تعد العلاقات الأوروبية ـ الإيرانية من القضايا الشائكة بين أوروبا وحليفهم الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية، ودائمًا ما كانت من نقاط الخلاف الرئيسية بينهم؛ حيث ترى واشنطن أن ذلك يخل باستراتيجيتها لاحتواء إيران والضغط على قيادها لإجبارها على تنفيذ المطالب الأمريكية، إلا أن أوروبا دائمًا ما كانت ترى أن السوق الإيراني يمكن أن يحتوي استثمارات كبيرة خاصة في مجال الغاز والنفط؛ ما يساعدها على التحرر من الهيمنة الروسية على الطاقة، ومن ثم فقد سعى الاتحاد الأوروبي خاصة دولتيه الكبرتين فرنسا وألمانيا إضافة إلى بريطانيا إلى التمسك بالاتفاق النووي الإيراني، والعمل على إنقاذه قدر الإمكان ومواجهة السياسة الأمريكية التي أضرت بشركاتهم داخل السوق الإيراني، خاصة مع الرفض الأمريكي لإعطاء أية استثناءات من العقوبات الأمريكية على أي شركة تتعامل مع النظام الإيراني.
ومن هذا المنطلق فإننا سنتناول الدور الأوروبي في وضع الاتفاق النووي، وحجم العلاقات الاقتصادية ما بينه وبين إيران قبل وبعد الاتفاق، إلى جانب مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على الاتفاق، وتأثير ذلك على الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، مع تقديم رؤية استشرافية لمستقبل موقف الاتحاد الأوروبي من الاتفاق ومدى إمكانية استمرار دول الاتحاد في الاتفاق النووي.
وبالفعل وقعت إيران في عام 2003م، على البروتوكول الإضافي الخاص بمعاهدة الحد من الانتشار النووي الصادر عام 1997م، إلا أن تصرفاتها اللاحقة دفعت الوكالة للقول بأن إيران قد انتهكت التزاماتها في معاهدة الحد من الانتشار النووي؛ ما دفع الوكالة لنقل ملف البرنامج النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي عام 2006م؛ ليصدر المجلس في ديسمبر من العام نفسه أول قرار دولي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران نتيجة لبرنامجها النووي، كما قام الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات إضافية على إيران سعيًا لإجبارها على الامتثال للقرارات الدولية؛ خاصة مع تأكيد الوكالة أن نسبة تخصيب اليورانيوم الإيراني قد وصلت إلى 20% وليس إلى 3.5% فقط كما كانت تقول طهران.
ورغم ذلك استمرت إيران على سياساتها الرافضة لطلبات الغرب؛ ما دفع دول الاتحاد الأوروبي الكبرى بالتعاون مع الولايات المتحدة، لأن تفرض عقوبات كانت هي الأشد على إيران واقتصادها وذلك في عام 2012م؛ عندما فُرضت عقوبات على البنك المركزي الإيراني وعائداته من النفط؛ كما تم الحظر على بنوك العالم على استكمال المعاملات النفطية مع إيران باستثناء بعض دول آسيا بشرط تقليصها لوارداتها من النفط الإيراني، لم يقف الأمر عند هذا الحد فأعلن الاتحاد الأوروبي مقاطعته للنفط الإيراني، إلى جانب فرضه عقوبات على البنوك والتجارة مع إيران مع تجميد أصول أفراد يمدون إيران بالتقنيات النووية.
وبالطبع بسبب الموقف الحازم من الجماعة الدولية خاصة دول الاتحاد الأوروبي التي ساهمت بنحو نصف الضرر التي مُنى به الاقتصاد الإيراني خاصة في مجال النفط، اضطرت إيران إلى الدخول في مفاوضات مع الجانب الأوروبي بشكل رئيسي تلك المفاوضات التي أدت إلى الاتفاق الإطاري في جنيف في نوفمبر عام 2013م، بحضور الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى جانب الدول الأوروبية الكبرى الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وقد نصت الاتفاقية على عدم تخصيب اليورانيوم بنسبة أكبر من 5% في مقابل الإفراج عن نحو 700 مليون دولار شهريًا من البنوك الغربية، وعلى الرغم من التأجيلات المتتالية لدخول الاتفاق حيز النفاذ، إلا أنه وُقع بالفعل في يوليو 2015م، لتنتهي صفحة البرنامج النووي الإيراني مؤقتًا، ومع العام التالي أعلنت وكالة الطاقة الذرية التزام طهران بالاتفاق وبنوده؛ ما أدى إلى رفع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لعقوباتهما عن طهران.
