array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 158

التنمية الخليجية تضمنت الثقافة والأخلاق والمجتمع كأساس للهوية الوطنية

الأربعاء، 27 كانون2/يناير 2021

في المفهوم: تفترض نظريات التحولات، أو ما يُصطلح عليها بـ"التغيير"، فهمًا مسبقًا لطبيعة العلاقات بين السبب والنتيجة، في كل ما يُراد تغييره، كما في مسألة التقدم الاقتصادي. لكن على عكس الاقتصاد، الذي تصف قوانينه ومعادلاته ظواهر التقدم الطبيعية؛ مثل التنمية والنمو، إلا أن رصد تطور المجتمعات؛ سلبًا وإيجابًا، ليس من السهل قياسه لارتباطه بقيم غير مادية. وفي واقع الأمر، لدينا الكثير من المؤشرات، التي نقيس بها تطور الاقتصاد، ولكن ليس لدينا ولو مجرد عبارة علمية حاكمة حول مسألة "إصلاح المفاهيم". الأمر الذي يجعلنا نعجز عن وصف ظاهرة الحركة الاجتماعية، أو الإجابة القاطعة عن: لماذا يتحرك المجتمع بهذا الاتجاه دون غيره، من العصور القديمة إلى الوقت الحاضر. لذا، عندما يتعلق الأمر بالثقافة والقيم الأخلاقية المُشَكِّلَة للمفاهيم، لا بد أن تكون الأحكام المعيارية، وليس فقط الحقائق المادية، متضمنة في السلوك الاجتماعي برسوخ يسمح بملاحظتها. ومن هنا يطرأ السؤال: لماذا الميراث غير المادي لأهل الخليج والثقافة مهمان بالنسبة لنا لفهم قضية التنمية في دول الخليج العربية؟ وكيف يرتبط مجال دراسات التنمية بالأفكار والهوية، مع ما يسمى بفلسفة التنمية والنمو الاقتصادي؟ إن هذه الأسئلة، التي نسعى إلى طرحها، مع غيرها، ونحن نقرأ خطط التنمية الاقتصادية الخليجية، تأخذنا من الماضي إلى المستقبل في المنظور، الذي تُحرره هذه الخطط، لبناء تصور لغدٍ أفضل تتوخاه الحكومات لمجتمعاتها.

ونحن بذلك لا نعتسف وجهات نظر فلسفية حول نظريات التنمية للاقتصادات الخليجية، بقدر ما نستدرك المبدأ العام أن طبيعة الوجود تحفزها الحركة وتستدام بالنمو، والعالم الذي نعيش فيه لا يعترف بأية حالة من التقاعس، ولا بالفراغ. لذلك، كل هذه الخطط هي مداومة على الحركة؛ داخلية كانت أم خارجية، المعروفة باسم التنمية، وما التقدم إلا مظهر من مظاهر هذه الحركة في الاتجاه الإيجابي. وفي تقديرنا، فإن كلّ نظريات التطوير، التي احتكمت إليها هذه الخطط، ما هي إلا محركات اجتماعيّة يفترض أن تنهض بها آليات اقتصادية. فالتنمية في المستوى الاجتماعي هي بعث القيم الإيجابية، مما حدا بكل دولة من الدول الست أن تدرجها تحت مسمى التنمية الوطنية، على اعتبار أن الوطنية هنا هي جِماع أشراط الهوية بأبعادها المختلفة. وعلى الرغم من أن التنمية يمكن أن تكون اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية، فإنها تحدث في إطار مفهوم معين للعالم، ومكانة الإنسان في ذلك العالم؛ أي ضمن منظومة قيمية ومنظور فلسفي. فالإنسان ليس مجرد مخلوق يجب أن يحافظ على حياته، بل هو يجب أن يحافظ على حياته في إطار كل القيم، التي نشأ عليها، وتلزمه بتطويرها. ومثلما هو يحتاج إلى سبب مادي للعيش، فإنه مَعنيٌ بِتَخَيُّر الطرق، التي يختارها لبلوغ غاياته، ورسم تقدمه في العالم.

