array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 159

عودة أمريكا: الأولويات المتغيرة للسياسة الخارجية ومصالح الطبقة الوسطى

الأحد، 28 شباط/فبراير 2021

يسيطر اعتقاد راسخ، في السياسة الأمريكية، بأن المسؤول المفكر والمنهجي، الذي يتمتع بـ"كاريزما" اتخاذ القرار، يُمكنه أن يُشَكِّل صورة "المؤسسة"، أما الإداري العادي ستُشَكِّلُه هذه المؤسسة، أو تلك. وقد عرفت الإدارات الأمريكية المختلفة رؤساء مفكرين، وسياسيين نافذين صبغوها بفكرهم وأسلوبهم، ومَرَّ آخرون مرور الكِرام، لم يخلفوا بصمة، ولا ذكرًا حسنًا. الأمر الذي يجعل البحث في خلفيات المسؤولين ومؤهلاتهم مسألة مهمة للمعنيين بمتابعة الشأن العام، خاصة مراكز البحوث والدراسات. وبعد أن غادر دونالد ترامب، كحالة شاذة في تاريخ الرئاسة الأمريكية، يلفت انتخاب جو بايدن الانتباه مرة أخرى إلى أهمية عناصر القيادة في تشكيل قرار البيت الأبيض، فيما يلي السياسات الداخلية، وما يرتبط منها بالسياسة الخارجية، ومدى قدرته كـ"زعيم" على فرض رؤيته على المؤسسات الحاكمة للقرار الأمريكي. فقد مرت فترة ترامب وكأنها استراحة قسرية من ضوابط المؤسسية، ويعتمد الخروج من هذه الاستراحة، إلى حد كبير، على الخيارات، التي يتخذها بايدن. وقد تكون هذه الخيارات هي آخر فرصة لـ"مؤسسة" الرئاسة لإثبات أن الأممية الليبرالية، التي يتبناها الديمقراطيون، هي استراتيجية متفوقة على القومية الشعبوية، والتي اجتهد في توطينها ترامب، بعد أن فشل في تسويقها المحافظون الجدد عبر إدارة جورج بوش الإبن.

ففي السياسة الخارجية خاصة، لا يستطيع بايدن الاعتماد ببساطة على الإدارة التكنوقراطية المختصة، بل يجب عليه التفكير في الخيارات الاستراتيجية، التي تم إنشاؤها بواسطة فريق متنوع أيديولوجيًا. وعليه اتخاذ خيارات كبيرة تتوافق مع سياسات الوقت الحالي، في الولايات المتحدة وحول العالم. مثل هذا المسار الجريء هو بالتأكيد ليس الخيار، الذي يمكن لرئيس منتخب حديثًا، وليست لديه خبرة في السياسة الخارجية أن يسلكه، لكن بايدن يستطيع ذلك بحكم خبراته المتراكمة. فقد كان بايدن، الذي يبلغ من العمر 78 عامًا، عضوًا في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير منذ عام 1973م، إلى عام 2009م، ثم نائب الرئيس أوباما حتى عام 2017م. ورغم أنه أمضى ثماني سنوات في ظل أوباما، إلا أنه على وشك اكتشاف ما إذا كان، حتى مع سلطات الرئاسة، يمكنه الخروج منها حقًا. فقد بدأت تراقبه التكهنات، وتلاحقه المقارنات، وتتناوشه الاتهامات، التي تُصِرُّ أنه ما يزال يعيش في "جلباب" أوباما. ولكن بالنظر إلى الأزمات المتعددة، التي يواجهها منذ اللحظة، التي دخل فيها المكتب البيضاوي، فقد يكون كل ذلك أقل تعقيدًا مما ينتظره فعلاً من مشكلات، وما سيجابهه من تحديات.

