إن الأزمة الدولية التي باتت سحبها السوداء تتجمع الآن في سماء منطقة الخليج العربي ما بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة، وما بين أطراف دولية عديدة من جهة أخرى قد تكون من أهم ملفات الإدارة الأمريكية الجديدة التي ينظر لها العالم أجمع بترقب وحذر شديدين، ومما لاشك فيه أن عواصم كثيرة في محيطنا الإقليمي سوف تقوم بقرارات مصيرية وهامة وذلك قبل انتقال الأزمة من حالتها السياسية الآن إلى حالة عسكرية متقدمة حسب المعطيات والشواهد والتي ربما كان لا تقل أهميتها في ذلك هي الأحداث والنتائج التي سوف تؤثر على البيئة الإقليمية والدولية بعد زوال أو انتهاء الأزمة الحالية والتي يمكن للإقليم (الشرق الأوسط) والعالم أجمع على وجه العموم إلى حالته السابقة، إذ تأتي الأزمة الحالية الدائرة ما بين إيران والمجتمع الدولي في ظل تراجع أمريكي واضح من الإدارة الأمريكية الجديدة الحالية وما بين أصرار وعناد إيراني صريح حول امتلاك الأخيرة السلاح النووي وإن كانت تدعي في محاولاتها أضفاء الصيغ الشرعية والحجج المستمرة حول الاستخدام السلمي مع التشكيك في ذلك المنحى من قبل دول العالم أجمع.
تعتبر الجهود الدبلوماسية الدولية الرامية لوضع حد للطموح الإيراني نحو التطلع لحيازة السلاح النووي هي التوصل لإحياء الاتفاق المبرم في فينا عام 2015م، والذي سانده قرار مجلس الأمن رقم (2231) عدم اللجوء إلى خيار العمل العسكري والتي تقوده الدول الأوروبية، بينما تتخذ الإدارة الأمريكية الحالية وضعية الوقوف على الخطوط الجانبية الهامشية متخذة دور المشاهد الذي تساوره الشكوك حيال ما سوف يحدث أمامه على الرغم من رفض واشنطن وما تزال حتى يومنا هذا إقامة صلات مباشرة مع إيران حول الموضوع النووي مفضلة عوضًا عن ذلك إطلاقها التحذيرات العلنية حول تطوير وامتلاك إيران للسلاح النووي، فيما لو رجعنا للوراء قليلا فمنذ بدايات البرنامج النووي الإيراني السري لإنتاج دورة وقود نووي فترجع إلى منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي (1985م) حينما حضت إيران بمساعدة كبيرة وواسعة من جمهورية باكستان الإسلامية عبر العالم النووي عبد القدير خان الذي كان يعد العمود الفقري للمشروع النووي الباكستاني والذي أسهم وعلى مدى عدة أعوام بمساعدة إيران في مشروعها النووي ولا سيما في تطوير التكنولوجيا الأساسية لصنع مضخات الطرد المركزي وحتى في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي.
لقد قامت إيران باستغلال حالة الوفاق فيما بينها وما بين دول الإقليم والدول الغربية في عقد التسعينيات من القرن الماضي وظروف غض النظر الغربية عن طهران حال حشد القوات الأمريكية-البريطانية عام 2003م، لغزو العراق فيما سعت طهران إلى تقديم التطمينات لتخفيف حدة الشكوك التي تساور العالم بشأن برنامجها النووي وذلك جراء تشيدها منشأتين نوويتين غير معلنتين آنذاك هما:
- منشأة آراك (Arak) كمصنع لإنتاج الماء الثقيل وهو المادة الرئيسية التي تستخدم في أنواع معينة من مفاعلات البحوث لإنتاج البلوتونيوم (Plutonium) وهو العنصر الفلزي المشع القابل للانشطار والإشعاع العالي الذي يمتاز بكثافة كبيرة تفوق كثافة الرصاص بشكل عام.
- منشأة نتانز (Natanz) تستخدم من أجل إنتاج الوقود النووي (Nuclear Fuel) وهي المادة المستخدمة في المفاعلات النووية التي تتكون على شكل وحدات قفصيه الشكل تشمل وحدات الوقود (Fuel element).
- محطة أصفهان لتحويل اليورانيوم الذي افتتحت عام 1984م، بتقنية صينية والتي تعتبر العصب الأساس لبرنامج الأسلحة النووية.
