بداية، لا يمكن التقليل من أهمية الانتخابات الأمريكية على المستوى العالمي، حيث تسيطر الولايات المتحدة وحدها على ما يقرب من 25% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وتحتفظ بالمركز الأول باعتبارها قوة عسكرية بلا منازع في العالم، من الناحيتين الكمية والنوعية، وتمتلك ميزانية دفاعية أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الدول والتي تبلغ 738 مليار دولار. وبالإضافة إلى ذلك، تلعب الولايات المتحدة دورًا أساسيًا في الحوكمة العالمية نظرًا لدورها التاريخي في الحفاظ على موقع قيادي في المنظمات الدولية والمعاهدات متعددة الأطراف والعلاقات الثنائية. كما دأبت الولايات المتحدة على دعم سيادة القانون وعمليات الانتقال الحكومية السلمية وبناء القدرات المؤسسية على مستوى العالم. وعليه، فإن نتائج الانتخابات الأمريكية لا تكتفي ببث رسائل على مستوى العالم بشأن دور الولايات المتحدة في العالم فحسب، بل إنها توضح للعالم دور الديمقراطية في الولايات المتحدة، وهي الصورة المثالية التي طالما رسمتها الولايات المتحدة في سياساتها. وفي هذا السياق، ستدرس هذه المقالة عملية الانتخابات الأمريكية 2020م، وتأثير الانتخابات على مؤسسات صنع السياسة الخارجية والسياسات التي قد نتوقعها بعد تنصيب جو بايدن في يناير 2021م.
نظرة عامة على الانتخابات الرئاسية 2020
في الثالث من نوفمبر 2020م، بدأ فرز الأصوات للانتخابات الرئاسية الأمريكية التاسعة والخمسين، وأثارت تغطيتها الإعلامية الاهتمام العالمي. ونظرًا للتركيز الكبير للقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة، فإن نتائج أي انتخابات أمريكية معينة لها تداعيات وتشعبات عالمية. وتتسم انتخابات 2020م، بأهمية خاصة، حيث تشهد الساحة العالمية للشؤون الدولية عوامل دفع وجذب متغيرة من شأنها تغيير نماذج الحوكمة العالمية قصيرة وطويلة الأجل. ونظرًا للمتغيرات الدولية والمحلية التي تجري في ظلها الانتخابات، فإن انتخابات 2020 تختلف كثيرًا عن الانتخابات الأمريكية السابقة. وعلى الصعيد المحلي، لم يكن المشهد السياسي الأمريكي أكثر استقطابًا منذ الحرب الأهلية، حيث لا يزال المواطنون منقسمين بشأن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عبر مختلف الأطياف السياسية.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة واحدة من أكثر الدول تضررًا من وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، حيث بلغ عدد الوفيات الناجمة عن الفيروس حوالي 238,000 حالة وفاة، وأصيب حوالي 10 ملايين شخص. ومن الناحية الاقتصادية، عانى ما يقرب من 40 مليون أمريكي من خسارة الوظائف بسبب الآثار الاقتصادية الأوسع نطاقًا للوباء، كما كلف الوباء الاقتصاد الأمريكي حوالي 3 تريليونات دولار. وعلى الصعيد العالمي، تواجه الولايات المتحدة تحديات وعقبات مختلفة للحفاظ على موقعها الريادي في شبكات التحالف والمنظمات متعددة الأطراف. وعلى وجه التحديد، صعود الصين باعتبارها قوة منافسة في نظام عالمي ثنائي القطب، وعدم الاستقرار الإقليمي الناجم عن طهران، وزيادة مخاطر الإرهاب، وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وتغير المناخ، والحرب الإلكترونية المباشرة وغير المباشرة. وعلى هذا النحو، تأتي هذه الانتخابات في وقت أكثر أهمية من أي وقت مضى، ليس فقط من أجل الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات المحلية، ولكن أيضًا لتسخير أدوات سلطة الدولة لمكافحة التهديدات العالمية لتعزيز السلام والأمن والازدهار والاستقرار. وعلاوة على ذلك، شهدت هذه الانتخابات أيضًا أعلى نسبة مشاركة للناخبين في تاريخ البلاد، مما يمثل نقطة تحول مهمة في المشاركة السياسية الأمريكية، حيث تم الإدلاء بحوالي 161 مليون صوت في جميع أنحاء البلاد.