تجديد القيادة:

قال ديفيد ليت، كاتب الخطابات السابق للرئيس الرابع والأربعين: إن أوباما وبايدن تربطهما علاقة عمل قوية للغاية وكثير من الاحترام والثقة الشخصية، لذا، أعتقد أنه وضع مثير للاهتمام، و"أنا متأكد من أن الرئيس أوباما سيكون داعمًا بأية طريقة تُسأل مع أي رئيس ديمقراطي، لكنك سترى استمرارية بين الموظفين أكثر مما قد تفعله بخلاف ذلك، لأن الكثير من الأشخاص عملوا في إدارة أوباما، ثم في حملة بايدن، يفترض أن ينضموا إلى إدارة بايدن". فقد كان جو بايدن يدير حملته الخاصة، وستكون هذه رئاسة جو بايدن، وسيكون من الخطأ اعتبار رئاسة بايدن ولاية ثالثة لأوباما. وبحسب ليت، مؤلف كتاب "الديمقراطية في كتاب واحد، أو أقل"، فإنه "إذا نظرت إلى خطب بايدن وحملته وفريقه، فقد كان واضحًا جدًا أن دور جو بايدن كنائب للرئيس أوباما كان جزءًا مهمًا من سيرته الذاتية، لكن جو بايدن كان يدير حملته الخاصة، وستكون هذه هي رئاسة جو بايدن".

للتأكيد على هذه النقطة، أفاد موقع "أكسيوس" الإلكتروني أن فريق بايدن الانتقالي أخبر قدامى المحاربين في إدارة أوباما أنهم مرحب بهم للتقدم للوظائف، لكن الأشخاص الذين عملوا في حملة بايدن سيأخذون الأولوية. وقد يكون أحد العوامل الحاسمة المحتملة في تفكير بايدن هو كيف لا ينظر إلى أوباما من قبل القاعدة الديمقراطية بل 73 مليون شخص صوتوا لترامب، الرجل، الذي أقحم السياسة الأمريكية في مطبات حرجة من خلال الدفع بنظرية المؤامرة العنصرية القائلة إن أوباما لم يولد في أمريكا. وتنبأ لاري جاكوبس، مدير مركز دراسة السياسة والحكم في جامعة مينيسوتا، بأن "أوباما يتمتع بشعبية كبيرة بين الديمقراطيين ولكنه مختلط مع الجمهوريين. من الممكن جدًا، من حيث العرض العام على الأقل، أن نرى القليل من جورج دبليو بوش. يمكن أن يكون مجرد زعيم جمهوري سيحتاجه جو بايدن في يوم التنصيب ولحظات مهمة أخرى للإشارة إلى عودة الأمور إلى طبيعتها بعد الرئاسة المشوشة لدونالد ترامب". ويشير معلقون آخرون إلى أن أوباما يمكن أن يكون حصنًا مانعًا لبايدن المعتدل لأنه يواجه ضغوطًا من جانبه الأيسر بشأن قضايا مثل إصلاح الشرطة وأزمة المناخ. في إشارة إلى خسائر الديمقراطيين في مجلس النواب، قال مايكل ستيل، الرئيس السابق للجنة الوطنية للحزب الجمهوري: "أعتقد أن أوباما سيكون مهمًا من أجل إبقاء التقدميين بعيدًا إلى حد ما"، لأن أمريكا، في اعتقاده، هي "بلد يمين الوسط. قد يعتقد الأصدقاء الديمقراطيون أنها دولة يسار الوسط. الشائع هناك هو أن الدولة تتمحور بشكل كبير حول السياسة، وأعتقد أن أوباما يمكن أن يكون مفيدًا في بعض الأحيان في خيوط بعض الإبر، التي قد تكون مشكلة لإدارة بايدن".