من هنا، علينا أن نؤكد، في تناولنا لفلسفة خطط اقتصاديات التنمية الخليجية، بأن التطوير المفاهيمي للأفكار الثقافية والاجتماعية لا يقل أهمية عن التنمية الاقتصادية، ببعديها الجزئي والكلي، لأن عمليات التنمية المؤدية إلى أشكال مختلفة من النمو المادي والرفاهية المعنوية، تسعى لتحقيق ذلك في جوهر مطلوباتها. وبعبارة أخرى، فإن تطور خطط اقتصاديات التنمية الخليجية متشابكة مع بعضها، ولكن بطريقة تجمع بين بعدين مختلفين من الهياكل المعرفية: يتمثل البعد الأول في خصوصيات محلية توجه اقتصاديات عمليات التنمية، وتقاس بالأدوات التجريبية المتاحة لسلطات كل بلدٍ على حِدَة، ولا سيما أدوات مجال الاقتصاد حيث النمذجة الرياضية والاستقطاعات المنطقية، التي لها تأثير عند البيانات، وتدعم الفرضيات والنظريات الهادية لبرامج التنفيذ، بينما يرتبط البعد الثاني بالتطور المفاهيمي، الذي لا شك يجمع دول الخليج الست، بما هو موجود في الخصائص المشتركة لمجتمعاتها، ويمكن أن يُقاس هو الآخر من خلال التحقيقات التجريبية، مثل المعايير الأخلاقية، التي تستوعب جهود تطوير عقلية وروح العصر. وغني عن القول، أن ما يمكن قراءته وراء كلا هذين البعدين هو في الحقيقة مُعَبِّر عن نظرية التغيير، التي تقع عادة على عاتق مؤسسات الإعلام والتعليم للتعبير عنها.

في المنهج:

يستكشف هذا المقال بشكل عام أهمية الجوانب الاجتماعية والثقافية بالنسبة لخطط التنمية الحالية، التي أقرتها دول مجلس التعاون الخليجي؛ المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، وسلطنة عُمان، ودولة قطر، ومملكة البحرين، من أجل استكشاف حقيقة موضوعية كلية حول مسار النمو المستقبلي للمنطقة. واضعين في الاعتبار ما يتحسب له الاقتصاديون من عوائق متوقعة أمام النمو، وكيف يمكن توقعها، وما هي القطاعات والأنشطة الاقتصادية، التي سيتم تحفيزها جماعيًا لخلق فرص العمل، وتدفقات الدخل في المستقبل. ونترك لأهل الشأن الإجابة على سؤال: هل سيقود القطاع العام، أو الخاص الاقتصاد المستقبلي لكل دولة في الخليج؟ وما هو نوع الحالة الاقتصادية المتصورة في المستقبل؟ وقد يشغلني بحكم تكويني الأكاديمي السؤال العام، والتكييف المعرفي، الذي أحسبه ضروريًا، وأثق في أنه مُدْرَكٌ لواضعي المبادئ التنموية الخليجية، ويتلخص في: ما هو المدخل الفكري، الذي تقوم عليه السياسات النظرية، وجهد التخطيط القاصد لوضعها موضع التنفيذ؟ هذا، مع الاعتراف بأن منطق هذا السؤال لا يخبئ احتمالات الشك المعهود في بنية مؤسساتنا العربية، الذي غالبًا ما يفصل بين التخطيط النظري والتنفيذ الفعلي للسياسات، باعتبار أنهما يمكن أن يكونا مسألتين مختلفتين تمامًا، فينحصر التركيز في رؤيتنا للأشياء على ما تريد الدول القيام به، وليس ما تنجزه بالفعل.

