شهد عالم بعد الحرب العالمية الثانية تبلور نظام عالمي جديد، تاركًا إرث النظام القديم الذي كان قائمًا قبيل الحرب،إذ برزت قوتان عظميان جديدتان على الساحة الدولية هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي،واللذان دخلا في خضم الحرب الباردة التي استمرت حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين لتنتهي بسقوط الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، وبروز النظام العالمي الجديد الذي هيمنت فيه الولايات المتحدة في ظل القطبية الأحادية التي سادت العالم.
وأستمرت حالة النظام العالمي الراهن حتى بدأت تلوح في الأفق في السنوات الأخيرة قوى دولية جديدة ناهضة في المشهد الدولي، في مقدمتها روسيا الاتحادية والصين والهند على أساس مقومات المنافسة التجارية والاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة، وأبرز تجليات ذلك النظام بروز الصراع الأمريكي- الصيني في قارة آسيا ومنطقة الشرق الأوسط،والذي ربما انعكست تأثيراته على العراق بإعتباره أحد الدول المهمة في النظام الإقليمي العربي.
أولاً: ترامب والسياسة الأمريكية حيال العراق
كانت الإدارة الأمريكية منذ بداية عهد الرئيس دونالد ترامب متناقضة حيال الحالة العراقية في إنتقاد الحرب على العراق في عام 2003 م، أثناء عهد الرئيس جورج بوش (الابن)،وانتقاد أيضًا سياسة الرئيس باراك أوباما بسبب قرار إنسحاب القوات الأمريكية من العراق، وتحميله مسؤولية ظهور تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق في حين يعتقد المراقبون للشأن الأمريكي إن توجهات إدارة ترامب تجاه العراق لم تختلف جذريًا في واقع الحال عن إدارة أوباما في الاستمرار بدعم القوات الأمنية العراقية مع توجيه الضربات الجوية من خلال التحالف الدولي، والعمل الاستخباراتي والمستشارين الأمريكيين الذين ساهموا في الحرب على الإرهاب والقضاء عليه.
وكان الرئيس ترامب قد أكّد في كلمة له أمام موظفي CIA متلفزة في اليوم الثاني لتسلمه المنصب الرئاسي، إنه كان على بلاده "أن تأخذ النفط" في العراق عام 2003م،وإنها "لو فعلت ذلك وقتها" لما ظهر تنظيم داعش،وأن بلاده لم تربح أي شيء في الفترة الأخيرة في عهد أوباما،وشدّد بقوله:"لكني أعدكم بأننا سنعود للفوز" وتقديم"الدعم الكامل" لوكالة الاستخبارات المركزية أكثر من أي رئيس أمريكي آخر، وإنه ليس أمام بلاده سوى القضاء على تنظيم داعش. واتجه ترامب لتكريس رؤيته في القضاء على التنظيم، وطلب في 27 كانون الثاني/يناير 2017 م، من الإدارة الأمريكية أن تقدم له خطة للقضاء على التنظيم خلال ثلاثين يومًا. وبالتالي رسمت الإدارة الأمريكية سياسة دعم العراق (كحليف إستراتيجي) في منطقة الشرق الأوسط،فضلاً عن الرغبة التي أبداها ترامب في تعزيز وتقوية المصالح النفطية الاقتصادية والاستثمارية مع العراق، والسماح للشركات الأمريكية بالتعاقد مع العراق في إعادة بناء وإعمار البنية التحتية للبلاد بعد تحرير المدن العراقية من الإرهاب.