ونلاحظ الحكمة الأوروبية في التعامل مع الملف النووي الإيراني؛ فبعكس الآراء التي سادت بعض أجنحة السلطة في الولايات المتحدة وإسرائيل التي طالبت بحل عسكري للأزمة كما حدث مع العراق من قبل؛ رأت دول الاتحاد أن سياسة العصا والجزرة هي الأفضل والتي ستمكن الجماعة الدولية على تحقيق هدفها؛ وتطبيقًا لذلك فقد بدأت أوروبا سياساتها تجاه الملف النووي الإيراني بالتفاوض والزيارات المباشرة ونجحوا في سبيل ذلك بإقناع إيران على الانضمام للملحق الإضافي التابع لمعاهدة الحد من الانتشار النووي، في مقابل اعترافهم بحق إيران في استغلال الطاقة النووية لأغراض سلمية، ولما لم تؤد تلك الخطوة إلى المطلوب واستمرار العناد الإيراني اتجهت دول أوروبا الكبرى بالتنسيق مع الولايات المتحدة بفرض عقوبات صارمة على الاقتصاد الإيراني ونجحوا في إقناع دول آسيا بتنفيذ تلك العقوبات مع استثناءات لهم كحافز على الالتزام بتلك العقوبات حتى تحقق المطلوب منها، وبالفعل نجحت الدبلوماسية الأوروبية فيما سعت إليه؛ فبعد سنة واحدة من العقوبات بدأت إيران تقدم التنازلات وتطلب من الدول الكبرى رفع العقوبات والعودة إلى طاولة المفاوضات، وهنا أيضًا نجحت الدبلوماسية الأوروبية في إجبار إيران على العودة للمفاوضات دون أن ترفع العقوبات؛ نظرًا لأن إيران كانت الطرف الأضعف في مواجهة تلك الدول التي كانت تشكل معظم شركائها التجاريين في تلك الفترة، وبالفعل توصل الطرفان في النهاية إلى اتفاق جنيف الإطاري الذي تحول لاحقًا في 15 يوليو 2015م إلى الاتفاق النووي الشهير والذي حاز على الإجماع الدولي بموافقة كل القوى الكبرى عليه، إلا أنه في المقابل فقد تسببت الدبلوماسية الأوروبية في بعض الضرر للمصالح الاقتصادية لدول أوروبا لدى طهران؛ حيث أن الموقف الأوروبي دفع بإيران لأن تذهب إلى الشرق الذي استغل الفرصة وبدأ في توسعة علاقاته الاقتصادية مع إيران مستغلاً الانسحاب الأوروبي الأمريكي من السوق الإيراني، وهو ما سينعكس لاحقًا على العلاقات التجارية الإيرانية مع دول العالم؛ كما سينعكس على العقوبات الأمريكية الجديدة على طهران، وهو ما سيدفعنا لمناقشة العلاقات الأوروبية الإيرانية وبخاصة الدول الأوروبية الكبرى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وعلاقتهم مع إيران ما بعد الاتفاق النووي الإيراني، علاوة على موقفهم من الاتفاق النووي.
العلاقات الأوروبية الإيرانية ما بعد الاتفاق النووي
العلاقات البريطانية الإيرانية
تمتد العلاقات الإيرانية البريطانية إلى العصور الوسطى منذ عهد الملك البريطاني إدوارد السادس أي إلى عهد وجود الدولة الصفوية، وقد لعبت بريطانيا دورًا في تحديث الجيش الصفوي، وقد سعت بريطانيا للتقارب مع الصفويين بسبب سيطرتهم على الهند درة التاج البريطاني ومن ثم كان من الضروري تأمين علاقات متينة مع الصفويين حتى لا تتهدد مصالح البريطانيين في الهند، وقد استمرت العلاقات على هذا المنوال حتى وصول أحمدي نجاد إلى السلطة في إيران، وهو ما دمر العلاقات مرة أخرى، واضطرت بريطانيا لأن تسير مع النهج الدولي لفرض عقوبات على إيران على إثر برنامجها النووي، وقد استمرت تلك العلاقات المتوترة ليس فقط مع بريطانيا وإنما مع الغرب كله حتى وصول القيادة الإصلاحية الحالية بزعامة حسن روحاني إلى السلطة عام 2013م.
