يطلق مصطلح السُنة في العراق على المواطنين الذين ينتمون إلى المكون العربي السني "حصرًا" ولا أجد في ذلك اختصارًا لهذه التسمية، فهناك قصدية واضحة في الأمر كون بعض الطوائف العراقية يتم تسميتها بشمولية مطلقة، فحين نقول الشيعة فهذا يعني أننا نقصد الشيعة بجمعهم (عرب * كورد * تركمان* شبك) وعندما يتم الحديث عن الكورد فإن المتحدث يطلق هذا الوصف عليهم بجميع انتماءاتهم العقائدية (مسلمون سنة وشيعة * ايزيديون ..الخ ) . وهذا ما يؤكد أن هناك تعمد في إطلاق هذه التسمية كوننا إذا جمعنا الطائفة السنية بكل قومياتها ستصبح أكثرية مطلقة وهذا لا يروق للباحثين إلى مكاسب طائفية وجعل العراق أسير مذهب أو مكون واحد. لم يعرف العراقيون قبل العام 2003م، ماذا تعني تلك التسميات الطائفية التي أخذت تبرز مع دخول فوهة أول دبابة إلى العاصمة بغداد، لتقسم العراقيين بعد ذلك إلى طوائف وملل وهويات فرعية أسهمت في تفتيت القرار الوطني وبرزت حدة الشعارات الطائفية حتى وصل الأمر إلى حالة من الصراع التي دفع ثمنها العراقيون على اختلاف انتماءاتهم، إلا أن أبرز الخاسرين من تلك المسميات كان عرب العراق السنة الذين تحملوا سلبيات الحكم منذ تأسيس الدولة العراقية مطلع عشرينيات القرن الماضي.
ثمن السلطة
بالرغم من أن جميع الأنظمة التي توالت على حكم العراق كدولة بعد انفكاكها عن وزارة المستعمرات البريطانية في آذار/ مارس عام 1921م، لم تكترث إلى خلفيتها المذهبية أو تعطيها مساحة في التعامل مع العراقيين منذ الملكية وحتى شخصية (صادم حسين) الأكثر جدلاً والتي تعاملت مع العراقيين على أساس ما يقدموه لتحصين كرسيه واستمراره في هرم السلطة، وبدليل أن معظم أركان نظامه الذين كانوا من المذهب الشيعي خصوصًا في قائمة الــ 55 للمطلوبين الشهيرة التي أصدرتها الولايات المتحدة عقب احتلال العراق، فيما كان هناك مسيحيون وكورد ضمن هذه القائمة.
وبرغم ذلك دفع المكون العربي السني بشكل جمعي ثمن وجود بعض شخصياته في دفة القيادة، لتتم معاقبتهم بشكل فظيع على كل ما اقترفه حكام العراق، محملينهم أوزار حقب سالفة وسلوكيات غابرة بما في ذلك حقبة (صدام حسين) الأكثر إثارة والتي ما يزال هذا المكون يدفع ثمنها وكأن صدام كان ينتصر للمذهب وليس لعرشه! يرى الطائفيون أن صدام كان يميل إلى تفضيل أبناء المكون على حساب بقية العراقيين وهذا خلاف الواقع حيث عمد صدام على تقريب قسم من أبناء عمومته دون غيرهم من أبناء العرب السنة الذين بقوا يكابدون شظف العيش مثل بقية العراقيين، لكن ذلك لم يشفع لهم أمام توجهات الذين يرون الحياة بعين واحدة أصدروا من خلالها قرارت مجحفة بحق أبناء المكون حرمتهم من المشاركة في بناء ما يسمى (بالعراق الجديد) ولم تكتف منظومة البطش بهذا الحجم من الإجحاف، بل قامت بتصفية شخصيات وطنية ليس لدورها في المشاركة بالحقبة التي سبقت 2003م، فحسب وإنما لكونها تنتمي إلى مكون بعينه، آلة الظلم حصدت أرواح عشرات الآلاف من العراقيين (السنة) بحجج مختلفة محدثة تغيير ديمغرافي في العديد من مدن ومناطق العراق المختلفة، داعش كانت الرصاصة الأخيرة التي غُرست في جسد مكون منهك لا يقوى على الحراك مستسلمًا لكل ما يلصق بجسده من تهم وافتراءات .