وتسعى الولايات المتحدة في أن يصبح العراق قويًا له سيادة،لكي تتمكن من تقليص وجودها دون أن تتنازل عن العراق لصالح قوى إقليمية مجاورة له مثل إيران، وتدرك أن الشراكة الأمريكية -العراقية مهمة كون العراق شريك يدعم الأهداف الأمريكية ويتحمل التكاليف بنفسه. وكان العراق آنذاك بحاجة لدعم أكبر فالمساعدات الأمريكية للعراق جاءت عن طريق حملة جمع المساعدات التي بلغت 16 مليار دولار أمريكي للمساهمة في تمويل الحرب على تنظيم داعش الإرهابي. إلا أن المبلغ المباشر الذي أنفقته الولايات المتحدة هو 2,7 مليار دولار أمريكي فحسب، وهو قرض للتمويل العسكري بهدف شراء المعدات العسكرية الأمريكية. فالعراق بالنسبة للأمريكيين بلد غني يمكن للشركات الأمريكية أن تتنافس للحصول على فرص فيه،إذ أعلنت الشركة الأمريكية العملاقة جنرال إلكيتريك عن توقيع صفقة بقيمة 1,4مليار دولار أمريكي عام 2017 م، لتطوير الكهرباء في العراق، وهي صفقة اعتبرت الأكبر للولايات المتحدة هناك، وثمة شراكة متينة في المجال الأمني خاصةً بعد عام 2014 م، تكللت بنجاح القوات العراقية في قتالها ضد الإرهاب، وإلحاق خسائر كبيرة به مع الدعم الجوي للتحالف الدولي والأمريكي وبالتالي تجسيد حالة التعاون بين البلدين. وإدراك صانع القرار الأمريكي لأهمية العراق كحليف استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة،لاسيما إن الاقتصاد هو الميدان الرئيسي لترامب، ومركز إهتمامه وسعيه لبقاء عناصر قوة بلاده ومكانتها العالمية في ظل منافسة الصين العملاق الاقتصادي .
إلا أن إدارة ترامب التي تسعى لإعادة ترتيب أوضاع العراق ومستقبله السياسي في ظل تعقيدات الواقع العراقي، وإدراكها حقيقة التدخلات الإقليمية والدولية في شؤونه، فقد طلبت موقفًا أكثر وضوحًا من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إزاء الولايات المتحدة،واستخدام الضغط في بعض الأحيان بأن تكون علاقات العراق مع الولايات المتحدة هي الخيار الأول للسياسة العراقية وليس علاقاته مع إيران .
التواجد العسكري الأمريكي بالعراق :
منذ القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، بدأ الحديث داخل أروقة مجلس النواب العراقي عن رغبة بعض القوى السياسية في إنهاء تواجد القوات الأمريكية في العراق، وتزايدت هذه المطالبات مع السياسة الأمريكية في سحب وتحويل جزء من القوات الأمريكية المتواجدة في سوريا والكويت إلى القواعد الأمريكية في العراق،ثم قام ترامب بشكل سرّي بزيارة القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد( غرب العراق ) ليحتفل وسط جنوده بمناسبة رأس السنة الميلادية عام م2020.
وقد نشب جدال بين الأحزاب والقوى السياسية في العراق، بين من ترى أن وجود القوات الأمريكية ضمانة لحفظ الأمن ومواجهة التحديات الإرهابية،وقوى أخرى ترفض التواجد الأمريكي وتطالب برحيله أو تحجيمه واقتصاره على الاستشارات والخبرات فحسب،إذ يبلغ عدد القوات الأمريكية في القواعد العسكرية في العراق والتي تبلغ حوالي 31 قاعدة حوالي 5500 جندي . ومع اشتداد الصراع بين الولايات المتحدة وإيران على النفوذ في العراق، واستمرار القوى السياسية حلفاء إيران بالضغط على حكومة الكاظمي من أجل القيام بدور أكبر وأسرع في إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في البلاد،لاسيما بعد الغارة الجوية الأمريكية مطلع العام الحالي التي أدت إلى مقتل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ومعاون قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد الدولي،والتي تبعها توتر في العلاقات العراقية- الأمريكية على أكثر من مستوى،أدى إلى أن يصوّت بالأغلبية مجلس النواب العراقي على قرار إنسحاب القوات الأمريكية من البلاد،واستمرار الضغوط من أجل تحقيق ذلك الهدف لاسيما أن الكاظمي يتجه إلى زيارة واشنطن قريبًا، ولقاء ترامب ومناقشة قضايا عدة منها إستكمال جولات الحوار الاستراتيجي العراقي- الأمريكي التي بدأت مؤخرًا،ومتابعة قضية التواجد العسكري الأمريكي في ظل زيادة الهجمات الصاروخية على القواعد والقوات الأمريكية المتمركزة في العراق في الأشهر الأخيرة وفي المقابل تستمر الإدارة الأمريكية باستراتيجيتها في الضغط على حكومة الكاظمي من أجل إبقاء التواجد العسكري الأمريكي بما يضمن تحقيق التفوق الأمريكي على النفوذ الإيراني،والعمل على دعم القوات المسلحة العراقية،وإعادة علاقات العراق مع الدول العربية ولاسيما دول مجلس التعاون الخليجي،وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وتطويرها على حساب علاقات العراق مع إيران.
