بعد مسيرة حافلة بالأحداث والمنعطفات امتدت على مدى أربعة عقود من الزمن لا نملك إلا أن نقف في هذه اللحظة من التاريخ انحناءً وتقديرًا للآباء المؤسسين لهذا الكيان الإقليمي الذي ظهر ليساهم في تحمل شيء يسير من المشاكل الأمنية لهذه المنطقة العربية الملتهبة، لينتهي ركنًا ركينًا للأمن الخليجي والأمن العربي برمته، فبفعل دبلوماسية المبادرة وتعزيز العمل الجماعي الذي يتسم بها العمل الخليجي جعل منه ركنًا هامًا من أركان المنظومة الأمنية العربية. فتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية جاء ليسد الفراغ الذي نتج عن الشلل الذي أصاب عمل جامعة الدول العربية إثر الخلاف مع مصر وتعليق عضويتها في عام 1979م، بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، حيث أعلنت دول جامعة الدول العربية قطع علاقتها مع مصر في عام 1987م، حتى عام 1989م، الذي شهد عودة مصر إلى الحضن العربي مجددًا. فمنذ انطلاقة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في يوم 25 مايو 1981م، وهو يعمل كخلية نحل دؤوبة بكافة أجهزته ومؤسساته لتعزيز العمل الخليجي المشترك والذي هو جزء لا يتجزأ من العمل العربي العام. فقد عاصر هذا المجلس تهديدات أمنية غير مسبوقة بدءًا بالحرب العراقية-الإيرانية، و محاولات تصدير الثورة الإيرانية لدول الخليج، وانتهاءً بالحرب الباردة على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تزامن مع الغزو العراقي لدولة الكويت و ظهور ما سمي بالنظام العالمي الجديد، و تصاعد خطر الجماعات المتطرفة و هجمات 11 من سبتمبر، و الحرب على الإرهاب و حرب افغانستان و العراق، و ماتبعه من أحداث الربيع العربي التي افضت إلى أحد أصعب التحديات التي واجهها المجلس في مسيرته والمتمثلة في الخلاف الخليجي مما يؤكد مدى ترابط دوائر الأمن العربي بالأمن الخليجي وصولاً إلى مباحثات السلام والتطبيع وانتفاضة القدس وغزة واختلاف الفصائل الفلسطينية مجددًا و العودة إلى المربع الأول.
الميثاق و الأجهزة
عقدت القمة الخليجية الأولى في أبو ظبي في 25-26 مايو 1981م، بدعوة من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة والتي تم فيها التوقيع على الميثاق المنشيء للمجلس والنظام الأساسي الذي يهدف إلى تطوير التعاون بين الدول الخليجية. أما أهداف المجلس فقد حددها النظام الأساسي في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، و توثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الإقتصادية و المالية، و التجارية، و الجمارك و المواصلات، و في الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية، والسياحية، والتشريعية، و الإدارية، و دفع عجلة التقدم العلمي و التقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية، وإنشاء بحوث علمية و إقامة مشاريع مشتركة، و تشجيع تعاون القطاع الخاص. كما تم الاستقرار على إنشاء ثلاثة أجهزة تمثلت في المجلس الأعلى، وهو السلطة العليا لمجلس التعاون ويتكون من رؤساء الدول الأعضاء، ورئاسته دورية حسب الترتيب الهجائي لأسماء الدول، ويجتمع في دورة عادية كل سنة، ويجوز عقد دورات استثنائية بناء على دعوة أي دولة عضو، وتأييد عضو آخر. ثم تم الإستشعار لأهمية وجود جهاز استشاري يعكس آراء الخبراء وطموحات الشعوب الخليجية ولذلك تم إنشاء الهيئة الإستشارية للمجلس الأعلى في عام 1997م، مكونة من 30 عضوًا على أساس خمسة أعضاء من كل دولة عضو يتم اختيارهم من ذوي الكفاءة والخبرة من مواطني الدول الست لمدة ثلاث سنوات لتقديم المشورة لصانع القرار في هيآت المجلس، وهي تختص بشكل أساس في تقديم المشورة لما