عرف الفضاء السمعي البصري العربي في العقد الأخير طفرة نوعية بميلاد عدد كبير من القنوات التلفزيونية الفضائية، نتيجة لتحولات سياسية واقتصادية تزامنت مع انتشار استعمال الأجهزةالالكترونية وتطور تكنولوجي رافقه استخدام البث الرقمي في الاتصال التلفزيوني المباشر.
وإذا كان الباحثون الغربيون قد أعلنوا عن "موت بطيء" لظاهرة التلفزيون في مجتمعاتهم، فإن العكس حدث في المجتمعات العربية، حيث تزايد عدد المحطات التلفزيونية الفضائية مع تسجيل مستويات كبيرة لمشاهدي البرامج المقدمة، وهو الأمر الذي دفع بالكثير من المهتمين بالفضاء العمومي العربي إلى دراسة هذه الظاهرة وتأثيرها على سلوكيات الأفراد والقيم المجتمعية لاسيما ما تعلق منها بالفعل السياسي، خاصة وأن الجغرافيا العربية مشرقًا ومغربًا تعيش منذ فترة حركية سياسية وتحولات سوسيولوجية وثقافية كان للإعلام السمعي البصري فيها دور ليس باليسير.
لقد أكد انتشار القنوات التلفزيونية في العالم العربي، والدور الذي لعبته في "تحريك" المجتمعات ودفعها للانخراط في مسار التغيير في البلاد العربية، رجاحة الفرضية التي صاغها الكثير من الباحثين والمتخصصين في الاتصال السياسي، والتي مفادها أن الفضاء السمعي البصري المفتوح أصبح أداة من أدوات التأثير والتعبئة الجماهيرية الممهدة لعملية التحول السياسي من جهة، وآلية من آليات الأنظمة الحاكمة للضبط الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى.
وننطلق بمقتضى هذه المقاربة البحثية التي تتوخى البحث في دور القنوات التلفزيونية العربية في تفعيل الفضاء العمومي والمساهمة في ديناميات التحول السياسي الذي يشهده الوضع العربي منذ عقد تقريبًا، من فرضية أن المجتمعات العربية تعيش مرحلة مفصلية في تاريخها كمجتمعات في طريق التحول، وأن القنوات الفضائية العمومية والخاصة التي أنشئت لمواكبة المعطيات الجديدة لم تنجح في تفعيل الفضاء العمومي من خلال لعب دور الوسيط بين المواطنين والنظام السياسي وطرح القضايا التي تهم راهن ومستقبل المجتمعات العربية.
- المحددات المعرفية: الفضاء العمومي والإعلام المرئي العربي
يعتبر الفضاء العمومي من أعقد المفاهيم في حقل الاتصال السياسي، حيث ارتبط كمفهوم بالمجتمعات الديمقراطية التي أعطت للمواطن في مرجعياتها النظرية خاصة، دورًا محوريًا في العملية السياسية، من خلال إشراكه في مناقشة الأفكار ونقدها، وتقديم وجهات نظره في المسائل التي تهم الشأن العام.
ومع ظهور الفضاء السمعي البصري المفتوح، أضحت الحدود الفاصلة بين ما هو خاص وما هو عام منكشفة، حيث توسع مجال الممارسة السياسية وعاد للفضاء العمومي دوره في احتضان ديناميات النقاش السياسي المجتمعي بعد أن خفت لردح من الزمن.
وإذا كانت المقاربات النظرية التي اهتمت بالفضاء العمومي قد تعرضت لتطور هذا المفهوم ودوره في مختلف المحطات التاريخية للمجتمعات الديمقراطية، فإن زحزحة هذا المفهوم بأدواته القيمية والمعرفية ومحاولة بلورته في سياق اجتماعي/ثقافي آخر مثل المجتمع العربي، أفضى إلى ظهور نتائج أخرى ومخرجات مغايرة عكست طبيعة هذه المجتمعات وخصوصيتها.
