تعاني معظم المنطقة العربية بشكل عام من غياب دور المؤسسات الثقافية والمثقفين في التنمية الاقتصادية والمجتمعية، ومعظم المؤسسات الثقافية ما زالت هشة وضعيفة، ولا توجد مواقف مشهودة للمؤسسات الثقافية يمكن أن نعتبرها مساهمة في التنمية باستثناء بعض المؤسسات التي يمكن أن نشير لإسهاماتها في مجال التنمية الاقتصادية والمجتمعية في بلادها، فالأنشطة الثقافية اسم القوة الناعمة، وتُنعَت الدول التي حققت نجاحًا كبيرًا في مجال الأنشطة الثقافية بأنها دول حضارية متقدمة، بل الحضارة نفسها تعرف بأنها مجموعة الأنشطة الثقافية التي تنتشر في مجتمع ما وتشكل وتبلور هويته. وبالتالي فإن دمج التحليــــل الثقافي والتغـــير الثقافي في مزيج عوامل تصمــيم السياســــات والمشروعات قد يؤدي إلى تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية.
ويمكننا أن ننطلق بتجاوز الأدوار التقليدية للمؤسسات الثقافية في المجتمع (مثل: إحياء التراث، تشجيع الحركة الفنية، التعريف بالحركة الثقافية والتراث والقيم، النشر والترجمة والندوات والمحاضرات والمؤتمرات والمهرجانات والمعارض ...الخ)، والبحث في الأدوار غير التقليدية والتي يمكن من خلالها تحقيق تنمية اقتصادية شاملة وتسليط الضوء على أبرز تلك المشروعات في الخليج العربي والتي حققت تغييرًا ملموسًا فيما يخص التنمية الاقتصادية والمجتمعية.
فالمجتمعات وبالأخص العربية عنيدة في المحافظة على بناها التقليدية. غير أن تجارب التغيير يعتمد التغيير الثقافي على المثقفين المتنورين لتأطير مجتمعهم بمؤسسات ثقافية تغرس في الرأي العام فكرة التقدم والعقلانية.
ولا شك أن التوجه إلى الاهتمام بدور الثقافة، كعامل أساسي يؤثر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي بشكل عام وفي منطقة الخليج العربي بشكل خاص، هو توجه صحيح وجدير بالتشجيع.
دور المؤسسة الثقافية في التنمية الاقتصادية:
وهنا نتطرق لمفهوم "ثقافة التنمية" فهي التفاعل المتبادل بين الثقافة والتنمية، وأن العلاقة وثيقة بين الثقافة السائدة في مجتمع ما وبين مستوى نموه وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي. وبعبارة أخرى تتضمن ثقافة التنمية في مضمونها الأعمق القيم والممارسات التي تسود لدى الجماعة، والتي ينعكس أثرها على عملية التنمية دفعًا أو تعويقًا. ولما كانت كل ثقافة تمتلك أنماطًا مستقاة من القيم (التي تعكس معايير السلوك) لذلك يمكن القول بأن هناك أنماط ثقافية تدفع إلى التنمية والتطور، وأنماط أخرى تبعث على الجمود وإعاقة التطور.
فالمفهوم الشامل للتنمية يعني القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية، رفع مستوى المعيشة، الارتقاء بنوعية الحياة، زيادة قدرة المجتمع على الاحتفاظ بذاته ومصالحه وقيمة الجوهرية، من خلال بناء القدرات الذاتية اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا بما يسهم في استمرارية أو استدامة التطور والنمو. وتحقيق الرقي الحضاري من خلال التوعية، والإشارة التنموية بهذا المعنى حق أصيل من حقوق الإنسان.
فمايكل بورتر وهو أحد المنظرين في هذا التخصص يرى أنه بدلاً من التركيز على أن هناك خصائص ثقافية معينة لازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية، هو يرى بأن "الثقافة الاقتصادية العالمية" هي التي ستدفع كل مجتمع نحو الإنتاجية والقيم التي تفضي إلى ثقافة عالمية يطبعها كثير من التجانس. ويعرف الثقافة الاقتصادية بأنها "المعتقدات، والاتجاهات والقيم التي تؤثر على ماله علاقة بالأنشطة الاقتصادية للأفراد، والمنظمات، والمؤسسات الأخرى". وفي رأيه أن الحقبة الأخيرة توضح أن في إمكان الأمم تعديل ثقافتها الاقتصادية وبسرعة في ظل الظروف المناسبة. وأن من الخطر اليوم، وفي ظل اقتصاد عالمي تتوفر فيه إمكانيات الوصول إلى المعرفة والتقنية المتقدمة، الاعتماد الكامل على التفسيرات الشاملة للرخاء الاقتصادي مثل الجغرافيا والمناخ أو القيم الدينية. ونظرًا للتطور الهائل في مجال تدفق المعلومات والانترنت فلقد زادت الإمكانيات أمام المواطنين في العالم كله للتعرف على أنماط السلوك الناجح في أماكن أخرى. وعليه فقد زاد التقارب في الرأي في العالم حول ما يجب القيام به لتحقيق الرخاء الاقتصادي.