الخطأ الفادح
الرضوخ للذنب هو الطُعم الأكبر الذي ابتلعه المكون بعد 2003م، وتعامل معه على أساس أنه واقع المرحلة السابقة وهو غير ذلك حتى استفحل حجم الاتهام وزادت حدته لينقاد " المجتمع" إلى حتفه دون أن يعي خطورة ذلك، كان الأجدر لأبناء هذا المكون رفض كل ما ألصق به من زور والانبراء له بقرائن وأدلة فلم يحصل أبناؤه على اميتازات وحقوق ليس لجهد بذلوه، وإنما لكونهم يتبعون مذهباً معيناً وقومية بحد ذاتها. يبدو أن شراسة الهجمة وحدتها إضافة إلى الفوضى التي حصلت بعد الإطاحة بالنظام جعلتهم مسلوبي الإرادة، كما أن هناك دور إقليمي واضح في توجيه عقارب الاتهام إلى مناطق معينة من البلاد بحجة أنها لم تكن معارضة للنظام أو أنها لم تتبجح بمعارضته مثلما فعل البقية، وهذا غير مبرر لتقبل كل ما اشيع عن منظومة مجتمعية تقدر بملايين المواطنين. يتحمل المحتل الأمريكي جزءًا كبيراً بعد صمته أو تأييده سراً لكل ما حصل لهذا المكون، حتى ساسته الذين تصدروا مشهد الأحداث كان قسم منهم راضِ عما حصل أو متفاعل معه من أجل الحصول على مغانم السلطة. استشعار أبناء العرب السنة بالذنب لكل السلبيات التي ارتكبها صدام ونظامه والتي كانت من أجل كرسي السلطة لا لسواد عيونهم, وإنما من أجل البقاء لمدة أطول في هرم القيادة . فلم يكن صدام أو أي من مقربيه يتحدثون بنفس "طائفي مذهبي" بل كانوا يعملون على جعل العراقيين تحت إرادتهم أي كانت خلفياتهم المذهبية، الوقائع كثيرة في هذا الصدد فمثلما قمع النظام "الانتفاضة الشيعية" في جنوب العراق، قام بإعدام عدد كبير من شخصيات عشيرة الجبور ذات الانتماء "السني" كونهم حاولوا الإطاحة به وفق ما أسماها المؤامرة التي كلفت هذه العشيرة ضحايا بالجملة، ولم يكتف النظام بذلك فقد مارس مع تلك العشيرة الإقصاء والتهميش عبر منع شخصياتها من التواجد في المؤسسات الحساسة للدولة. وهناك الكثير من الحكايات التي تشير إلى قيام نظام صدام بالبطش بكل من يحاول التمرد على المنظومة التي أسسها أيًا كانت خلفية المحاولون المذهبية. وهذا ما يؤكد أن السلطات لم تكن تتعامل مع الشعب على أساس الانتماء المذهي أو القومي بقدر ما تهتم بحجم الولاء لها وهنا يجب ألا يحسب نظام صدام ومن سبقه على مكون واحد تحمل الويلات مثله مثل بقية العراقيين.
