فكرة إنشاء مجلس تعاون لدول الخليج العربية، فكرة قديمة نسبيًا، تعود إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي. ربما كان السبب وراء هذه الفكرة، خيبة الأمل في تجربة الجامعة العربية، التي عصفت بها الخلافات البينية بين أعضائها، التي تتقاذفهم أيديلوجيات متناحرة، بين أنظمة كانت تطلق على نفسها أنظمة تقدمية، في مواجهة ما كانت تطلق عليهم أنظمة رجعية، بالإضافة، إلى ما تمخض عن نظام الأمم المتحدة الجديد، عقب الحرب الكونية الثانية، من اقتسام العالم بين قوتين عظمتين تقاسمتا النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، فكانت الدول التقليدية التي تسمى من قبل الدول التقدمية، بالأنظمة الرجعية، من نصيب منطقة النفوذ الغربي، بينما الدول الأخرى التي تدعو نفسها بأنها تقدمية، كانت تحت النفوذ السوڤيتي...، بالإضافة إلى ما كان يمثله الكيان الصهيوني، من عازل جيوسياسي، اختلفت كلتا المجموعتان من الدول العربية، في طريقة التعامل معه. إلا أن المتغير الأمني، الذي كان الدافع الأول لإنشاء المجلس، من أربعين عاماً، هو المتغير الأساس، الذي يبقي على تجربة المجلس الإقليمية، رغم تواضع إنجازاته التكاملية الأخرى.
قواسم مشتركة خليجية
تشترك دول الخليج العربية الست (المملكة العربية السعودية، الكويت، البحرين، قطر، سلطنة عُمان، الإمارات العربية المتحدة)، أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، المؤسسين له، في قواسم مشتركة تعكس خصوصية حصرية لا تتوفر في كثيرٍ من أعضاء جامعة الدول العربية الاثنين والعشرين. هذه الخصوصية تشمل القواسم السياسية والاقتصادية والأمنية، وتأتي في مقدمتها، الاعتبارات الأمنية، دفعت دول الخليج العربية بداية ثمانينيات القرن الماضي، لتدشين تجربتهم التكاملية.
أولاً: الأوضاع السياسية الداخلية
القاسم المشترك الأول بين دول الخليج العربية، والذي لا يتوفر بين أعضاء جامعة الدول الأخرى، له علاقة بالوضع السياسي الداخلي. فكل دول الخليج العربية ملكيات وراثية، ويقوم الحكم فيها على مؤسسات تقليدية، تعكس إرادة شعبية، عدا دولة واحدة، تقريباً ظهرت بصورة شبه ديمقراطية، بوجود برلمان، وإن كان كل أعضائه منتخبون، إلا أن أعضاء الحكومة من خارج البرلمان يمتلكون مقاعد في البرلمان، بوصفهم معينين من الحاكم، الأمر الذي لا يتواجد مثيل له في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة.
هذا لا يعني أن الجانب الآخر من جبهة الأنظمة الجمهورية في الدول العربية الأخرى، أكثر ديمقراطية، من دول ملكيات الخليج العربي التقليدية. على العكس، تماماً، قد تكون هناك مشاركة سياسية، فيما يطلق عليها الأنظمة الجمهورية التقدمية، في مصر، والعراق، وسوريا، من دول المشرق العربي، على سبيل المثال، إلا أنها جمهوريات "هجينة" تأخذ من الديمقراطيات التقليدية العريقة في غرب أوروبا وشمال أمريكا واليابان، طقوس وشكليات الديمقراطية وبهرجتها، ولا تتوفر بها أيٌ من قيمها وحيويتها، دعك من أخذها بآلية التداول السلمي للسلطة، كمجتمعات تخضع للإرادة الشعبية وسيادة القانون.
في حقيقة الأمر لم يكن هناك اختلاف كبير في حركة وقيم أنظمة الحكم في العالم العربي... إلا أنه، لايمكن تجاهل حقيقة أن دول الخليج العربية، رغم عدم توفر مشاركة لازمة لبناء الإدارة، فإن هذه الدول، نعمت باستقرار سياسي ممتد، مكنها من تفعيل تنمية اقتصادية في مجتمعاتها، أمرٌ لم يتوفر في معظم الجمهوريات العربية، التي تزعم "تقدميتها" وعصرانيتها.
