ما أسهل التنظير السياسي ف"الوضع اللبناني"، وما أصعب تنفيذ ما ينبغي تنبيذه، وما يجب أن يكون، باعتبار العقبات الداخلية والخارجية المعروفة، أمام العلاج لذلك، أصبح المأمول والمرجو (الاستقرار السياسي الحقيقي) قريبًا بعيدًا، أو صعب المنال، وإن كان ممكنًا.
وفى البدء، نجزم بأن لبنان، أو أي بلد آخر مشابه (موحدًا أو فيدراليًا) لن يستقر، إلا إذا "طبع" وضعه السياسي، وأقام نظامًا برلمانيًا حقيقيًا، يتجسد في: دستور لبناني لاطائفي جديد ... يؤكد سيادة الشعب، ويسمح بتكوين الأحزاب السياسية المختلفة، وفق الأصول المتعارف عليها عالميًا. حيث لا يسمح بقيام أي حزب طائفي أو ديني أو انفصالي، ويمنع أي حزب من تشكيل ميليشيا خاصة به، وتحتكر الدولة (ممثلة بالحكومة اللبنانية) كل وسائل الإكراه العام. وذلك يستوجب تحويل ما يسمى ب "حزب الله" إلى حزب سياسي عادى، منزوع السلاح، حتى لا يكون "دولة داخل دولة". فلبنان كما هو الآن مريض سياسيًا. وهذا يعنى أن شعبه في وضع معيشي وحياتي خطير. ولن تشفيه إلا هذه الوصفة، التي يجمع عليها كل "أطباء" وخبراء السياسة، العرب وغيرهم.
****
لقد أدى تنوع واختلال التكوين السياسي والاجتماعي اللبناني – بطوائفه الكبرى المعروفة – وعدم وجود "نظام" ملائم يستوعب هذا الاختلاف، إلى ابتلاء لبنان بمرض سياسي عضال... اسمه "عدم الاستقرار السياسي" الحقيقي، أو "عدم الاستقرار السياسي المبطن"، أو غير السافر. كان "عدم الاستقرار السياسي" سافرًا في بعض المراحل، وخفيًا مبطنًا في أغلب الأوقات. لم يذق لبنان طعم الاستقرار السياسي الحقيقي، منذ ولادته، على يد الولادة الفرنسية.
ومعروف أنه ينتج عن مرض عدم الاستقرار السياسي أعراضًا خطيرة، أقلها الاضطرابات والقلاقل، وأسوؤها الحراب الأهلي. وهذا المرض أدى بالفعل إلى حدوث كارثة الحرب الأهلية اللبنانية المأساوية، كما هو معروف، بدءًا من العام 1975م ..... تلك الحرب التي ألحقت بلبنان – والعرب، بصفة عامة – خسائر هائلة وفادحة. إضافة لبقية الكوارث المحلية المعروفة، وصولاً إلى تفجير ميناء بيروت الكارثي يوم 4 أغسطس 2020م.
بقيت الحرب الأهلية مشتعلة حتى توصلت الأطراف المتصارعة إلى "اتفاق الطائف"، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز (يرحمه الله) وحكومته، الذين كان لهم الفضل الأساسي – بعد الله – في وقف تلك الحرب التي تواصلت على مدار 14 عامًا، وكانت تخلف – في المتوسط – حوالي 60 قتيلاً لبنانيًا في اليوم الواحد. إضافة إلى خسائر مادية، قدرت بعشرات المليارات من الدولارات شهريًا. كانت نكبة مروعة.... تنزل بهذا البلد العربي الجميل، ومصيبة فظيعة.. أضيفت إلى نكبات العرب الكبرى في القرن العشرين الماضي.
****
توقفت تلك الحرب في العام 1989م، وبدأت عملية مصالحة وطنية شاملة، وحركة إعمار وإعادة إعمار ملفتة للنظر ... أوشكت أن تجعل ما خلفته تلك الحرب شيئًا من الماضي. غير أن المرض لم يعالج، كما ينبغي. فالورم المسبب له بقي، ولم يستأصل. حيث أعطى المريض "مسكنات" إلى حين تناوله العلاج الناجع. ولكن المريض المسكين لم يعالج، وما زال بعد حوالي ثلاثين عامًا من تناول المسكنات، أو الدخول في "هدنة"، يحمل نفس الفيروسات. حقًا، كانت هدن مؤقتة، وعابرة. ولم يكن "الاقتصاد" وتحسنه إلا عنصرًا واحدًا من تركيبة العلاج. فكثير من النفوس كانت – وما زالت – تعاني من الألم والغبن والأسى، الذي يؤكد الاعتقاد بأن: بــذور مــرض عدم الاستقرار السياسي (عدم الرضا) مازالت قوية ونشطة...ورؤساء وزعماء الطوائف مازالوا يمسكون بالسلطة، لخدمة مصالحهم هم، لا مصالح لبنان، أرضًا وشعبًا. بل تحولوا إلى ما يشبه تجار حروب، وعملاء لأطراف خارجية.
