array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 135

الخروج البريطاني.. الأسباب والمكاسب والخسائر

الإثنين، 04 آذار/مارس 2019

تحميل    ملف الدراسة

تهيمن على العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية منذ منتصف القرن العشرين وما بعده ظاهرتي العولمة والإقليمية، فهي تتأرجح بين العولمة المتصاعدة والإقليمية المتزايدة؛ فالعولمة تستهدف إزالة الحدود الجغرافية والحواجز الجمركية والعمل على نقل الرأسمالية عبر العالم من مختلف جوانبها الاقتصادية والثقافية وحتى السياسية، أما الإقليمية فهي حالة وسطية بين محلية ضيقة النطاق وعولمة تدعو إلى الانفتاح في شتى المجالات.

إن هذه الحالة الوسطية " الإقليمية" تهدف إلى دعم التكامل والاندماج في جميع المجالات بالدرجة التي تقلل من التبعية الكلية للقوى المهيمنة من دون الانغماس في الانعزال الاقتصادي والسياسي، فهي تحاول الزيادة في رفاهية الدول الأعضاء في التكتل الإقليمي.

إن الإقليمية بقدر ما تحمله من مزايا ومراكز قوة لأعضائها من زيادة سعة حجم الأسواق، وحرية حركة الأفراد، وتحسين الظروف الاقتصادية والسياسية بشكل عام للأقاليم أو الدول الأعضاء؛ فإنها في نفس الوقت قد تؤدي إلى تفاقم مشكلات إقليمية كانت موجودة بالأصل، كما قد تضيف أو تنشئ مشكلات إقليمية جديدة. فمفهوم الإقليمية مرتبط بالأساس بالنظام السياسي؛ إلا أنه وبعد الحرب العالمية الثانية انتقلت إلى التجارة والاقتصاد؛ فظهرت تكتلات وهيآت إقليمية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي كأدوات دولية لإدارة الشؤون الاقتصادية في العالم، وظهرت في نفس السياق منظمات وتكتلات إقليمية كمنظمة الوحدة الإفريقية والسوق الأوروبية المشتركة.

التكتلات الإقليمية ... دوافع الانضمام وإشكالية الانسحاب بإرادة منفردة

يعد التكتل الإقليمي حسب ميثاق هيأة الأمم المتحدة تعاونًا سياسًيا واقتصاديًا بين مجموعة من الدول تنتمي إلى منطقة جغرافية واحدة وتسعى إلى تحقيق هدف مشترك في إطار الأمن والسلم الدوليين؛ إلا أن العنصر الجغرافي لم يعد شرطًا وجوبيًا للإقليمية بل يكفي وجود تقارب سياسي أو إيديولوجي بين أعضاء التكتل. إن من أهم شروط تحقيق التكتل الإقليمي في العصر الحديث إحداث التكامل الاقتصادي أو ما يسمى الإقليمية الجديدة، الذي يتطور فيما بعد إلى الاندماج الاقتصادي والسياسي. وتعد التكتلات الإقليمية من أهم خصائص النظام العالمي الجديد؛ حيث تشمل بمختلف أشكالها 75% من دول العالم بما يعادل 80% من السكان، وتشغل حوالي 85% من التجارة العالمية.

إن دوافع الانضمام إلى تكتل إقليمي تتعدد وتتنوع، فمنها ما هو اقتصادي متمثل في رغبة الدولة في توسيع حجم أسواقها وزيادة فرص الاستثمار، والاستفادة من خفض القيود الجمركية داخل التكتل، لرفع نسب النمو الاقتصادي، ومستوى رفاهية شعوبها، كما أن التكتل الإقليمي يمكن أن يحميها في حالة ما إذا تعرض اقتصادها إلى قيود خارجية أو حرب تجارية، ومن الدوافع ما هو سياسي وأمني كتعزيز الأمن القومي للدولة العضو في التكتل في مواجهة الكيانات الدولية والقوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى في العالم. ونظرًا للأهداف الهامة التي يمكن أن تحققها الدولة العضو في التكتل الإقليمي والمكاسب التي يمكن أن تجنيها؛ فإن ذلك لا يغنيها عن الخضوع لمجموعة من الشروط والالتزامات التي تفرضها الإرادة الجماعية للتكتل.