ثانيًا: تنامي العلاقات العراقية- الصينية
تعود جذور العلاقات العراقية - الصينية إلى حقب تاريخية سابقة كانت محط اهتمام السياسة الصينية بالشأن العراقي ولازلت حتى اليوم. ولكن ليس بالدرجة التي يمكن أن توصف بأنها سياسة استراتيجية ثابتة أو فاعلة حيال الملف العراقي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003م.
وقد دعت الصين إلى دعم العملية السياسية في العراق وجهود المصالحة الوطنية، وضرورة التزام دول الجوار العراقي بدعم استقراره مع التأكيد على دور أكثر فاعلية للأمم المتحدة لدعم العملية السياسية فيه. مع تعزيز التوجهات الصينية في علاقاتها مع العراق في المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية وملف النفط خاصةً. فقد احتل العراق مكانته في الاستراتيجية الصينية ضمن الدول التي تورد النفط للصين، كما إن طبيعة العلاقات الصينية – الأمريكية يجعل الصين غير مستعدة لتبني مواقف معارضة للسياسة الأمريكية في العراق،وهذا يعني أن المصالح الاقتصادية تأتي أولاً في الاستراتيجية الصينية حيال العراق،وأعتبرت هذا البلد مركز ثقل أساسي بالنسبة للاستثمارات الصينية وعقد الاتفاقيات النفطية معه،والدخول في شراكات تجارية واقتصادية وبقائه سوقًا رئيسيةً للمنتجات الصينية .
في حين أكّد العراق على ضرورة الاستفادة من التجربة الصينية في إدارة المناطق الاقتصادية لبناء نموذجًا عراقيًا يماثل التجربة الصينية .وبالفعل عقد مؤتمر التعاون الاقتصادي العراقي – الصيني عام 2011 م، في بكين، ودعت الحكومة العراقية الشركات الصينية إلى توسيع مشاركتها في العراق والمساهمة في إعادة إعماره،وأن يكون للصين حضور قوي وفاعل فيه. وتم التوصل إلى إتفاقية عراقية- صينية في سبتمبر/أيلول 2019 م، أثناء زيارة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي إلى بكين، بهدف رفع حجم الاستثمارات الصينية في العراق إلى أكثر من 20 مليار دولار أمريكي،وزيادة حجم المبادلات التجارية بينهما إلى 30 مليار دولار ،والحديث عن حجم متراكم من الإستثمارات الصينية يتجاوز 500 مليار دولار على الرغم من أن هذه الاتفاقية لم ترى النور للآن، فقد واجهت زوبعةً سياسيةً وإعلاميةً واسعةً في البلاد،وتوترًا في علاقات العراق مع الولايات المتحدة التي لم ترحّب بتوقيع الاتفاقية مع الصين .
وهكذا فإن العراق يحتل مكانةً متميزةً في الاستراتيجية الصينية في منطقة الشرق الأوسط،ويأتي ذلك من حاجة الصين المتزايدة للنفط والطاقة ،فضلاً عن التعاون المتصاعد في الجوانب التجارية والاقتصادية والاستثمارية والصحية والعلمية والثقافية بين البلدين. فالصين دولة عظمى أصبحت تمثل محور التحالفات في قارة آسيا، وتهتم بتطوير علاقاتها مع العراق بمختلف المجالات.
