لقد أضحى الصراع الليبي بمثابة عبرة وعظة للدول الأوروبية فيما يتعلق بثلاثة تحديات رئيسية في الحاضر والمستقبل. أولًا، لقد سلط الضوء على معاناة الأوروبيين المتواصلة لمجابهة المحاولات الخرقاء للولايات المتحدة لرفع يد المعونة عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبالفعل في عام 2011م، أعلن الرئيس باراك أوباما أن الولايات المتحدة سوف "تقود من الخلف" حملة الناتو ضد معمر القذافي، وهي فكرة متناقضة ومربكة حيث كان من الصعب على الأوروبيين تحديد مغزاها. ثانيًا، فقد أظهر الصراع الليبي كيف أن الانقسام الأوروبي يؤدي حقًا إلى نتائج عكسية ويضر بمصالحها الخاصة. ومع قرب إيطاليا من حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة ودعم فرنسا لرجل ليبيا القوي خليفة حفتر، كان على الأوروبيين أن يختاروا موقفًا محددًا، لاسيما في الفترة بين عامي 2014 و2018م. ثالثًا، كانت الفوضى في ليبيا دليلًا على سوء تقدير الأوروبيين للنفوذ المتزايد للدول الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد فشل صانعو السياسة الأوروبيون لفترة طويلة جدًا في فهم نوايا الدول الإقليمية في أن يصبحوا لاعبين جيوسياسيين ذوي مكانة عالية وأن تكون السيادة اللاحقة للملف الليبي لهم. إن المبادرات الدبلوماسية الأخيرة التي قامت بها ألمانيا حول ليبيا هي محاولة متأخرة لكنها محاولة واعدة لتنسيق استجابة متعددة الأطراف لهذه التحديات الثلاثة.
وقد كثفت ألمانيا-التي طالما ترددت في الانخراط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا-تركيزها على ليبيا في وقت متأخر جدًا، أي حوالي عام 2018م، وكانت برلين مدفوعة بشكل أساسي بالمخاوف بشأن الخلاف بين فرنسا وإيطاليا، والتي كانت تتعمق بشكل مقلق في ظل حكومة شعبوية في روما. وقد كانت باريس وروما تستضيفان العمليات الدبلوماسية المتنافسة، التي كانت تغذي بشكل أساسي خطوط الصدع القائمة، بدلاً من معالجتها. ومع تشكيل حكومة جديدة في إيطاليا في نهاية عام 2019م، كان هناك استعدادًا كبيرًا في روما نحو إجراء تنسيق أوثق، وإن كان حاسمًا، بين فرنسا وأوروبا بوجه عام.
وفي هذا الصدد، في منتصف عام 2019م، شرعت ألمانيا في "عملية برلين" لصالح ليبيا: وهي عبارة عن تجمع كبير متعدد الأطراف، مُصمم جنبًا إلى جنب مع الأمم المتحدة، لمواءمة القوى الخارجية الرئيسية مع المصالح في ليبيا حول إعلان عدم التدخل، مع التأكيد بشكل خاص على البعد العسكري. وإلى جانب الممثلين الرئيسيين في ليبيا، فايز السراج وخليفة حفتر، ومسؤولي الأمم المتحدة، دعت برلين الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والإمارات العربية المتحدة، وتركيا، ومصر، والجزائر، والكونغو. للتأكيد على التزامها بالنزعة التعددية، دعت ألمانيا أيضًا جامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي. وفي المؤتمر الأخير المنعقد في يناير 2020م، وافق المشاركون رسميًا على دعم عملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بما في ذلك احترام وقف إطلاق النار وحظر الأسلحة، وأهمية العملية السياسية داخل ليبيا.
ومع ذلك، وبعد مرور بضعة أسابيع، تم استئناف القتال في ليبيا، حيث شنت قوات حفتر هجومًا آخر للتقدم باتجاه طرابلس، ونشرت تركيا مواردها لوقف الحملة بنجاح. وسرعان ما اتضح في برلين أن نجاحات حفتر العسكرية كانت ممكنة فقط بفضل الدعم الذي تلقته من دول الجوار الإقليمي، من حيث المساعدة المالية، وتوصيل الأسلحة وإعداد استراتيجية منسقة. وكان من الواضح بالقدر نفسه أن القوات والأصول البحرية والجوية التي قدمتها تركيا والدعم المالي المقدم من قطر كان أمرًا ضروريًا للغاية لحكومة الوفاق الوطني. وأرسلت برلين وزير الخارجية، هيكو ماس، إلى كل من أبو ظبي وأنقرة لإجراء تنسيق جديد لوقف إطلاق النار في أغسطس 2020م، وكان هذا أمرًا غير اعتيادي بالنسبة للسياسة الألمانية، إذ نادرًا ما تميز برلين القوى الإقليمية، لا سيما في الخليج، وتعترف بدورها ومسؤولياتها في الصف الأمامي في الأزمات الإقليمية. ومع ذلك، أظهرت الاشتباكات التي حدثت في الصيف فشل عملية برلين في معالجة البعد الإقليمي للصراع الليبي. ولا يزال هذا البعد بارزًا وغير مخطط له بشكل كاف.