ففي مهرجان خطابي نُظِمَ يوم السبت 31 أكتوبر 2020م، في مدينة فلينت، بولاية ميتشجان، تحدث أوباما بصراحة عن الاختلافات بين بايدن وترامب، وركز على ثقته في أن بايدن سيكرس نفسه لدوره كرئيس، كما كان نائبًا للرئيس. وأوضح أوباما: "أستطيع أن أقول لكم إن الرئاسة لا تغير من أنت. إنها تُظهر من أنت. إنها تكشف من أنت... لمدة ثماني سنوات، كان جو آخر شخص في الغرفة عندما اتخذ قراراً مهماً." وفي مقابلة مع CBS Sunday Morning، أوائل نوفمبر الماضي، قال أوباما إن بايدن "لا يحتاج إلى نصيحتي، وسوف أساعده بأية طريقة ممكنة. لكل ما تقدم، فإن بايدن لن يكون أوباما؛ لا في سياسته الداخلية ولا الخارجية، رغم أن الرئيس السابق قد دعم الرئيس الجديد وشجعه من خلال مواجهة عدد من التحديات، الشخصية والعامة، منذ وجودهما في البيت الأبيض معًا. وقد طورا خلال ذلك الوقت، رابطًا وثيقًا، سواء فيما يتعلق بالحكم، أو بحياتيهما الشخصية. على الرغم من صعوبة البداية، إذ كان لكليهما أسلوبه المختلف بشكل ملحوظ في إدارة الشأن العام، فكان أوباما هو الأكثر منهجية وواقعية بين الاثنين، وبايدن الأكثر عاطفية وتقليدية في أحكامه العامة. إلا أن هذه الاختلافات بينهما ساعدت في النهاية على تحقيق التوازن بين بعضهما البعض، كما هو الحال في أية شراكة صحية.  

أولويات مختلفة:

رغم كل ما تقدم من أحاديب الاقتراب والاقتران، سيبدو للعالم أن بايدن يقلد أوباما، وهذا أمر طبيعي في ديمقراطية حزبية يرث فيها القادمون "الخط العام لسلفهم. فمن بعض النواحي، يمكن القول إن بايدن نفسه شغل منصب نائب الرئيس أوباما لمدة ثماني سنوات، وطلب استمرار توم فيلساك، كوزير للزراعة. وأتى بجانيت يلين، وجون كيري، وتوني بلينكين، وجيك سوليفان، ونييرا تاندين، وسوزان رايس، ودينيس ماكدونو، من خريجي إدارة أوباما، ولكنهم أيضاً من تقليديي الحزب الديمقراطي. لكن المؤكد أن أولويات أمريكا تغيرت، منذ أن ترك أوباما منصبه في عام 2017م، وكذلك تغيرت أولويات الحزب الديمقراطي. ستعتمد إنجازات بايدن النهائية على مقدار التعاون، الذي يحصل عليه من الكونغرس، وما إذا كانت إرداة الديمقراطيين ستظل متحدة. ومع ذلك، فقد أشار بايدن بالفعل إلى أولويات رئيسة، مع اختلاف بعضها بشكل ملحوظ عن أولويات أوباما وبعضها متشابه تمامًا.

 وإذا أردنا تفصيل أين يختلف بايدن عن أوباما، سنجد أن "سياسة المناخ"، هي خير عناوين التباعد بين الرجلين. فقد كان لأوباما سجل مختلط في المناخ، ولم يجعله حقًا أولوية حتى ولايته الثانية. إذ عزز معايير الاقتصاد في الوقود بشكل حاد، ونفذ خطة الطاقة النظيفة، وأدخل الولايات المتحدة في اتفاقية باريس للمناخ. لكن في الوقت نفسه، ارتفع إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة في عهده، حيث ساد "التكسير" للنفط الصخري، لأن أوباما تولى منصبه وسط أسوأ ركود منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت وظائف النفط والغاز عالية الأجر نقطة مضيئة في صورة التوظيف الضبابية. وكان لأوباما أيضًا أغلبية ديمقراطية صديقة في الكونجرس لمدة عامين فقط، مما أحبط العديد من أهدافه السياسية خلال السنوات الست الأخيرة من رئاسته.