- محطة بوشهر لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية والتي بدأت بمساعدة ألمانية عام 1974م، ولكنها توقفت عن العمل في بنائها على أثر قيام الثورة عام 1979م، تم معاودة البناء فيها مرة ثانية عام 1992م، من قبل شركة روس أتوم (Rosatom) المملوكة من قبل الحكومة الروسية حيث إنها تستخدم تكنولوجية الماء الخفيف.
لقد صاحب ذلك التوجه الإيراني نحو حيازة السلاح النووي النفي القاطع والمستمر من الحكومة الإيرانية أن يكون لتلك المنشأتين أي دور عسكري ومن ثم فقد أقرت في فبراير2003م، بأنها قد أخفقت في إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بحصولها عام 1991م، على 1800كلجم من اليورانيوم الطبيعي من الصين والتي استخدمتها منذ تلك الفترة في تجارب متنوعة بما في ذلك تحويل اليورانيوم إلى معدن، إذا من خلال تلك الخلفية التاريخية الموجزة يتمثل أحد أبرز الأمور المقلقة بشأن تأسيس البرنامج النووي الإيراني هو المخاطر المتعلقة بموضوع الانتشار النووي فمع ازدياد الميغاوات النووي في المنطقة ستزداد خطورة تدفق المواد الحساسة القابلة للاستخدام العسكري مثل اليورانيوم المخصب ووقود البلوتونيوم، وبالتأكيد فإن درجة الخطورة في موضوع الانتشار سوف تطال جميع دول الإقليم بدون أية استثناءات وذلك لعدم وجود الضمانات التقنية والمؤسسية التي سيتم الالتزام بها لا من خلال طهران ولا من خلال الجهات المشيدة لتلك البرامج (روسيا، الصين، كوريا الشمالية) وعدم السماح لفريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية من القيام بعمليات التفتيش على المنشآت النووية الإيرانية استنادًا للبرتوكول الإضافي لاتفاقيات الضمانات الخاصة لعدم الانتشار النووي في الوثيقة (540/INFCIRC) الصادرة عام 1997م، والتي شملت أحدث المعايير الخاصة بالضمانات للدول غير الحائزة للسلاح النووي غير ذات الصلة بالسلاح النووي لدول السلاح النووي الخمس المحددة طبقًا لمعاهدة عدم الانتشار النووي وهي الصين، فرنسا، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة.
يمكننا اعتبار أن الإدارة الأمريكية السابقة تكون هي الوحيدة الأكثر تشددًا تجاه إيران إذ أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب (2017-2021م) أوامره في 8مايو2018م، بالانسحاب مما عُرف رسميًا بخطة العمل الشاملة المشتركة (Joint Comprehensive Plan of Action) الموقعة في14 يوليو2015م، وإعلانه إعادة فرض العقوبات الأمريكية المتعلقة بالنشاط النووي من خلال الأشهر الثلاثة إلى الستة من العام نفسه، على الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومات الأوروبية (لندن، باريس، برلين) من أجل الحفاظ على ذلك الاتفاق رغبة منها في حماية مصالحها الاقتصادية في ما بينها وما بين إيران إذ لا يمكن للاتحاد الأوروبي تحقيق هذه المهمة إلا عبر بذل جهود سياسية وقانونية كبيرة ولكن حتى لو استجمعت الحكومات الأوروبية قوتها السياسية وبذلت المزيد من القدرة على التحمل بشكل صلب أمام واشنطن فإن تلك الجهود المبذولة من أجل المحافظة على استمرارية ذلك الاتفاق قد تقود للفشل وذلك يرجع إلى قلق الشركات الأوروبية من فرض العقوبات الأمريكية عليها، وردًا على ذلك فقد اتخذت إيران منذ منتصف 2019م، خطوات لتعليق تنفيذ الكثير من التزاماتها بموجب الاتفاق، ومن أبرزها قيامها في يناير 2021م، برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20 % وهو الذي كانت تعتمده قبل التوصل إلى الاتفاق عام2015م، أتبع ذلك قيام إيران بتقليص عمل مفتشي الوكالة الذرية استنادًا إلى قرار من مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني الذي طالب القيام بذلك ما لم يتم رفع العقوبات الأمريكية في مهلة أقصاها 21 فبراير2021م.
