يجسد جو بايدن، الرئيس الأمريكي الأكبر سناً، العديد من التناقضات. وفي عصر يحتقر فيه معظم الأمريكيين السياسيين المحترفين، جاء، جو بايدن، السياسي المخضرم، لِيُلقيَ بالدخيل السياسي خارج البيت الأبيض. وهو يحكم بأغلبية ضئيلة في مجلسي الهيئة التشريعية الأمريكية، ولحزبه خلافات عميقة بشأن الدور الأساسي للحكومة ومكانة أمريكا في العالم.
ويأتي بايدن إلى الرئاسة محملًا بكل من مزايا وأعباء منصب نائب الرئيس باراك أوباما. فعلى الجانب الإيجابي، يعتمد بايدن على مجموعة كبيرة من المتخصصين ذوي الخبرة في مجال السياسة، كما يستقي مرجعيته من تقاليد عمليات صياغة السياسات والتنمية الراسخة. وهو أمر افتقر إليه سلفه، بصفته رئيس، بشكل ملحوظ. وعلى الجانب السلبي، كافح بايدن من أجل إيجاد طريقه الخاص وسط توقعات بأن تكون إدارته امتداداً لرئاسة أوباما.
ويتضح مدى الاختلاف في رئاسة بايدن بشكل أكبر على صعيد السياسة الخارجية: فقد كان ترامب رئيسًا لا يحترم الاتفاقيات ولديه وجهة نظر تجارية في العلاقات الخارجية. وحقق ترامب العديد من الإنجازات التي كان يُعتقد بأنها مستحيلة – وأبرزها تسهيل تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع المغرب والإمارات والبحرين والسودان – لكنه أيضًا تبنى أسلوباً يسهل وصفه بأنه أحادي الجانب ومتعالي تجاه الدول الأخرى. وشن بايدن حملته الانتخابية استناداً على كونه "مناهضاً لترامب" ووعد بالعودة إلى الحياة الطبيعية. وتعهد بايدن صراحة بإلغاء انسحاب ترامب من اتفاقيات باريس للمناخ ومختلف المنظمات الدولية.
كما وعد بايدن أيضًا بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني (المعروف تحديداً بخطة العمل الشاملة المشتركة "JCPOA"). وكان هذا الاتفاق الأخير هو الإنجاز الرئيسي لسياسة أوباما الخارجية. ولم تكن هذه السياسة محبوبة لدى شركاء أمريكا العرب وكذلك من جانب إسرائيل، وهي قضية مركزية في سياسة بايدن في الشرق الأوسط.
ولم تتناول خطة العمل الشاملة المشتركة سوى جانب واحد من السياسة الإيرانية، وهي قدرة إيران على تطوير سلاح نووي. حيث لم تكن الاتفاقية حاسمة، ولم يتم تحديد مدتها إلى أجل غير مسمى. ولم تتطرق إلى قضايا أخرى تتعلق بالسلوك الإيراني، مثل توسع الميليشيات الإيرانية الموجهة عبر الشرق الأوسط، أو تطوير إيران للصواريخ الباليستية. وقد استاءت بشدة دول مجلس التعاون الخليجي، على وجه الخصوص، من خطة العمل الشاملة المشتركة، وشعرت أنها ضحت بمصالحها الأمنية دون موافقتها أو التشاور معها.
وقد استشعرت إدارة أوباما والقوى الأخرى المساهمة في خطة العمل الشاملة المشتركة، أن إيران ستحقق فوائد اقتصادية كبيرة من الترحيب بالعودة بها مرة أخرى إلى النظام الاقتصادي الدولي. وكان الأمل معقودًا على أن تسعى إيران، انطلاقاً من هذه المنفعة الاقتصادية، إلى المضي في الإصلاح من خلال تغيير جوانب أخرى من سلوكها ايضاً. وبالنظر إلى الماضي، يبدو هذا التفكير مفرطًا في التفاؤل، إذ استهان بتأثير الفساد الممنهج وكذلك سنوات العزلة الاقتصادية الإيرانية. وحتى قبل انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، لم يكن هناك سوى القليل من الاستثمارات في إيران باستثناء الشركات شبه الحكومية – حيث اعتبرها معظم مستثمري القطاع الخاص محفوفة بالمخاطر – ولم تتمكن إيران من الاستفادة من مزايا خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي الوقت نفسه، بسطت إيران سيطرتها على العراق وسوريا ولبنان واليمن مما أثار استياء معظم الحكومات الإقليمية.