كما أن الخروج من التكتل سواء من خلال إسقاط العضوية من الأعضاء لسبب من الأسباب، أو الانسحاب بإرادة منفردة من الدولة العضو، يخضع إلى مواثيق التكتل الإقليمي، وكل تكتل يضع مجموعة من الآليات والإجراءات القانونية لذلك. وبغض النظر عن الأسباب التي يمكن لدول التكتل إسقاط عضوية عضو من الأعضاء؛ إلا أن ما يهمنا في هذا المقام تلك الحالات التي تكاد تكون نادرة والمتعلقة بالإرادة المنفردة للانسحاب من قبل الدولة العضو، وخاصة ما إذا كانت تشكل ثقلاً سياسيًا واقتصاديًا في التكتل، وقد مرّ على عضويتها زمن طويل تشابكت فيه مصالحها المحلية مع المصالح الكبرى للتكتل، وفي خضم ذلك تكون قد استفادت خلال فترة عضويتها من امتيازات هامة من الصعب فقدها نظرًا للآثار المترتبة على ذلك محليًا على الدولة العضو وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى من خلال التزامات الدولة العضو في التكتل تكون قد ساهمت في القوة الاقتصادية والسياسية للتكتل الإقليمي. وانطلاقًا من هذه العوامل فإن نتائج الانسحاب من التكتل الإقليمي سوف تشكل عبئًا ثقيلاً على كلا الطرفين نظرًا للمكاسب المحققة والالتزامات المفروضة.

يمكن أن نسقط هذه الوضعية على أزمة البريكست البريطاني والاتحاد الأوروبي؛ حيث معاهدة لشبونة لعام 2009م، أتاحت المادة الخمسون (50) منها الخروج من الاتحاد بإرادة منفردة وفق آلية للخروج تجرى من خلال مفاوضات لا تتجاوز العامين (02)، يتم فيها التوقيع على اتفاقية للخروج للدولة الراغبة في الانسحاب من جهة، وللتكتل الإقليمي من جهة أخرى؛ فالإشكال المطروح هنا يتمثل في حالة ما إذا تعثرت مفاوضات الخروج باتفاق يحمي مصالح الطرفين خلال الفترة المنصوص عليها في المعاهدة. وانطلاقًا من هذا يتم اعتبار الانسحاب بإرادة منفردة من أي تكتل مشكلة، والخروج من دون اتفاق بين الدولة العضو والتكتل مشكلة أكبر وتترتب عنها تداعيات سياسية واقتصادية لكلا الطرفين، فالانسحاب يتعلق بمجموعة من العوامل والضوابط التي تتحكم فيه والتي تتمثل في مدى تجذر العلاقة بين الدولة العضو والتكتل الإقليمي ويمكن قياسها بالمدى الزمني لعلاقة الارتباط، ومستوى الثقل الذي تتمتع به هذه الدولة من خلال التزاماتها ومساهماتها في التكتل سياسيًا واقتصاديًا، ومستوى الامتيازات التي تحصل عليها مقابل عضويتها في التكتل. ونشير هنا إلى أن هذا الإشكال يحصل حتى وإن كان ثقل الدولة العضو الراغبة في الانسحاب ضعيفًا من خلال التزاماتها ومساهماتها الاقتصادية والسياسية في التكتل، كون أن انسحابها يخضع إلى اتفاق بينها وبين التكتل ممّا يتيح لها إمكانية الانسحاب بأخف الأضرار وبامتيازات يوفرها لها، وهذا ما يشكل عبئًا على التكتل وإشكالاً بحد ذاته. لأن أي دولة عضو تقرر الانسحاب من التكتل تحاول الوصول إلى اتفاق يضمن لها معاملة خاصة أو أفضلية في المعاملة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والسياسية والأمنية.

