إن أوروبا (والمقصود بها في هذا المقال الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء به) تجد نفسها في مأزق فيما يتعلق بمستقبل الاتفاق النووي الإيراني، والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)؛ فمن ناحية، تؤيد أوروبا بشكل كبير عودة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة كما أعلنت إدارة بايدن، وتواصل أوروبا النظر إلى خطة العمل الشاملة المشتركة بوصفها أبرز إنجازاتها الدبلوماسية في العقد المنصرم وبوصفها الآلية الرئيسية لإشراك إيران بهدف الحد من التوترات الإقليمية ومخاوف الانتشار النووي.
ولكن من ناحية أخرى، تقر أوروبا كذلك بأنه لا يمكنها الحفاظ على سريان الاتفاق دون مشاركة الولايات المتحدة وأن الاتفاق نفسه يحوي أوجه قصور ملحوظة. ونتيجة لذلك، ثمة دعاوى متزايدة لعقد مفاوضات لاتفاق "جديد" أوسع أو ما أطلق عليه خطة العمل الشاملة المشتركة زائد (JCPOA +). ولقد عمل هذا الموقف بدوره على تعقيد تواصل أوروبا مع طهران، كما قلل بصورة ملحوظة من بعض النفوذ الذي تمتع به الأوروبيون خلال السنوات الماضية مع صناع القرار الإيرانيين. وإضافة إلى حقيقة أن أوروبا بشكل عام تكافح من أجل لعب دور جيو سياسي خارج حدودها، لا تجد أوروبا نفسها في وضع قوي يسمح لها بالتقريب ما بين إيران والولايات المتحدة وبإعادة إحياء الاتفاق النووي.
وحتى وإن اقتنعت إيران بالمشاركة بصورة دبلوماسية والسعي إلى إيجاد آليات تمكن من إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، فلم تُحل بعد معضلة تقييد العدوان والتدخل الإيراني في الشؤون الإقليمية في ذات الوقت الذي يُسمح فيه لإيران بتحسين وضعها المالي عبر تخفيف العقوبات. ولقد أقرت الأوساط السياسية الأوروبية بهذه المعضلة فيما يخص عدم كفاية الاتفاق النووي لتسوية الجوانب الرئيسية من العلاقة مع إيران.
ولقد تلقت أوروبا في بادئ الأمر انتقادات لاذعة بأن خطة العمل الشاملة المشتركة لم تضم دول مجلس التعاون الخليجي بوصفها جزءًا من المفاوضات وأن الاتفاق تجاهل تناول جوانب أخرى من التصرف الإيراني المثير للمشاكل وذلك فيما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية وتدخل إيران في منطقة الشرق الأوسط على حد سواء. وبينما اتجه المسؤولون الأوروبيون في بادئ الأمر إلى عدم النظر في تلك المخاوف، فلقد شهد العام الماضي إقرارًا متزايدًا بأن خطة العمل الشاملة المشتركة نفسها غير كافية. وخلال حديثه في ديسمبر 2020م، صرح وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، بأن "نموذج الاتفاق النووي زائد" مطلوب حيث أنه يصب في مصلحتنا أيضًا، ولدينا توقعات واضحة بخصوص إيران ألا وهي: حظر الأسلحة النووية وحظر كذلك برنامج الصواريخ الباليستية الذي يهدد المنطقة بالكامل. ويتعين على إيران كذلك لعب دور آخر في المنطقة." وعلى غرار ذلك، أكد الرئيس الفرنسي ماكرون في يناير 2021م، أن "الحوار مع إيران سيكون حازمًا وسيتعين عليهم ضم حلفائنا في المنطقة بخصوص الاتفاق النووي، ويشمل ذلك المملكة العربية السعودية."
وبشكل عام، فلقد بات الموقف الأوروبي حيال الاتفاق النووي متصلبًا خلال العام الماضي، حيث أعربت الدول الأوروبية الموقعة على خطة العمل الشاملة المشتركة، مجموعة الدول الأوروبية الثلاث المكونة من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، مرارًا عن مخاوفهم حيال الخطوات التي تتخذها إيران للانسحاب من التزاماتها. وفي يناير 2020م، شرعت مجموعة الدول الأوروبية الثلاث في آلية لتسوية النزاع سعياً لفرض الضغط على إيران بغية الحد من تعدياتها المتزايدة. وبينما وافقت أوروبا على أن قرار إدارة ترامب بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018 كان السبب الرئيسي للخطوات الإيرانية الأخيرة، إلا أنها لم تعتبر ذلك مبررًا كافيًا لتجاهل إيران لالتزاماتها نظرًا لأنها لا زالت ملتزمة بالاتفاقية علنًا. وفي هذا الإطار، صرحت فرنسا بأنه على إيران العودة إلى الامتثال إلى الاتفاق النووي قبل الولايات المتحدة، كما حث الرئيس ماكرون، الرئيس الإيراني روحاني، في مكالمة هاتفية بتاريخ 25 فبراير على القيام "بخطوات واضحة" من شأنها السماح بإعادة العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة. وفيما يتعلق بأوروبا، فإن الكرة في الملعب الإيراني بوضوح.