في حين قد يصر البعض على أن إدارة بايدن استمراريةً لرئاسة باراك أوباما، أو نسخة ما من "ولايتها الثالثة"، كما أسلفنا، ويشجعهم على تبني هذا الرأي أن بايدن أعاد العديد من شخصيات فريق أوباما إلى حكومته، لكن الواقع الحقيقي يُحَدِّثُ عن تفاصيل مختلفة؛ تقول إنّ العالم في عام 2021م، مختلف تمامًا عن عام 2009م، الذي تولى فيه أوباما منصبه. يُضافُ إلى ذلك "تَرِكَة" سنوات دونالد ترامب، التي تحتاج وحدها إلى جهد استثنائي يُعيد صياغة الكثير من المعادلات في السياسة والسياسات الداخلية والخارجية، والتي طالتها يد العبث والتخريب غير المسبوق في تاريخ المؤسسات الأمريكية. وسيحتاج، كمقدمة لازمة، وشرط تمهيد حاسم، للتدرج في الانتقال من شعار "أمريكا أولاً"، إلى ما كان ينادي به إبان حملته الانتخابية، وهو "عودة أمريكا"، وتأكيد إيمانه بأن أمريكا حالة خاصة و"استثناءً"؛ مثلما تكون كل بلد لأهلها "استثناء" تنعقد حوله أشراط الولاء والوفاء والاستعداد للفداء. وهذا التشبث بمفردة "الاستثناء" يبدأ بالجبهة الداخلية، التي اعترتها كثير من "التشققات"، وأدواء التنافر الاجتماعي والعنصرية، التي كادت أن تعصف بكل مبادئ التعايش السلمي في مجتمع ظل يحاجج العالم بأفضليته. ومثلما فعل أوباما في توحيد التنوع الأمريكي الداخلي خلف السياسة الخارجية، فإن على بايدن استعادة دور الطبقة الوسطى إلى الشأن الخارجي، كفاعل في تحقيق توازن المصالح الداخلية والخارجية.

محك السياسة الخارجية:

 كان يوم الخميس 4 فبراير 2021م، هو ميقات الإعلان الرئاسي عن محددات السياسة الخارجية الأمريكية بالنسبة للإدارة الديمقراطية الجديدة، التي تسنمت دست الحكم في البيت الأبيض رسميًا في العشرين من يناير الماضي. إذ ألقى الرئيس جو بايدن أول خطاب له عن السياسة الخارجية كرئيس يخلف فترة عاصفة ومضطربة في علاقات واشنطن الدولية، شكلها سلفه دونالد ترامب. وقد أشارت تصريحات بايدن إلى تحول جذري عن لهجة ترامب المتعالية والمتعجرفة، وتعهد بالعمل مع الحلفاء، وكبح تقدم الاستبداد، ومكافحة تغير المناخ، كمبادئ عامة، وغيرها من الملفات الحرجة، التي عبثت بها الإدارة السابقة. ويبدو من الوهلة الأولى أن البدء بمعالجة هذه القضايا والملفات، والتقليل من الأضرار، التي لحقت بالسياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأربعة الماضية، هي مشروع سياسي طموح، ويتطلب بذل جهود كبيرة في جميع الجبهات. ويعلم المتابعون لصناعة القرار في واشنطن أنه في حين أن إجراء بعض التغييرات يمكن أن يتم فوراً بأمر تنفيذي، وهو الأمر، الذي تعهّد فريق بايدن بالقيام به، فإنّ العديد من القرارات والتشريعات تحتاج إلى جهد أكبر، ووقت أطول لتعديلها، أو إلغائها.

لقد تمكن جو بايدن، بعد دراسات ومقاربات ومشاورات ناهزت العامين، من مقارنة سياسته الخارجية بسياسة دونالد ترامب، والنظر إليها من خلال قراءة محلية مستوعبة، ورؤية عالمية واسعة، كان الحظ فيها لصالح التحالفات الداخلية والخارجية. فبينما كان ترامب يعارض الحلفاء والأعداء بمنطق "أمريكا أولاً"، والقيادة الأمريكية للعالم، لاعتقاده أن الدول تستغل الولايات المتحدة، بدأ بايدن عهده بالحديث عن حقوق الإنسان، ومعارضة المستبدين. رغم أن بايدن يحتاج إلى أن يكون أكثر تحديدًا بشأن موقفه من بعض تفاصيل السياسة الخارجية، التي أجملها في خطابه أمام موظفي وزارة الخارجية، يوم الخميس 4 فبراير 2021م، وقد يقول قائل إن بايدن يعتبر، من نواح كثيرة، سياسيًا معروفًا، وأكثر تأهيلاً. ولكن، رغم أن لديه سجلاً حافلاً يعود إلى ما يقرب من خمسة عقود من التجارب، إلا أنه سيبدأ ولايته في عالم مختلف تمامًا عما كان عليه عندما كان نائبًا للرئيس، أو عضوًا في مجلس الشيوخ. إذ إنه سيواجه تحديات جوهرية جديدة، بما في ذلك الأزمة الصحية العالمية، التي تسبب فيها فيروس "كورونا"؛ داخليًا وخارجيًا. ولمواجهة هذه اللحظة عليه إتقان سياسة التوازن بين الفصائل المختلفة داخل فريقه، ومع مجلس الشيوخ الجمهوري، الذي يحتمل أن يعرقل دبلوماسيته تجاه الصين، أو مع الحلفاء الأمريكيين المتشككين.