ثالثًا: العراق في الاستقطاب الإقليمي والدولي
الخلافات العربية-العربية سمحت لقوى إقليمية ودولية،ومن أبرزها تركيا وإيران للتدخل في الشؤون العربية، وتحقيق أهدافهما الإقليمية بسبب اتجاه الدول العربية إلى التحرك بصورة أحادية تجاه المخاطر التي تهدد أمنها بدون التنسيق العربي-العربي،أو إقامة تحالفات مع قوى خارجية بالضد أحيانًا من المصالح العربية .
وفي ضوء التحولات البنيوية التي شهدها النظام الاقليمي، فإن المحور الإيراني تمكن من الإستمرار في توسيع نفوذه ،وتكوين تحالفات مع عدد من القوى السياسية والأحزاب في العراق بعد عام 2003 م، مما جعل لها مصالح ونفوذ سياسي وأمني وتجاري واقتصادي ومكاسب إقليمية كلاعب فاعل في العراق،يواجه هذا النفوذ رفضًا من قبل الولايات المتحدة في عهد ترامب، والذي تسعى إلى أن يكون العراق أكثر استقلالاً في علاقاته الخارجية،وأقرب إلى الدول العربية ومنها دول مجلس التعاون الخليجي وبالتالي بعيد عن النفوذ الإيراني.
أما تركيا، فقد كان إهتمامها بأن يكون لها دور فاعل في النظام الإقليمي لاسيما بعد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى السلطة،وأعتماد توجهات إقليمية بإرث السلطنة العثمانية تجاه الدول العربية، والتي كان لها التأثير المباشر في التدخل بأزمات المنطقة كما في سوريا وليبيا ومصر واليمن والعراق. ولاسيما بروز الدور التركي في التأثير على مجريات الأحداث في العراق،والذي يعتبر بالنسبة لها دولة جوار جغرافي وإرث تاريخي،وبينهما مصالح تجارية واقتصادية واستثمارية،وأواصر اجتماعية ووجود جالية عراقية كبيرة في تركيا لاسيما بعد أحداث الموصل واحتلالها عام 2014م، فضلاً عن أن العراق من الدول المهمة في الاستراتيجية التركية،ولديها مصالح كبيرة فيه ترافقت مع التدخل العسكري التركي في شمال العراق،والذي تصاعد مؤخرًا وأدى إلى توتر في العلاقات السياسية بين البلدين .
بينما تمثل العلاقات بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي،وفي مقدمتها مع المملكة العربية السعودية أهميةً متميزةً،وتبلورت باتجاه النمو منذ عام 2014م، بالتعاون المشترك في مواجهة الإرهاب،وتطور العلاقات الدبلوماسية والتجارية والإقتصادية والثقافية بين الطرفين،ومحاولة إقامة التوازن العربي في العراق من خلال خلق بيئة للتعاون العراقي- الخليجي،وإن العراق بحاجة إلى الاستمرار في بناء علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي والاستفادة من التجارب السابقة التي مر بها لكي يستعيد دوره الخليجي والعربي،مع الدعم الأمريكي لجميع خطوات التقارب العراقي-الخليجي ومن بينها إنشاء المجلس الاستراتيجي العراقي-السعودي في عهد حكومة حيدر العبادي بمباركة وحضور أمريكي لدعم وتأكيد هذا التوجه في النظام الإقليمي،ومحاولة واشنطن الدفع بالعراق بعيدًا عن النفوذ الإيراني ومحوره المؤثر في المنطقة،وأن يكون ضمن خط الاعتدال العربي ومحوره الذي تقوده الرياض ومعها دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن.