يحال إليها من المجلس الأعلى كما أنها تبادر بتقديم مقترحات يختار منها القادة ما يرونه مناسبًا لدراستها. وفي قمة أبوظبي 1998م، تم استحداث القمة التشاورية بين القمتين السابقة واللاحقة وذلك بهدف مناقشة أي مستجدات قد تطرأ خلال القمتين الرئيسيتين وهي ليست بحاجة لبروتوكولات لانعقادها. كما يقوم المجلس الأعلى بتشكيل هيئة تسوية المنازعات في كل حالة حسب طبيعة الخلاف. أما ثاني أجهزة المجلس فتتمثل في المجلس الوزاري ويتكون من وزراء خارجية الدول الأعضاء أو من ينوب عنهم من الوزراء وتكون رئاسته للدولة التي تولت رئاسة الدورة العادية الأخيرة للمجلس الأعلى. ويعقد المجلس اجتماعاته مرة كل ثلاثة أشهر ويجوز له عقد دورات استثنائية بناء على دعوة أي من الأعضاء وتأييد عضو آخر. أما الأمانة العامة فهي ثالث أجهزة مجلس التعاون وتقوم بتنفيذ كافة الخطط التنفيذية والإدارية والبيروقراطية والبروتوكولية المتعلقة بالإعداد لعقد القمم والاجتماعات الدورية. ومنذ انطلاقة مجلس التعاون في مايو 1981م، عقدت 66 قمة ما بين أبو ظبي إلى قمة العلا في السعودية في يناير 2021م. تخللها 41 قمة اعتيادية و17 تشاورية و4 استثنائية بينهم ثلاث قمم خليجية-أمريكية وقمة خليجية-بريطانية في المنامة، وقمة خليجية ــ مغربية بالرياض. مما لاشك فيه أن بعد مرور أربعين عامًا على إنشاء الميثاق، بالإمكان تطوير الميثاق مع التطورات والمستجدات الأمنية والاقتصادية التي يشهدها المجلس عبر تحديث المفاهيم الجديدة من آن لآخر، بالإضافة إلى إطلاق مواثيق مكملة كالتي يطلقها الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، أو الأجهزة التابعة للامم المتحدة المعنية بالخطط التنموية، فقد دأب حلف شمال الأطلسي على سبيل المثال على إصدار ميثاق أمني كل عشر سنوات يتناول فيه أبرز التحديات التي تحيط بالمنظومة الأمنية الأوروبية والعالمية وسبل تفعيل العمل الجماعي ليتماشى معها، بالإضافة إلى استحداث آليات و هياكل جماعية لمواجهة التحديات الطارئة.
المجلس تكتل إقليمي... البعد الاقتصادي
وفر المجلس إطارًا جماعيًا هاما مكن دول المجلس أن تتفاعل مع الكيانات الإقليمية الأخرى المماثلة. فبالرغم من أن إنشاء مجلس التعاون الخليجي جاء في إطار المنظمة الإقليمية التقليدية وفقًا لما جاء في الفصل الثامن من ميثاق المنظمة بعنوان "التنظيمات الإقليمية" إلا أن مجلس التعاون عمل كذلك كتكتل إقليمي يسعى لتعزيز العمل الجماعي لدول الجوار، فالمنظمات التقليدية عادة ما ترتكز على التعاون في العديد من المجالات بما فيها المجال الأمني والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، بينما التكتلات ترتكز بشكل رئيسي على التعاون الإقتصادي وقد نشطت الكثير من التجمعات لتفعيل هذا النوع من العمل الجماعي لسهولة التنسيق وللوصول إلى الهدف بأسرع وقت ممكن والخاص بالتنسيق والتعاون الاقتصادي. كما استفادت دول المجلس من خلال حواراتها الممتدة مع الكيانات والتكتلات الاقتصادية الأخرى في بناء البيت الاقتصادي الخليجي من الداخل. فمن خلال الحوار الخليجي-الأوروبي المشترك، والذي كان يطلب من الجانب الخليجي أهمية إنشاء السوق الخليجية المشتركة والتعرفة الجمركية الموحدة وسهولة التنقل للبضائع والبشر ما بين دول الخليج كشروط رئيسية لتوقيع اتفاقيات المنطقة التجارية الحرة، فقد شكلت محفزًا رئيسيًا للتكامل الخليجي الذي جاء على ضوء التجارب الدولية الناجحة لاسيما تجربة الإتحاد الأوروبي. فهذا الإطار الجامع وفر للخليجيين التفاوض مع الآخرين ككتلة جماعية بدلا من المباحثات الثنائية و التي تخل بموازين القوى مابين كلا الطرفين.
