array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 139

البحث العلمي في السياسة العربية: بوابة المستقبل لصناعة القرار والتخطيط الاستراتيجي

الخميس، 11 تموز/يوليو 2019

تحميل    ملف الدراسة

"البحث العلمي"... كلمتان كفيلتان، حال حضورهما، ببناء المستقبل. ومن شأن غيابهما، أن يدمر الحاضر. فهما ليستا مجرد مصطلح علمي أو مفهوم نظري للطريقة الصحيحة للإدارة والحكم، بل هو نمط كامل لحياة الأفراد والجماعات البشرية. بكل ما يعنيه ذلك من تفاعل بيني، وتعامل مع البيئة المحيطة، وأسلوب للتفكير.

فببساطة، يتكون المفهوم من "البحث" أي الدراسة والتنقيب والتدقيق لاستجلاء الحقائق والوقوف على الأفضليات والمرفوضات. استنادًا إلى أسس وقواعد وأطر حاكمة من "العلم" أي قوانين ونظريات متفق عليها، ليست محل اجتهاد ولا تحتمل الخطأ والصواب. وهو ما يعني، ببساطة، أن "البحث العلمي" ينبغي أن يكون هو المرشد والدليل في حياة البشر (أفرادًا وشعوبًا ودولاً) على كافة المستويات، وفي جميع المجالات.

أولاً: دور "البحث العلمي" في رصد التهديدات واستباق المخاطر:

للبحوث والدراسات القائمة على أسس علمية، أهمية مزدوجة، فهي تُنبئ بالخطر المحتمل وتعمل بمثابة إنذار مبكر بالاستعداد لمواجهتها. وتُقدم في الوقت ذاته وصفة "روشتة" مستقبلية للبناء والتطوير. أي يضطلع "البحث العلمي" بدور السياج الحامي معرفيًا (معلوماتيًا وتحليليًا)، وأيضًا بدور بوصلة التوجيه نحو المستقبل، سواء المفترض (ما يجب أن يكون) أو الممكن (القابل للحدوث).

وفي إطار الدور الحمائي للبحث العلمي، في مواجهة واستشراف المخاطر، يمكن رصد ما يلي:

1-رسم خارطة المصالح والتهديدات:

قبل عقود، كان هناك إجماع بين الدول العربية على طبيعة وأولويات المصالح والتهديدات. وكان هذا الإجماع يستند إلى مُسلمة مبدئية، قوامها وحدة المصير والمستقبل العربي. في مواجهة قائمة مُهددات تحظى باتفاق عام حول مكوناتها وترتيب أولوياتها.

وكان العامل الرئيس وراء ذلك التوافق، طغيان الفكر القومي والنزعات الفكرية المناوئة لكل ما هو أجنبي، غربي خصوصًا. وتضافر هذا الدافع الفكري/ السياسي مع الوازع الديني الذي كان له أيضًا بصمة على توجهات ومواقف معظم الدول العربية حتى الربع الأخير من القرن العشرين.

ما حدث بعد ذلك، لأسباب كثيرة ليس هذا مقام سردها، أن التطورات الداخلية والإقليمية والعالمية، بلورت وضع عربية جديد. يغلب عليه تباين (وصل أحيانًا إلى خلاف) حول اتجاهات المخاطر ومصادر التهديدات على الدول العربية. ومن ثم، بالتبعية، تراتبية المصالح وأولويات الأهداف.

ومع بدايات الألفية الثالثة، بدا جليًّا عمق احتياج الدول العربية إلى الاسترشاد بالبحوث العلمية، ليس فقط في وضع السياسات واتجاهات التحرك، وإنما قبل ذلك في تحديد مكامن الخطر وتعريف التهديدات وتقديرها كمًا ونوعًا. ليس فقط على المستوى القطري لكل دولة على حدة، لكن أيضًا على المستوى العربي الجماعي. وهو ما كان سيكفل، حدًا أدنى من التنسيق إن لم يكن التوافق حول قائمة "عربية" للتهديدات والمصالح.

هنا تكمن الأهمية الحقيقية في اعتماد "العلم" إطارًا لصناعة القرار وأساسًا للتخطيط الاستراتيجي للدول. فالمؤكد، أن كل الدول تسعى إلى الازدهار الاقتصادي والتنمية الشاملة وتعظيم المكانة في البيئة المحيطة وتحقيق الرفاهة والحفاظ على مستوى عالٍ من النمو في كافة المجالات. والطبيعي، أيضًا، أن تحرص كل دولة على الدفاع عن الأرض والسيادة والتماسك المجتمعي والاستقرار الداخلي وما تملكه من موارد وإمكانات، فضلاً عن استقلالية القرار الداخلي والخارجي. لكن ما يميز دولة عن أخرى، ليست هذه المبادئ والخطوط العريضة، وإنما إجراءات تطبيقها بدءًا بالتخطيط ووضع السيناريوهات، مرورًا بمدى حسن أو سوء الاختيار من بين البدائل التنفيذية المتاحة، ثم أخيرًا المراجعة والتقييم لاستخلاص الدروس وتصحيح الأخطاء وتطوير الأداء.

هذه الخطوات التي تشكل القوام الرئيس لعملية "صناعة القرار" تتطلب استيفاء مقومات محددة، منها: صحة المعطيات ودقة المعلومات، منهجية وشمولية التحليل، عمق وموضوعية الاستخلاصات، والتوازن والواقعية والقابلية للتنفيذ في التوصيات والاقتراحات التي تُترجم إلى سياسات. وهذه العناصر هي جوهر المحتوى الإجرائي لمفهوم "البحث العلمي" في إدارة سياسات الدول.

2-استباق الأزمات والمخاطر:

أثبتت الأحداث التاريخية، القديمة والمعاصرة، أن الاستعداد المسبق للأزمات والتطورات المفاجئة، كفيل بتغيير التعامل معها ومن ثم تحويل مسار الأحداث. وكما ينطبق هذا المبدأ على التغيرات الطبيعية في البيئة والمناخ والكوارث الطبيعية، يسري أيضًا على سياسات الدول وسلوكيات القادة وصناع القرار وغيرها من جوانب الظواهر والأزمات السياسية.

‌أ-    المخاطر البيئية:

العالم كله منشغل منذ عدة سنوات، بالاحتباس الحراري وتغيرات المناخ على مستوى الكرة الأرضية، وانعكاسات تلك التغيرات على حياة البشر ومستقبلهم. بما في ذلك المردود على الموارد المتاحة سواء المستخدمة أو الكامنة. خصوصًا ما يتعلق بالموارد الطاقوية والغذائية.

وتمثل قضية الموارد أهمية شديدة لحاضر ومستقبل الدول العربية ككل، حيث تحتل نصيبًا مهمًا من المخاوف المتعلقة بالمستقبل. فهي مسألة بقاء لا مجرد تطلعات أو رغبة في الارتقاء بمستوى حياة البشر. خاصة في منطقة ترتبط حياة شعوبها بشكل مباشر بموارد الطاقة التقليدية خصوصًا النفط. سواء بشكل مباشر عبر استهلاكه، أو بشكل غير مباشر من خلال عوائده المالية التي لا تزال تمثل قوامًا رئيسًا لمداخيل وبالتالي اقتصادات بعض دول المنطقة.

وينطبق الأمر ذاته، بصورة أكثر وضوحًا ومباشرة، على المياه. فهي مورد مزدوج الهوية، مورد طاقة ومورد غذائي معًا. وغني عن البيان ما يمكن للبحث العلمي تقديمه في هذا الصدد، وهو ما تأخذ به بعض الدول العربية بالفعل، خصوصًا في مجال تحلية المياه ومعالجتها وترشيد استخدامها. والاستعداد المسبق لمواجهة الأزمات، عبر التنبؤ المبكر بها، وبوضع البدائل اللازمة للتعاطي معها وتجاوزها، بما في ذلك إيجاد خيارات بديلة متعددة تشمل إلى جانب التحلية، المعالجة وإعادة التدوير والاستيراد، فضلاً عن ترشيد الاستهلاك.

‌ب-       التحولات الديمغرافية:

تقدم التغيرات الديمغرافية مثالاً نموذجيًا للمشكلات والتحديات التي ينبغي على الدول التعامل معها مبكرًا، بل واستباقها بإجراءات تكفل مواجهتها أو الحد من مخاطرها. إذ تعاني الدول العربية بالفعل من تحديات ديمغرافية متنوعة، تشمل الخلل في التركيبة السكانية في بعض الدول، كما في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. كما تتضمن عدم التوازن في التوزيع الجغرافي للكثافات السكانية، كما في مصر وليبيا. فضلاً عن مشكلات أخرى تتعلق بالتفاوت في الأوضاع الصحية والتعليمية والخدمات العامة المقدمة للسكان، سواء لاعتبارات طائفية أو جهوية. كما في اليمن وسوريا والعراق والسودان.

وبينما حرصت بعض دول المنطقة على معالجة التحديات الديمغرافية استنادًا إلى أبحاث ودراسات علمية، فإن دولاً أخرى لم تنتبه إلى خطورة المشكلة قبل تفاقمها، فاصطدمت بها بعد أن زادت تعقيدًا وصعوبة. وفي الحالتين، أثبتت المشكلات الديمغرافية أهمية بل ضرورة اتباع البحث العلمي في إدارة الوضع السكاني والديمغرافي في البلدان العربية. وهو ما يجري اتباعه فعليًا في عدد من البلدان العربية، خصوصًا دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. حيث تُتخذ عدد من الخطوات المتدرجة، ضمن استراتيجيات شاملة، للقضاء على الخلل السكاني. وتشمل تلك الخطوات التوطين المباشر للوظائف، وتأهيل المواطنين في سن العمل حسب متطلبات سوق العمل الفعلية، وترشيد الاعتماد على العمالة الوافدة. ورغم ذلك، تظل التحولات الديمغرافية تمثل تحديًا حقيقًا يجسد أهمية الدور الاستباقي المفترض والمطلوب للبحث العلمي في المنطقة العربية. حيث تتسم هذه المسألة بالديناميكية والسيولة. مما يفرض صعوبة كبيرة في معالجتها، خاصة في ظل تعقيدات الجمع بين مواءمات الوضع الآني الذي يتطلب تسيير شؤون الحياة بالاستعانة ولو مرحليًا بكوادر غير مواطنة، ومتطلبات تنقية التركيبة السكانية بما يعنيه ذلك من تعديل الميزان العددي والنوعي للسكان بين المواطنين والوافدين. وهو أمر ينطوي بدوره على عدة جوانب، تتضمن زيادة عدد المواليد المواطنين، مع الحفاظ على التوازن بين الذكور والإناث. والتحكم في معدلات الهجرة إلى الخارج خصوصًا بين المتعلمين وذوي المؤهلات النادرة تعليميًا والقدرات المميزة عمليًا. وتسهيل شروط وإجراءات الزواج بين المواطنين وتقديم حوافز مادية وعينية، وتنظيم حملات توعية وتثقيف اجتماعي في بناء الأسر داخل النسيج الوطني.

‌ج- التحديات التنموية:

في ظل ما تتسم به قضايا التنمية من شمول واتساع، فإن التعاطي معها أيضًا يجب أن ينطلق من رؤية شاملة ودقيقة للخارطة التنموية الراهنة، وتصور متكامل لما ينبغي أن تكون عليه مستقبلاً، والجدول الزمني الملائم لذلك. ولما كانت موارد الدول وقدراتها متحركة غير جامدة، فإن التنمية بدورها تتسم بالديناميكية والقابلية للتذبذب صعودًا وهبوطًا. الأمر الذي يتطلب خططًا استباقية واستعدادات لمواجهة حالات الهبوط وتراجع أو تعثر التنمية.

وتظهر أهمية البحث العلمي الاستباقي في هذا الجانب، مع تنامي ظواهر جديدة على العالم، بعضها طبيعية مثل التغيرات المناخية التي تنعكس سلبًا على الاقتصاد والموارد. وبعضها إنسانية، مثل الصراعات المسلحة والقلاقل الداخلية التي تعوق برامج التنمية وتفرض أوضاعًا استثنائية على نحو مفاجئ.

‌د-   التقلبات السياسية:

غالبًا ما تبدو الظواهر السياسية عصية على العلم، سواء كانت تفاعلات داخلية، أو علاقات خارجية. وفعليًا، تتسم "السياسة" بدرجة عالية من السيولة والمراوغة، بحيث تكاد تتمرد على ضوابط العلم وقواعد البحث العلمي. لكن هذا لا يعني بحال أن "السياسة" منفلتة بشكل كامل ولا يمكن إخضاعها لتحليل أو دراسة علمية. ربما فقط، على خلاف الظواهر الطبيعية، تزداد الاحتمالات وتتسع رقعة هامش الخطأ في السياسة. بما يجعل نسبة الدقة في التفسير والتحليل والتنبؤ، أقل من مجالات أخرى.

غير أن هذه الخصيصة ذاتها، تزيد أهمية وضرورة إخضاع الظاهرة السياسية للبحث العلمي. فببساطة، لو تُركت السياسة لحالها، وانفرد الساسة وأصحاب القرار بإدارتها بالتقديرات الشخصية أو بحسابات فردية، لربما تحول العالم إلى ساحة واسعة للفوضى والصراعات. أو على الأقل لما حظي بالاستقرار سوى لقليل من الوقت. في ظل ما قد يترتب على "شخصنة" السياسات والقرارات من تجاهل أو تأخير لأولويات عاجلة، لصالح قضايا هامشية أو قابلة للتأجيل، وذلك على المستوى الداخلي. فضلاً عن إخضاع العلاقات بين الدول ومستقبل العالم، للتفاهم أو التنافر الشخصي بين القادة.. أو للتركيبة النفسية والنزعات المتحكمة في كل منهم. والأمثلة كثيرة على ما تعرض له العالم بسبب غياب المؤسسية وتجاهل المنهج العلمي في صنع واتخاذ القرار. بدءًا من الحملات الصليبية قديمًا، مرورًا بالحربين العالميتين الأولى والثانية، انتهاءً بالغزو العراقي للكويت 1990م، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق 2003م، وما آلت إليه الأوضاع الإقليمية من تحولات جذرية على خلفية هاتين المحطتين المفصليتين في تاريخ المنطقة. وأخيرًا موجة الانتفاضات العربية التي شهدتها بعض دول المنطقة بدءًا من عام 2011م. فكما كان لاندلاعها مبدئيًا تأثيرات عميقة في حاضر ومستقبل المنطقة، كان للتباين في طريقة التعاطي معها سواء من جانب حكومات المنطقة أو من الأطراف الأخرى، دور جوهري في اختلاف مسارات تطورها وما آلت إليه من نتائج متباينة بدورها.

لذا يعد إعمال البحث العلمي في المجالات السياسية، ضرورة قصوى ليس فقط سعيًا إلى ازدهار وتقدم العالم والارتقاء به بشكل عام، لكن قبل ذلك لضمان استقراره وأمنه، بل ومنع انهياره وتحجيم الحد من فرص الاضطراب والتصارع بين مكوناته.

ثانيًا: البحث العلمي مدخلاً لسياسات رشيدة:

لما كانت "السياسة" أحد المجالات التي تتأثر مُجرياتها جوهريًا بـ"البحث العلمي" حضورًا وغيابًا، فإنه يعد ركنًا أصيلاً في عملية بناء السياسات الرشيدة، خصوصًا ما يتعلق منها بالعلاقات الخارجية. وبعد استعراض أهمية البحث العلمي في تحديد المخاطر واستباق الأزمات. يمكن القول إن معظم، إن لم يكن كل، تلك الجوانب ترتبط في النهاية بمنظومة العلاقات الإقليمية القائمة. أولاً فيما بين الدول العربية وبعضها البعض (النطاق العربي)، وثانيًا فيما بينها وبين الدول الإقليمية غير العربية (النطاق الشرق أوسطي).

توجد ثلاث مستويات من العلاقات والتفاعلات في منطقة الشرق الأوسط، لكل منها تعقيداته ومشكلاته. أولها المستوى الداخلي، حيث تحديات بناء الإنسان وازدهار الشعوب والحفاظ على بقائها وتماسكها وتقدمها.

الثاني، هو المستوى العربي-العربي. وهو يحتاج إلى الاستفادة من تجارب العالم في التعايش والتكامل والتعاون الجماعي.

والثالث هو المستوى الإقليمي، الذي يضم أساسًا وبشكل مباشر كلاً من إيران وإسرائيل. إلى جانب قوى إقليمية أخرى مثل تركيا شمالاً وإثيوبيا جنوبًا. وربما ذلك هو المستوى الأخطر والأكثر تعقيدًا وصعوبة. نظرًا لغلبة الطابع السلبي على العلاقات والتفاعلات داخله، خصوصًا بالنسبة لإيران وإسرائيل.

في المستويات الثلاثة، يفترض أن يلعب "العلم" الدور الأكبر في توجيه مسار المنطقة، وتبني دولها سياسات رشيدة.

ونقطة البدء في الدور المطلوب من "البحث العلمي" نحو بناء سياسات عربية رشيدة، هي تحديد احتياجات الدول العربية وإمكاناتها. ومن ثم، يمكن رسم خارطة كاملة ودقيقة بما يجب عمله وما يمكن تقديمه، بالنسبة لكل دولة عربية. إذ يكمن أحد أهم أوجه الخلل في الواقع العربي، في عدم الوقوف بدقة على مصفوفة الاحتياجات والإمكانات لدى الدول العربية، سواء كل دولة على حدة أو في الإطار العربي الجماعي. وتتجلى خطورة ذلك الخلل، على المستوى الداخلي لكل دولة عربية، في الجوانب التنموية بشكل عام، والاقتصادية منها على وجه الخصوص.

ستسهم خارطة الاحتياجات والإمكانات، في تحديد المزايا النسبية لكل دولة، أولاً على المستوى البيني أي العربي-العربي، ثم مع الدول الأخرى غير العربية سواء الإقليمية أو العالمية. فبناء على تحديد حزمة الاحتياجات لدى كل دولة عربية، ستتكشف جوانب الاتساق والاختلاف البيني في تلك الاحتياجات، كمًا ونوعًا. وقد أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية أن كثيرًا من أوجه النقص ونقاط الضعف لدى بعض الدول العربية في مجالات متعددة، تقابلها أوجه تميز ومواطن قوة لدى دول عربية أخرى، في ذات المجالات. والعكس في مجالات أخرى. وغني عن التأكيد، صعوبة إن لم تكن استحالة، رسم خارطة المزايا النسبية بشكل موثوق ودقيق، دون دراسات وأبحاث علمية، إمبريقية خصوصًا. ولا دون تنسيق عربي ــ عربي، على المستوى الثنائي، وكذلك الجماعي من خلال جامعة الدول العربية ومنظماتها المتخصصة.

المرحلة التالية المترتبة على تحديد خارطة الإمكانات والاحتياجات، هي إحياء وتجديد الروابط العضوية الحاكمة للعلاقات العربية – العربية. ليس فقط على أسس مبدئية قيمية كالدين والتاريخ واللغة والثقافة، لكن بالأساس وفقًا لاعتبارات المصالح والمكاسب التي يمكن تعظيمها إن كانت قائمة، أو تحقيقها إن كانت غائبة.

فقد تجاوز العالم المعاصر مرحلة الاعتماد، كلية وحصريًا، على العقائد أو القيم والمبادئ الأخلاقية. وصارت الأولوية لحسابات المصالح وروابط الاعتماد المتبادل. التي تستند في جوهرها إلى مضامين عملية للمصالح التي تتبادلها الدول أو تشترك في تحقيقها. وكذلك بالنسبة للتهديدات المشتركة والمخاطر العابرة للحدود.

ولا يعني ذلك إسقاط القيم والمبادئ الأخلاقية من مدخلات القرار السياسي أو حسابات إدارة العلاقات بين الدول بشكل عام، وإلا تحول العالم إلى غابة وسوق محض نفعية، وفقدت الظاهرة السياسية طبيعتها كظاهرة بشرية. لذا فالمقصود أن تكون القيم والمبادئ الأخلاقية هي المحددات والأطر الحاكمة لسياسات وتحركات الدول والخط الذي تقف عنده الحسابات البرجماتية للمصالح والمخاطر. وهذا هو الدرس الأهم المستفاد من حصاد الوضع العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فكما سبقت الإشارة، كان التوافق بل الاتفاق العربي حول قائمة وترتيب التهديدات والمخاطر (ومن ثم المصالح) محكومًا بثنائية القومية والدين، وبالتالي فاحتلت إسرائيل صدارة قائمة التهديدات. ورغم ذلك، فإن افتقاد أدوات القوة الفعلية (خصوصًا الاقتصادية والعسكرية) أفقد الموقف العربي الموحد جدواه، فانكشف الداخل العربي. وبدلاً من أن يستقوي العرب بالعروبة (الشعور القومي) والدين في مواجهة التهديد الإسرائيلي، انحسر المد القومي العربي وتراجع الوازع الديني فانحسر التنسيق وتفاقم التهديد بل وأضيفت إليه تهديدات أخرى متنوعة.

وفي ظل ما وصل إليه العالم من تقدم واستحداث روابط وعلاقات منفعة متبادلة متعددة الأوجه، يشير الواقع العربي الحالي إلى ضرورة إضافة المعايير العملية والواقعية (البرجماتية)، إلى جانب المعايير السياسية/ الفكرية والعقدية/ الأيديولوجية، دون أن تزيحها أو تحل محلها.

ثالثًا: دروس من تجارب العالم:

باستقراء تجارب الأمم السابقة والمعاصرة، يمكن الجزم بأنه لولا تطبيق النظريات الأكاديمية واتباع قواعد البحث العلمي في تحويل تلك النظريات إلى واقع، لما تمكن العالم من الوصول إلى ما يتمتع به حاليًا من تقدم وازدهار في مختلف المجالات. بل ولما أمكن للبشرية البقاء والاستمرار على سطح الكرة الأرضية حتى الآن.

1- تكنولوجيا عابرة للمجالات:

فتح البحث العلمي أمام العالم آفاقًا غير محدودة للتغلب على صعوبات الحياة، بل والتمتع بأشكال ودرجات متفاوتة من الرفاهة والراحة. والأمثلة عديدة لا حصر لها، من علاج الأمراض المستعصية والوراثية بعد تمكن العلم من فك الشفرات الجينية، إلى التطور المذهل في تقنيات الاتصال والتواصل عبر الأثير. فضلاً عن الطفرة الكبيرة التي تحققت مؤخرًا بالمزج بين التكنولوجيا التقليدية الخاصة بالآلات الميكانيكية، وقدرات الحواسب الإلكترونية على البرمجة والتوجيه والقيادة الذاتية. فوصل العالم حاليًا إلى تكنولوجيا هجينة يطلق عليها (ميكاترونيك)، صارت جزءًا أصيلاً من صناعة المحركات بشكل عام والأجهزة الكهروحركية بصفة خاصة.

وبينما يستخدم العالم يوميًا تقنيات الليزر والموجات الصوتية فضلاً عن المواد المعاد تدويرها، فإن تكنولوجيا النانو ستحدث نقلة غير مسبوقة في التاريخ البشري. ولا حاجة إلى ذكر أن تلك الأدوات المُستحدثة وغيرها كثير، ليست سوى نماذج للاستخدامات التطبيقية لأبحاث علمية ممتدة عبر سنوات.

من هنا، فإن الاستثمار العربي في "البحث العلمي" بمختلف جوانبه، هو في الواقع استثمار في المستقبل العربي ككل، وليس في المجال المباشر الذي تجري بشأنه الأبحاث العلمية. بعد أن صارت العلوم متداخلة بما يكفي لجعل العلاقات بين الدول مرهونة بامتلاك أو افتقاد تقنيات متقدمة تجري مقايضتها مع تبني موقف سياسي معين أو المشاركة في عملية عسكرية أو حتى قرار داخلي.

2- حرب القلوب والعقول:

ولا تقل عن ذلك أهمية، ضرورة توظيف البحث العلمي في الاستفادة من تجارب التاريخ في العلاقات الإنسانية. سواء على مستوى الأفراد، أو الجماعات البشرية التي تتخذ في العالم المعاصر شكل شعوب وأمم تتمايز عن بعضها بالوحدات السياسية الوطنية المسماة "الدول".

والحديث هنا لا يتعلق حصريًا بالدوائر الرسمية ومؤسسات صنع القرار وحسب، بل يمتد أيضًا ليشمل كل جوانب العلاقات بين الشعوب. بما فيها اتجاهات الرأي العام، ومداخل التأثير عبر الأشكال المتنوعة من القوة الناعمة (الفن والرياضة والعلماء والشخصيات العامة)، ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن جماعات الضغط والمصلحة.

ما لم يكن تأثير أي من تلك المداخل، مدروسًا ومخططًا في إطار أهداف محددة لمدى زمني معين. تتحول المسألة إلى تحركات وتغيرات محض تلقائية أو بالأحرى عشوائية، خارجة عن السيطرة وغير معلومة العواقب.

بمعنى، أن غياب أساس علمي وإطار منظم ومدروس بل ومحكوم، للمداخل وقنوات وأدوات التأثير في الدول والشعوب، يجعل العلاقات بينها عرضة للعصف بها، بعمد أو بغير عمد. وربما تتضح أهمية ذلك بجلاء، من الأزمة الشهيرة التي وقعت بين مصر والجزائر عام 2009م، ضمن مسابقة التأهل إفريقيا إلى كأس العالم في كرة القدم. وقد تكشف، لاحقًا، مدى وعمق الدور السلبي الذي لعبته وسائل الإعلام وأججته على الجانبين عدة عوامل، شملت شبكات التواصل الاجتماعي، والشخصيات العامة والرموز.

من ثم، هناك ضرورة قصوى لإخضاع عملية تشكيل الرأي العام، وبناء الإدراك الجمعي Common Perception للذات وللآخر، إلى استراتيجية علمية مدروسة استنادًا إلى أبحاث ودراسات تحلل طبيعة وتركيبة الشخصية القومية على الجانبين. وتقدم التجارب العالمية خبرة ممتدة وعميقة في هذا الإطار، لعل من أهمها ما قامت به الدول الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات، في ذروة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي. فكما تكشف لاحقًا، وقع تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية وانهيار حائط برلين، ليس فقط بسبب الضعف الاقتصادي والفساد الإداري، وإنما نتيجة لما قام الغرب به من هدم وتدمير معنوي لدى شعوب أوروبا الشرقية. شمل تفكيك وتشويه كل الصور الذهنية التي كانت سائدة والنماذج التي كانت توقن تلك الشعوب –وقتئذ-أنها مثالية، فتؤمن بها وتسعى إلى تحقيقها، في الاقتصاد والثقافة والتعليم ونمط الحياة، بل وفي الرياضة أيضًا.