رابعًا:مستقبل العلاقات الأمريكية-الصينية وتأثيره على العراق
استمر مشهد النظام العالمي المعاصر قائمًا حتى ظهور جائحة فايروس كورونا المتسجد (كوفيد19) . إذ بات انتشار الجائحة يهدد العلاقات الصينية -الأمريكية لتتحول إلى مرحلة أكثر صعوبةً، والذي قد يؤثر بشكل كبير على مسار انتشار الجائحة وخارطة توزيع القوى السياسية والاقتصادية العالمية بعد الانتصار عليها من قبل المجتمع الدولي. وستكون مسألة استعادة قوة الإقتصاد الصيني لها دور حيوي في إعادة تأهيل الاقتصاد العالمي،نظرًا لأن الاقتصادين الأمريكي والصيني يشكلان حوالي 80% من حجم الاقتصاد العالمي اليوم .
إلا أن مراحل التصعيد السياسي والتجاري تتواصل بين الولايات المتحدة والصين يومًا بعد آخر، ومنذ أشهر بدات الحملة الأمريكية التي تستهدف الصين تتنامى من خلال إتهامها بتصنيع الفيروس ونشره في العالم، ومرةً أخرى التهديد بفرض عقوبات اقتصادية عليها ودفعها تعويضات مالية كبيرة. ويبدو أن الولايات المتحدة تحاول أن تواجه الأزمة الصحية والاقتصادية المتفاقمة لديها جراء تفشي الجائحة باستمرار الاتهامات الأمريكية الموجهة إلى الصين بأنها كانت هي سبب انتشار الفايروس في العالم و بذلك التمهيد لطلب تعويضات منها .
ويبدو أن الصين تستخدم خبراتها في مواجهة الجائحة كونها أول دولة ظهر فيها الفايروس وقدرتها على الانتصار عليه ومحاولة وضع قواعد جديدة لعلاقاتها مع الولايات المتحدة في المستقبل،وستواصل الصين وروسيا الاتحادية محاولاتهما لتوسيع نفوذهما في المناطق التي تخدم مصالحهما ولو على حساب الولايات المتحدة ومناطق نفوذها التقليدية ومنها في منطقة الشرق الأوسط . ويصف هذا المشهد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان حينما قال "إن (وباء كوفيد 19) يفاقم الانقسامات العالمية والخصومة الصينية الأميركية ويُضعف في نهاية المطاف التعددية الدولية."
وفي الشرق الأوسط،هنالك المصالح الصينية مع دول مجلس التعاون الخليجي والعراق،والتي تزود الصين بجزء كبير من النفط والغاز الطبيعي. وفي المقابل،ازدادت قدرة الولايات المتحدة على الاكتفاء من الطاقة. وتبقى أسعار الطاقة والاقتصاد العالمي معرضةً للتقلبات السياسية والصحية جراء الجائحة .وقد حدث تحول في استراتيجية الصين تجاه المنطقة العربية وتنامي مكانتها الاقتصادية والسياسية،وسعت إلى بذل المزيد من الجهود من خلال عقدها مؤتمرات دبلوماسية بشأن قضايا تخص سوريا والصراع الإسرائيلي -الفلسطيني،وعزّزت روابطها الاقتصادية مع العديد من الدول العربية ومنها العراق. وفي خضم تزايد التنافس بين القوى العظمى قد تتصاعد المخاوف بشأن الموقف الأمريكي تجاه الطموحات الصينية في العراق لاسيما في المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية. وربما أدى التنافس الاقتصادي الأمريكي- الصيني في العراق إلى المواقف الحادة التي أظهرتها واشنطن وحلفاؤها في العراق تجاه توقيع الاتفاقية العراقية-الصينية عام 2020 م، ومحاولة إحباطها،ومناكفة حكومة عادل عبدالمهدي والسعي لمحاولة إسقاطها،أو إبداء الإرتياح الكبير بسقوطها لكونها وقّعت تلك الاتفاقية والتي ترافقت مع الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها أغلب المدن العراقية في تشرين الأول/أكتوبر2019م، ضد حكومة عبدالمهدي أيضًا، والتي على مايبدو أنها لم تدرك حقيقة أن المدرك الأمريكي السياسي تجاه العراق بعد عام 2003م، في إطار رسم الخارطة الجديدة لتوزيع مناطق النفوذ في الشرق الأوسط يرى أن هذا البلد قد أصبح منطقة نفوذ أمريكية.