القضايا الإقليمية..البعد الأمني
شكل مجلس التعاون الخليجي مرتكزًا رئيسيًا في معالجة القضايا الإقليمية الساخنة والتي تتطلب رؤية موحدة سواء في آليات التعاون مع القوى الدولية، والتنافس الدولي والذي سوف يشهد خلال المرحلة القادمة المزيد من التصعيد على خلفية التواجد الصيني في منطقة الخليج سواء عبر مبادرة الحزام والطريق أو من خلال اتفاقية الربع قرن التي عقدت ما بين إيران والصين. كما تحتل القضية الفلسطينية وجهود السلام وإشكاليات التطبيع أحد أبرز القضايا التي بحاجة لجهود خليجية موحدة للوصول إلى السلام المستدام والتي سوف تنعكس إيجابًا على استقرار المنطقة الخليجية والعربية برمتها. ومع دخول عامها السادس أصبحت تشكل الأزمة اليمنية مصدرًا للقلق في ظل تصاعد النفوذ الإيراني في دعم الحوثي للهيمنة على المشهد اليمني حتى تحول هذا الملف إحدى أوراق الضغط التي تستخدمها إيران على طاولة مفاوضات فيينا الرامية إلى رفع العقوبات الاقتصادية والتي تعتبر مطلبًا رئيسيًا يسعى الغرب لتحقيقة لمنع النظام من الانهيار وما يترتب على ذلك من زعزعة استقرار هذه المنطقة في ظل تصاعد التنافس الدولي مع القدوم الصيني.
جائحة كورونا... البعد الإنساني
شكلت جائحة كورونا مجالًا هامًا اثبت من خلالها مجلس التعاون قدرته في التعامل مع الأزمات من خلال تعظيم قيمة الأمن الإنساني والذي كان هدفًا رئيسيًا سعت لتحقيقه كافة السياسات الخليجية لكافة قاطني المنطقة الخليجية من مواطنين ومقيمين، بالإضافة إلى سعي كافة الدول الخليجية لدعم جهود الإغاثة وتقديم المعونات المادية والمعنوية لكافة افراد الأسرة الدولية بما فيها المنظمات الدولية المعنية بمكافحة فيروس كورونا وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية. كما أن الجهود المشتركة الخليجية سارعت في تجاوز أزمة الخلاف الخليجي لاسيما أن الجهود الخليجية قامت على خطى قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد، فالخطط الآنية تمثلت في المواجهة المباشرة لإحتواء تلك الأزمة العالمية، أما الخطط طويلة المدى فقد ارتكزت على السعي بجهود جادة للتغلب على أزمة المياه المستقبلية وأزمة الغذاء عبر الاستثمار في تكنولوجيا الزراعة القائمة على إنشاء المزارع العامودية وغيرها من أساليب حديثة تراهن على العلم و التكنولوجيا والابتكار، مما يؤكد على أهمية الرهانات الخليجية المبكرة التي راهنت على التعليم والتنمية الإنسانية وجاءت لتتماشى مع كافة الخطط الأممية الإنمائية والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الخطط الوطنية في كافة الدول الأعضاء.