الاتحاد الأوروبي – بريطانيا ...تاريخ من التعارض في التوجهات والرؤى

الإتحاد الأوروبي من التكتلات الإقليمية التي تعتبر نموذجًا في العصر الحديث، وهو من أكبر التكتلات ذات الطابع الاقتصادي وأكثرها تطورًا ، فقد مرّ بمراحل تطور التكتلات الاقتصادية إلى أن وصل إلى الاتحاد النقدي، وماتزال تفاعلات الاندماج والتكامل في أوجها ولم تصل بعد إلى غايتها المرجوة، وهو يضم مجموعة معتبرة من الدول تختلف شعوبها لغة وثقافة وتاريخًا وقومية؛ إلا أنه يجمعها الجوار والتحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها على الصعيد العالمي، ويعتبر نتاج الجهود المبذولة طيلة نصف قرن من الزمن، ونتيجة لعدة مبادرة وقّعت (بلجيكا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، لوكسومبورغ) معاهدة إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951م، وانبثقت عنها معاهدتين جديدتين في روما عام 1957م، تتعلق الأولى بإنشاء الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية، وتتمثل الثانية في تأسيس الجماعة الاقتصادية الأوروبية التي تطورت لتصبح السوق الأوروبية المشتركة، وتوالى في ما بعد انضمام الدول الأوروبية إلى السوق، وفي عام 1986م، تم الاتفاق على القانون الأوروبي الموحد الذي أدى في ما بعد إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي، ولقد جاءت معاهدة "ماستريخت" عام 1992م، بتعديلات جوهرية على معاهدة "روما" من خلال التحرير الكامل لحركة السلع والخدمات، وإلغاء كافة الحواجز بين الأعضاء، والاتفاق على الوحدة النقدية الكاملة، ودخلت بنود المعاهدة حيز التنفيذ عام 1994م، ليبدأ عهد الاتحاد الأوروبي الذي يضم 12 دولة بتعداد سكاني يفوق 380 مليون نسمة، وبمساهمة في الاقتصاد العالمي بنسبة 25%، وبمبادلات تجارية بين أعضائه بلغت 70%. وفي عام 1995م، أصبح يضم 15 دولة، وبعدها في عام 2004 م، شهد أكبر عملية توسع بانضمام 10 دول جديدة فساهم ذلك بزيادة في عدد سكانه إلى أكثر من 450 مليون نسمة، كما شهد عام 2013 م، انضمام كرواتيا ليصل عدد أعضائه إلى 28 دولة.

تميزت العلاقة البريطانية -الأوروبية قبل الاستفتاء البريطاني على مغادرة الاتحاد الأوروبي، بحالة يمكن وصفها بـ "عدم الارتياح المتبادل"، القائمة على تاريخٍ طويلٍ من عدم الثقة، وعدم الانسجام في التوجهات والرؤى بين بريطانيا والجماعة الأوروبية، وبخاصة مع الدولتين الكبيرتين في الاتحاد؛ ألمانيا وفرنسا. ولم تكن بريطانيا متحمسة يومًا لعملية التكامل والاندماج الأوروبي؛ إذ لم تكن بين الدول الست التي وقعت على اتفاقية روما لتأسيس المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1957م، (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ)، بل نأت بنفسها عنها، وتأخر انضمامها حتى عام 1973م، بعد أن عارضت فرنسا طلب انتسابها مرتين. وقد كان طلب انضمامها أمرًا حتميًا نتيجة الانهيار الاقتصادي والسياسي الذي كانت تعاني منه بعد الحرب العالمية الثانية.

كما عرقل الموقف البريطاني استكمال الاندماج الأوروبي مرات، ولطالما اعتبرت بريطانيا نفسها، دولةً أطلسيةً أكثر منها أوروبية، متخذة سياسة اقتصادية وخارجية أكثر قربًا من أمريكا. لكن ذلك لم يمنعها من التطلع لتحقيق مصالح كبرى من خلال الانضمام للنادي الأوروبي من ناحية، والاستمرار في دورها التاريخي لمنع هيمنة فرنسية -ألمانية مشتركة على القرار الأوروبي، من ناحية أخرى. وقد كانت دائما ما تحمل توجهات ورؤى معاكسة لأفكار المجموعة الأوروبية منطلقة من نظرتها التشاؤمية حول أهمية ونجاعة البناء الأوروبي.