وفقًا لوكالة أسوشييتد بريس، حصل بايدن على أصوات الأغلبية في 26 ولاية بما في ذلك العاصمة، وبالتالي، تم إعلان فوزه في انتخابات 2020م، على الرغم من أن تصويت الهيئة الانتخابية الفعلي سيجري في منتصف ديسمبر. وخصت الانتخابات في النهاية عددًا قليلًا من الولايات الرئيسية المتأرجحة مثل نيفادا وأريزونا وويسكونسن وميشيجان وبنسلفانيا. وتسمى الولايات المتأرجحة بهذا الاسم بسبب عدم القدرة على التنبؤ تاريخيًا فيما يتعلق بأغلبية التصويت للديمقراطيين أو الجمهوريين، وبالتالي تحظى تقليديًا بأكبر قدر من التركيز في الحملات الرئاسية، لأنها في الواقع غالباً ما تحدد نتائج الانتخابات. وفي الساعات الأخيرة من يوم السبت، الموافق 7 نوفمبر، أعلنت وسائل الإعلام فوز نائب الرئيس السابق والسناتور جو بايدن في الانتخابات الأمريكية بعد ما يقرب من أربعة أيام من عدم اليقين العالمي والمحلي. وسيؤدي الرئيس المنتخب البالغ من العمر 77 عامًا ونائبته كامالا هاريس اليمين الدستورية في حفل التنصيب الرئاسي في يناير 2021م، مما يمثل نقطة تحول مهمة في السياسة الداخلية للولايات المتحدة حيث ستكون كامالا هاريس أول امرأة، وأول سوداء وأول شخص من جنوب آسيا يتم انتخابها نائبًا للرئيس في تاريخ الولايات المتحدة.
على الرغم من ذلك، أعرب الرئيس ترامب عن قلقه إزاء الأنشطة الاحتيالية المحيطة بالعملية الانتخابية طوال فترة حملته الانتخابية. وقبل يوم الانتخابات، عزا المخاطر المرتبطة بنزاهة الانتخابات ومنع تزوير الانتخابات إلى التدخل الأجنبي في عملية فرز الأصوات. ومع ذلك، أجبرت التداعيات الصحية لوباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الولايات على اتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز التباعد الاجتماعي، وذلك في المقام الأول لتجنب انتشار الفيروس نتيجة الحشود والطوابير الطويلة التي تتشكل في مراكز الاقتراع. وعلى الرغم من إجراء الاقتراع عبر البريد في السابق في إطار الاقتراع الغيابي، وكذلك وضع أحكام تتعلق بالناخب المسجل غير القادر على التصويت شخصيًا، إلا أن وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) أجبر الولايات على اتباع سياسات التصويت بالبريد بدون عذر، وسن إصلاحات حكومية بشأن أحكام التصويت التي يتعين إجراؤها بسبب الوباء. ويسمح التصويت بالبريد بدون عذر، في جوهره، لأي ناخب مسجل بتقديم اقتراع فردي دون الذهاب فعليًا إلى مركز الاقتراع، مما يُمكّن المواطنين من البقاء في منازلهم مع تعزيز ارتفاع نسبة مشاركة الناخبين. وعلى الرغم من انتقادات ترامب وجهوده الواسعة النطاق لتجنب الاقتراع عبر البريد، بموجب دستور الولايات المتحدة، فإن البند 4 من المادة 1 من قانون الانتخابات، يُخول الولايات اختيار وقت ومكان وطريقة الانتخابات، وعليه، منح الولايات الاختصاص القضائي لاختيار أغلبية القوانين التي تحكم طريقة التعامل مع الانتخابات داخل الولاية. وفيما يتعلق بالحزبين السياسيين في الولايات المتحدة، الديمقراطي والجمهوري، تشير اقتصاديات التصويت إلى أن ارتفاع نسبة الناخبين يميل إلى الرضوخ لصالح المرشحين الديمقراطيين في تأمين الانتخابات. وأعلن الرئيس ترامب عن نيته نقل قضية تزوير الانتخابات إلى المحكمة العليا، مشيرًا إلى وجود مخالفات ولضمان عدم النظر في الأصوات غير المؤهلة للانتخاب، على سبيل المثال تلك الأصوات التي زعم أنها أُدلى بها بعد يوم الانتخابات. وفي جوهر الأمر، نزع ترامب الشرعية عن نتائج الانتخابات، الأمر الذي يشكل عقبة جوهرية أمام مرونة المؤسسات الأمريكية، حيث يعتقد جزء كبير من أنصار ترامب أن الانتخابات قد سُرقت، مما تسبب في احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يبذل فيها مرشح رئاسي جهودًا لنقل القرار إلى المحكمة العليا. وتهدف مزاعم ترامب الأخيرة بشأن تزوير الانتخابات في ولاية بنسلفانيا، وهي تزوير الانتخابات، إلى الربط بين انتخابات عام 2000 للرئيس بوش (الجمهوري) ضد جور (الديمقراطي)، حيث رفع المرشح الأخير دعوى إلى المحكمة العليا يزعم فيها أن أول أداة لفرز الأصوات تم إنشاؤها آليًا في ولاية فلوريدا أسفرت عن نتائج غير دقيقة، مما يسمح بإعادة فرز الأصوات على مستوى الولاية بموجب بند "الحماية المتساوية". وتستند مزاعم ترامب إلى فرضية أن الأصوات قد أُسقطت بشكل غير قانوني بعد يوم الانتخابات، على الرغم من تجاهل هذا الأمر على نطاق واسع من جانب الحزب الديمقراطي بأكمله وحتى بعض أعضاء الحزب الجمهوري. وعلى الرغم من جهود ترامب لإلغاء الانتخابات، رحب قادة العالم بانتقال السلطة في الولايات المتحدة بحماس حيث تتجسد في بايدن صفات إعادة توحيد المهام والإجراءات والرؤى العالمية نحو تحقيق الأهداف المشتركة مع حلفاء الولايات المتحدة.
النظرة العامة للسياسة الخارجية للرئيس بايدن:
ستتولى إدارة بايدن مهامها في بيئة عالمية مليئة بالتحديات الناجمة عن أهم التحديات الصحية والأمنية العالمية في التاريخ الحديث. وعليه، سيكون من أهم مشاغل رئاسته مواجهة التحدي المتمثل في وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) (الصحية والاقتصادية) على الصعيدين العالمي والمحلي. وسوف تنبثق إدارة بايدن من إدارة أوباما ولكنها لن تلتزم بالضرورة بسياسة أوباما الخارجية. فعلى سبيل المثال، على الرغم من تعهد بايدن بإعادة التفاوض بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أنه حدد البروتوكولات والأحكام الإضافية اللازمة باعتبارها جزء من إعادة التفاوض – مثل معالجة برنامج الصواريخ الباليستية وسياسات التدخل الإيرانية. وبالنظر إلى أدوات السياسة التي من المرجح أن يطبقها بايدن لتحقيق أهداف سياسته الخارجية، فقد أعرب الرئيس المنتخب، في وقت سابق، عن استعداده لنشر قوات لعمليات خاصة ذات هدف ضيق. ومع ذلك، فمن المرجح أن تميل رئاسة بايدن إلى تفعيل الدبلوماسية من خلال القنوات الرسمية وغير الرسمية لاستقطاب الحلفاء والخصوم وإكراههم على تعزيز الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة. وتميل نظرة بايدن الليبرالية للعالم الى الاستعانة بالمنظمات الدولية والمعاهدات متعددة الأطراف وتعزيز قوتها. ولذلك، فإن رئاسته سوف تميل إلى تنشيط العلاقات بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإعادة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية ودعم الأمم المتحدة. وفيما يتعلق بالصين، من المرجح أن يتطرق بايدن إلى ما زعم أنه أنشطة إقليمية خبيثة صينية، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان المحلية والتجسس الإلكتروني العالمي. ويمكنه القيام بذلك من خلال وضع سياسات لمواجهة تحديات محددة بدلًا من النهج الترامبي لتجريم النظام. ونظرًا لأن مكافحة العواقب الاقتصادية لوباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) ستكون أولوية في عام 2021م، فإن العمل مع الصين من أجل تعزيز النمو الاقتصادي العالمي سيكون أمرًا ضروريًا لاتباع نهج سياسي دقيق. ومن المرجح أن يرتكز سلوك السياسة الخارجية الأمريكية على المؤسسات الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لتحقيق السلام والازدهار في جميع أنحاء العالم.