ولكن التحرك العملي في طريق التغيير الثقافي لا يخلو من العقبات، فموضوع الثقافة يثير العديد من الإشكاليات والتي قد تدفع البعض إلى محاولة تلاشيه، فقضية الثقافة، مثلاً، يمكن أن تثير حساسيات قبلية وعرقية وشخصية بإثارة أن بعض الثقافات أكثر تفوقًا من غيرها.
وعليه فإنه من الضروري أن يتم دمج التغيير الثقافي في إطار التنظير، والتخطيط، والبرمجة لتحقيق التنمية الاقتصادية، وضرورة استيعاب مبادرات التغيير الثقافي الخارجية بما يتماشى مع الثقافة المحلية.
كما أن التنمية الاجتماعية تكمن في إيصال القيم والرقي إلى الأجيال القادمة والحالية من خلال التوعية لكافة شرائح المجتمع، وأيضًا فتح أفق الإبداع لدى الشباب ومناقشة أفكارهم التي تعاصر المجتمعات المتقدمة وتطوير مواهب ومهارات الشباب وفتح قنوات الاتصال بينهم وبين بعض المسؤولين وجعلهم يشعرون بأن لديهم دور هام في المجتمع وعدم تهميش أي فئة من فئات المجتمع ذلك يعمل على الحراك الاجتماعي.
الأدوار غير التقليدية للمؤسسات الثقافية:
لقد مكّنت العائدات النفطية الثقافة الخليجية بأن تمتلك مؤسسات ثقافية حديثة ومتطورة ومتعددة سواء على المستوى التعليمي أو على المستوى البحثي أو على المستوى الصحفي أو حتى على مستوى النشر.
ولقد سمح لتحسن مستوى المعيشة وانتشار الصحافة الحديثة والتفاعل مع الثقافات العربية والأجنبية الأخرى وتطور تكنولوجيا المعلومات وشبكة الانترنت على ارتفاع المستوى الثقافي لدى المواطنين في منطقة الخليج العربي وظهور إبداعات ثقافية في جميع المجالات. وإذ نرى أن ذلك التطور الثقافي يجب أن يكون له دور في خلق قاعدة اقتصادية حديثة، فعلى الرغم من جميع الإمكانات التي توفرت للثقافة الخليجية المعاصرة وامتلاكها لبنية حديثة ومؤسسات قادرة، إلا أن مازالت تحتاج إلى وضع قوالب جديدة وأفكار غير تقليدية، فالمؤسسة الثقافية داخل الدولة الواحدة غير محدودة النطاق في ظل العولمة، فتطورت أدوار المؤسسات الثقافية داخل الدولة وأصبحت غير تقليدية خصوصًا بعد ما ازدادت قيمة المجتمع المدني في الآونة الأخيرة.
فالتجديد والعمل غير التقليدي لا يعني التغريب وإلغاء الثقافة العربية والإسلامية، ولكنه لا يعني الجمود ورفض التطور أيضًا، فالمطلوب هو أدوار غير تقليدية ناتجة عن تفاعل ثقافي عالمي وقائمة على جهود منظمة ومبرمجة لرفع القدرة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، فعلى سبيل المثال وليس الحصر:
- تأهيل الشباب للالتحاق بسوق العمل من خلال دورات الحرف أو نماذج المحاكاة التي تقام بها تدريبات لعدة مجالات سواء محاكاة مؤسسات داخلية أو خارجية.
- التبادل الشبابي والذي تقوم به مؤسسات ثقافية والذي يسهم في خلق فرص معرفة جديدة وعلاقات دبلوماسية غير مباشرة بين الدول من خلال المؤسسات الثقافية.
- محاربة التطرف والفكر العنيف وتجديد الخطاب الديني عبر المؤسسات الثقافية.
- خلق آليات وبرامج ومشروعات لمعالجة القضايا الشائكة في المجتمع.
- تمكين المرأة في عدة مجالات ومحاربة الأمراض المجتمعية مثل التحرش والإدمان وغيرها.
- تبني بعض المبادرات والتي تهدف إلى ترجمة تطبيقات عملية هدفها تسريع النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
- اتخاذ خطوات عملية لتشجيع التغيير الثقافي في المدارس والمساجد والكنائس وأماكن العمل.
- تدشين برامج بحثية شاملة لتغطية الجوانب النظرية والتطبيقية وذلك بهدف دمج تغيير القيم والمواقف في مجالات سياسات التنمية، والتخطيط، والبرمجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نائب مدير المشروعات الخاصة ـ مكتبة الإسكندرية ـ مدرس العلوم السياسية بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا ـ مصر