وكان الرئيس الفرنسي" شارل ديغول" قد تنبأ بكراهية بريطانبا للمجموعة الأوروبية قبل انضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة حين قال إن بريطانيا تحمل كراهية للكيانات الأوروبية، وحذر الدول الأوروبية آنذاك من فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة، معتبرًا عضويتها ستؤدي إلى تحطيم السوق. وتكمن مشكلة بريطانيا في أنها تريد أن تكون جزءًا من أوروبا من دون أن تكون عضوًا حقيقيا فيها، والدليل عدم قبولها الانخراط في مشاريع أوروبية عديدة من أهمها عدم دخولها في في نظام تأشيرات الدخول لأوروبا " شنغن"، ولم تتبنّ العملة النقدية الموحدة "اليورو" وأبقت التعامل بعملتها " الجنيه الإسترليني".

حصلت عام 2012 م، على إعفاء من الاتفاق المالي الأوروبي بعد اعتراضها على البند الثالث الذي يتيح للمحكمة الأوروبية صلاحية مراقبة الموازنات المحلية، وفرض عقوبات على كل دولة ترفض تطبيق قواعد الميزانية المتوازنة. إضافة إلى الوضع المتميز الذي تتمتع به داخل الاتحاد بموجب أربعة استثناءات من قوانين الاتحاد وهي: ميثاق الحقوق الأساسية، السياسة النقدية والاقتصادية بموجب البروتوكول 25 من اتفاقية ماستريخت، الحرية والأمن والعدالة بموجب بروتوكول 36 من معاهدة لشبونة، والاستثناء الأهم من بند حرية تنقل الأشخاص في منطقة الشنغن بموجب بروتوكول 19 من معاهدة لشبونة.

ولبى الاتحاد الأوروبي عام 2016م، مطالب أخرى لبريطانيا بغرض التأثير على الشعب البريطاني للتصويت ببقاء دولتهم في الاتحاد، تمثلت في عدم إلزام بريطانيا باندماج سياسي أوروبي أبعد مما يتيحه الوضع القائم، وتقييد حصول المهاجرين من دول الاتحاد على إعانات اجتماعية خلال الــ 4 سنوات الأولى من إقامتهم، والأهم منح البرلمانات الوطنية مزيدًا من السلطة في الاعتراض على تشريعات بروكسل في حال رفض 55% من أعضاء البرلمانات الوطنية إقرار التشريع.

الانسحاب البريطاني المنفرد...الأسباب والتداعيات

منذ التوقيع على اتفاقية ماستريخت المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي عام 1992م، تعالت في بريطانيا أصواتٌ تتساءل عن مستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من الضغوط التي مورست على رؤساء الحكومات البريطانية المتعاقبين خلال العقدين الماضيين لتنظيم استفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد، فإنّ أحدًا لم يرضخ لهذا الطلب. ووقع التحول الجوهري عندما عاد المحافظون إلى الحكم بعد غياب استمر 13 عامًا، إذ طرحت حكومة رئيس الوزراء الجديد حينها، "ديفيد كاميرون"، في عام 2010م، فكرة الاستفتاء المعطّل، فقد وعد بأنّ أية اتفاقية أوروبية تعطي سلطات أكبر لبروكسل على حساب الدول الأعضاء يجب أن يتم التصديق عليها من خلال التصويت أو استفتاء شعبي. ومع بداية عام 2013م، ذهب كاميرون خطوة أبعد عندما أعلن عزم حكومته إجراء استفتاء على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي.

أدلى البريطانيون في 23 يونيو 2016م، بأصواتهم حول عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي في استفتاءٍ دعا إليه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. وشارك في الاستفتاء 46,501,241 مليون ناخب، وجاءت نتائج التصويت لمصلحة خيار الخروج بنسبة 51.9% (17,410,742 مليون) مقابل 48.1% (16,141,241 مليون) لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي. وقد لوحظ من خلال دراسة السلوك التصويتي للبريطانيين وجود انقسامٍ بين الشباب الذين صوتوا للبقاء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 73% في الفئة العمرية (18-42 سنة) وبين الفئة العمرية الأكبر سنًا (55-64 سنة) التي صوتت للخروج بنسبة 57%.