عودة الطبقة الوسطى:

لقد رفع بايدن شعار "عودة أمريكا"، الذي يستبطن "عودة الطبقة الوسطى" للتأثير في صناعة الدبلوماسية الأمريكية. ويبدو أن تقريرًا، بعنوان: "جعل السياسة الخارجية الأمريكية تعمل بشكل أفضل بالنسبة للطبقة الوسطى"، صدر عن مؤسسة كارنيغي للسلام، قبل فترة وجيزة من الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر 2020م، لم يحظ باهتمام كبير، رغم أنه كان بمثابة خريطة طريق للسياسة الخارجية لإدارة الرئيس المنتخب بايدن. يجادل التقرير بأنه لا يوجد أي من مناهج السياسة الخارجية الرئيسة الحالية؛ سواء كانت الأممية الليبرالية بعد الحرب الباردة، التي تبنتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، أو "أمريكا أولاً" للرئيس دونالد ترامب، أو التركيز على تغير المناخ، أو التقليص المحتمل للإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة، الذي اقترحه التقدميون، يجتذب دعمًا واسعًا في الولايات المتحدة بدلاً من ذلك، يدعو التقرير إلى سياسة خارجية متواضعة "أقل طموحاً" تتجنب حروب تغيير النظام وتضمن اتخاذ القرارات لصالح الطبقة الوسطى في الوطن.

إن هناك ثلاث خصائص ملفتة للنظر في التقرير هي كيف أنه، مثل ترامب، يعترف بأن العولمة لا تعمل لصالح الأمريكيين؛ كيف يجب على فريق السياسة الخارجية التنسيق مع فريق السياسة المحلية والفريق الاقتصادي لمواءمة السياسة الأمريكية؛ وكيف ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى لبناء إجماع سياسي جديد حول سياسة خارجية تعمل بشكل أفضل مع الطبقة الوسطى في أمريكا. وقد توحي اثنتان من خيارات بايدن الشخصية بأن تقرير كارنيجي سيظهر بشكل بارز. أولاً، اختياره لمستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، هو مؤلف مشارك للتقرير، وقدم المشورة لبايدن طوال الحملة الرئاسية. وعندما قدم بايدن سوليفان في 24 نوفمبر، قال إن المساعد الشاب سوف يجلب "تفكيرًا جديدًا" إلى طاولة السياسة الخارجية، لأنه يفهم "رؤيتي، أن الأمن الاقتصادي هو الأمن القومي، ويساعد في توجيه ما أسميه السياسة الخارجية للطبقة الوسطى، للعائلات مثل نشأته في مينيسوتا، حيث نشأ من قبل الآباء الذين كانوا معلمين، وقاموا بتعليمه قيم العمل الجاد واللياقة والخدمة والاحترام".

تحديات مستجدة:

يتفق جميع الديمقراطيين والعديد من الجمهوريين على الحاجة إلى إصلاح وتقوية تحالفات وشراكات أمريكا، لكن هذا الأمر أكثر تعقيدًا مما أظهره خطاب الحملة الانتخابية. لن يكون عام 2021م، مثل عام 2009م، عندما تم الترحيب بأوباما على نطاق واسع باعتباره بطلاً منتصرًا، وفاز بجائزة نوبل بعد أقل من عام في المنصب، وذلك ببساطة بسبب ما يدل عليه انتخابه، والعالم اليوم مكان أقل تعاونًا وليبرالية. غير أن أقرب حلفاء أمريكا سيعملون جميعًا مع بايدن، ويرحبون بنهاية غرابة ترامب، لكن تظل لديهم شكوكًا طويلة حول إلى أين تتجه الأمور. الحكومتان الأسترالية واليابانية، على سبيل المثال، قلقتان بهدوء بشأن نهج بايدن تجاه الصين وتراقبان تعييناته المبكرة عن كثب. يشعر الفرنسيون بالقلق من أن الديمقراطيين سوف يتركون أوروبا غالبًا وجافة أثناء محاولتهم الانسحاب من الشرق الأوسط ومن الحرب على الإرهاب على نطاق أوسع حتى يتمكنوا من التمحور حول التحدي الصيني. يتساءل البريطانيون عما إذا كان بايدن سيستثمر في علاقتهم الخاصة، بالنظر إلى أنه عارض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. العديد من المسؤولين الذين تحدثت معهم من حلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا لديهم تحفظات بشأن القمة المزمعة للديمقراطيات، التي جعلها بايدن محور انتخابه. إذن كيف يجب أن يتنقل بايدن في هذا المشهد المعقد؟ على الرغم من أنه محق تمامًا في المطالبة بتفويض ونقل التفاؤل بشأن المستقبل، إلا أن بايدن يجب أن يكون أيضًا مدركًا لخطورة نظرته الليبرالية العالمية. الليبرالية تحت الحصار في الداخل والخارج. لن يدوم تلقائيًا.

يقول كورت إم كامبل وإيلي راتنر، في مقال لهما، نُشر في "فورين أفيرز"، عدد: مارس / أبريل 2018م، بعنوان: "حساب الصين. كيف تحدت بكين التوقعات الأمريكية"، إن نقاشًا مستمرًا كان يدور داخل فريق بايدن بين الوسطيين الديمقراطيين حول مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولكن تم تجاهله إلى حد كبير. تفضل مجموعة واحدة، والتي أسميها "الإصلاحية"، سياسة خارجية تتفق إلى حد كبير مع سياسة الرئيس باراك أوباما. إنهم يؤمنون بالإدارة الدقيقة لنظام ما بعد الحرب الباردة. إنهم حذرون وتدريجيون. سوف يقفون في وجه الصين لكنهم لن يرغبوا في تحديد استراتيجيتهم على أنها منافسة بين القوى العظمى. ويحتفظون بآمال كبيرة في التعاون الثنائي مع بكين بشأن تغير المناخ والصحة العامة العالمية وقضايا أخرى. إنهم يؤيدون فكرة بايدن لعقد قمة للديمقراطيات، تهدف إلى إصلاح الديمقراطية وتشجيع التعاون، لكنهم قلقون من المنافسة الأيديولوجية بين الديمقراطية والسلطوية. إنهم يفضلون العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني ويعتزمون الاستمرار في لعب الدور الأمريكي التقليدي في الشرق الأوسط.

إن هناك مجموعة ثانية، أُصْطُلِحَ على تسميتها بـ"الإصلاحية"، تتحدى المعتقدات الرئيسة من عهد أوباما. من الناحية الفلسفية، يعتقد هؤلاء المستشارون أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تحتاج إلى تغيير جذري إذا كان لها أن تتعامل مع القوى الكامنة وراء النزعة الترامبية والشعبوية القومية. إنهم أكثر استعدادًا من الترميميين لتحمل مخاطر محسوبة وأكثر راحة في تحمل الاحتكاك مع المنافسين والحلفاء الذين يعانون من مشاكل. إنهم يرون الصين على أنها تعريف الإدارة التحدي، وتفضيل نهج أكثر تنافسية من أوباما. إنهم ينظرون إلى التعاون مع المجتمعات الحرة الأخرى كعنصر أساس في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حتى لو أدت تلك الشراكات إلى صدامات مع حلفاء سلطويين ليسوا حيويين بشكل خاص. هم يريدون مشاركة أقل في الشرق الأوسط بشكل عام وأكثر على استعداد أكثر لاستخدام النفوذ ضد إيران ودول الخليج العربية على أمل الحصول على اتفاق لتحل محل الاتفاق النووي الإيراني. انهم يفضلون تغييرات كبيرة على السياسة الاقتصادية الخارجية، مع التركيز على الضرائب الدولية، والأمن السيبراني وتبادل البيانات، والسياسة الصناعية، والتكنولوجيا، بدلاً من اتفاقيات التجارة الحرة التقليدية.