وكالعادة بدأت العلاقات بين الدولتين في التحسن من جديد؛ فقامت بريطانيا برفع عقوباتها على إيران بعد توقيع الاتفاق في يناير 2016م وقامت بتشجيع المستثمرين على الاستثمار في إيران بهدف توسيع العلاقات التجارية ما بين البلدين، ولكن رغم ذلك فإن حجم التبادل التجاري بين الدولتين لم يتخط حاجز الـ 2%، وذلك على الرغم من الدعوات المتتالية من الجانبين لتوسيع قاعدة علاقاتهما الاقتصادية.
من جانب آخر فإن الموقف البريطاني من الاتفاق الأوروبي يصب في اتجاه الحفاظ عليه وهو الموقف المتوافق مع باقي الدول الكبرى باستثناء الولايات المتحدة بالطبع؛ فترى بريطانيا أن الاتفاق النووي يعد أفضل اتفاق تم التوصل إليه مع طهران، خاصة وأن الأخيرة التزمت به بحسب تصريحات وكالة الطاقة الذرية الدولية، كذلك نلاحظ أيضًا أن ردود الأفعال البريطانية على الاحتجاجات الإيرانية تتسم بالهدوء والتريث ليس كما تفعل الولايات المتحدة التي تحرض بقوة ضد النظام الإيراني وتؤيد المتظاهرين، لكن الحال مختلف بالنسبة لبريطانيا التي تلتزم الصمت حتى الآن، ولكن ذلك لا يعني أن العلاقات ما بين الدولتين هي علاقات ممتازة ما بعد الاتفاق؛ فلا تزال بريطانيا مبقية على عقوبات على طهران تتعلق بحقوق الإنسان، كما ما زالت تندد بالأنشطة العسكرية الإيرانية في المنطقة خاصة النشاطات الصاروخية والتي قامت بريطانيا على إثرها باتهام إيران بلعب دور مخرب في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما دفع المرشد الإيراني لوصف بريطانيا بالدولة الخبيثة.
العلاقات الفرنسية الإيرانية:
كانت فرنسا من ضمن أبرز شركاء إيران التجاريين ما قبل العقوبات على نحو ما أوضحنا وكانت شركاتها قد بدأت في الاستثمار في الداخل الإيراني، وكانت العقوبات الدولية التي فرضت على إيران والتزمت بها فرنسا كارثة على الاقتصاد الفرنسي؛ حيث تقلصت المبادلات التجارية ما بين فرنسا وإيران من 4 مليار يورو عام 2004م، إلى 500 مليون يورو فقط عام 2013م، أي بعد عام واحد فقط من العقوبات الدولية على إيران، وهو ما يفسر التسارع الفرنسي لمد نفوذها الاقتصادي إلى الداخل الاقتصادي ما بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015م.
وعلى الرغم من تمسك باريس بالاتفاق النووي ورفضها الانسحاب منه، إلا أنها تتوافق مع وجهة نظر واشنطن في أن طهران كانت هي المستفيدة من هذا الاتفاق وأنها عملت على تعزيز قدراتها العسكرية والسياسية بشكل ضخم وملحوظ، كما تتفق الدولتان أيضًا على ضرورة فرض قيود صارمة على البرنامج الصاروخي الإيراني وضرورة تقليص الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة بل إن فرنسا تتجاوز الموقف الأوروبي وترى وجود إمكانية لفرض عقوبات اقتصادية على طهران في حالة رفض إيران التجاوب مع الطلبات الفرنسية بتحجيم برنامجها الصاروخي والذي ترى أنه تطور بشكل كبير والصواريخ التي يتم إطلاقها على المملكة العربية السعودية أكبر دليل على ذلك، خاصة وأن الحوثيين لا يملكون القدرة على إنتاج مثل تلك الصواريخ، وهو ما يوضح مدى توتر تلك العلاقات بين الدولتين على الرغم من ذلك الازدهار الاقتصادي المؤقت الذي دمره قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية بما في ذلك فرض حزمة العقوبات الثانية على قطاع الطاقة الإيراني.