وقد كان "الوضع اللبناني" ملغومًا، وملغمًا. وشبهت فعاله بالقنابل الموقوتة القابلة للانفجار في لحظات توتر مواتية معينة. وقد انفجرت عدة مرات. وعاودت الانفجار بتاريخ 4 أغسطس 2020م؟! لقد تكررت الانفجارات الناسفة للحياة الطبيعية. وغالبًا ما تحصل بعد كل انفجار مراجعة سريعة لما حصل وكان، ثم يقدم للبلد مسكن جديد، فتخمد الأزمة إلى حين، ويستمر العناء الشعبي اللبناني ... مترقبًا الانفجار (الكارثي) القادم. وهكذا، أصبحت حياة معظم الشعب اللبناني قلاقل، ومناورات، وصراعات، وانفجارات. وأضحى هذا البلد ذو الطبيعة الخلابة مفتقرًا للاستقرار السياسي الحقيقي.
****
ومن زاوية أخرى، يمكننا أن نقول: لن يستقر لبنان إلا إذا... استولى الجيش اللبناني (أو ما شابه ذلك، مثلا) على السلطة، وأقام حكم القلة العسكرية المؤقت. ثم أجرى عملية "إصلاح سياسي" عاجلة ومدروسة، تتضمن: "تطبيع" وضع لبنان السياسي، وإقامة نظام برلماني حقيقي، يتجسد في دستور لبناني لاطائفي جديد ... يؤكد سيادة الشعب، ويسمح بتكوين الأحزاب السياسية، وفق الأصول المتعارف عليها عالميًا، ويمنع أي حزب من تشكيل ميليشيا خاصة به، وتحتكر الدولة (ممثلة بالحكومة اللبنانية) كل وسائل الإكراه العام.
****
فلا شك، أن التأمل العميق في الواقع السياسي اللبناني، يبرز تساؤلاً هامًا ومصيريًا، ألا وهو: كيف...؟! كيف يتم التمهيد لـ"تطبيع" الوضع السياسي اللبناني، ومن ثم إقامة (فرض) النظام المأمول، والذى يعتبر هو "العلاج" الناجع، والذى سيضمن استقرار لبنان، وما شابهه من دول مضطربة غير مستقرة، في المدى الطويل؟!
إن تعذر اتفاق الأطراف اللبنانية الرئيسة على الإصلاح السياسي المنشود، قد يصبح من الضروري وجود "قوة نزيهة" محايدة، تستولي على السلطة عنوة، وتزيح الأحزاب الطائفية ورموزها، وتقيم النظام المأمول، وتسلمه (مشكورة مقدرة) للشعب. وهذا البطل المرجو لابد أن تتوفر فيه خصيصتان: القوة التي تمكنه من إزاحة عصابات الاستبداد والطائفية والفساد، والنزاهة التي تحتم عليه وتلزمه بإقامة النظام المأمول، والرحيل ... حتى لا تستبدل ديكتاتورية بأخرى. لذلك، يمكن أن نقول الآن: قد يستقر لبنان إذا... ونملأ الفراغ الأخير بالعبارة التالية: استولت قوة لبنانية نزيهة على السلطة، وأزاحت طغاة الطائفية، واقامت النظام السياسي المناسب، ثم رحلت.
ولكن، أين هو هذا البطل الخرافي المخلص؟! بالتأكيد، هو ليس أحد قادة الأحزاب الطائفية اللبنانية. هل هو "الجيش اللبناني"، إذا؟! ولكن، يقال إن الطائفية قد اخترقت الجيش اللبناني هو الآخر. ومع ذلك، فإن هذا الجيش ما زال "وطنيًا"، كما يدعي بعض قادته. لذلك، يظل هو الأقرب ليكون "البطل" النزيه المنتظر. لا أحد يتمنى انقلابًا عسكريًا على الطريقة العربية التي تستبدل مستبد بمستبد آخر، فهل يكون الجيش اللبناني هو البطل الاستثنائي، ليدخل التاريخ السياسي لبلاده وللعرب من أوسع الأبواب، وأنبلها؟! قد يحصل هذا التطور السعيد، لاسيما وهناك شعب (لبناني) واع، ومثقف، ولا يقبل الاستبداد.