التخبط السياسي
بما أن جميع الأنظمة التي توالت على حكم العراق لم تعر أهمية للمذهب بقدر سعيها لكسب ولاء الجميع لها ترغيبًا وترهيبًا، فإن المكون العربي السني بصيغته الجمعية لم يكن ينظر إلى السلطة على أنها تمثل غطاء دعم رسمي له لذلك ابتعد عن الالتصاق بها خصوصًا في سنوات الحصار وما تلاها بعد أن أصبح راتب الموظف يقترب مما تنتجه الدجاجة في الشهر، وبما أن الوظيفة الحكومية إحدى وسائل الاقتراب من السلطة أو دعمها، فقد لجأ أبناء العرب السنة إلى وسائل أخرى لكسب الرزق كالزراعة خصوصًا أنهم يتواجدون في مناطق صالحة لذلك، أو التجارة كما في الموصل المدينة التي تشتهر بهذه المهنة وغيرها من وسائل كسب الرزق بعيدًا عن الدولة ومؤسساتها، وبذلك نجد أن التوجهات السياسية لأبناء المكون كانت ضعيفة على عكس بقية المكونات التي نظمت صفوفها سياسيًا خصوصًا في خارج البلاد عبر معارضة صدام وسلطته لتؤسس أحزابًا وتيارات سياسية كانت تبعث برسائلها إلى جمهورها في الداخل الذي كان شبه منظم أو مستعدًا للتنظيم، وهذا ما شاهدناه بعد العام 2003م، الذي وجد فيه أبناء العرب السنة نفسهم مشتتين سياسيًا بسبب ضعف التنظيم أو افتقارهم لأحزاب كبيرة تقودهم لذلك. مع دخول البلاد في مرحلة الديمقراطية الجديدة، تباينت وجهات نظر هذا المجتمع من هذه الخطوة التي تحفظ عليها البعض وأيدها آخرون لم يلقوا تجاوبًا مجتمعيًا لها لأسباب مختلفة، أبرزها كان قانون اجتثاث البعث الذي رمى العديد من شخصيات هذا المكون خارج مؤسساتهم الحكومية أو جرى ملاحقتهم قضائيًا وزج بآخرين في السجون كونهم كانوا بدرجات بعثية معينة، الأمر الذي جعل فئة كبيرة من المجتمع تنظر إلى هذه المرحلة على إنها اقصائية لهم. كما أن دور الجماعات المسلحة (الجهادية) التي نشطت في هذا المجتمع لعدة أسباب رافضة الوجود الأمريكي ورافعة لفوهات البنادق بوجهه كان مؤثرًاعلى تقبل فكرة التواجد في السلطة ثانية وأن بعضها هدد كل من يشترك في العملية السياسية بالتصفية أو حتى التواجد ضمن بعض مؤسسات الدولة ومنها الأمنية وهو ما ساعد على ابتعادهم عن محور صناعة القرار السياسي مثل بقية المكونات. المشاركات السياسية للمكون العربي السني كانت خجولة جدًا بسبب حالة الرفض المجتمعي ورفض جهات سياسية أو إعلان جماعات دينية عن حرمة ذلك وهو ما جعل ممثلي المكون يفتقدون إلى وسائل القوة المجتمعية الأمر الذي أدى إلى إفساح المجال لجهات عديدة لصناعة شخصيات سياسية تلعب دور شكلي حسبت على العرب السنة، إلا إنها تدين بالولاء لغيرهم أو تنفذ أجندات خارجية الأمر الذي جعل الدور السياسي لهذه الطائفة من العراقيين هو الأضعف. كما علينا ألا نغفل عن الصراع السياسي الذي جرى بين الشخصيات العربية السنية للحصول على زعامة المكون وهو ما جعلهم يفتقدون إلى وحدة للقرار يطالب من خلالها بحقوق الملايين من العراقيين الذين وجدوا أنفسهم ضحية أزمات داخلية وخارجية وهذا ما قاد لأداء سياسي متعثر بسبب قلة الخبرة للشخصيات السياسية أو محاولة تحجيم دورهم من قبل خصومهم.