وفي حقيقة الأمر فإن الدبلوماسية الفرنسية تعاني معضلة حقيقية تجاه علاقاتها مع إيران؛ فهي من جهة ترغب في الحفاظ على فرصها الاستثمارية لدى السوق الإيرانية لدعم اقتصادها الذي لايزال يواجه أزمات متتالية، وعلى الجانب الآخر فهي ترغب في تقليص النفوذ الإيراني ورغبة طهران في الهيمنة على المنطقة وتطويرها لبرنامجها الصاروخي وتسببها في نشر القلاقل في المنطقة؛ ما يعني اختصارًا رغبة فرنسية في انتقاد وتعديل سلوك طهران بفرض العقوبات إذا لزم الأمر لكن دون أن يؤثر ذلك على مصالحها الاقتصادية لدى طهران.
ý العلاقات الألمانية الإيرانية:
تمتعت ألمانيا بعلاقات استثنائية جدًا مع إيران منذ تاريخ الدولة الألمانية الموحدة تقريبًا؛ وفيما يخص العلاقات الإيرانية الألمانية الحالية فإن الموقف الألماني من البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية لإيران في المنطقة لا يختلف عن موقف باقي دول الاتحاد الأوروبي وبالتحديد فرنسا وبريطانيا وإن كانت أكثر قربًا من الموقف الفرنسي؛ حيث تطالب بإجراء محادثات واسعة مع إيران حول برنامجها الصاروخي المثير للجدل.
وفي حقيقة الأمر فإن مواقف الدول الثلاث متشابهة إلى حد كبير؛ فهم متمسكون بالاتفاق النووي ورافضون للانسحاب منه على اعتبار أن إيران لم تخالف الاتفاق وإنما ينبغي بحث قضية البرنامج الصاروخي غير النووي في محادثات منفصلة وتتشدد فرنسا في ذلك إلى حد اقتراح فرض عقوبات اقتصادية على إيران حال عدم امتثالها، ولكن ترى الولايات المتحدة أن التصرفات الإيرانية تعد انتهاجًا لروح الاتفاق النووي ذاته، وهو ما يُعد سبب الخلاف الرئيسي ما بين وجهتي النظر الأوروبية والأمريكية، ولكن كلاهما يتفق تمامًا حول خطورة إيران الإقليمية وخطرها على استقرار المنطقة، علاوة على خطورة برنامجها النووي المثير للجدل، أيضًا تتفق الأطراف الأوروبية حول خيبة أملهم من الاستثمارات في السوق الإيرانية؛ فقبل تطبيق العقوبات كانت الدول الثلاث أهم شريك تجاري لدى طهران، ولكن مع تطبيق العقوبات ثم رفعها بالاتفاق اكتشفت الدول الثلاث أن السوق الإيراني صار تحت الهيمنة الصينية الهندية الروسية، ولم يعد هناك إمكانية للعودة السريعة للشركات الأوروبية إلى السوق الإيراني.
رؤية مستقبلية حول تمسك الاتحاد الأوروبي بالاتفاق النووي
لايزال القرار الأمريكي الذي اتخذه الرئيس الأمريكي ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي سببًا في توتر الأجواء ما بين أوروبا والولايات المتحدة، وانعكس ذلك على العلاقات الاقتصادية ما بين الطرفين خاصة بين الثلاثة الكبار الذين وقعوا الاتفاق النووي عن أوروبا مع إيران على نحو ما أوضحنا، وهو ما جعل مستقبل الاتفاق النووي مع أوروبا في خطر، ففي ظل الموقف الأمريكي المتعنت فإن أمل أوروبا في جني مكاسب من السوق الإيراني أصبح ضئيلاً للغاية، وفي ظل عدم وجود مصلحة أخرى لدول أوروبا في هذا السياق قد يدفع ذلك بهم للانسحاب من الاتفاق، ومن هنا فإننا سنتناول مستقبل الاتفاق من جهة أوروبا ومدى إمكانية تخلي أوروبا عنه.