وقد تعهد بايدن بعودته إلى اتفاقية باريس وإعادة ترسيخ التزام الولايات المتحدة بالحياد الكربوني لمكافحة خطر التهديد الوجودي الذي يشكله تغير المناخ على المجتمع الدولي. وصرح بايدن أن الولايات المتحدة تحتاج إلى استثمار ما يقرب من 2 تريليون دولار لإحراز تقدم ملموس فيما يتعلق بمكافحة الاحتباس الحراري. وسيؤدي هذا أيضًا إلى تعزيز جهود بايدن لإعادة الثقة والعودة إلى العلاقات الطبيعية مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وصاغ ترامب، منذ توليه منصبه، خطاباته السياسية وسياساته على أساس نهج أمريكا أولًا، والذي أدى إلى اتخاذ إجراءات أحادية الجانب، غالبًا ضد حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، مثل فرض التعريفات الجمركية والانسحاب من اتفاقية باريس، مما أضعف دعم الاتحاد الأوروبي. لسياسات الولايات المتحدة. وينظر بايدن إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره شريكًا حيويًا للولايات المتحدة، وبالتالي فمن المرجح أن تعطي رئاسة بايدن الأولوية للسياسات الرامية إلى إعادة بناء الثقة واستعادة مصداقية الولايات المتحدة في تلك العلاقة.
النظرة الإقليمية للسياسة الخارجية للرئيس بايدن:
على الرغم من أن بايدن على دراية بالمنطقة بشكل استثنائي بسبب فترة توليه منصب عضو مجلس الشيوخ ونائب الرئيس، حيث زار خلالها المنطقة عدة مرات وشارك في صنع السياسات بشأن القضايا الرئيسية التي تؤثر على المنطقة، إلا أنه سيحتاج، بصفته رئيسًا، إلى تعديل السياسات القائمة على المشهد الجيوسياسي المتغير في المنطقة. وبعد توليه منصب نائب الرئيس، شهدنا المزيد من التدخل النشط من جانب إيران وهجمات مباشرة على ناقلات النفط والمنشآت النفطية السعودية. ولا يزال العراق، الذي شهد تحولًا جذريًا منذ توليه المنصب، في وضع حرج، بينما يبذل رئيس الوزراء الجديد جهودًا كبيرة لإقامة حكم رشيد وتوفير الخدمات الأساسية وإرساء سيادة القانون في البلاد. وعلى الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية، يستمر إطلاق الصواريخ من اليمن، مستهدفة البنية التحتية الحيوية والمنشآت الحكومية والمدنيين والمدن في المملكة. وفي لبنان، يسيطر حزب الله بشكل أكثر صرامة على رفاهية المواطنين اللبنانيين. وأخيرًا، في تركيا، أظهر أردوغان نهجًا عثمانيًا جديدًا تجاه السياسة الخارجية، حيث عزز الطموحات التوسعية ودعم الجهات الفاعلة غير الحكومية لتغيير ميزان القوى في المنطقة.
ومن أجل محاربة إيران، أعرب بايدن عن التزامه بالعودة إلى اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة "JCPOA" مع تحديث الأطر التي من المرجح أن تتناول برنامج الصواريخ الإيرانية الباليستية ودعمه للوكلاء والحد من الانتشار النووي بهدف نهائي يتمثل في منع نشوب الصراعات. وسيسمح هذا النهج باتباع خطة متماسكة نحو وضع أطر لحل الأزمة الإيرانية مع الحفاظ على مصالح الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة في المنطقة. كما أن الظروف التي تفاوضت بموجبها إيران على اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة قد غيرت، حيث تعاني البلاد حاليًا من تباطؤ هائل في النشاط الاقتصادي وتزايد الاهتمام العالمي بأنشطة إيران الإقليمية الخبيثة. وينبغي أن تركز سياسة بايدن الإقليمية على انتقال المنطقة من سياق يهيمن عليه الوكلاء الإيرانيون المستعدون والقادرون على استخدام العنف والترهيب لزعزعة استقرار البلاد، إلى وضع تخضع فيه الجماعات المسلحة لحكومات شرعية ومختصة أو أن يعاد دمجها في المجتمع أو أن تتم هزيمتها.
تشمل التغييرات الإضافية في المشهد الإقليمي اتفاقيات أبراهام. فمن المرجح أن يتخذ بايدن إجراءات لبناء الثقة مع الفلسطينيين من خلال تجديد المساعدات الأمريكية وإعادة فتح البعثة الفلسطينية في واشنطن واستئناف المواقف التقليدية بين البلدين وإعادة الالتزام بالمساعدات الأمريكية لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) – وكل ذلك تدعمه المملكة العربية السعودية وتعتبره شروطًا مسبقة لأي مناقشات دبلوماسية. وقد أوضحت المملكة موقفها في التزامها بحل الدولتين المطروح في مبادرة السلام العربية. ومع ذلك، لا يسع المرء أن يتوقع الكثير؛ ولن يتراجع بايدن عما فعله ترامب، ومن المرجح أن يركز سياسته الخارجية على قضايا أكثر إلحاحًا، مثل الصين وإعادة الانخراط في معاهدات الحد من انتشار الأسلحة والتعامل مع وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19).
وبينما لا تزال الموضوعات الشاملة المحددة لسياسة الولايات المتحدة وأصحاب المصلحة المشاركين في بناء الأنظمة، في الغالب، دون تغيير، فإن أولويات السلطة التنفيذية تتغير بطبيعتها مع كل رئيس. ومن وجهة نظر المملكة العربية السعودية، حظيت هذه العلاقة بدعم من الحزبين في الولايات المتحدة منذ التقى الملك عبد العزيز مع روزفلت (وهو ديمقراطي) في عام 1945م؛ وقد استمرت العلاقة خلال مجيء وذهاب 14 رئيسًا أمريكيًا وسبعة تحولات حزبية في السلطة التنفيذية. وعلى مر العقود، تعززت العلاقات الأمريكية السعودية وهي ماضية في ذلك إلى أجل غير مسمى. وثمة أربع ركائز مهمة للاستمرارية في العلاقات الأمريكية السعودية بغض النظر عن الحزب السياسي في البيت الأبيض. وقد كانت هذه الركائز، المتمثلة في الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والطاقة والنمو الاقتصادي العالمي والازدهار، بمثابة أهداف مشتركة في العلاقة بين الطرفين. وبالنسبة للاعبين المحليين والدوليين، ترمز خسارة الرئيس ترامب إلى العودة إلى آليات صنع القرار التقليدية وتنفيذ السياسات التي تدعم السياسة الأمريكية والمؤسسات الدولية إلى أقصى حد لها، ومن المرجح أن تعود إلى آليات التعاون المؤسسية والتقليدية في العلاقات الأمريكية السعودية. ومن المرجح أن يستمر التحالف الأمني السعودي ــ الأمريكي إلى ما بعد هذه الانتخابات ونحو المستقبل المنظور، نتيجة لاستمرار المصالح الأمريكية في المنطقة، واستعداد السعودية لمواصلة العمل باعتبارها حليفًا موثوقًا للولايات المتحدة، والمصلحة المتبادلة في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة. ولا تزال المملكة العربية السعودية أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في المعدات العسكرية، والتي سعت الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء إلى حمايتها.