إننا نسعى هنا إلى تقديم تعليل، قد لا يبلغ مستوى التحليل لتفاصيل كل دولة خليجية على حدة، ومناقشة ما تريد القيام به، أو ما قد تنفذه بالفعل، لأن ذلك يحتاج إلى دراسة وبحث وصفحات تقصر عنها مُتاحات هذا المقال. قد يؤدي التعامل مع كلا الجانبين إلى تحليلين مختلفين للغاية. رغم أن المنهجية العامة تُطالع البيانات، التي يتم استخدامها في خطط التنمية الحالية، والتي نشرتها دول مجلس التعاون الخليجي الست كمصدر أساس لتقديرات هذا المقال، مع أن هذا قد يكون صعبًا لمن لا يستطيعون قراءة الاقتصاد بغير أرقام. ولكن، وكما هو موضح بالتفصيل في كل الخطط الست، فإن مضمون التنمية في دول الخليج قُصِدَ بِه أن يخدم مجموعة متنوعة من الأغراض الثقافية والاجتماعية، إلى جانب استنهاض همم الانتاج لتحقيق أقصى درجات النمو الاقتصادي. على سبيل المثال، وعدها للشعوب بمستقبل أفضل، ويمكن اعتبار ذلك جزءاً من استراتيجية التحفيز الشامل الحكومية، التي تجعل الجميع يشعرون "بالرضا". وإلى جانب احتضانها لتطلعات القطاعين العام والخاص، فإنها تُبَشِّر السكان من خلال استجابات لتوقعاتهم، أو معالجات لمشكلاتهم الحالية؛ مثل، التعليم، والمساكن، وقضايا الرعاية الصحية، والفرص الوظيفية، وما إلى ذلك. ومن ناحية أخرى، فهي تعبير رسمي من دول الخليج عن إرادة الإصلاح، التي تُقَدَّم بنظرة علمية ثاقبة، ورؤية موضوعية جادة لأهداف وتطلعات صانعي القرار فيما يتعلق بتطور اقتصاديات هذه الدول، والتي يمكن استخدامها لطمأنة الجمهور الخارجي، مثل بنوك التنمية، ومجتمع الاستثمار الدولي، بأن الاقتصاد يُدار عبر هذه الخطط بشكل جيد، وأن فرص الاستثمار الكبيرة موجودة، وفي قطاعات مدروسة، ولها حيز مقدر ومحمي بضمانات حكومية.

إن القراءة السوسيوثقافية لخطط التنمية الخليجية تؤكد أن صاحب القرار يُعيد تركيز الصوابية المعرفية لعلاقة التنمية بالقيم الثقافية المتحققة جدواها، في تقدمية الوضع الاقتصادي. ويحاول هذا المقال أن يقدم ملمحًا للرؤية الهادية بهذا المنظور، التي تعمدت إعادة بناء فلسفة التخطيط التنموي، بمتبوعها التنفيذي الاقتصادي، بشكل رؤيوي عام. ويتضمن هذا الملمح التجربة الخليجية، كما هو مرصود له أصلاً، ويتجاوزها إلى غيرها، من تجارب التنمية الاقتصادية في العالمين العربي والإسلامي، من دون تسمية لأي منها. ويحدونا الأمل أن يتأسس بحث يتطور إلى كتاب مرجعي يتناول كل دولة خليجية في فصول تعريفية بانماطها الثقافية، وعلاقات ذلك بإمكان ضبط التطور الاجتماعي وتحولاته، بمعادلات اقتصادية مرنة، قادرة على تجاوز التجاذبات الخارجية المُتَدَخِّلَة منافسةً حول، أو طمعاً في، ثروات المنطقة، آخذةً في الحسبان، أن الكتلة الخليجية تمثل مكونًا مهمًا في تشكيلة الأمة؛ عربيًا وإسلاميًا، بمثلما يمثل تأمينها الثقافي والاقتصادي، واقيًا منيعًا لوحدة موقف هذه الأمة، بكلياته الحضارية؛ الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، ودورها في تثبيت عرى هذا العالم المتحرك على رمال الفوضى الاقتصادية. 