الاحتمال الأول: تمسك أوروبا بالاتفاق النووي
يقوم هذا الاحتمال على تمسك أوروبا بالاتفاق النووي بشروطه الحالية واستمرار دعمها لموقف إيران من الاتفاق وتطمينها حتى لا تنسحب منه، ولكن هذا الاحتمال يتطلب من أوروبا أن تحقق مطالب إيران حتى لا تنسحب هي الأخرى من الاتفاق النووي الذي سيكون غير ذي قيمة في هذه الحالة، وتتمثل تلك المطالب في اتخاذ أوروبا إجراءات صارمة تدفع الشركات الأوروبية للعودة مرة أخرى إلى السوق الإيراني وعدم الاهتمام بالتهديدات الأمريكية؛ وهو ما سيتطلب تعويض تلك الشركات عن الخسارة الكبيرة التي ستتعرض لها في حال الانسحاب من السوق الأمريكي الكبير والغني بطبيعة الحال ولا يمكن مقارنته أبدًا بالسوق الإيراني، من حيث الفرص المتاحة والإمكانيات وحجم السكان ومستوى دخلهم المرتفع مقارنة بإيران وسوقها الذي تهيمن عليه الشركات الآسيوية خاصة الصينية، ويعاني شعبها من انخفاض مستويات دخله، هذا إلى جانب قيام أوروبا بتقديم حزمة دعم اقتصادية عاجلة للاقتصاد الإيراني لإنقاذه من الانهيار الذي ينزلق إليه بسرعة بسبب القرارات الأمريكية الأخيرة، علاوة على ضمان أوروبا استمرار تدفق معدلات النفط الإيراني إليها في ظل انسحاب شركات الشحن الأوروبية وكذلك الشركات العامة في مجال اكتشاف وتكرير البترول من أوروبا؛ وبالتالي فإن إيران يبدو أنها قد نجحت في أن تجعل الاتفاق النووي مشكلة أوروبا وليس مشكلتها هي، وهو ما وضح بشدة في تصريحات الرئيس الإيراني الذي قال أن على أوروبا أن تثبت أنها راغبة في الحفاظ على الاتفاق النووي.
أما بالنسبة لاستمرار تدفق النفط الإيراني إلى أوروبا فإن ذلك قد يتم ولكن بتحايلات أوروبية إيرانية على العقوبات الأمريكية، وقد كانت إيران قد صرحت بأنها قد تسمح للشركات الخاصة بتصدير البترول الإيراني للخارج كسبيل للتحايل على تلك العقوبات، كما أنها حاليًا تتبع أسلوب التخفي عبر إطفاء أجهزة الإرسال الخاصة بحاملات النفط الإيرانية إلى أوروبا حتى لا يتم رصدها من قبل أجهزة الملاحة الأمريكية، ولكن على أي حال فإن هذا الاحتمال كما ذكرنا تواجهه العديد من العقبات التي قد تحول دون تحققه وهو ما ينقلنا للاحتمال الثاني.
الاحتمال الثاني: انسحاب أوروبا من الاتفاق
يقوم هذا الاحتمال على الصعوبات التي كنا قد ذكرناها في الاحتمال الأول، فكما أوضحنا ليس لأوروبا مصلحة غير اقتصادية فيما يتعلق بالتعامل مع إيران، وهو ما فسر سرعة اجتياح الشركات الأوروبية للسوق الإيراني عقب رفع العقوبات، إلا أن هذا الاجتياح الأوروبي اصطدم بحائط الصد الآسيوي المدعم من أجهزة الدولة الإيرانية خاصة الحرس الثوري الإيراني الذي يملك إمبراطورية اقتصادية ضخمة في الداخل الإيراني، وهو ما ضرب بالآمال الأوروبية عرض الحائط، وأسفر عن مردود متواضع للتجارة مع إيران؛ ما يجعل الشركات الأوروبية مدركة تمامًا أنها لن تجني أي مكسب إن استمرت في السوق الإيراني في مواجهة القرار الأمريكي؛ فهي لن تدخل في معركة سياسية ليس لها فيها أية مصلحة ولن تجني منها أي شيء سوى الخسارة الضخمة، من جانب آخر فإن الموقف الأوروبي قريب من الموقف الأمريكي فيما يتعلق بالتخوف من النشاطات العسكرية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط.
وإذا أقدمت أوروبا على هذه الخطوة فإنها ستكون بذلك قد كتبت شهادة وفاة وجهة نظرها في التعامل مع الملف النووي الإيراني والتي دافعت عنها منذ ظهور الأزمة وحتى الآن، مفتخرة بأنها تجنبت حرب جديدة في الشرق الأوسط، ولكن يبدو أن هذا التفاخر قد لا يطول طويلاً في ظل الخطط الأمريكية للمنطقة والتي تنذر بمواجهة إقليمية بدعم أمريكي قد يغرق أوروبا بعدد ضخم من اللاجئين كما كان الحال في السابق مع العراق والآن سوريا.