لقد أبدت إدارة الرئيس بايدن نيتها العودة إلى الاتفاق، لكنها اشترطت أن تعود إيران أولا إلى احترام التزاماتها، في المقابل طالبت طهران على أولوية عودة الأطراف الآخرين (الولايات المتحدة الأمريكية) إلى التزاماتهم لا سيما رفع العقوبات الأمريكية التي أثرت بشكل سلبي على الاقتصاد الإيراني لكن الطرفين توصلا إلى اتفاق موقت على هامش زيارة قام بها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي إلى طهران وأدلى بتصريح قال فيه: "لقد تمكنا من الإبقاء على الدرجة اللازمة من أعمال المراقبة والتحقق"، وكانت الدول الأوروبية في الاتفاق قد أعربت في23فبراير2021م، عن "أسفها العميق" لتقليص عمل المفتشين، داعية إيران إلى "وقف كل التدابير التي تقلص الشفافية والرجوع عنها والتعاون الكامل مع الوكالة"، لقد أتى توجه الإدارة الأمريكية الحالية مخالف لسابقتها ويدعو للتساهل مع إيران لا سيما في برنامجها النووي حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس في10فبراير2021م: "نستمر في حث إيران على الالتزام الكامل بالاتفاق النووي لأن هذا سيفتح الطريق للدبلوماسية وهو ما نريده من أجل مواجهة ما نعتبره تحديًا ملحًا".
دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تبدي باستمرار مخاوفها من طبيعة البرنامج النووي الإيراني غير السلمي مع إصرار دول المجلس بأن من حق إيران امتلاك البرنامج النووي السلمي وتحت أشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولكن ما يلوح في الأفق هو ما تتخوف منه دول المجلس سبب وقوع الضرر المباشر عليها أمنيًا وبيلوجيًا وذلك في ظل تراجع الضمانات الأمريكية يوم بعد يوم، إذ تستشعر دول المجلس الخطر من ذلك ففي تقديم التنازلات لإيران من قبل الإدارة الأمريكية الحالية في تساهلها سوف تتسبب بخطر كبير وذلك بامتلاك إيران لحرية الخيار العسكري ويمكنها من تملك السلاح النووي المؤثر وهو سيناريو مشابه لما حدث لكوريا الشمالية والتي تمكنت من تصنيع وتفجير أول قنابلها النووية بعد انسحابها من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية (Treaty on Non- Proliferation of Nuclear Weapons) وطردها لمفتشي الوكالة، إن في حال أصبح البرنامج النووي متكاملاً وشرعيًا لدى طهران فسوف تجهر في مجالات أخرى وهي غير النووية والتي تدعمها الآن في الخفاء إذ سيساهم رفع العقوبات الاقتصادية عنها ليس في مصلحة الشعب الإيراني بل سيصب في زيادة تمويل ودعم النشاطات الإقليمية التخريبية كدعم جماعات الفاعلين من غير حكومية (Non State Actors) والجماعات الإرهابية بل وتشجعها لأن تصبح أكثر ديمومة في كل من (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) والمنطقة بشكل أشمل، كما أنها سوف تحتل مكانة استراتيجية أمنية أكبر وذلك من خلال نظر المجتمع الدولي إليها كحليف يمكن الاعتماد عليه لمواجهة ملفات إقليمية أمنية صعبة كمواجهة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وذلك بدلاً من أن تكون جزءًا من المشكلة.