منطق الإصلاح:

ربما لم يتم إجراء تحليل ثقافي لخطط التنمية الخليجية سابقاً، ولكن من المأمول أن يوفر مثل هذا التحليل؛ إذا تقرر إجراؤه، نظرة ثاقبة حول كيفية تصور الحكومات في المنطقة رسميًا لمسارها التنموي الثقافي والاجتماعي المستقبلي؛ على المديين القصير والطويل. فمن المعروف أنه خلال نصف القرن الماضي، حصلت دول مجلس التعاون الخليجي على أكبر نصيب من دخلها من "التعدين"؛ خاصة موردي النفط والغاز، وما زالت تعتمد عليهما، إلى حد كبير. وقد مكّنها ذلك من تطبيق ما يسمى بنموذج "حالة التخصيص"، والذي يؤكد على التنمية، التي تقودها الدولة، وتوزيع الثروة، والتركيز المحدود على إنشاء أصول اقتصادية بديلة. وكان المنطق وراء هذا النموذج هو أنه بسبب الدخل الكبير الناتج عن تجارة النفط والغاز، تُعفى الدولة من الحاجة إلى جباية ضرائب على الاقتصاد المحلي لتمويل أنشطتها. ولأن مثل هذه الدول لا تعتمد على الضرائب، فهي لا تتعرض لضغوط لتطوير أساس اقتصادي فعال داخل المجتمع، بل كانت ترى أن دورها يتمثل في توزيع الإيرادات الوفيرة، التي تتدفق إلى البلاد. لذلك، فإن حالة التخصيص، التي يطلق عليها أيضًا "التوزيع"، أو "الدول الريعية"، والتي تتميز بأنها معزولة إلى حد كبير عن الاقتصاد الأهلي. علاوة على ذلك، تسود "العقلية الريعية" في مثل هذه الحالات، والتي لا تتوافق مع العمل الجاد والانضباط والمخاطرة. إلا أن خطط التنمية القائمة الآن تعمل بجرأة كبيرة على قلب هذا الوضع، إذ إنها تستهدف تحديد إنشاء قاعدة اقتصادية صلبة للمجتمع، بتوسيع قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد، في قطاعيه العام والخاص، وفق أسس جديدة. وذلك من خلال إدخالها لنظام الضرائب، الذي يؤكد على تعزيز قوتها؛ على الصعيدين الوطني والدولي.

على هذا النحو، يجب فهم حالتي التخصيص، أو "الاقتصاد الريعي"، والإنتاج على أنهما طرفين متعاكسين في سلسلة متصلة من التطورات الاقتصادية في دول الخليج، التي أدركت أنه بعد الالتزام بنهج نموذج الدولة للتخصيص للاقتصاد لمدة نصف قرن، تفاقمت المشاكل الناتجة عن انخفاض الإنتاجية، وانخفاض فرص العمل، ونقص التنويع الاقتصادي، والتقلبات العالية في دخول الدولة، ونقص الحافز وقابلية التوظيف للقوى العاملة الوطنية. وأصبح واضحًا للمخططين وصناع القرار في المنطقة أن هناك ضرورة ملحة لضبط مسارات التنمية، وتعديل اتجاهاتها، واستصحاب المجتمع بمحمولاته التراثية ومكوناتها الثقافية ليكون شريكًا أصيلاً وفاعلاً في هذه التنمية، وبالتالي القدرة على تنمية مجتمعاتهم، وتخفيف الآثار السلبية للإصلاحات إذا لزم الأمر. ومن هنا، فقد كان من المفيد تحليل ما إذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي ستستمر ببساطة على نفس المسار التنموي، أو ما إذا كانت ستستغل نافذة الفرصة هذه لاختيار مسار تنموي جديد، الذي تمضي فيه الآن بخطىً حثيثة. يدلل عليها فهم القادة وصناع القرار، أو إدراكهم للتحديات، التي تواجه اقتصاداتهم، وكيف أنهم اقترحوا مواجهتها، وفقًا لنماذج التنمية الاقتصادية المستقبلية.