وتمثل المملكة العربية السعودية أيضًا شريكًا تجاريًا أساسيًا للولايات المتحدة، وتوفر ما يقرب من مليون برميل يوميًا من النفط إلى السوق الأمريكية. وإن تمركز الطرق التجارية المحيطة بالمملكة العربية السعودية في الخليج العربي والبحر الأحمر، يضع المملكة العربية السعودية على مفترق طرق أهم الممرات التي تعمل على التدفق الحر للبضائع الأمريكية على مستوى العالم. كما وقعت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية اتفاقية إطارية بشأن الاستثمار التجاري لتوسيع العلاقات بين الشركات وزيادة تدفق الاستثمارات بين البلدين. ويضع برنامج رؤية المملكة العربية السعودية 2030 خططًا لتنويع الاقتصاد السعودي، بما في ذلك زيادة التجارة والاستثمار مع الولايات المتحدة. ومن الواضح أن التجارة بين البلدين تمثل عنصرًا أساسيًا في العلاقة، حيث قُدر تدفق السلع بين البلدين في عام 2019م، بنحو 38.7 مليار دولار. ولقد أثر وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) اقتصاديًا على كلا البلدين، إلا أن مرونة مؤسساتهما الاقتصادية وجهودهما التعاونية المشتركة جعلت التعافي السريع أمرًا ممكنًا. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أصبحت مُصدرًا صافيًا للنفط في الآونة الأخيرة، إلا أن تركيز احتياطيات النفط في المملكة العربية السعودية يجعل بقاء وازدهار النفط الصخري الأمريكي يعتمد على الجهود المشتركة بين البلدين لتحديد أسعار معقولة وتحقيق الاستقرار في أسواق النفط، كما يتضح مؤخرًا من رفض روسيا المشاركة في تحديد الأسعار. وتعتمد الدولتان أيضًا على الاستقرار الاقتصادي العالمي والانتعاش من أجل تعزيز النمو الاقتصادي المحلي.
أظهرت الجهود المشتركة بين الولايات المتحدة والسعودية تجاه مكافحة الإرهاب نهجًا متعدد المستويات، استهدف تمويل مكافحة الإرهاب ومكافحة أيديولوجية التطرف العنيف وعمليات مكافحة الإرهاب. وشاركت المملكة العربية السعودية في التحالف ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة وتواصل المشاركة في تبادل المعلومات الاستخباراتية لتحديد التهديدات والأفراد المتورطين بتمويل الإرهاب على مستوى العالم. وقرر البلدان أنه لا يمكن التصدي للتطرف العنيف من خلال الرد العسكري وجمع المعلومات الاستخباراتية وإنفاذ القانون فقط، بل سعيًا إلى خلق منظور شامل يأخذ في الاعتبار الأسباب الهيكلية ويعالج القضايا على المستوى المعيشي للأسرة. ويتمثل الهدف الرئيسي للاستراتيجية الأمريكية السعودية لمكافحة الإرهاب في معالجة دوافع التطرف العنيف ومنع الهجمات الإرهابية واستخدام إطار شامل يأخذ في الاعتبار العناصر الوقائية والأمنية لمكافحة التطرف العنيف. وعلى سبيل المثال، تسعى الاستراتيجيات التعاونية للبلدين وتبادل المعلومات بشأن أفضل الممارسات لمكافحة الإرهاب والعمليات المشتركة إلى تحديد عوامل الدفع والجذب التي تؤدي إلى التطرف ومكافحة الخلايا الإرهابية ومنع الهجمات الإرهابية. ومن المرجح أن تظل شبكات تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين قوية في ظل حكم بايدن، حيث من المتوقع أن تزداد مخاطر الإرهاب على المدى القصير والمتوسط.
من حيث الجوهر، في حين أنه من المتوقع أن تختلف أولويات وسلوك الشؤون الخارجية للولايات المتحدة من ترامب إلى بايدن، فمن المتوقع أن تظل بعض السياسات الشاملة دون تغيير. وستواجه إدارة بايدن تحديات سياسية محلية وعالمية مختلفة، مثل مكافحة العواقب الصحية والاقتصادية لوباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وإعادة التقيد بالتزامات الولايات المتحدة تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وفي الشرق الأوسط، ستواجه إدارة بايدن الحقائق الإقليمية والتهديدات الناشئة النابعة من طهران والتي ستتطلب بقاء بعض العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب لتظل نافذة، بينما تجري إعادة التفاوض على اتفاق شامل لخطة العمل الشاملة المشتركة. وعلى الصعيد المحلي، ستنشغل إدارة بايدن بالتحدي المتمثل في توحيد دولة أضحت منقسمة حول قيم ومصالح ومثل مشتركة.