وقد شكل براديغم الفضاء العمومي والممارسة الاتصالية عند هابرماس "وحدة بناء النظام الديمقراطي" ومدخلاً معرفيًا لفهم التحولات الكبرى والأزمات التي عرفتها المجتمعات، حيث تعكس طبيعة السجالات والنقاشات دائمًا أفول نظام ببنيته السياسية والاجتماعية وصعود نظام آخر بتصور سياسي وفكري واقتصادي مغاير، ولعل من أهم الوسائل التي مارس من خلالها المجتمع الرأسمالي حقه في المواطنة الحرة وسائل الإعلام، إذ برز دور الصحافة المكتوبة وصحافة الرأي في القرن 18، إلى الصحافة التجارية والمجتمع الجماهيري في القرن 19، ثم ظهور التلفزيون في القرن 20 وذيوع الاتصال العمومي، وأخيرًا ظهور تكنولوجيات الإعلام الرقمية التي للإعلام المرئي بعدًا آخر لم يكن معروفًا من قبل.
ويرى بعض المتفائلين بإيجابية لدور القنوات التلفزيونية الفضائية في الديناميات الاجتماعية العربية، من خلال تعزيزها لممارسة الحقوق، حيث يتمكن المواطن من خلال التفاعلية التي تتيحها للوصول إلى المعلومة ومناقشتها بكل سهولة وحرية، مما ساعد في نشر ثقافة سياسية مشاركاتية.
يمكن أن يكون هذا التحليل مقبولاً إلى حد ما في سياقات عرفت ميلاد وتطور هذه التقنيات، ولكن أن يعمم على مجالات سوسيوثقافية أخرى فهذا لا يعدو أن يكون إلا مزلقًا من المزالق الابستمولوجيا التي يقع فيها من يفصل استخدام الميديا الجديدة عن النسق الاجتماعي والسياسي وتقاليد الاتصال المتوارثة عبر الأجيال وعن التاريخ السياسي لهذه البلدان.
وما دام بحثنا يتناول السياق العربي والتحولات الراهنة وعلاقة ذلك بفضاءات الاتصال الجماهيري كوسائط للفعل السياسي وكمجال لإدارة النقاش العمومي في المجتمع، فسنحاول تقديم رؤية تحليلية نقدية لطبيعة هذه العلاقة ومظاهرها.
تختلف المجتمعات العربية الإسلامية في ممارستها الاتصالية عما عرف في المجتمعات الغربية، وهذا لاختلاف المرجعيات التي تأسست عليها الأنظمة السياسية والاجتماعية والقيمية للمجتمعين، وهو ما أنتج أنساقًا وبنى ووظائف للفضاء العمومي لها خصوصيتها، وهي خصوصية لا تزال حاضرة إلى اليوم في الخيال الجمعي المؤسس بمفاهيم مختلطة بين علاقة السياسة بالدين والحاكم بالمحكوم والإدراك غير الواضح للمفاهيم الوافدة من الغرب كالمواطنة والديمقراطية والمشاركة السياسية.
وإذا كان واقع الاتصال مرتبط بواقع السلطة على حد تعبير ريجيس دوبري، فإن طبيعة تطور المنظومة السياسية العربية الإسلامية كانت المحدد الرئيس لطبيعة الممارسة الاتصالية العمومية. لقد ترتب عن طبيعة العلاقة المبنية على "التراتبية " بين الحاكم والمحكوم في تاريخ الدولة العربية، قيمًا مجتمعية وثقافية أصبحت مع مرور الوقت معنى عامًا مشتركًا، حيث عطل الفضاء العمومي كقوة اتصالية تتوسط المجتمع والدولة، وبقيت البنى التقليدية مؤثرة في النسق الاجتماعي على غرار العائلة والقبيلة والرابطة الدموية، وقد كشفت الأزمات السياسية والأمنية التي تعرفها الكثير من الدول العربية عن إخفاق في تجاوز هذا المعطى التاريخي وفشل في تحديد دور الفضاء العمومي في الفعل العام.
وعليه، تبقى للثقافة المجتمعية والسياسية المتوارثة في أي مجتمع إضافة إلى طبيعة التقاليد الحاكمة لهذه البلدان، كبير الأثر على طبيعة الفضاء الاعلامي، فغياب ثقافة الحوار والنقاش العقلاني وفق المفهوم "الهابرماسي" انعكس على مضامين هذا الفضاء، حيث اكتفى في الكثير من التجارب إما بضرب مصداقية الخطاب السياسي الرسمي وتفعيل أو حشد نوع من التضامن المجتمعي، أو اجترار الخطاب الرسمي نفسه بطرق أخرى.
- المحددات السياسية .. "للارتباط" بين السلطة والقنوات التلفزيونية
تعود نشأة التلفزيونات العربية إلى الفترة الاستقلال العربي، حيث بدأ البث التلفزيوني بالعالم العربي في الجزائر والعراق عام 1956م، وفي لبنان عام 1959م، وفي مصر وسوريا 1960 م، والكويت 1961م، والسودان 1962م، والمملكة العربية السعودية 1965م، وفي تونس 1966م، الإمارات وسلطنة عُمان 1970م.
ولم تتخلص الممارسة الإعلامية العربية من طابعها التعبوي الذي ورثته عن مرحلة النضال الوطني، فبعد الاستقلال حافظت على النهج نفسه معتبرة وسائل الاتصال الجماهيري أداة لتحصين الوحدة الوطنية، فلا مجال للنقاش الذي يمكن أن يكون بابًا يتسلل من خلاله أعداء وحدة الأمة والدولة.
وعليه، نشأت التلفزيونات العربية في حضن الحكومات، وكان مبنى التلفزيون دائما تحت الحراسة والمراقبة الأمنية، فليس غريبًا أن ترتبط الانقلابات في الخيال العربي بالسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي يشهد عادة قراءة أول بيان للقيادة الجديدة، وبالتالي كان التلفزيون العمومي لفترة طويلة عبارة عن مؤسسة للنظام القائم ومنبرًا يوجه من خلاله الرأي العام وفق رؤية لا مجال لمعارضتها.
ومع موجة الانفتاح التي عرفتها الدول العربية مع بداية الألفية الثالثة، وما تبعه من انتشار للقنوات الفضائية العامة والخاصة، تساءل الكثير من الدارسين عن تأثير هذا التنوع في الفضاء السمعي البصري على الممارسات الإعلامية وكذا على الفضاء العمومي، باعتبار أن تزايد عدد القنوات وتنوعها من شأنه نقل المشاركة السياسية إلى مستويات أعلى خاصة بعد تراجع الرقابة المفروضة وتبني التعددية كخيار. لكن هل استطاعت هذه القنوات الجديدة أن تؤسس لمواطنة حقيقية قائمة على مشاركة سياسية فعالة في الفضاء العمومي؟
للإجابة على هذا التساؤل يجب أولا العودة إلى الخلفيات والظروف التي تحكمت في تحديد معالم هذه الخريطة الإعلامية الجديدة، خاصة بعد الذهاب نحو إقامة وتطوير مدن للإنتاج الإعلامي في كل من دبي وعمان والقاهرة، حيث كان قرار توطين القنوات وتشجيع إنشائها مرتبط بتوجه جديد تبنته بعض الدول العربية في مجال تنظيم السوق السمعي البصري العربي.
ويمكن تحديد أهم ملامح هذه الاستراتيجية وخصائصها في النقاط التالية:
أ- التحول السياسي أساس الانفتاح الإعلامي
لقد شكلت المنعطفات السياسية الكبرى التي عرفتها الدول العربية أهم المحطات التي عرفت تحولا في الاستراتيجيات الاتصالية المعتمدة من قبل الحكومات، فإذا كانت نكسة 1967م، سببًا مباشرًا في الاهتمام بالتلفزيون مع بداياته الأولى، فإن حرب الخليج الثانية والتحولات التي عرفتها المنطقة العربية كانت من بين الدوافع نحو الإقلاع الثاني، فكان مركز تلفزيون الشرق الأوسط Mbc أول قناة تلفزيونية تبث من لندن، لتتوالى بعدها القنوات الفضائية الموجهة للتأثير على الجماهير العربية.
إن الانفتاح في الفضاء السمعي البصري العربي على القطاع الخاص كان طريقة تعاملت بها الحكومات لمسايرة متطلبات التحول المفروض خارجيًا، لذلك يمكن اعتبارها كما قال الأكاديمي نصر الدين العياضي "نتيجة للتغير وليست فاعلاً في التغييرات التي حدثت على غرار ما حدث في الجزائر بين 89 و1990م، حيث كان الانفتاح الإعلامي نتيجة للانفتاح السياسي".
لقد اعتمدت الكثير من الدول العربية استراتيجية الانفتاح السمعي البصري المراقب للدفاع عن مصالحها ورؤيتها للهوية والثقافة الوطنية ضد الهجوم الذي تتعرض له من قبل قوى أجنبية وحتى عربية منها، وما كان لتزايد عدد القنوات التلفزيونية إلا تعبير عن منطق سياسي تقليدي بحلة جديدة "شعارها" الانفتاح والحرية.
ب- إعادة إنتاج الخطاب الرسمي من خلال الفضائيات الخاصة
دفع الرأسمال الخاص و"ورجال الأعمال" لفتح قنوات خاصة لتأدية دور العزوف عن مشاهدة القنوات العمومية، فقد كانت واجهة تتيح للمواطن هامشًا من التعبير عن الرأي في حدود مضبوطة. إلا أن بعض القنوات، وحتى وإن كانت خاصة فإنها تتناول المواضيع السياسية في إطار مضبوط وكأنها قنوات عمومية، مقابل تحقيق الربح والأهم من ذلك تثبيت موقعها كطبقة منتفعة من المنظومة القائمة.
وعليه، تحولت هذه القنوات إلى شبه أحزاب سياسية تروم من خلال برامجها ومادتها الدعائية المقترحة، الدفاع عن مواقف وآراء النخب وتعمل على تحوير الوقائع والأحداث وتوجيهها من أجل إرضاء المشاهدين وكأنهم "مناضلين". إن احتكار بعض الأحزاب الحاكمة والقوى السياسية بأذرعها المالية لوسائل الاعلام المختلفة وتوجيهها لقضايا لا تخدم الشأن العام، وانصراف القنوات الخاصة لأجندة محددة أساسها الولاء وتوزيع الريع، ما جعل من المادة الإعلامية المقدمة تفتقد لمفهوم الخدمة العمومية وبالتالي من الصعب الحديث عن فضاء عمومي حقيقي تثار فيه القضايا التي تهم الشأن العام. لقد أغفلت هذه التلفزيونات أهم وظيفة من وظائف الإعلام ألا وهي تقديم المعلومات الضرورية لاتخاذ قرارات سليمة، وتعزيز القيم الأخلاقية للمحافظة على النسيج المتجانس للمجتمع.
ج-غياب تصور حول منظومة إعلامية متجانسة
رغم العدد المتزايد للقنوات الفضائية وتنوعها، إلا أن النتيجة كانت تشظي الفضاء العمومي إلى فضاءات خاصة متناحرة بخلفيات أيديولوجية واثنية ودينية، وهذا في غياب ضوابط ومبادئ تحكم الإعلام المسؤول والهادف. إن ما تقدمه هذه القنوات في مادتها الإعلامية وبرامجها السياسية يثير تساؤل حول قدرة هذه النقاشات على ترقية النقاش العام والمحافظة على النسيج الاجتماعي ومساهمتها في تشكيل الفضاء العمومي في الدول العربية.
د-المواطنة.. الحلقة الأضعف في الممارسة الإعلامية
حتى وإن كان الفضاء السمعي البصري المفتوح قد وسع من هامش التعبير، من خلال التطرق إلى مواضيع كانت في السابق في حكم "المسكوت عنه"، إلا أن تلك النقاشات بقيت ظرفية ومحكومة برهانات مؤقته، فقدرة الفضائيات على تفعيل النقاش المجتمعي الحقيقي مرتبطة بوجود إرادة تغيير تأخذ بعين الاعتبار ضرورة التأسيس لديناميكية في الفضاء العمومي تعيد ممارسة المواطنة أهميتها وتقوي من الوعي العام بمفهوم الدولة كمؤسسات وعقد توافقي ومجتمع مدني.
لقد أخذ النقاش في القنوات التلفزيونية العربية طابعًا نخبويًا بتناوله لمواضيع مجترة وبشخصيات مختارة وفق منطق زبائني، مقدمة تحاليل حول قضايا إقليمية ودولية في الغالب بعيدة عن نبض الشارع واهتماماته، وهنا تظهر طبيعة النخب العربية التي فطمت في بيئة يستعمل فيها "المثقف العضوي" سواء أكان مواليًا أو معارضًا للدفاع عن الخطاب الرسمي والأيديولوجية المسيطرة.
3-المحددات الاقتصادية .. الربح على حساب القيم
ارتبط الاستثمار في القنوات التلفزيونية كما هو معروف في الدول الغربية بالمحددات الاقتصادية المرتبطة بالجدوى والربح المادي، وقبل ذلك كان نتيجة طبيعية لمجتمعات انتجت التكنولوجية وفقًا لاحتياجات وقيم مجتمعية، فالقنوات الخاصة في الغرب لم تنشأ من فراغ بل كانت مظهرًا من مظاهر منظومة رأسمالية تحكمها ديناميكية اقتصادية ونمط استهلاكي خاص.
وإذا كانت ظروف نشأة القنوات التلفزيونية الخاصة في العالم العربي مرتبطة أساسًا بالعامل السياسي –كما رأينا سابقًا-، فإن خصوصيتها جعلتها تتجاوز البعد الاقتصادي الخالص لتقوم بأدوار أخرى يتقاطع فيها الربح بالسياسية والجدوى بالدعاية والاحترافية بالولاء لمن يتحكم في "الريع".
لا يمكن للمتتبعين من المشاهدين العرب أن ينكروا أن المشهد السمعي البصري قد حقق طفرة نوعية من حيث الصورة والتقنيات المستعملة مقارنة بما كان معروفًا زمن التلفزيونات العمومية، إلا أن المختصين يتجاوزون هذا التقييم المرتبط بتأثيرات السوق العالمية للصورة ليركزوا على تأثير هذا الإعلام على سلوكيات الأفراد وأنماط "التنشئة الاجتماعية" التي تساهم في تكوين هوية الأشخاص ضمن بيئة ثقافية لها خصوصيتها.
وقد عدد المهتمون بالدراسات الإعلامية أهم ملامح دخول الاستثمار الخاص مجال الإعلام المرئي في النقاط التالية:
أ- غياب مشروع إعلامي أصيل
تقدم التلفزيونات الخاصة مضامين بعيدة عن الواقع العربي بثقافته العربية الإسلامية، فالاتجاه التجاري الذي سيطر على وسائل الإعلام أدى إلى تركيز هذه الوسائل على نوعية معينة من المضمون تستهدف أولاً الابتعاد عن المواضيع التي يمكن أن تثير التحفظ، وثانيًا تحقيق أهداف تجارية بالحصول على أكبر قدر ممكن من الإعلانات عن طريق زيادة نسب المشاهدة، فهذه البرامج لا تعطي للجمهور ما يريده بل تعطيه ما يسمح به وما يريده المعلنون.
وإذا كانت أغلب القوانين المنشئة لهذه القنوات قد حددت في دفاتر شروطها التزام التلفزيونات بالخدمة العمومية، بيد أن الواقع يبين أن القنوات الخاصة ساهمت في تلويث الفضاء الإعلامي العربي مبتعدة كليًا عن تقديم رسالة إعلاميةهادفة ومسؤولة، في مجتمعات تعاني أصلا من نسب مرتفعة للأمية، وبالتالي فالمواطن العربي غير محصن ولا يمتلك الملكة النقدية لتمحيص المادة الإعلامية المستهلكة.