إن العراق في وضعه الاقتصادي والسياسي يمثل فرصةً واعدةً بالنسبة للصين من أجل دعم حضورها على الساحة العراقية، بدايةً من الإستثمار في قطاع النفط والغاز،والدفع بتنفيذ الجزء قبل الأخير من المحور الشمالي الثاني من طريق الحرير الجديد الذي يربط غرب الصين بالبحر الأبيض المتوسط عبر خط سكة حديد بما يجعل استخدام القطارات لنقل البضائع إلى أوروبا أقل تكلفة،وإعادة تأهيل شبكة سكة الحديد العراقية وفق المعايير الصينية أولويةً بالنسبة للطموحات الصينية في المنطقة.على الرغم من ذلك، فإن الصين تتجنب طرح نفسها في مواجهة الولايات المتحدة في العراق سواء في الصراع أو التنافس.
أما الموقف الأمريكي في ظل إدارة ترامب الذي لا يُخفي غضبه من التكلفة المادية الكبيرة التي تكبدتها الولايات المتحدة في عملية "تحرير العراق"،ثم الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، ومطالبته العلنية للحكومة العراقية بدفع التعويضات المالية المطلوبة. ويبدو أن ترامب لن يقف مكتوف الأيدي أمام منح أية حكومة عراقية الأولوية للصين في مشاريع إعادة الإعمار للمدن المحررة والبنية التحتية للبلاد والذي قد يفسر بأنه محاولة إضعاف للنفوذ الأمريكي في العراق.
وعلى الصعيد العراقي، فقد ظهرت ثلاثة إتجاهات في الأوساط السياسية والاعلامية والاجتماعية حيال العلاقات الأمريكية- الصينية وتأثيرها على العراق وهي :
الاتجاه الأول، ظهر هذا الاتجاه في بعض أروقة السياسة العراقية حكومةً وأحزابًا ممّن ينظروا إلى الولايات المتحدة كونها الشريك الأول والأهم للعراق بعد عام 2003م،والدولة العظمى التي لايمكن الاستغناء عنها بالنسبة للعراق لتحقيق مصالحه العليا في الأمن والتنمية والعلاقات الخارجية.
الاتجاه الثاني، يرى أصحاب هذا الرأي بأن العراق لم يكسب شيئًا من علاقته مع الولايات المتحدة خلال العقدين الأخيرين، وعليه أن يتوجه للتحالف مع الدول الكبرى في الساحة الدولية مثل روسيا الإتحادية والصين أو حتى الهند.
الاتجاه الثالث، ينادي أصحاب هذا الرأي بضرورة بناء شراكة متوازنة دولية في علاقات العراق الخارجية تجمع بين الولايات المتحدة والصين وغيرهما لمافيه تحقيق مصالح البلاد التي تمر بأزمات متفاقمة داخلية وخارجية.
وعليه فإن الصراع الأمريكي- الصيني مابعد الجائحة لم يقتصر على ساحة نفوذ معينة وربما تأثيره أمتد إلى العراق، وبالنهاية على العراق أن يستفيد من الدروس العميقة والمكلفة الذي مر بها بعد حزيران/يونيو عام 2014 باتجاه تجاوز أخطاء وسلبيات الماضي، وإحداث نوعًا من التوازن في القوة Balance of Power في علاقاته الإقليمية والدولية، ويبتعد عن أن يكون جزءًا من الصراع الأمريكي-الصيني،وإن إقامة سياسة خارجية متوازنة مع الدولتين الكبيرتين ستحقق مصالح العراق في سيادته واستقراره وأمنه وإعادة بناء اقتصاده، وأن تكون هي السياسة الأسمى في الظروف الراهنة التي يمر بها البلد.