تعمل الأسئلة الخمسة التالية كدليل لهذه المقارنة: أولها، ما هي عوائق النمو، التي تم تصورها في الخطط، وكيف يجب أن يحلها التنويع؟ وثانيها، ما هي القطاعات الاقتصادية المستهدفة لجهود التنويع؟ وثالثها، من سيكون المحرك للاقتصاد المستقبلي؟ ورابعها، ما هو نوع النظام الاقتصادي المتصور في المستقبل؟ وخامسًا، وأخيرًا، ما هي المدخلات الفكرية، التي تدعم، أو تلهم جهود التخطيط؟ وهذا السؤال الأخير هو ما ستنبئنا الإجابة عليه بمدى التأثير الثقافي والاجتماعي المحتمل لخطط التنمية على النهضة المستقبلية للمنطقة. وذلك، على الرغم من إدراكنا أن بعض الخطط قد تكون بعض صياغاتها تمت من قِبَل شركات استشارية دولية، وبالتالي، قد يُمثل "نقل المعرفة" المتعلقة بالمفاهيم والأيديولوجيات، التي ربما تنتقي أفضل الممارسات الدولية، وما إلى ذلك، إلا أن قناعتنا أن هذه الخطط هي في نهاية المطاف وثائق إُعتمدت رسميًا، ويمثل توقيعها وبدء العمل بها، قبولاً متوافقًا ومؤيدًا للأفكار والاستنتاجات الشاملة الواردة فيها. فكل خطط التطوير هي وثائق مكتوبة، وصور ومخططات يجري إنشاؤها لتتم رؤيتها وقراءتها وتفسيرها والعمل بها وفقًا لرؤية وطنية خالصة، تستصحب كل ما ذهبنا إليه من مقاصد اجتماعية وتضمينات ثقافية، وليست فقط تمثيلات للأبعاد المادية. والتخطيط الاقتصادي، بهذا الفهم، هو محاولة حكومية متعمدة لتنسيق عمليات صنع القرار الاقتصادي على المدى الطويل، والتأثير على مستوى ونمو المتغيرات الاقتصادية الرئيسة للأمة، فيما يتعلق بالدخل والاستهلاك، وتوجيهها، وحتى التحكم فيها في بعض الحالات. ويوجه ويستوعب ويتحكم؛ بالتنسيق ذاته، في المتغيرات الاجتماعية والثقافية للمجتمع.

ضرورات التخطيط:

إن التخطيط في أبسط معانيه هو ترتيبات سياسية واقتصادية تقوم بها الحكومات؛ ليست كافية بالضرورة لتأمين الدعم الدائم والكامل للشعوب، ولكنها موجه ومحرك مهم لآليات التنمية. وعندما وضعنا نصب أعيننا على أهمية المصالحة السياسية؛ ببعديها الاجتماعي والاقتصادي، قصدنا أنها ترسخ عرى السلام القائم على الحوار والتفاهم المتبادل، وعلى التضامن الفكري والأخلاقي لشعوب المنطقة. وهذا مبدأ كلي حاكم يجعل من الغرض الأساس للحياة الاقتصادية إشباع الرغبات الحيوية للإنسان، التي هي في الأساس غير محدودة. إذ إنه، كما تقول اليونسكو: إن" جميع الأنشطة الاقتصادية لأي مجتمع حديث موجهة نحو تلبية احتياجات الإنسان بموارد محدودة نادرة". فالموارد الاقتصادية؛ مهما عَظُمَت، تظل شحيحة بالنسبة للطلبات على استخداماتها البديلة، لأن مستويات التنمية لا تقف عند حدود معينة، وكثيرًا ما تُجبِر محدودية الموارد المجتمع والدولة على إتباع نهج التخطيط للاختيار والتخصيص في توزيع ما هو متاح، لأن المشكلة الاقتصادية الأساسية هي تخصيص الموارد النادرة لتلبية الاحتياجات البشرية بطريقة تحقق أقصى قدر من الرضا والأمان؛ ارتقاءً لغايات الازدهار والرفاهية.