دول مجلس التعاون محقة في مخاوفها إذ قامت طهران في شهر سبتمبر2019م، بتخريب ناقلات النفط وتسببت في شن هجمات بطائرات بدون طيار على خط أنابيب رئيسي للنفط عبر منطقة (بقيق) بالمملكة العربية السعودية وذلك ردًا على العقوبات الغربية المتزايدة عليها، بل وقامت كذلك بإسقاط طائرة استطلاع أمريكية بدون طيار لم توجه الولايات المتحدة ضربة مضادة بل تم إيقافها في اللحظة الأخيرة وأكتفت بالتهديد اللفظي فقط، تعتبر دول المجلس بأن التهديد النووي الإيراني يأتي على حساب الأمن الإقليمي المتمثل في العمق الخليجي الأمر الذي ظلت دول مجلس التعاون الخليجي العربية تنبّه الإدارات الأمريكية السابقة لتداعياته وخطورته قياسًا لما تواجهه من أخطار المشروع الإيراني التوسعي وجيوبه في المنطقة ومحاولته المتكررة لزعزعة أمن واستقرار الخليج، وأن من الطبيعي أن تشهد العلاقة بين دول الخليج العربية والإدارة الأمريكية الحالية حالة من عدم الترقب بانتظار الإفصاح عن سياستها والتي إلى حد الآن تمظهرت في صور من الفتور على الرغم ممّا تمثله دول الخليج للأمن الأمريكي، وتوثيق الصلة بينهما على قاعدة المصالح المشتركة.. وعلى عكس هذه الحالة من الفتور إذ أن الرئيس السابق دونالد ترامب كان قد رفع يد الولايات المتحدة الأمريكية عن ذلك الاتفاق المضر للأمن الإقليمي وبخاصة مصالح دول المجلس، فقد كانت الحالة السابقة في فترة الرئيس ترامب هي تحجيم الطموح والنزق الإيراني بسلسلة العقوبات المتوالية، وذلك لعدم إعادة اتفاق عام 2015م، بصورته القديمة إلى الواجهة مرة أخرى، ولكن توجه الإدارة الحالية سيكون له عواقب وخيمة على أمن المنطقة والأمن الإقليمي والعالمي.
تعتبر دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من أشد الدول تأثرًا بالنووي الإيراني (حسب الموقع الجغرافي) ولا سيما أن محطة بوشهر تطل على مياه الخليج العربي وهو المورد المائي للشرب والاستخدام لكافة دول المجلس التي تعاني من ظاهرة العجز المائي، فاعتمادها على تحلية مياه البحر بما يفوق 60% من الاستعمال اليومي، إذ تستشعر دول المجلس ذلك الخطر الجسيم والذي يتعدى صحة الإنسان بل ويمتد إلى تدمير المخزون الغذائي السمكي في حوض مياه الخليج العربي. كما هو معروف بأن منطقة بوشهر تقع على خط الزلازل النشطة ومعرضة للحوادث كما كانت في السابق وأن ناقوس الخطر المحدق بدول المجلس خوفًا من تسرب يحصل من تلك المنشأة والتي تقترب من العواصم الخليجية بينما تبتعد عن العاصمة الإيرانية طهران، يساور الخوف دول المجلس من حالة وقوع كارثة إشعاعية جراء أي حادث عرضي أو غير ذلك على غرار ما حدث من تسرب إشعاعي في منشأة تشرنوبل في أوكرانيا عام 1986م، أو كما حدث لمفاعل فوكوشيما في اليابان الذي تعرض لزلزال عام2011م، وأدى إلى تسرب إشعاعي، تنظر دول المجلس إلى أن التهديد النووي الإيراني يصحبه كذلك أضرار تدميرية على المجتمع والبيئة على حدٍ سواء وله تأثيرات إقليمية سلبية على صحة الإنسان والبيئة، إذ يعد التلوث الإشعاعي من أخطر أنواع التلوث البيئي في العصر الحاضر حيث أنه لا يرى ولا يشم ولا يحس بل وينتقل ذلك الإشعاع بكل سهولة ويسر ليتسلل إلى جميع الكائنات الحية في كل مكان دون أي مقاومة. إن الشعور بالقلق الخليجي يتعاظم ويشاركه في ذلك المجتمع الدولي وذلك من احتمال تعرض المنشآت النووية الإيرانية لأضرار قد تتسبب في تسرب إشعاعي في وسط شكوك في مقدرة إيران على احتواء أية كارثة نووية قد تسببها تلك المنشآت والتي تقع بعضها في مناطق تتعرض للزلازل بين الحين والآخر.
لقد اتخذت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خطوة إيجابية بعدم معارضتها أو ممانعتها في فتح ملف الاتفاق النووي شريطة أن تكون صاحبة مقعد أصيل ومشاركة في المباحثات ما بين إيران والدول التي كانت صاحبة المبادرة السابقة بما يتيح لها طرح كافة مخاوفها المتمثلة في التهديدات الأمنية المستمرة من قبل الجمهورية الإيرانية الإسلامية عبر منظومة صواريخها الباليستية ودعمها للجماعات والأحزاب الإرهابية سواء في اليمن، لبنان، العراق، سوريا أو غيرها، والتي تشكل خطرًا يتعدّى أثره المحيط الإقليمي إلى العالمي، باستهداف البنى التحتية للطاقة والملاحة العالمية وتأثير ذلك على منظومة الاقتصاد العالمي.