لبريطانيا عدة أسباب دفعتها لاتخاذ مثل هذا القرار رغم ما يسببه من تداعيات على مكانتها الاقتصادية والسياسية تتمثل في: التخلص من عبء المهاجرين واللاجئين؛ إذ يكاد يصل عدد المهاجرين في بريطانيا إلى مليون مهاجر وهو ما يشكل عبئًا اقتصاديا وخطرًا على أمنها، والتأثير على النسيج الاجتماعي للمجتمع البريطاني، وترى بريطانيا أن تدفق المهاجرين سببه القوانين المتساهلة للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك التكاليف المالية الكبيرة التي تقع على عاتقها كعضو في الاتحاد والتي تقدر بنحو 200 مليار جنيه استرليني وهو ما يمثل 11% من إجمالي الناتج المحلي لها، ومن بين الأسباب أيضًا تخوفها من تراجع دورها ومكانتها من خلال ملاحظتها استئثار دول منطقة اليورو على مقاليد اتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أسباب أخرى لا تقل أهمية، ولقد أثارت نتائج الاستفتاء حالةً من الذعر في الأوساط المالية والسياسية الأوروبية والعالمية، كما مثلت تحديًا لعملية التكامل والاندماج الأوروبي، وهدّدت بتداعياتٍ سياسية واقتصادية ومالية كبيرة على بريطانيا، وعلى الاتحاد الأوروبي الذي فقد عضوية دولة أساسية فيه. وطُرحت أسئلةٌ حول شكل العلاقة المستقبلية التي ستربط ثاني اقتصاد في القارة الأوروبية وخامس اقتصاد في العالم بالاتحاد الأوروبي، وتأثير خروجه في مستقبل الاتحاد وقدرته على الاستمرار، بعد أن أخذت أصواتٌ تتعالى في دول أوروبية أخرى تطالب بالاستفتاء مثل البريطانيين.

إن الحديث عن إشكالية الإرادة المنفردة للانسحاب من التكتلات الإقليمية ينسجم بدرجة كبيرة مع الحالة البريطانية، كون أن هذا الإنسحاب ومهما كانت أسبابه بالنسبة للجانب البريطاني سيحدث حسب المراقبين إشكالات كبيرة وعديدة لكلا الطرفين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، نظرًا لما تمثله بريطانيا من ثقل في المعادلة الأوروبية باعتبارها قوة اقتصادية وعسكرية ونووية، ولقد أجبرت المادة 50 من معاهدة لشبونة الاتحاد الأوروبي على التفاوض مع العضو المنسحب إراديا، وهذا ما شكل إشكالاً عن محتوى الاتفاقية التي ستنجم عن مفاوضات الانسحاب، وعن نوعية العلاقة المستقبلية بين الكيانين، بما أن الدولة التي كانت عضوًا وانسحبت بإرادة منفردة يحق لها البحث عن اتفاقية للخروج تحاول من خلالها الاستفادة من معاملة تفضيلية لما تتموقع خارج الاتحاد حتى لا تحدث القطيعة الكاملة مع الكيان الذي كانت تنتمي إليه، والذي على إثرها سوف تخسر الكثير من الامتيازات التي كانت تحصل عليها كعضو، وبالتالي إمكانية تأثير ذلك على وضعيتها الاقتصادية المحلية ومكانتها السياسية.

يمكن إظهار هذا الإشكال من خلال جملة من التداعيات التي ستنجر عن هذا الانسحاب والتي تؤثر سلبا على كلا الطرفين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.