بالنظر لدول الخليج العربية، فإن الاطلاع السريع على بيانات الخطط الاقتصادية الموضوعة يُظهِرُ بجلاء القيم الثقافية والمواقف الأخلاقية لهذه الدول في نظرها العميق لموضوعات التنمية، التي تختلف كثيرًا عن حسابات القيمة العالمية المادية للمُدْخَلات والمُخْرَجَات، والتي عادة ما تُظْهِر أن قوة الخطة مرتبطة بنجاح أرقام السوق. ولكن لا يبدو أن لهذه الأرقام الباردة تأثيرًا كبيرًا؛ حاسمًا ووحيدًا، على معدل النمو الاقتصادي في عينة أيٍ من خطط اقتصادات دول الخليج ذات الأبعاد الشمولية، التي تستهدف تطور الاقتصاد، ولا تستثني النهوض بحاجات المجتمع الثقافية وتعزيز قيمه الأخلاقية. إذ يبدو واضحًا أن هذه القيم الجمعية مرتبطة بالنظام الاجتماعي، ولها علاقة جوهرية بالمستوى العام للتنمية الاقتصادية. وتُشير النتائج المتوخاة من كل خطط التنمية الاقتصادية في دول المجلس إلى أنه، على عكس الاعتقاد السائد، أن المعرفة بهذه القيم مفيدة جدًا في مساعدتها على فهم شروط النمو الاقتصادي المستهدف، وهي تُثْبِت بذلك أن هناك طريقة أخرى في التنمية يجب أخذها على محمل الجد وهي الصلة الواشجة بين القيم الثقافية والتنمية الاقتصادية. لذا، يجب أن يكون النمو الاقتصادي والتنمية تجسيدان لمعتقدات الناس وقيمهم الضابطة لسلوكهم الاجتماعي. 

لكن؛ ما هي القيم، التي يمكنها أن تواكب التنمية الاقتصادية، خاصة وأن المعاني، التي يمكن أن تأخذها الأشياء، غالبها ذات طابع مادي؟ لكننا نقول في محاولة الإجابة على هذا السؤال إن العوامل المادية في الاقتصاد تختزن مزيجًا فريدًا من الأبعاد المعنوية، التي تُشَكِّل سيرورة القصد الغائي والقيمي، الذي لا بد له أن يتطور هو الآخر حتى تحدث التنمية البشرية، والتي هي مناط التنمية الاقتصادية. وهذا المعنى هو بالضبط ما نُريدُ تِبيَانه في مطالعتنا لخطط دول الخليج العربية، التي تُدرِك أن التنمية تُغَيِّر أسلوب حياة شعوبها بأبعادها المختلفة؛ تطويرًا وارتقاءً، لا مسحًا وإلغاءً، لأنها لا تريد زرع قيمٍ جديدة بديلة، مُجَسَّدَة في مُؤشِرَاتٍ صاعدة للثروة فحسب، وإنما معنى شموليًا يُحافظ على جوهر كل ميراث القيم الإيجابية. وهذا الفهم هو ما أغفلته مدارس الاقتصاد الليبرالي الجديد، التي تم بناؤها على الادعاء بأن حرية الفرد في السعي وراء المصلحة الذاتية، والاختيار العقلاني المحض، تؤدي إلى النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، وفي ظل هذه الخلفية، سعى الاقتصاديون وصناع السياسات الليبراليون الجدد إلى تعميم هذا الادعاء، وجادلوا بإصرار بأن السياسات الاقتصادية المناسبة تنتج نفس النتائج بغض النظر عن القيم الثقافية.