ومن ثم يمكن القول بأن كل تلك الصعوبات التي أوضحناها ستدفع أوروبا للانسحاب من الاتفاق النووي بعد إدراكها تمامًا عدم جدوى تمسكها بهذا الاتفاق؛ ما سيعني ضربة قوية لصورة أوروبا ودولها الثلاث الكبار أمام الجماعة الدولية وسيظهرها بمظهر العاجز عن حماية مصالحها فضلاً عن تحقيقها وسيسهم في مزيد من التراجع لمكانة أوروبا الدولية لصالح الصين وروسيا اللذان يخوضان صراعًا كونيًا مع سيدة النسق الدولي إلى الآن.
الاحتمال الثالث: التوصل إلى اتفاق نووي جديد
يقوم هذا الاحتمال على إقناع أوروبا لإيران لأن تجلس من جديد على طاولة المفاوضات حتى تتوصل إلى اتفاق جديد يؤدي إلى إنهاء تلك الأزمة ورفع الولايات المتحدة العقوبات عنها؛ ما سيمكن الشركات الأوروبية لأن تعود إلى السوق الأوروبي من جديد ربما مع دخول الشركات الأمريكية أيضًا بهدف طرد الشركات الصينية من هناك وخلق مصالح اقتصادية غربية ضخمة في إيران تجبرها على تغيير مسار سياساتها الإقليمية؛ حيث ستكون تابعة للاقتصاد الغربي، ولن يكون من مصلحتها أبدًا معارضة المصالح الغربية في تلك الحالة بطبيعة الحال؛ حيث ستتعرض لخسائر كبيرة، ولكن في مقابل ذلك فإن إيران سيكون عليها التضحية بالكثير والكثير من أجل تحقق هذا الاحتمال؛ فمن حيث المبدأ لن تستطيع القيادة الإصلاحية الإيرانية الحالية أن تقنع المعارضة المحافظة حاليًا بالدخول في مفاوضات واتفاق جديد مع الولايات المتحدة، علاوة على ذلك فإن الشروط الأمريكية لا يمكن أن تقبلها إيران بمحض إرادتها فتلك المطالب ستجعل إيران تتخلى عن كل سياساتها الخارجية تمامًا، فسيتم إنهاء البرنامج الصاروخي الإيراني وإنهاء الدعم لحزب الله وغيره من الميلشيات الشيعية التابعة لها، علاوة على السماح لمفتشي الوكالة بدخول كافة المواقع الإيرانية التي يرغبون في دخولها دون أي تدخل إيراني، مع إيقاف كافة الأنشطة النووية، إلى جانب إيقاف تهديداتها لحلفاء الولايات المتحدة من المنطقة وبالأخص إسرائيل ودول الخليج العربي، وهي أمور لن تقبل بها طهران إلا مرغمة بالتأكيد فهي تمس أساسات سياساتها الخارجية ومشروعها الإقليمي في المنطقة وهو ما لن تقبل به طهران بطبيعة الحال.
وفي الختام فإننا نرى أن الاحتمال الأول هو احتمال صعب التحقق استنادًا لما ذكرناه من صعوبات تقف في وجه أوروبا لإنقاذ الاتفاق النووي الذي عملت كثيرًا لتحقيقه، أما الاحتمال الثاني فهو الأقرب للتحقق على أرض الواقع في ظل الاستفزازات الإيرانية وضعف الموقف الأوروبي وإصرار الولايات المتحدة على عقوباتها وموقفها ضد إيران، إلى جانب إصرار إيران على موقفها أيضًا وعدم تقديم أية تنازلات إلى الآن، أما الاحتمال الأخير فيتوقف على مرونة أطراف النزاع ومدى قدرة الوساطة الأوروبية على إجبار الطرفين على تقديم تنازلات مشتركة بحيث يتم التوصل إلى حل وسط ينهي الأزمة، وفي الأخير فإننا نكون قد عرضنا للموقف الأوروبي ما قبل وما بعد الاتفاق، مع استعراض طبيعة العلاقات لدول أوروبا الكبرى مع إيران خاصة ما بعد الاتفاق ومنها تم استخلاص الموقف الأوروبي من الاتفاق النووي ومصالحه لدى طهران، ثم قدمنا رؤيتنا لمستقبل تمسك أوروبا بالاتفاق النووي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نائب مدير المشروعات الخاصة ـ مكتبة الإسكندرية ـ مدرس العلوم السياسية بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا