نظرية الفوضى (Chaos Theory) هي مبدأ رياضي قد يستخدم كثيراً في الرياضيات وعلم الأرصاد الجوية أو الهندسة الكهربائية أو غيرها.يعود الفضل في هذا المصطلح إلى إدوارد لورينز، كما يعد إسهام الكاتب جيمس غليك في إرساء أركان هذه النظرية أساسياً وذلك في كتابه الموسوم: الفوضى: (صناعة علم جديد) الذي صدر عام 1987.
كثيراً ما يستخدم البندول كمثال إذا تم تحريكه بحركة عشوائية فإنه يتخذ بعد عدة ثوانٍ مسارات متشابهة، وبذلك تكون الحركة العشوائية قد أدت إلى نسق منتظم فيه تكرارية تمتلك نسقاً معيناً مع ضرورة التمييز بين العشوائية والفوضى التي لن ندخل في مناقشتها الآن. كما أن من الضروري التنويه بأن مصطلح الفوضى في هذا المقال لا يعد انتقاصاً من قيمة انتفاضة أو حركة شعبية، فهو من وجهة نظر الباحثين بمثابة مرحلة انتقالية يعاد بموجبها ترتيب الأمور ما لم يفلت زمام الأمور.
أورد العالم فيليب ميرلييز في معرض مناقشاته لنظرية الفوضى مصطلحاً يعرف بتأثير الفراشة وهو تعبير مجازي لوصف كيف أن تغيير واحد أو أكثر من المعطيات الداخلة ذات الأهمية القليلة في تأثيرها، قد يؤدي إلى إيجاد تأثيرات كبيرة في المعطيات الخارجة. ولمزيد من التوضيح أورد ميرلييز التساؤل التالي: لو أن فراشة حركت جناحها في البرازيل فهل يمكن أن تثير إعصاراً في تكساس مثلاً ؟ وسنأتي على شرح هذا المصطلح على أرض الواقع لاحقاً.
بعد مرور ثماني سنوات من الفوضى الخلاقة لا يزال العراق محطماً تعبث فيه قوى أجنبية مختلفة
أصبحت نظرية الفوضى فيما بعد مجالاً مهماً في الدراسات الاستراتيجية وفي الشؤون السياسية بعد أن تبين دور العامل البشري كقوة محركة لإحداث التغيير، غالباً ما يكون في نظام الحكم لدولة ما، مع يقين الكثير من المحللين أن حالة الفوضى أو انعدام النظام لو حدثت فلا يمكن السيطرة عليها في أغلب الأحيان، ومع ذلك يبدو أن لها جاذبية خاصة أو مزايا معينة، وقد سمعنا بين الفينة والأخرى تردد هذا المصطلح في تحليلات سياسية تنسب إلى الإدارة الأمريكية في بعض جوانب سياساتها الخارجية حصراً، وبذلك يكون قد حل محل سياسة (فرّق تسد) التي كان يتبعها الاستعمار البريطاني، وحيث إن الفوضى أو انعدام النظام مصطلح استفزازي يستقطب قدراً كبيراً من الاعتراض، لذا فإن العادة جرت على إضافة كلمة الخلاقة (creative) لتحسين الصورة وبث روح الأمل في نفس من يقرأها بحيث يشعر وهو يقرأ المصطلح بأن الخير قادم لا محالة،لكن السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه هو: كيف يمكن أن تكون الفوضى خلاقة؟ إذ منطقياً أن الفوضى هي مدمرة دائماً.
لكي نقرب الجواب إلى الأذهان نسوق المثال التالي وهو عبارة عن مشهد من أحد الأفلام السينمائية المصرية تظهر فيه مجموعة من الشباب جالسين في مقهى ينتقدون قرارات الدولة بصوت عالٍ، فاقترب منهم أحد الرواد المتقدمين في السن ليحذرهم من خطورة ما يقولونه، فرد عليه أحد الشباب بقراءة لوحة معلقة على الجدار وفيها الآية الكريمة ((وأمرهم شورى بينهم))، فما كان من الرجل إلا أن أعلن تأييده لما استشهد به الشاب قائلاً: نعم يا بني: أمرهم شورى بينهم هم ولستم أنتم. وهكذا فالفوضى ليست خلاقة للبلد الذي تبث فيه بكل تأكيد، بل هي خلاقة لمن بثها لتنفيذ مآربه. مع التأكيد على أن هناك حساسية نسبية تجاه مبدأ الفوضى، فمن النظم السياسية ما هو حساس أو جاهز للتحول نحو مرحلة الفوضى، في حين هناك نظم أخرى تكون عصية عليها، وذلك محكوم بظروف ومعطيات كل بلد أو نظام حكم، ويتوفر عدد كبير من العوامل المساعدة في ذلك منها نسبة الأمية والبطالة والفقر والحرمان الاجتماعي...إلخ، وما أشكال القرارات التي شهدناها خلال السنوات الماضية من أشكال الحظر على الدول وإخضاعها لفرق التفتيش (العراق، إيران، سوريا، إلخ) أو إثارة الفتن الطائفية والدينية والعرقية أو دعم القادة وتعزيز روح الدكتاتورية فيهم إلا وسائل تهيئة لتطبيق هذا المبدأ أي زيادة جاهزية المجتمع لمرحلة بث الفوضى.
وعودة الى تأثير الفراشة، فقد يرى البعض أن التشبيه الذي أورده فيليب ميرلييز هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. لكن الأيام أثبتت إمكانية تحققه، ومما يثير الاستغراب أن الثورات الشعبية التي نشهدها اليوم هي أفضل مثال على أن حادثاً بسيطاً يمكن أن يؤدي الى عواقب وخيمة، فقد أدت الصفعة التي تلقاها البائع المتجول التونسي محمد بوعزيزي إلى إسقاط نظام الحكم ليس في تونس فحسب بل في مصر أيضاً، وأصبح يهدد عدداً من الأنظمة الأخرى، فكأن الصفعة التاريخية تلك أشعلت ناراً في هشيم، ويلاحظ جاهزية المجتمع في كل من تونس ومصر للتحول. ومن دون أدنى شك فإن حالة الفوضى في بلد ما يمكن أن تبدأ فور زوال النظام الحاكم سواء أكانذلك بثورة شعبية كما في حالتي تونس ومصر أو بإسقاطه عسكرياً كما في العراق، ولن نتطرق إلى الاضطرابات الداخلية في الدول العربية الأخرى لكونها لا تزال في حالة مخاض غير معلومة النتيجة.
ولسنا هنا في مجال تقييم مدى براءة أو نزاهة تلك الثورات الشعبية في مراحلها كافة التي مازالت مستمرة، لكنها في كل الأحوال عرضة لعبث بعض الأصابع من الداخل أو من الخارج باغتنام حالة الفوضى وانعدام الرقابة والسلطة في مرحلة الانتقال لتوجيه الأمور إلى وجهات غير المقصود بها أو الاستئثار بالثورة كاملة، وإن كان هذا التحرك بحد ذاته هو جزء أساسي من مرحلة الفوضى.
حالة الفوضى أو انعدام النظام لو حدثت فلا يمكن السيطرة عليها في أغلب الأحيان
وهناك مفهوم علمي آخر ليس له مرادف بالعربية وهو (الأنتروبي) وهي حالة فقدان الطاقة واضطراب النظم، فالجسم الساخن يميل إلى فقدان الحرارة والجسم المتحرك يميل الى الوقوف بعد حين، وهكذا وفي كل هذه الأمثلة هناك فقدان للطاقة وزيادة (الإنتروبي)، وكل شيء في حياتنا اليومية، بل حتى في الكون يجري نحو حالة من فقدان الطاقة، وبالتالي إلى عدم الانتظام، أي تزداد قيمة (الأنتروبي) وتشيع الفوضى فيه، ما لم توضع طاقة للحد من ذلك، وبالطريقة نفسها فكل مجتمع إنساني يميل إلى الانفلات والانعتاق من القيود، ويمنعه من ذلك وجود القوانين وما تبذله السلطة من جهود لفرض هيبتها وهيمنتها، وحين تنكفئ السلطة في بلد ما، فلابد أن تسوده حالة من الفوضى تتناسب في شدتها مع مشكلاته الداخلية وتنوعها، وقد تتدهور الحالة أكثر فأكثر كلما كثرت الأصابع المفسدة الخارجية المستفيدة من حالة انعدام النظام.
على هامش الأحداث
يعد الصراع على الهيمنة واكتساب مناطق نفوذ في العالم هو المحرك الرئيسي للأحداث في أي زمان أو مكان، بما يتضمنه هذا الهدف من صراع على مصادر الطاقة ودعم العملة وفتح مجالات اقتصادية وهلم جرا، ويؤكد الكاتب وليم غاي كار في كتابه (أحجار على رقعة الشطرنج) أن الهيمنة على العالم هي الهدف الدائم لمجموعة من ذوي النفوذ العالمي المرتبط بالصهيونية العالمية، حيث يقول ما نصه:
(يستدعي المخطط تدمير كافة الحكومات والأديان الموجودة، ويتم الوصول إلى هذا الهدف عن طريق تقسيم الشعوب إلى معسكرات متنابذة تتصارع إلى الأبد حول عدد من المشكلات التي تتولد دونما توقف، اقتصادية وسياسية وعنصرية واجتماعية وغيرها، ويقتضي المخطط تسليح هذه المعسكرات بعد خلقها، ثم يجري تدبير (حادث) في كل فترة لتنقض هذه المعسكرات على بعضها بعضاً فتضعف نفسها محطمة الحكومات الوطنية والمؤسسات الدينية.
والصراع على بسط النفوذ في الشرق الأوسط غني عن التعريف، وما الحربان العالميتان الأولى والثانية وما تبعهما من الأحداث الأخرى المتلاحقة كالحرب الباردة ومشكلة فلسطين والتدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق وغيرها إلا أدلة لا تقبل الدحض على صحة ذلك.
العراق: دراسة حالة
كان العراق ساحة لصراع القوى المتناحرة ومسرحاً لكل من رغب في فرض هيمنته على مر آلاف السنين، وفضلاً عن هذا وذاك فهو يمتلك جاذبية خاصة لقوتين عظميين هما الصهاينة (تحت الراية الأمريكية) والفرس، وكلاهما لاعب رئيسي في الساحة الإقليمية اليوم، ولهما أجندتان تحملان من الضغينة ما يكفي لقلب المفاهيم الأخلاقية والوطنية في الساحة التي يلعبون بها وهي الشرق الأوسط.
وتتلخص الجاذبية العراقية في نظر الفرس كونه يضم العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وبغداد، وأنه خضع للهيمنة الفارسية في حقبة زمنية انتهت بظهور الإسلام، متناسين أن جزءاً كبيراً من إيران الحالية كان خاضعاً لسيطرة الإمبراطوريتين البابلية والآشورية قبل ذلك، يضاف إلى ما تقدم أن العراق يمثل بوابة تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية إلى الدول العربية الأخرى.
أما الجاذبية العراقية في عيون اليهود والصهاينة فهي الأخرى تاريخية وتعود إلى زمن السبي البابلي، فالعراق يضم مواقع مقدسة في الديانة العبرية منها ضريح نبي الله ذو الكفل في مدينة الكفل بكربلاء، وضريحا النبي دانيال والنبي يونس في الموصل وعدد آخر من أضرحة لرجال دين يهود ممن أسرهم القائد البابلي نبوخذ نصر وأجلاهم إلى بابل. وكانت هذه الأضرحة مزارات يحج إليها اليهود على مدى القرون الماضية وقبل إقامة (الدولة العبرية) ولطالما حلم اليهود بموطئ قدم في وادي الرافدين، فقد تلقى الملك فيصل الأول (ملك العراق) في خلال زيارته إلى بريطانيا عام 1933 مقترحاً بريطانياً لتوطين مائة ألف يهودي في منطقة جنوب بغداد (ما بين الكوت والعزيزية)، وقبل ذلك كان السلطان العثماني عبد الحميد (1842-1918) قد رفض مقترحاً مماثلاً لتوطين نحو 50 ألف يهودي في أراضي شمال بغداد كان يملكها كاظم باشا وهو صهر السلطان، أعقبتها محاولة الصهيوني (إسرائيل زنكويل) إغراء حقي باشا رئيس الوزراء العثماني في الأستانة بالمال لتوطين الملايين-على حد تعبير المصدر- من يهود روسيا في العراق، وقد رفضت كافة تلك المقترحات الصهيونية. واليوم توفر فكرة الشرق الأوسط الجديد مناخاً مناسباً لتنفيذ تلك المقترحات، وبغية الوصول إلى هذا الهدف كان لابد من زعزعة استقرار المنطقة بالكامل بغية إعادة رسم حدودها، ولا يمكن ذلك أن يتم إلا بإسقاط نظام الحكم في العراق –قلب الشرق الأوسط الجديد- واحتاج الأمر إلى مراحل عدة كما يلي:
* سمح لنظام الشاه في إيران بالزوال لإقامة الجمهورية الإسلامية التي نادت بتصدير الثورة إلى الدول المجاورة وفي مقدمتها العراق الذي وقف ضد هذا المخطط فدخل في حرب ضروس لثماني سنوات كان الهدف منها إضعافه ورفع درجة الاستعداد والتقبل لمرحلة الفوضى (الخلاقة)، وهناك الكثير من الأدلة على أن الإدارة الأمريكية كانت تسعى إلى إطالة أمد الحرب، وكان للإذاعات الأمريكية الموجهة دورها الفعال وعلى نمط إذاعة (أوروبا الحرة) في السبعينات والتي كانت موجهة لإسقاط الأنظمة الاشتراكية الأوروبية.
* عمدت الإدارة الأمريكية إلى إثارة مشكلات حدودية قديمة ومنازعات نفطية بين العراق والكويت، انتهت بقيام العراق باحتلال الكويت في أغسطس 1990، فمهد ذلك الخطأ الاستراتيجي الفادح لفرض العقوبات الاقتصادية الدولية على العراق وإخراجه من الكويت في عام 1991، كما أفضى الى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار يجبر العراق بموجبه على فتح مؤسساته ومصانعه لفرق تفتيش من الأمم المتحدة كانت المهام التجسسية لها واضحة تماماً.
* وهكذا نجحت الإدارة الأمريكية نجاحاً منقطع النظير، إذ أدت تلك المرحلة إلى ظهور بوادر (الفوضى الخلاقة) في المنطقة بدأت أولى بوادرها حين دعا الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب إبان حرب تحرير الكويت العراقيين الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال إلى الثورة على نظام حكم صدام حسين، وقدمت الحماية للأكراد بفرض منطقة حظر الطيران العراقي، أما في الجنوب فقد بدأت حالة التمرد وحدثت حالة الفوضى، لكنها لم تكن خلاقة بكل المعاني الأمريكية للكلمة لاسيما بعد انسحاب القوات الأمريكية من الجنوب العراقي.
* أحكمت الإدارة الأمريكية قبضتها على العراق من خلال العزلة الدولية وحالة الحصار الاقتصادي الذي دمر معظم البنى الارتكازية للمجتمع العراقي،وارتفاع معدلات البطالة والأمية والحرمان الاجتماعي، فكان بذلك أكثر جاهزية لمرحلة الفوضى التي بدأت بإسقاط الحكم عسكرياً.
* وحين بوشر بالاحتلال كان العراق دولة ضائعة في المجتمع الدولي وغنيمة جاهزة لمن يرغب فيها، ولعلنا سمعنا أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن تساءل في كتابه الموسوم: (نقاط اتخاذ القرار) بعد الاحتلال مباشرة بالقول: ماذا بعد الاحتلال؟ والأدهى من ذلك أنه صرح بأنه قام بغزو العراق استناداً إلى معلومات خاطئة.
* جرى في العراق من المآسي في ظل مبدأ (الفوضى) الرامية إلى إدخال الديمقراطية، ما سيظل التاريخ يذكرها على الدوام وبذلك يمكن تسميتها ديمقراطية الفوضى (الخلاقة).
واليوم وبعد مرور ثماني سنوات من الفوضى (الخلاقة) بعد احتلال العراق لا يزال البلد محطماً تعبث فيه قوى أجنبية مختلفة، مسلوب السيادة في ظل ديمقراطية مريضة إن لم تكن محتضرة وبنى ارتكازية خربة وشعب مشتت، ويخطئ من يعتقد- بمن فيهم الرئيس بوش نفسه كما ذكر في كتابه- بأن الإدارة الأمريكية تورطت في العراق، أنها نفذت خطوة مرسومة منذ سنوات، وإذا افترضنا جدلاً أنها تورطت فما الذي يجبرها على البقاء فيه؟ ولماذا قامت بتشييد سفارة ذات ميزانية تفوق ميزانيات العديد من الدول إذ تبلغ 6,2 مليار دولار، ويعتقد أنه سيعمل فيها أو يرتبط بها نحو 16 ألف شخص؟ فما الذي يمكن أن تقوم به مثل هذه السفارة؟
الجواب أنها مقر إدارة الشرق الأوسط الجديد للإشراف على تنفيذ المخططات عن كثب ومن قلب الشرق الأوسط في بغداد.