الهيئة الاستشارية... البعد الشعبي والنخبوي
مع دخول هذا المجلس عمره الأربعين، دخلت الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى التي تأسست في 1997م، عامها الرابع والعشرين، أي ما يقارب مضي الربع قرن منذ أن أقر المجلس الأعلى لمجلس التعاون في دورته الثامنة عشر التي عقدت في الكويت في 20-22 ديسمبر 1997م، إنشاء الهيئة. فقد جاء هذا التأسيس كخطوة إيجابية لإشراك الشعوب الخليجية في صناعة القرار من خلال ممثلين من ذوي الخبرة و الكفاءة. وفي نوفمبر 1998م، عقدت الهيئة اجتماعها البروتوكولي الأول في الكويت لإعلان تأسيس وتشكيل الهيئة الاستشارية، كما احتضنت دولة الإمارات العربية المتحدة اجتماعات العمل لمناقشة أحد أهم المواضيع المتعلقة بتوظيف القوى العاملة المواطنة وتسهيل تنقلها فيما بين دول المجلس والمحال اليها من المجلس الأعلى، وهذا يعكس أولويات المجلس الأعلى آنذاك في ضرورة تعزيز جهود التكامل الاقتصادي والتي تتطلب سهولة انتقال وتوظيف المواطنين الخليجيين. وخلال هذه المسيرة الممتدة لما يقرب الربع قرن فقد قدمت هذه الهيئة والتي تعتبر جزءًا من النخب الخليجية المميزة ما يقرب الخمسين موضوعًا سواء من خلال دراسة ما يحال إليها من المجلس الأعلى أو من خلال المواضيع التي تقترحها ومن ثم تحظى بالموافقة عليها من قبل الأجهزة العليا لتحال إليها من جديد لدراستها وتقديم مشورتها بما يضمن تفعيل وتعزيز العمل الخليجي المشترك.
الخليج و النظام الإقليمي الجديد
أفضى تصاعد المستجدات الأمنية إلى ظهور كيانات ومنظومات إقليمية جديدة تسعى إلى تحقيق توازنات إقليمية ما بين العديد من القوى المتنافسة في المنطقة، ولعل أبرز تلك المنظومات تلك القائمة على إنتاج الغاز الطبيعي ومنها منظومة الشرق المتوسط، وبحر قزوين لاسيما بعد الإعلان عن الوصول إلى تسوية قانونية حول آلية تقاسم ثروات البحر بين الدول المطلة على بحر قزوين، بالاضافة إلى إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اكتشاف احتياطات كبيرة للغاز الطبيعي في البحر الأسود، واكتشافه كذلك في كردستان العراق مما يفسر البعض رجوع داعش للمنطقة، و إعلان العراق عن تأسيس المشرق الجديد والذي نتج عن الإجتماع الثلاثي الذي جمع العراق بكل من الأردن و مصر في عام 2020م، وهو تجمع يهدف إلى تفعيل التعاون الاقتصادي والتجاري، كما سبق أن أعلنت المملكة العربية السعودية في 2019م، عن تأسيس مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وعدن. وكل تلك المنظومات الجديدة تؤكد أهمية انتقال طبيعة عمل مجلس التعاون الخليجي من تعزيز الأمن الجماعي إلى آلية أكثر تقدمًا تقوم على طبيعة النظم الإقليمية الجديدة. وهي آلية تبتعد عن الجوار الجغرافي كمرتكز أساسي للعمل، وتعظم التعاون الاقتصادي وتتبنى سياسات براغماتية في تعاطيها مع كافة القوى الإقليمية والدولية، وهي آلية باتت ضرورة ملحة في ظل إعادة التموضع التي تقوم به القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فقد جاء الاحتفاء بذكرى الــ 40 لقيام مجلس التعاون بعد أشهر قليلة من قمة العلا والتي أطلق عليها قمة " السلطان قابوس والشيخ صباح،"التي عقدت في المملكة العربية السعودية في الخامس من يناير 2021م، كتدشين لأهمية العمل نحو المزيد من التعاون وتعزيز العمل الخليجي المشترك وفق الآليات التي تفرضها التحديات والمستجدات الإقليمية والدولية.