رؤىً مختلفة:

يزعم السيد توماس رايت، مدير مركز الولايات المتحدة وأوروبا، وزميل أول السياسة الخارجية، في مشروع النظام الدولي والاستراتيجية، في معهد بروكينغز، أن نظرة بايدن للعالم واسعة بما يكفي لتكون متوافقة مع مدارس الفكر الإصلاحية. من الواضح أنه يثق بالعديد من كبار مسؤولي أوباما ويفخر بسجل الإدارة. في الوقت نفسه، استاء من حذر أوباما وتزايده -على سبيل المثال، أراد بايدن إرسال مساعدة إلى أوكرانيا، عندما لم يفعل أوباما ذلك. لقد تحدث بايدن بشكل أكثر صراحة من أوباما عن المنافسة مع الصين وروسيا، وهو يفضل السياسة الخارجية، التي تعمل لصالح الطبقة الوسطى. من المهم أن نلاحظ أن الخلافات المشروعة والجوهرية بين الإصلاحيين والإصلاحيين هي بين الناس الذين يتفقون مع بعضهم البعض. بحيث يبدو البعد الترميمي مجافيًا للموضوعية، بمعنى أن المصطلح قد يبدو متراجعًا، لكن ليس المقصود به أن يكون كذلك. كانت سياسة أوباما الخارجية ناجحة في كثير من النواحي، ودواعي استعادتها معقولة كما هي حال الانحرافات الكبيرة عنها. بعض المسؤولين إصلاحيين في قضايا معينة، ولا إصلاحيين في قضايا أخرى.

كتب جانيش سيتارامان، 15 أبريل 2019م، مقالاً، بعنوان: "ظهور السياسة الخارجية التقدمية"، ذكر فيه أنه منذ نهاية الحرب الباردة، يمكن لمعسكرين أن يَدَّعِيا الانتصار على معظم نتائج السياسة الخارجية للولايات المتحدة: المحافظون الجدد والدوليون الليبراليون. تم تعريف المحافظين الجدد من خلال دعمهم للتدخلات العسكرية الأحادية، وتعزيز الديمقراطية، والتفوق العسكري. بينما ركز الليبراليون الدوليون على تحرير الاقتصاد العالمي، والتدخلات الإنسانية المتعددة الأطراف، وتعزيز حقوق الإنسان في الخارج. اكتسب كلا المعسكرين الثقة من "نهاية التاريخ" المفترضة و"لحظة القطب الواحد" لأمريكا. وقد خضع كلا المعسكرين إلى حسابات جادة بعد حرب أفغانستان والعراق والحروب الأبدية على الإرهاب، فضلاً عن الأزمة المالية العالمية، التي أدت إلى التشكيك في السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، أي إلغاء القيود والتحرير والخصخصة والتقشف. وانخرط دعاة السياسة الخارجية البارزون بشكل علني في عمليات البحث عن الذات أثناء مواجهتهم لهذه التغييرات، وكثرت النقاشات حول مستقبل السياسة الخارجية.