فمن الجانب البريطاني؛ بغض النظر عن الإيجابيات التي سيمنحها لها الانسحاب من الاتحاد من استرجاع جزء من سلطة القرار الاقتصادي والسياسي بوجه خاص وتحررها من الالتزامات المفروضة بحكم العضوية، فإن انسحابها لا يخلو من مجموعة من الإشكالات التي ستلاقيها خصوصًا إذا ما تم الخروج من دون التوصل إلى اتفاق مبرم بينها وبين المجموعة الأوروبية؛ فقد تحصل هجرة واسعة لرؤوس الأموال وعزوف عن الاستثمار في قطاع العقارات والخدمات في لندن وبذلك انتقال العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي من لندن إلى باريس أو لوكسومبورغ أو إلى فرانكفورت؛ حيث مقر البنك المركزي الأوروبي، فضلًا عن مسارعة وكالات التصنيف العالمية إلى إعادة النظر في التصنيف الائتماني السيادي لبريطانيا. ويمكن توقّع التأثير السلبي المحتمل في الاقتصاد البريطاني نتيجة قرار الخروج أكثر إذا علمنا أنّ الاتحاد الأوروبي يعد الشريك التجاري الأول لبريطانيا؛ إذ بلغت صادرات المملكة المتحدة إليه في عام 2015م، ما نسبته 44%من إجمالي صادراتها، علمًا أن الميزان التجاري بين الطرفين يميل لمصلحة الاتحاد الأوروبي، ولا يبدو أنّ ثمة مصلحة له بالتنازل عن ذلك حتى بعد الانفصال.وحسب تقرير حكومي بريطاني فإن الناتج القومي الإجمالي سينخفض بنسبة 6,6% بعد الانسحاب بحلول سنة 2030م، مقارنة بارتفاعه بنسبة تتراوح ما بين 3,4%-4,4% خلال نفس الفترة عند استمرار بريطانيا في الاتحاد. كما سيمس ذلك تراجعًا في قيمة الجنيه الاسترليني.

ومن المتوقع أيضًا تداعيات كبيرة متعلقة بحُرّية تنقّل الرعايا البريطانيين داخل الاتحاد الأوروبي؛ إذ هناك نحو 1.26 مليون بريطاني يعيشون في دول أوروبية بينها إسبانيا (381 ألفًا) وإيرلندا (253 ألفًا) وفرنسا (172 ألفًا) وألمانيا (96.9 ألفًا) وإيطاليا (72.23 ألفًا). كما كانت عضوية الاتحاد الأوروبي تمكّن المواطن البريطاني من التنقّل بحرية والعمل داخل دول الاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى تصريحٍ خاص، أما بعد الانسحاب فسوف يحتاج إلى تأشيرة دخولٍ لدول الاتحاد. وفضلًا عن ذلك هناك تساؤلات حول مصير عددٍ كبيرٍ من الموظفين البريطانيين الذين يعملون في مؤسسات أوروبية، وعلى وجه الخصوص في بروكسل.

كما قد يقود خروج بريطانيا إلى تعقيد العلاقة مع جيرانها، فقد تقوم إسبانيا بإغلاق حدودها مع جبل طارق الذي تبلغ مساحته 6 كيلومترات، والملتصق بإقليم الأندلس حيث يعيش 33 ألف بريطاني. وفي الشمال يمكن أن يؤدي ذلك إلى إقامة حدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا؛ ما يؤثر في حركة الأفراد. وقد بدأت الشكوك تتنامى حول مستقبل المملكة المتحدة وقدرتها على البقاء دولة موحدة بعد أن تعالت أصوات تطالب بإعادة طرح مسألة استقلال إسكتلندا؛ إذ يسعى دعاة استقلالها إلى بقائها عضوًا في الاتحاد الأوروبي. وقد جاء التوجه هذا عبر رئيسة وزراء إسكتلندا التي رأت أنّ تنظيم استفتاء جديد حول استقلال إسكتلندا بات مرجحًا جدًا، لأنها لا تريد أن يصبح الإسكتلنديون خارج الاتحاد الأوروبي رغمًا عنهم بوصف أكثريتهم صوتت لمصلحة البقاء فيه.

أما من جانب الاتحاد الأوروبي فتداعيات الانسحاب لا يستهان بها كذلك، فالخروج البريطاني سيفقد الاتحاد الأوروبي 12.5% من سكانه وقرابة 15% من قوة اقتصاده، كما أنه سوف يخسر قوة عسكرية ذات تأثير مهم في الأمن الأوروبي. وفيما يتعلق بعملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، فإنّ خروج بريطانيا سوف يستدعي إعادة النظر في آليات اتخاذ القرار داخل مؤسسات الاتحاد؛ إذ نّ خروجها سيؤدي إلى فقدان 29 من الأصوات في مجلس الوزراء الأوروبي و 73 مقعدًا في البرلمان الأوروبي (8.5%من الوزن النسبي للتصويت)؛ ما يتطلب إعادة تحديد الحد الأدنى للأغلبية المؤهلة، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى تغيّرٍ في توازن القوى لمصلحة الدول الكبرى التي تمتلك تمثيلًا أكبر في مؤسسات الاتحاد في عملية صنع القرار الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا(.

