمكن من الاستفادة من مواقفها السياسية، وصادراتها من الأسلحة. كما تسهل تعاون روسيا مع هذه الدول في مجال النفط، وأيضًا مجال ما يعرف بـ " مكافحة الإرهاب "، وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