مبدأ المصلحة العامة:

 وفقًا لما تقدم، تَنصح مؤسسات بريتون وودز؛ صندوق النقد والبنك الدوليين، في كثير من الأحيان، البلدان النامية، التي تلجأ للاقتراض منهما، أو عبرهما، باحتضان العقيدة الاقتصادية الليبرالية الجديدة كنبراس لها للهروب من فخ التخلف، وتفادي تعقيدات القيم المحلية، أو مبدأ المصلحة العامة. ومع ذلك، فإن النجاح الاقتصادي لجنوب شرق آسيا، من ناحية، وفشل التنمية الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء، من ناحية أخرى، يثبتان بشكل متزايد أن الحجة "الاقتصادية" لا يمكن أن تؤخذ على نحو دوغمائي جامد: لا يبدو أن المصلحة الذاتية والعقلانية حاسمة لتكون التفسيرات الكافية للتنمية الاقتصادية. ففي السياق الإفريقي، نظر الدارسون إلى مبدأ المصلحة الذاتية مقابل الخلفية التاريخية الثقافية، فاعتبر غالبهم هذا الرابط الثقافي مهمًا جدًا في تحقيق "كمالات" التنمية الاقتصادية، وزعم البعض الآخر أنه على الرغم من أنه لا يمكن اعتباره العامل الوحيد، فإن المعتقدات والقيم الثقافية للناس ضرورية للتنمية الاقتصادية في نظام القيم الإفريقي، كما هو بالقطع حاسم في نظام القيم الخليجي المُضَمَّن في الخطط السارية الآن، ويمكن أن يؤدي هذا الإثبات إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الاقتصاد الاجتماعي" حيث تكون الدولة والأسواق والناس جميعًا وكلاء، وليسوا عالة، في عملية النمو الاقتصادي والتنمية.

إن أهم الأسباب، التي تُشير إلى وجوب التنمية الشاملة لنهضة المنطقة، تتمثل في أن هذه التنمية؛ عندما تؤخذ بأبعادها الكلية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، هي عنصر حاسم يدفع إلى تسهيل تحسين نوعية الحياة. أولاً، تُساعد في خلق فرص العمل، إذ يقدم المطورون الاقتصاديون المساعدة والمعلومات الهامة للمؤسسات والشركات، التي تخلق فرص عمل في المجتمع. وثانيًا، تنويع الصناعة، إذ يعمل جزء أساس من التنمية الاقتصادية على تنويع مصادر الاقتصاد، مما يقلل من تعرض المنطقة لمورد دخل واحد. فبينما يلعب النفط دورًا مهمًا في خلق فرص العمل في منطقة الخليج، تساعد جهود التنمية على تنمية الصناعات خارج دائرة النفط، بما في ذلك مستحدثات الثورة الصناعية الرابعة؛ بما فيها التقنيات المبتكرة، والوسائط الرقمية، وعلوم الحياة، والرعاية الصحية، والطيران، والفضاء، والدفاع، والتصنيع المتقدم، وخدمات الأعمال. وثالثًا، الاحتفاظ بالأعمال التجارية القائمة والتوسع فيها حيث يتم إنشاء نسبة كبيرة من الوظائف الجديدة في اقتصاد الخليج من قبل الشركات القائمة، التي تقوم بتوسيع عملياتها. ورابعًا، الاقتصاد إغناء المجتمعات المحلية، إذ تساعد التنمية الاقتصادية على حماية الاقتصاد المحلي من الانكماش الاقتصادي من خلال جذب وتوسيع أرباب العمل الرئيسين في المنطقة. وخامساً، زيادة الإيرادات الضريبية، ليس لأن حكومات دول الخليج في حاجة إليها للانفاق العام، وإنما يترجم الوجود المتزايد للشركات في المنطقة إلى زيادة الإيرادات الضريبية للمشاريع المجتمعية والبنية التحتية المحلية. وسادسًا، وأخيرًا، تحسين نوعية الحياة، لأن تحسين البنية التحتية، والمزيد من الوظائف، يعملان على تحسين اقتصاد المنطقة، ورفع مستوى المعيشة لسكانها، الأمر الذي يستتبعه تحفيز مجتمعي لأسباب التطور الثقافي، والذي يدعم مظاهر الازدهار ومضامينه.