كما أنّ غياب بريطانيا كدولةٍ غير عضو في منطقة اليورو سيغيّر من طبيعة العلاقة بين أعضاء منطقة اليورو (19 دولة) والدول الأوروبية غير الأعضاء في منطقة اليورو (8 دول) لمصلحة التركيز أكثر على منطقة اليورو بوصفها محركًا لمزيد من الاندماج الأوروبي في المستقبل.

ومن الناحية الإستراتيجية، سيؤدي خروج بريطانيا إلى زيادة الضغوط على المحور الألماني -الفرنسي لزيادة إنفاقهما العسكري بهدف احتواء تأثير الغياب البريطاني على السياسية الدفاعية والأمنية الأوروبية. كما تتنامى الخشية الأوروبية من انتشار عدوى الاستفتاءات في أوروبا بما يدفع الأحزاب اليمينية إلى المطالبة بأن تحذو حذو بريطانيا، وبخاصة في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية (اليونان، إسبانيا، المجر، إيطاليا). إنّ هذا الأمر سيهدد عملية التكامل برمتها ويفاقم من حدة الشكوك حول قدرة الاتحاد على الصمود.

بفعل الإشكالات الكبيرة التي تبدو جلية في العلاقة بين العضو والمجموعة، بين الجزء الكل، فإن الصعوبة لم تعد قاصرة على محاولات انضمام العضو إلى المجموعة من خلال الشروط التي تفرضها المجموعة والالتزامات الواجب التقيد بها، بل تعدت حتى لما يريد العضو بإرادة منفردة الانفصال عن المجموعة والانسحاب من التكتل الذي انضم إليه بإرادته؛ إذ أن فترة العلاقة بين العضو المنسحب والتكتل والآثار المترتبة عن هذه العلاقة لا يمكن محوها بسهولة خاصة إذا ترتبت عنها مكاسب وامتيازات متبادلة لكلا الطرفين، وبالتالي أصبح الانسحاب إشكالا يفرض على الطرفين إيجاد الصيغة المثلى لتفادي القطيعة التامة التي يمكن أن تتسبب في خسائر لكلا الطرفين، وخاصة للعضو المنسحب الذي تجده ورغم قراره الانفرادي يبحث عن علاقة خاصة ومعاملة تفضيلية قصد الإبقاء على بعض الامتيارات التي كان يحصلها من التكتل وتفادي الإضرار بمصالحه المحلية بفعل قرار الانسحاب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ محاضر بكلية العلوم الاقتصادية والعلوم التجارية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر3، الجزائر.

المراجع:

- هيبة غربي، تداعيات الانسحاب البريطاني على المسألة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، 2018.

- مركز الإمارات للسياسات-وحدة الدراسات الأوروبية-، التداعيات المتوقعة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أبو ظبي، 2016.

- نصر محمد علي، خروج بريطانيا والمشاكل العميقة في الاتحاد الأوروبي، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، 2016. من الموقع:https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/6885

- عبد الوهاب رميدي، التكتلات الاقتصادية الإقليمية في عصر العولمة وتفعيل التكامل الاقتصادي في الدول النامية، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة الجزائر، الجزائر، 2007.

- آسيا الوافي، التكتلات الاقتصادية الإقليمية وحرية التجارة في إطار المنظمة العالمية للتجارة، كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير، جامعة باتنة، الجزائر، 2007.

- Abdallah NEGADI, The European Union and the United Kingdom’s Withdrawal, University of Tlemcen, Algiers, 2017.

- European Movement International, The consequences of a British exit from the European Union. www.europeanmovement.eu/policies.

 

 

مقالات لنفس الكاتب