واقع الحال
إن لم تساهم في صناعة واقعك سيضطر الآخرون للقيام بذلك، هذا ما حصل مع المكون العربي السني في العراق بعد العام 2003م، حيث أصبح ضحية لسلوكيات داخلية وخارجية استثمرت الظروف التي وقع فيها والتي كان معظمها ممنهجًا. اليوم وبعد الأحداث التي شهدتها مناطقهم نجدهم من أضعف مكونات البلاد رغم الإمكانيات البشرية والجغرافية التي تتمتع بها مناطقهم، إلا أنهم يعيشون أسوأ مرحلة تاريخية لهم منذ انهيار الدولة العباسية. مئات الآلاف من النازحين داخل وخارج مدنهم، أضعافها من المهاجرين خارج البلاد بسبب كمية الضغط التي مورست ضدهم. آلاف من المغيبين الذين لا يعرف مصيرهم رغم محاولات حكومية شبه جادة لذلك، ضعفهم في سجون الدولة الرسمية الكثير منهم بريء وفق شهادات مجتمعية بأدلة وبراهين دامغة. عشرات الفصائل المسلحة جاثمة على صدورهم بحجة محاربة تنظيم داعش الأمر الذي فسح المجال للتدخل بشؤونهم وجعلهم مسلوبي الإرادة فهم يدفعون ثمن حماقات تنظيم داعش الدولي آخر الإرادات التي فرضت على هذه البيئة وكأنهم سبب في وجوده. كل ذلك أسهم " بتطويع" هذا المجتمع وجعله يتقبل جميع المواقف المستحدثة ضده وعدم قدرته على الرفض أو التمرد كون هناك تهم جاهزة وعقوبات رادعة وفق القوانين الحكومية أاو وسائل القمع الأخرى خصوصًا من قبل الفصائل المسلحة. إن ما يعانيه المجتمع العربي السني في العراق اليوم يمثل بداية مفصلية لتصدع العراق كدولة قائمة، ويجبر أبناءه المطالبة بحلول عميقة بعضها يصل إلى اللجوء نحو الانفصال أو المطالبة بتشكيل إقليم على غرار كوردستان ليحمي حقوقهم ويحفظ كرامتهم ويجعلهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم يتحملون كل تبعات ذلك مثلما يؤكدون.
البحث عن حلول
في خضم الأحداث التي تشهدها المناطق العربية السنية من البلاد وما يعانيه أهلها من ويلات، بدأ المجتمع في البحث عن حلول جذرية تعالج كافة الإخفاقات المتراكمة التي تسببت بها المراحل السابقة وما تبعها من أزمات، وحاليًا صار هذا المجتمع يفكر جديًا ببدائل عديدة للخلاص من مراحل الجور التي عاشها والتي تجاوزت حدود الإقصاء والتهميش لتصل إلى حالة من القهر المجتمعي والاضطهاد في مناسبات عديدة وهو ما خلف ردة فعل جمعية حادة صارت تفكر بالخلاص من مسميات الحكم المركزية واللجوء إلى حلول دستورية عبر المطالبة بتشكيل ما يسمى بالإقليم "السني" حيث لم تعد هذه الخطوة مقتصرة كورقة ضغط سياسي تمارسها تيارات نخبوية للحصول على مكاسب، وإنما باتت مطلبًا شعبيًا وجد من خلاله الشارع العربي السني إنه الوسيلة الأبرز للخلاص من كل الإرادات التي من شأنها إضعاف المكون أكثر وتكبيده المزيد من الخسائر . حتى فكرة الإقليم وجدها البعض منهم بأنها ستبقي المكون وأبناؤه أسرى لدى مزاجيات الحكومة الاتحادية في التعاطي مع حقوق الأقاليم مثلما حصل مع إقليم كردستان والذي عانى كثيرًا من وسائل الضغط السياسية الهادفة لإضعافه، فراح يطالب بتشكيل تحالفات كونفدرالية وربط البقعة العربية السنية بإحدى الدول المجاورة أو الاستقلال كدولة منفردة لضمان التفرد بمصيرهم بعيدًا عن الوضع المعقد الذي يعيشه العراق والخلاص من التدخلات الخارجية وهذا صعب التحقق في ظل الظروف التي تشهدها المنطقة الإقليمية كما يرى الكاتب الذي يؤكد أنهم سيستمرون في عيش واقع مؤلم ومستقبل مجهول حتى بزوغ مرحلة جديدة للعراق الذي يتطلعون إليه وفق مفهوم الدولة المدنية التي لا تفرق بين أبناء الشعب على أساس انتماءاتهم الطائفية.