ويتمثل الموقف الأوروبي الحالي في الجزء الأول من عام 2021م، في متابعة تلك البيانات والسعي أولًا للتوصل إلى موقف مشترك مع إدارة بايدن الجديدة للولايات المتحدة. ولقد عُقد أول اجتماع تنسيقي رفيع المستوى بين الولايات المتحدة ومسؤولي الاتحاد الأوروبي في الثامن عشر من فبراير مع حرص المشاركين الأوروبيين على فرصة عودة العلاقات عبر الأطلسية إلى مسارها الصحيح، وهو الأمر الذي لم يؤد دوره أو يتواجد حتى في عهد الرئيس ترامب. كما أرسلت أوروبا مجموعة من كبار المسؤولين إلى العديد من دول مجلس التعاون الخليجي في منتصف يناير حيث عملوا مع المسؤولين عن السياسات بهدف أخذ مخاوفهم واهتماماتهم في الاعتبار قبل العمل مع الولايات المتحدة. ولهذا فإن أوروبا ليست وسيطًا بدرجة كبيرة بين إيران والولايات المتحدة في هذه المرحلة، وتركز بشكل أكبر على التوصل إلى موقف عبر أطلسي متماسك وموحد.
ويعكس هذا النهج كذلك الاعتماد الأوروبي المتواصل على الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالجوانب الرئيسية للأمن الدولي؛ فعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية وبالرغم من اعتراضها على الانسحاب الأمريكي من خطة العمل الشاملة المشتركة، لم ترغب أوروبا مطلقًا في وضع العلاقات عبر الأطلسية مع الولايات المتحدة في خطر من خلال تأسيس علاقتها الخاصة مع طهران، الأمر الذي كان يمكن أن يفتح المجال لإيران بشكل أكبر للخروج من عزلتها. كما أن آلية التمويل البديلة التي تسمى اينستكس" INSTEX "، والهادفة إلى الالتفاف على بعض العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة لم يتم إيلائها أي جهد قط، وفي نهاية المطاف لم ينتج عنها سوى معاملة وحيدة ذات قيمة محدودة. وبينما قام مجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي في يناير 2020م، بتكليف الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بمهمة "إجراء المساعي الدبلوماسية مع جميع الأطراف للمساهمة في وقف التصعيد في المنطقة ودعم الحوار السياسي وتعزيز الحل الإقليمي السياسي"، فلم يُوضع أي مسار بديل للمضي قدماً من جانب مكتبه. وخلاصة القول إن أوروبا لم تكن مستعدة للعمل بمفردها دون الولايات المتحدة ولهذا فإنهم لا يزالون يجدون أنفسهم في الدور الداعم للموقف الأمريكي بشكل كبير، ولقد أكدت هذه المرحلة بوضوح على حدود الطموح الأوروبي المعلن المتمثل في إثبات "الاستقلالية الاستراتيجية".
وفيما يتعلق بإيران، فلقد فقدت أوروبا الكثير من رأسمالها السياسي نتيجة لما سبق ذكره، كما تنظر الأوساط السياسية الإيرانية لها بشكل متزايد بوصفها حليفاً للولايات المتحدة فيما يخص استخدام العقوبات كوسيلة ضغط. وفي هذا السياق، لا يمكن النظر إلى أوروبا كوسيط بين الولايات المتحدة وإيران لتضييق هوة الخلافات بشأن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. وعوضًا عن ذلك، يمكن لأوروبا أن تلعب دورًا أكثر أهمية في التواصل مع روسيا والصين أيضًا بهدف ضمان الطريق الدبلوماسي الذي من خلاله يمكن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة الكاملة من قبل الولايات المتحدة وإيران. وبالمثل، فإن إعطاء الأولوية لتوافق الآراء عبر الأطلسي يمثل النهج الأنسب لأوروبا في هذه المرحلة؛ إذ أنه يوفر الأساس لموقف مشترك يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى اتفاق نووي أكثر شمولًا واستدامة.