الخاتمة:

إن التخطيط على الطراز القديم عادة ما يصوغ قائمة طويلة من الإجراءات المحددة، التي يجب رؤيتها في وقت واحد، من أجل الوصول إلى الأهداف. غير أن كل خطط التنمية الاقتصادية الخليجية استصحبت العناصر المجتمعية؛ الثقافية والأخلاقية، كأساس للإصلاح المُعَبَّر عنه بـ"الهوية الوطنية"، في إطار خليجي له من المشتركات أكثر مما بينه من اختلافات. وبذلك، احتوت هذه الخطط على عناصر كثيرة جدًا، فإذا، لأي سبب من الأسباب، لم يتحقق واحد، أو أكثر من هذه العناصر، فإن الخطة الشاملة لا تتعرض للخطر. فالتخطيط قد استوعب بأسلوب جديد الرؤى، ووضع الأهداف، وحدد الأولويات، وفسح المجال للجهات الفاعلة؛ في كل من القطاعين العام والخاص، لمتابعة أهداف التنمية بطريقة مرنة، وذلك بالنظر إلى التخطيط باعتباره عملية تفاعلية للتعاون الاستراتيجي بين القطاعين الخاص والعام. وجاءت الفكرة من وراء هذا التدبير لتعزيز التغيير التراكمي في الاتجاه المختار. وبالتالي، فإن هذا النوع من التخطيط أقل عرضة للخطر، لأن النهج العام لا ينهار إذا لم يتم تحقيق هدف فردي واحد، أو أكثر، وذلك لقدرته على توليد مبادرات جديدة، وحفز استجابة سياسية لإقرار وضعها موضع التنفيذ.

إن خطط التنمية الخليجية لا تعبر بالضرورة عن عدم الرضا عن النموذج الاقتصادي القديم، أي نموذج "حالة التخصيص"، أو النظام "الريعي"، ولكنها تحاول معالجة ما ارتبط به من مشكلات؛ مثل، عدم استدامة الاعتماد على مورد واحد، والتقلب في الأسعار، ونقص فرص العمل وتكوين الدخل، والاستيراد الكبير للعمالة الأجنبية. لذلك، جاء هدف تنويع الاقتصاد، بعيدًا عن الاستناد على مداخيل النفط والغاز، كتوصية حاسمة للتغلب على هذه المشاكل. رغم أن معظم هذه الخطط تُشير إلى استمرار النموذج التنموي، الذي تقوده الدولة، والذي يُطلق عليه أيضًا "رأسمالية الدولة"، ولكن مع الإشارة الإيجابية إلى الدور المستقبلي للقطاع الخاص. على هذا النحو، تظل الدولة هي المحرك للاقتصاد من خلال ميزانيتها التنموية الكبيرة وملكية المؤسسات والشركات الكبرى، بينما يعمل القطاع الخاص في وضع مناسب حيث اختارت كل الدول الست تقريبًا عدم الاستثمار، على سبيل المثال في التجارة، أو البيع بالتجزئة، أو قطاع البناء. ومع ذلك، تهدف مملكة البحرين وسلطنة عُمان إلى إنشاء اقتصاد حر للسوق، حيث يكون القطاع الخاص هو المحرك للاقتصاد، إذ يتم تفعيل دور القطاع العام من خلال المنافسة. فيما يبقى الأساس الفكري للتخطيط مشتركًا ضمن الخطاب الثقافي والاجتماعي السائد، الذي يتوافق مع سياسات الإصلاح الاقتصادي في دول الخليج العربي.

مقالات لنفس الكاتب