وفي المقابل، تم تصدير صورة ذهنية عن المجتمعات الغربية، تظهرها بشكل مثالي وتتمتع بالحرية والرفاهة والتقدم. وكان للسينما والغناء والرياضة دور بارز كأدوات رئيسة للقيام بتلك المهمة الخطيرة. ولم تكن لتلك العملية الصعبة والممتدة أن تتم، دون دراسة علمية دقيقة لطبيعة وخصائص المجتمعات المستهدفة، ونقاط الضعف ومداخل التأثير فيها.

بإيجاز، تؤكد تجارب العالم أن أحد أهم وأخطر أوجه استخدام الدراسات والبحوث العلمية. ما يطلق عليه تقليديًا " الحرب النفسية" وهي التسمية الأصلية لمصطلح درج استخدامه في العقدين الأخيرين، خصوصًا من جانب دوائر الدبلوماسية الغربية، وهو "حرب القلوب والعقول".

3-مراكز الفكر ودعم القرار:

ومن أهم ما ينبغي الاستفادة به مما وصل إليه العالم، الدور المؤثر، بل المحوري، الذي تلعبه الجهات العلمية البحثية المختصة. والتي تتنوع تسمياتها ومجالات عملها. فتشمل مراكز بحوث مهمتها الدراسة والتحليل وتقديم النتائج والاستخلاصات. ومراكز للتفكير (أو خزانات التفكير حسب التسمية المتداولة عالميًا) التي تقوم على العصف الذهني وبناء السيناريوهات. وتجمع في عملها بين القدرات التحليلية ومهارات الإبداع الذهني لدى المختصين، والنماذج العلمية المقننة مثل نظرية المباريات و"معضلة السجين" وغيرها. وهناك أيضًا مراكز دعم القرار، التي تلعب دورًا استشاريًا وإرشاديًا عبر إعداد أوراق عمل وتقديم توصيات تنفيذية محددة لمتخذي القرار.

هذا الإيجاز المُخلٌ في تصنيف وتوصيف مؤسسات البحث العلمي العاملة في مجال السياسة، يكفي للإشارة إلى أن كثيرًا من الدول العربية تفتقد إلى النمط المؤسسي في الاعتماد على "البحث" و"العلم" عند صنع السياسة واتخاذ القرارات. فبعض الدول لا تضع فواصل واضحة بين كل من تلك المؤسسات المشار إليها. وبعضها الآخر يفتقد إلى وجود أي من تلك المؤسسات أصلاً، في دوائر صنع واتخاذ القرارات، سواء على المستويات المركزية العليا، أو حتى في المستويات الأدنى من أجهزة الدولة المحلية أو القطاعية.

غير أن هذا الجانب في الاستفادة من تجارب العالم المتقدم، يعاني فجوة هيكلية أوسع نطاقًا وأبعد أثرًا من غياب أو محدودية دور المؤسسات البحثية والاستشارية الداعمة للقرار، ألا وهي غياب المؤسسية أصلاً في كثير من الحالات.

في ضوء ما سبق، فليس جديدًا تأكيدُ أن "البحث العلمي" صار حجر زاوية في المستقبل العربي ككل، وفي نطاق العلاقات البينية والتحديات الإقليمية بصفة خاصة. وكذلك في السياسات الداخلية أيضًا.

لذا، ينبغي التنبه إلى ضرورة بل حتمية جعل "البحث العلمي" حجرًا متينًا راكزًا يساعد على استكمال البناء وارتياد المستقبل. وإلا تحول – في ظل تجاهله أو هشاشته-إلى ثغرة تخترق تماسك البنيان وتهدد ثباته أمام الأنواء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* خبير الشؤون الإقليمية بالأهرام ــ مصر

مقالات لنفس الكاتب