تزامنت عدة أحداث جعلت من شرق البحر الأبيض المتوسط ، منطقة صراعات كبرى محتملة، وربما تكون هذه المنطقة هي الأكثر سخونة بالعالم في المستقبل القريب، نظرًا لطبيعة الصراع كونه صراعًا على الثروة و النفوذ مع محولات لتثبيت قوى جديدة على حساب دول المنطقة، مع كثرة الأطراف المتداخلة في هذا الصراع سواء الدول التي تخوض حلبة الصراع بمواجهات مباشرة، أو التي تقود الصراع بالوكالة، أو التي تحرك الصراع عن بُعد من القوى الكبرى، إضافة إلى اختلاط إدارة الصراع بين دول وميليشيات مسلحة متعددة الولاءات ومختلفة الأصول والتوجهات والتمويل، وكذلك تفاوت قوة الدول المنخرطة في هذا الصراع سواء كانت قوية عسكريًا بما تملكه من أدوات القوة الذاتية، أو من خلال عضويتها في حلف شمال الأطلسي "الناتو" ، وأيضًا تدخل أمريكا وروسيا بصورة غير مباشرة، وكذلك وجود إسرائيل وعلاقتها بالأزمة باعتبارها موجودة في منطقة شرق المتوسط، بل دخلت إيران أيضًا على خط الصراع من زاوية أخرى في ظل انشغال القوى الإقليمية والدولية في صراع المتوسط، وأخذت طهران تخطط وتنفذ للوصول إلى شرق المتوسط بخط سكة حديد يبدأ من إيران مرورًا بالعراق ثم سوريا وينتهي بلبنان وهذا تطور غير مسبوق يهدد الأمن القومي العربي والإقليمي.
وغير خفي أن الصراع في ليبيا بين تركيا وأدواتها من الميليشيات والجماعات الإرهابية المسلحة التي تهيمن على غرب ليبيا وتواجه دول الجوار الليبي ودول الاتحاد الأوروبي، بل والمجتمع الدولي في وقت واحد، تهديدًا خطيرًا على جانبي البحر المتوسط وشمال إفريقيا ويتمدد إلى إفريقيا جنوب الصحراء.
وزاد من التوتر والقلق أن المجتمع الدولي غير حاسم أو غير متفق على إنهاء هذا الصراع، فهناك قلق أمريكي من النفوذ الروسي في شرق ليبيا ومن إقامة قواعد عسكرية روسية في هذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز على ما تعتقد واشنطن أن المشير خليفة حفتر وعد روسيا بقواعد عسكرية ما دفع واشنطن إلى دعم الوجود التركي في غرب ليبيا، كما أن دول الاتحاد الأوروبي غير متفقة على توحيد مواقفها تجاه تركيا واتضح ذلك منذ أن بدأت الأزمة، وكشف ذلك الخلاف على فرض عقوبات أوروبية على أنقرة، وهذا الخلاف هو الذي أخر صدور بيان القمة الأوروبية التي انعقدت في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي، وانعكس ذلك أيضًا على الكر والفر التركي في شرق المتوسط.
ورغم التصعيد الذي بلغ أشده الشهر الماضي في شرق المتوسط، إلا أنه ظهرت عدة مؤشرات إيجابية، منها إبرام اتفاقية تأسيس منظمة شرق المتوسط للغاز ومقرها القاهرة وتضم في عضويتها الدول المنتجة للغاز في شرق المتوسط . وتعتبر هذه المنظمة خطوة مهمة جدًا لدعم صناعة الغاز في هذه المنطقة الثرية جدًا بمخزون الغاز المسال في العالم وستكون المورد الرئيسي للدول الأوروبية، وقد تنضم إليها أعضاء جدد في المستقبل حسب بيان تأسيس هذه المنظمة، ومن المرجح أن تنضم إليها ليبيا بعد استقرارها، وقد تنضم إليها روسيا إذا ما رأت موسكو أن عضويتها في هذه المنظمة تحقق لها فوائد باعتبارها من كبريات الدول المنتجة والمصدرة للغاز.
و فيما يتعلق بالدول العربية المطلة على البحر المتوسط أي مصر وليبيا في مواجهة تركيا، فهناك أيضًا مؤشرات إيجابية تمثلت في إعلان فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية المنتهية ولايتها والموالية لتركيا رغبته في الاستقالة، وتبع ذلك محادثات بين الأطراف الليبية لمرحلة ما بعد السراج حيث جرت مفاوضات في عدة عواصم ومدن أوروبية وعربية للتأسيس لحكومة جديدة في شرق ليبيا، حيث لجأ الشعب الليبي إلى الحلول الداخلية بدعم دول الجوار والمجتمع الدولي حيث أدركت الدول المعنية أن إطالة أمد الأزمة سيكون على حساب الشعب الليبي، وأمن دول الجوار ، بل وأمن دول الاتحاد الأوروبي حيث بدأت تتحول هذه الدولة الإفريقية والمتوسطية إلى تجمع للمرتزقة الذين جلبتهم تركيا وقد تحولوا إلى قنابل موقوتة قد تنشر شظاياها في دول الجوار وفي إفريقيا جنوب الصحراء، إضافة إلى كون ليبيا محطة لتهريب البشر إلى دول الاتحاد الأوروبي في قوارب الموت التي تنقل كتائب المهاجرين غير الشرعيين، وأيضًا تعطل القدرة الإنتاجية من النفط والغاز التي تحتاجها الدول المستهلكة للنفط ما يتسبب في زيادة الأسعار العالمية.
لذلك دعت الدول الأوروبية وأمريكا إلى العمل بمبادرة القاهرة لإنهاء الصراع في ليبيا، وأن يكون الحل داخليًا، وقد بدأ تحقيق ذلك، ويتبقى ضرورة أن يضع المجتمع الدولي تركيا في إطار حدودها الجغرافية حتى لا تنفجر المنطقة ، وعلى المجتمع الدولي مواجهة أحلام أردوغان التوسعية التي تهدد المنطقة والعالم.