لم تقم جميع الدول الأوروبية بتأطير الصراع الليبي بشكل شامل في بعده الإقليمي، أي كمظهر من مظاهر التنافس الجيوسياسي بين مجموعتين إقليميتين قاما بالانخراط في القتال لاحتلال مناطق النفوذ التي تم إهمالها نتيجة لسياسات تقليص النفقات الأمريكية، والقوى العالمية المشاركة بشكل جزئي والأنظمة المحلية المحطمة. ففي ليبيا، عزمت المجموعة التي تضم الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والمملكة العربية السعودية على منع المجموعة التي تضم قطر وتركيا من تأسيس موطئ قدم ناجح للحوكمة في شمال إفريقيا، مما يمنحهم إمكانية الوصول إلى موارد البلاد الاقتصادية وموارد الطاقة، إلى جانب الوصول إلى موانئها ذات الموقع الاستراتيجي، ولم يتمكن اللاعبون الأوروبيون-الذين يدركون هذا السياق-حتى الآن من التأثير عليه بشكل مجدٍ، فقد أعاقهم نهجهم الاستبعادي والانفرادي من القيام بذلك.
ونظرًا لفشل جميع الأطراف المعنية في إيجاد حل معقول ومستدام، فقد أصبح الصراع الليبي الآن جزءًا لا يتجزأ من ديناميكيات أوسع في شرق البحر المتوسط وقد أضاف المزيد من التعقيد إليها. إن الفضاء الجيوسياسي هو عبارة عن شبكة من التوترات والصراعات التي لم يتم حلها والتي يصعب فصلها بشكل متزايد. وتنظر ألمانيا إلى الملف الليبي في إطار علاقته بالقضايا الأخرى في شرق البحر المتوسط وعلى صعيد العلاقات الحاسمة والجوهرية بين أوروبا وتركيا، وعليه تعمل ألمانيا على توحيد الموقف الأوروبي. وبإحاطة الاتحاد الأوروبي وبدعم من إسبانيا وإيطاليا، كان ينبغي على ألمانيا إعادة التركيز على البعد الأوروبي للتوترات في شرق البحر المتوسط، أي التنافس بين أعضاء الاتحاد الأوروبي من اليونان وقبرص ضد تركيا. وبينما يدعمون بشكل قاطع نظراءهم من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فليس من المصلحة الأوروبية ترك النزاعات تتصاعد بشكل كبير مع تركيا. وفي غضون ذلك، ستؤدي هذه المسائل حتمًا إلى إبعاد التركيز عن وجهات النظر الأكثر اهتمامًا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشأن هذه الملفات.
وقد يؤثر هذا أيضًا على نهج ألمانيا تجاه ليبيا على صعيد بعدها الإقليمي، وبالتالي سوف يؤثر على انخراطها مع دول الخليج. وبينما كانت برلين تستكشف بشكل متزايد الأساس الجوهري للانخراط مع الخليج، لم يكن هذا المسار هو الأسهل حتى قبل التصعيد في شرق البحر المتوسط، نظرًا لأن برلين لا تتمتع بأي خبرة سياسية متعمقة في المنطقة. وعلى غرار القوى الأوروبية الأخرى، مع استثناء فرنسا بشكل جزئي، كان مستوى الانخراط الجيوسياسي مع الدول الخليجية سطحيًا بشكل خاص. ولا تزال العلاقات الثنائية متوقفة بسبب هذه الخلفية الضعيفة والعزوف عن رفض الرأي العام الألماني. وبأخذ ما سبق في الاعتبار، خاصةً إذا ما استنفذت برلين جهودها في الخلاف اليوناني-التركي، فمن غير المرجح أن تجد لديها القدرة والطاقة السياسية اللازمتين للسعي إلى تأسيس حوار استراتيجي مع دول الخليج، حتى بشأن ليبيا. وهذا يعني أنه في حال أرادت عواصم دول الخليج، بدلاً من ذلك، استكشاف الفرص التي يوفرها هذا النوع من المشاركة الاستراتيجية مع أوروبا، فستكون الكرة بلا شك في ملعبهم