ربما كان ظهور نهج تقدمي مميز للسياسة الخارجية هو التطور الأكثر إثارة للاهتمام؛ والأكثر سوء فهم، في هذه المناقشات. في الخطب والمقالات، حدد سياسيون مثل السناتور إليزابيث وارن والسناتور بيرني ساندرز نهجًا للسياسة الخارجية لا يتماشى مع خطوط الصدع التقليدية بين الواقعيين مقابل المثاليين، أو المحافظين الجدد مقابل الأممية الليبرالية، الذين تأتي خطاباتهم جنبًا إلى جنب مع عدد متزايد من المقالات، التي تستكشف ملامح السياسة الخارجية التقدمية. في حين أنه حتى أولئك الذين قد لا يعتبرون أنفسهم تقدميين يبدون مواضيع متشابهة. لذا، سيكون التقدميون الذين رسموا أرضية جديدة للسياسة الخارجية خلال الحملة الأولية قوة كبيرة داخل الحزب الديمقراطي في إدارة بايدن. ويعتقد سيتارامان أن السياسة الخارجية يجب أن تخدم في المقام الأول الأهداف الاقتصادية والسياسية المحلية. إنهم متشككون في الإنفاق الدفاعي المرتفع ويريدون نزع السلاح من السياسة الخارجية الأمريكية، لكنهم قلقون أيضًا من صعود الحكم الاستبدادي عالميًا ويريدون صد ذلك. بذل العديد من مستشاري بايدن، ولا سيما جيك سوليفان وتوني بلينكين، جهدًا خاصًا لإشراك التقدميين من حملات إليزابيث وارين وبيرني ساندرز بعد الانتخابات التمهيدية. الآن بعد انتهاء الانتخابات، أصبح التقدميون الذين يركزون بشكل أساس على السياسة الداخلية داخل الخيمة، التي تشكل جدول أعمال بايدن الاقتصادي، لكن بعض التقدميين في السياسة الخارجية اعتمدوا نهجًا أكثر تصادمية تجاه فريق بايدن، على أمل الضغط عليه من الخارج بشأن الصين، وإيران، والإنفاق الدفاعي.

استنتاجات:

إن المُتَفق عليه في واشنطن الآن أن بايدن في حاجة إلى مجموعة متنوعة من الأفكار، لأنه يواجه تحديات سياسية كبيرة في الداخل والخارج. إذ أن بايدن لديه، بكل المقاييس، تفويض مؤكد يؤهله للتجديد، وذلك بحصوله على 306 من الأصوات الانتخابية، أكثر من أي رئيس في التاريخ الأمريكي. ومع ذلك، لم تكن الانتخابات بمثابة رفض كاسح لترامب كان يتوق إليه الديمقراطيون، ولم تختف النزعة الترامبية، التي يبدو أنها حولت الحزب الجمهوري إلى قوة للقومية الشعبوية، بما في ذلك العداء تجاه التعاون الدولي والتشكيك في التحالفات.

لهذا، ظهر أن بايدن يرى في الأفكار الإصلاحية، والمنظورات التقدمية، التي قد تبدو متناقضة، كأصول حاكمة. وسعى بشكل استباقي لإنشاء فريق يعكس النقاش الأوسع حول السياسات الداخلية والسياسة الخارجية، ويستصحب التفكير الجماعي، لكنه سيحتاج إلى إدارة وجهات النظر المختلفة بنشاط أكثر مما عُهِدَ عنه. وكان عليه أن يبدأ بتعلم الدروس من أوباما، الذي اختار، في أواخر عام 2012م، جون كيري ليكون وزير خارجيته الثاني، لأنه كان رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وكان حليفًا سياسيًا قديمًا، وكان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه المرشح الأكثر منطقية. كان الإنجاز المميز لأوباما في السياسة الخارجية في فترة ولايته الأولى هو ايجاد توجه محوري نحو آسيا بعيدًا عن الشرق الأوسط، لكن كيري أراد بفطنته السياسية العودة إلى وزارة خارجية تتمحور حول الشرق الأوسط، على ما يبدو دون نية أوباما القيام بذلك.

ولهذا، يمكن أن يخلق بايدن، بالمثل، وعن غير قصد، رؤية عالمية موحدة في فريق الأمن القومي التابع له، ما لم يقرر بوعي قاصد السير في طريق آخر. فالهدف الحاكم لبايدن يجب أن يكون عملية صادقة فكريًا يتم فيها اختبار الافتراضات والسياسات الأساسية للأفكار الليبرالية والإصلاحية والتقدمية بشكل مستمر، وتقييمها بعقل متفتح، لأن أمامه مجموعة متنوعة من الخيارات الاستراتيجية. كما ينبغي أن تكون هذه العملية موجهة نحو النتائج، ولا تنتقل إلى عقلية "المزيد من الاجتماعات"، التي تخلق حالة من الجمود وتوزع الاتجاهات نحو القاسم المشترك الأدنى. فهو كقائد متمرس في السياسة الخارجية، يُعتبر في وضع مثالي للفصل في هذه الخيارات والمفاضلة بين ما سيقدمه الآن، وما يمكن أن يرجئه لوقت لاحق.

مقالات لنفس الكاتب