ب- انفصام حاد بين الصورة المسوقة والواقع العربي
تعاني الفضائيات العربية من انفصامية حادة بين الصورة المسوقة في البرامج والواقع العربي الغائب سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وتنمويًا، وتتجلى هذه الازدواجية في محتوى المادة المقدمة التي تعرض نمطًا معيشيًا غريبًا عن واقع المجتمعات التي تعيش مشاكل اقتصادية وفقر وبطالة. وقد أظهرت إحصاءات منظمة اليونسكو أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث مثل سوريا ومصر، ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على النصف.
تنشط الفضائيات العربية في ظل غياب تصور مدروس حيث وجدت نفسها عاجزة على بناء منظومة إعلامية أصيلة يمكنها مواجهة الزخم الإعلامي الوافد بقيمه وأفكاره، "فبدلا من مواجهة الغزو والقيم الدخيلةونشر الثقافة المحلية والقيم العربية الإسلامية، أصبحت القنوات العربية من خلالالمنتجات المعلبة وسائل تابعة تدور في فلك آلة إعلامية عالمية تروج أفكار الأقوىاقتصاديًا وسياسيًا على المستوى العالمي".
ج-تشظي المجتمعات العربية بدل التقارب والتوافق
وصف أحد الباحثين الخريطة التلفزيونية العربية بأنها نوع من "الانفلات الإعلامي بدل الانفتاح"، وهو توصيف معبر إذا ما استعرضنا مخرجات هذا المشهد وأثره على الشارع العربي، فبغض النظر عن غياب تنسيق وتوافق حول أخلاقيات العمل الإعلامي واحترام الرأي والرأي الآخر وفقا لقواعد النقاش العقلاني بالتعبير الهابرماسي، فإن المناخ الذي صنعه الانفتاح الإعلامي في الدول العربية، أٌسس بتمثلات ورمزيات كان من المفروض نبذها وتجاوزها في إطار بناء مواطنة عربية حقيقية.
إن الواقع أثبت أن "فوضى القنوات" العربية أصبحت تهدد التواصل والتفاهم البيني، فالقدرة على التواصل بسهولة وحرية لا يعني بالضرورة بناء فضاء عمومي مفتوح وبناء، بل يمكنه أن يعكس الاختلالات المجتمعية والثقافية، المضبوطة في الواقع بقوانين وتوافقات عامة، ويزيد من تأجيج الاختلافات والصراعات "المسكوت عنها".
كما أنه لا يمكن النظر إلى الفضاء المفتوح بنظرة مثالية بعيدًا عن التداخلات والتأثير والتجاذبات الداخلية والخارجية، فالقطاع السمعي البصري يبقى مسرحًا تسعى من خلاله مختلف الأطراف المؤثرة إلى استثماره من أجل تبرير توجهاتها ومواقفها وإعطاء الشرعية لوجودها ومحاولة الانتقاص من شرعية من يخالفها.
خاتمة
لا يمكن الحديث عن المشهد السمعي البصري العربي بمعزل عن التحول السياسي والحركية الاجتماعية التي عرفها الفضاء الجيوسياسي العربي في العشرية الأخيرة، ففي ظل انتشار استعمال وسائل التكنولوجية والتواصل الحديثة، وما ترتب عنها من مفارقات بين مأمول الانفكاك من منظومة تقليدية أثبتت محدوديتها، وواقع تشظي المجتمعات العربية وتهديدات التقسيم والعودة إلى "عصبيات" و"حروب رمزية" بين مكونات المجتمع الواحد.
يمكن أن نكون متفائلين بقولنا إن ما أتاحته الفضاءات المرئية في البلاد العربية من "تنوع" يمكن أن تكون مقدمة لا مناص منها لتحقيق التراكم المفضي إلى بناء فضاء عمومي إيجابي يمكنه المساهمة في البناء القائم على المشاركة الحقة، ولكن يبقى الأمر مرهونًا بتبني استراتيجية إعلامية متناسقة يحدد فيها الأدوار وترسم الأهداف بما يتماشى وآمال المجتمعات العربية.