مشكلة الدول النووية الناشئة
ليس للنظام الدولي تاريخ جيد في منع الدول من حيازة أسلحة نووية إذا كانت عازمة على الحصول عليها. وتشير وقائع التاريخ إلى أن الدولة إذا كانت تملك درجة معقولة من القدرة التقنية والعزيمة الوطنية، فإنها عاجلاً ام آجلاً ستطور سلاحاً نووياً. وفي نهاية المطاف، ستتم إزالة أي عزلة دولية تجاه حيازة الأسلحة النووية.
ومنذ عام 1970م، طورت الهند وباكستان وكوريا الشمالية قدراتهم النووية. ولقد تم الترحيب بالهند بالعودة مرة أخرى إلى المجتمع الدولي، أما باكستان فقد عانت من فترة صعبة من العزلة، بيد أنها شهدت لاحقاً تطبيع العلاقات مع معظم الدول، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التعاون بعد 11 سبتمبر بشأن الإرهاب. ولقد مرت كوريا الشمالية بجولات عديدة من المفاوضات والصفقات التي زودت الديكتاتورية البائسة بمزايا ومكانة تفوق كل التصورات. ولم تعترف إسرائيل قط بقدراتها النووية، بيد أنها لم تدفع أي ثمن كبير لبرنامجها النووي.
وتقدم البلدان التي تخلت عن قدراتها النووية سجلًا أكثر تفاوتًا: إذ تمتلك جنوب إفريقيا ومختلف دول الاتحاد السوفيتي السابق أسلحة نووية (سواء تم إنتاجها أو توارثها)، وقد تخلت عنها بعد الاستقلال، أو (في حالة جنوب إفريقيا) قبل الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى حكومة منتخبة عالمية. وتخلت البرازيل والأرجنتين عن برامج أسلحتهما النووية باعتباره جزءاً من الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني. ومعظم الدول التي تخلت عن برامجها النووية فعلت ذلك نتيجة لتغيير حكومي عميق.
وتعتبر ليبيا هي الاستثناء الوحيد، حيث سلمت طواعية برنامجها النووي للولايات المتحدة في أعقاب غزو العراق عام 2003م. ويمكن القول بأن هذا القرار قد اتخذ بدافع الخوف، غير أن القذافي قد شهد بعض التطبيع في العلاقات مع الدول الغربية في أعقاب تخليه عن السلاح النووي.
ولا تشجع هذه السوابق أولئك الذين يأملون في وقف البرنامج النووي الإيراني، فقد تعرض القذافي لهجوم عسكري متعدد الجنسيات في عام 2011م، بلغ ذروته بأن لقي حتفه مقتولاً. وشهدت أوكرانيا، التي تخلت عن أسلحتها النووية مقابل ضمانات أمنية، خضوع أجزاء كبيرة من أراضيها إلى سيطرة روسيا.
لا شك أن قادة إيران يفكرون في ذلك، بينما يلاحظون في الوقت نفسه أن كوريا الشمالية لا تزال تتحدي جميع المعايير العالمية لحقوق الإنسان وتجنب العدوان مع إفلات نسبي من العقاب. ومن الصعب المجادلة في أنه لو كان الوضع النووي معكوساً، فإن القذافي سيكون لا يزال يحكم ليبيا، في حين أن كوريا الشمالية كانت ستصل أخيرًا إلى نهاية حكمها المروع من جانب عائلة كيم إيل سونغ.