****
لقد تغنى المفكرون السياسيون بالديمقراطية... مع تأكيد بعضهم بأن الديكتاتورية الاستبدادية المصلحة ضرورية في حالات ثلاث فقط، هي: إنشاء دولة من عدم؛ إنقاذ دولة من انهيار وشيك؛ إصلاح دولة بالغة الفساد. أما في حالة صلاح الدولة، وعودة الحياة فيها إلى الوضع الطبيعي، فإن الحكم التمثيلي هو الأنسب والضامن للاستقرار السياسي والازدهار الحضاري، في المدى الطويل.
وربما يستحسن تذكر هذه النظريات العلمية المعتمدة عند تحليل الوضع السياسي العام الراهن في لبنان، وبعض الأقطار العربية المضطربة وغير المستقرة، والتأمل في الحلول الممكنة لهذه الإشكالية السياسية الخطيرة التي تعاني منها هذه الدول الآن (سوريا، العراق، لبنان، اليمن، ليبيا وغيرهم)... وغالبًا لن نجد أفضل من وصفة الديكتاتورية المصلحة ( في حالة فشل التفاهم الوطني السلمي)، سيما وقد تواجدت كل الحالات الثلاث، في هذه الدول في الوقت الحاضر، ونشأت ضرورة وجود قوى أو "قادة" أقوياء (ينفردون بالسلطة مؤقتًا) لتجاوز أزمة هذه الدول. كأن ينهض قائد جيش، أو حزب وطني، في كل منها، ويستولي على السلطة، معيدًا الأمن والاستقرار إلى ربوع بلاده. ثم يبدأ العملية السياسية التي تضمن، في نهاية الأمر، تسليم السلطة لأطراف منتخبة، وفق دستور مقبول.
****
إن "وثيقة الاتفاق الوطني" التي أقرها النواب اللبنانيون يوم 13 / 10 / 1989م، بالطائف (اتفاق الطائف) هي اتفاقية بالغة الأهمية والجودة ولكنها – وبنص فيها – مرحلية. وهناك بنودًا فيها مازالت – كما يعرف الفرقاء اللبنانيون – تنتظر التطبيق الفعلي التام و"السليم"... ليكمل اتفاق الطائف دوره ... كاتفاق مرحلي ... يحتاج – بالضرورة -إلى متابعة فاتفاق لاحق نهائي ... يتمثل في "دستور" جديد سليم دائم للبنان ... يضمن له – على المدى الطويل – الاستقرار والأمن على أسس صلبة، ويضعف بذور الشقاق، أو يستأصلها من جذورها، للحيلولة دون حدوث كوارث جديدة. ويتطلب ذلك إلغاء ما يسمى بـ "الميثاق الوطني" الذي أبرم عام 1943م، وكل القوانين التي تكرس المحاصصة السلطوية الطائفية.
الغليان في لبنان ليس جديدًا، ولم يفاجئ المراقبين إطلاقًا، الذين كانوا – وما زالوا-يضعون لبنان في قائمة الدول غير المستقرة، بسبب وضعه، أو مرضه السياسي المعروف. لقد تأخر علاج لبنان، إن قدر له قط أن يعالج، بسبب تأخر المتابعة من قبل أهله ومحبيه... وبسبب رغبات إقليمية وعالمية في منع إحداث تغيير سياسي كبير يشكل مستقبل لبنان قد يترك تداعيات كبيرة على إسرائيل وبعض الأطراف بالمنطقة. ولكن، كان هناك جديدًا في أحداث أغسطس 2020م. فغالبية الشعب اللبناني، بكل طوائفه، خرجت لتطالب برحيل النظام، وتغييره لما هو "أفضل". وهم يقصدون "كل النظام"، وليس أفرادًا أو طائفة بعينها. وهذا، ولا شك، يمثل ضيقًا لبنانيًا بالطائفية، ودعمًا هائلاً لـ" القوة النزيهة" المرجوة للتغيير.
وعلى هذه الأغلبية الشعبية أن تستمر في ضغوطها، التي إن تواصلت، كما ينبغي، ستجبر المعنيين بالإذعان لمطالبها. وإن تحققت الرغبة السياسية، فستتحقق الرغبة الاقتصادية أيضًا، ويخرج الشعب اللبناني منتصرًا في هذه الجولة الحاسمة من صراعه مع سلطة فاسدة، تكرس مصالح القلة التي تمثلها، ولا تكترث بمطالب واحتياجات الإنسان اللبناني العادي، الذي جثمت على صدره لأكثر من ستة عقود، بل وما زالت تمعن في الإضرار به، وإذلاله. وكل محبي لبنان يتمنون الآن أن يحصل هذا "الانتقال" المرجو، ويتم -إن حصل بالفعل-بيسر وسلام ...