تحدي بايدن لإيران
أدى المنطق الأساسي للانتشار النووي، فضلًا عن تاريخ خطة العمل الشاملة المشتركة، إلى زيادة ثقل العبء الملقى على بايدن تجاه صفقة إيران الجديدة إلى مستوى قد يكون مستحيلًا. وخلال الحملة الرئاسية الأمريكية، رفع بايدن من توقعات الصفقة إلى مستوى عالٍ: فقد تعهد بإبرام الصفقة مجدداً مع إيران، وتعهد بإشراك القوى الإقليمية (التي من المحتمل أن تعارض بشدة عقد صفقة جديدة)، وتعهد بتوسيع الصفقة لتشمل جوانب أخرى من السلوك الإيراني (الأمر الذي رفضته إيران بشكل قاطع).
ويضاعف انعدام الثقة بين الولايات المتحدة وإيران من تفاقم هذه التحديات. إن خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية ليست أكثر من مجرد اتفاق مصافحة خطي، إذ كانت إدارة أوباما تعمل جاهدة لتوضيح أنها لم تكن معاهدة أو حتى اتفاقية تنفيذية. وقد كتب أعضاء في الكونجرس الأمريكي إلى القادة الإيرانيين، أثناء التفاوض بشأنها، أنه قد يأتي رئيساً آخر ويسقط هذا الاتفاق، وهو ما حدث بالفعل.
وبالنظر إلى ذلك التاريخ، فمن المنطقي أن تطالب إيران بأن تأتي أي خطة عمل مشتركة جديدة في ثوب المعاهدة. غير أن مجلس الشيوخ الأمريكي يجب أن يقوم بالمصادقة على المعاهدات: وقد عارض صفقة إيران أهم عضوين ديمقراطيين لبايدن في مجلس الشيوخ -زعيمه في مجلس الشيوخ وزعيم لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. كما أن بايدن لا يملك أن يقدم لإيران حوافز تتجاوز رفع العقوبات. وقد تم في ختام خطة العمل الشاملة المشتركة، تقديم الأموال التي دفعها الشاه مقابل الأسلحة الأمريكية، والتي جمدتها الولايات المتحدة أثناء الثورة، إلى إيران (في شكل نقود): وإن أية أموال إضافية يتم تقديمها فيما بعد ستأتي من دافع الضرائب الأمريكي. وهي ليست ببداية جيدة.
ولا يتخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً موضوعيًا هنا كما هو متوقع. وكانت خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) هي المرة الأولى التي يجلس فيها الاتحاد الأوروبي باعتباره هيئة على طاولة المفاوضات بشأن قضية دولية مهمة. وبالتالي، كان يُنظر إلى التخلي عن خطة العمل الشاملة المشتركة بوصفه تقليلاً من أهمية الاتحاد الأوروبي ككيان، وليس مجرد قضية تتعلق بالسياسة الإيرانية.
وأخيرًا، تجري إيران انتخابات رئاسية في 18 يونيو. ومن المتوقع أن يبسط رجال الدين المتشددين/ الحرس الثوري سيطرتهم في الانتخابات. وفي حين أن نظام العقوبات الحالي يضر بشكل كبير بالاقتصاد الإيراني، إلا أنه من المفارقات أنه يفيد الطبقة الفاسدة التي تحكم إيران والتي تعمل بقوة على بسط سيطرتها على الاقتصاد الإيراني.
وعليه فلا يوجد حافز كبير لدى إيران لتقديم أية تنازلات للولايات المتحدة. وفي المقابل لا تملك الولايات المتحدة إلا القليل للضغط على إيران. وعلى غرار كوريا الشمالية، يبدو أن الملف النووي الإيراني سيشهد في الغالب سلسلة من التدخلات الدورية، تتوقف أحيانًا لتستمر أحيانًا أخرى، والتي تتسم بسياسة أقل ثباتاً، وتشهد مزيداً من الأزمات العرضية والمفاوضات الغاضبة ومحاولات امتصاص الأزمات. وقد لا تكتفي الدول الأخرى، ولا سيما إسرائيل، بمشاهدة الأمور تتدهور، متخذةً إجراءات أحادية الجانب. وفي غضون ذلك، ستزداد القدرة النووية الإيرانية، لتصبح منطقة الشرق الأوسط الخطيرة بالفعل أكثر خطورة.