ثانياً: الوضع الاقتصادي
ما يجعل دولَ الخليج العربية تختلف عن بقية الدول العربية، في المشرق العربي، على الأقل: المتغير الاقتصادي. جميع دول الخليج العربية، تقريبًا، تتفاوت بينها ثروات الطاقة الأحفورية، بالذات النفط. لذا هناك فرصة لتكامل اقتصادياتها، مع إمكانات مالية كبيرة لتحفيز تنمية اقتصادية ضخمة لمجتمعاتها، بفضل عائدات النفط الضخمة. كما أن هذه الدول رغم ثروتها في مصادر الطاقة الأحفورية الضخمة، إلا أنها، نسبياً، قليلة السكان، في معظمها.
لكن المشكلة هنا، إنه بالرغم من الوفورات المالية الضخمة لدى دول الخليج العربية، التي يمكن أن تحفز طفرة تكاملية اقتصادية، تنتج عنها تنمية اجتماعية حقيقية، يمكن أن تمتد إلى تنمية سياسية طموحة، إلا أن اقتصاديات دول الخليج العربية اقتصاديات ريعية، وليست تحويلية. تقوم أساساً على تصدير النفط خاماً، لا على منتجات متحولة عن خام النفط، على الأقل، إلا ما يسد حاجة السوق المحلي من المنتجات النفطية، في بعض دولها.
وبعد ما يقرب من تسعين عاماً من اكتشاف النفط في الجزيرة العربية وبعد ما يقرب من أربعين عامًا من تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية يظل ما يقرب من ٩٠٪. من موارد الدول الأعضاء في المجلس المالية تعتمد على تصدير النفط، وليس على اقتصاد تحويلي، حتى في مجالات صناعة الطاقة. بالإضافة إلى أنه تقريبًا ٩٠٪ من احتياجات السوق المحلي لهذه الدول من السلع المصنعة تأتي من الخارج، حتى أن بعض دول المجلس تعاني خللاً في ميزانها التجاري مع بعض الدول الصناعية الكبرى... وبعضها لا تقوى على سد احتياجات سوقها المحلي من مصادر الطاقة النفطية المكررة، محلياً.
ثالثاً: هاجس الأمن
لعل الدافع الأول لقيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية، هو: الأمن. لم يتطور الخلاف الأيديلوجي بين الأنظمة الجمهورية، التي كانت تدعي تقدميتها إلى قلق أمني، يهدد أنظمة الحكم الملكية في شبه الجزيرة العربية المطلة على الشاطئ الغربي من الخليج العربي، حتى في أوج الصراع السياسي بينها. عدا المناوشات التي وقعت بين مصر والمملكة العربية السعودية، بداية ستينيات القرن الماضي، بسبب ثورة اليمن سبتمبر ١٩٦٢م، ونتج عنها حرباً أهلية بين الملكيين، الذين تدعمهم المملكة العربية السعودية والجمهوريين، الذين تدعمهم مصر، قاد ذلك أن تدخلت مصر عسكرياً، لنصرة الثورة، في اليمن كما كانت تقول القاهرة، حينها.
هذا التطور بسبب أحداث اليمن صب المزيد من الزيت على الصراع السياسي والتراشق الإعلامي بين الرياض والقاهرة، في تلك الفترة. لكن هزيمة المعسكر الجمهوري "التقدمي"، بخطابه القومي الشعبوي، في حرب الأيام الستة مع إسرائيل، أوقف الحملة العسكرية المصرية على السعودية، وإن استمر الخلاف على أساس ثنائية "التقدمية والرجعية"، حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، سبتمبر ١٩٧٠م.
تلك كانت أول تجربة عملية (عنيفة) تخوفاً من اختراق أمني لمجتمعات النفط الغنية، التي كانت توصف بـ "رجعيتها"، من قبل جبهة المد القومي العربية التي كانت تصف نفسها بـ "التقدمية" والعصرنة، بزعامة مصر. لكن الخطر الأمني على مناطق النفط الغنية بدول الخليج العربية، خاصةً المملكة العربية السعودية، كان تقليدياً في الشمال لا في الغرب، عكس ما كان يوحي به الوضع المتأزم في نظام الجامعة العربية في ذلك الوقت، عندما حاول التيار القومي اختراق جبهة الجنوب انطلاقاً من اليمن. بل حتى في ذلك الوقت لم يكن، في منطقة الخليج العربي من يتوجس خطراً أمنياً حقيقياً من جبهة الشرق، قِبَل إيران، حتى في أوج عهد الشاه، الذي تَوّج نفسه شرطي الخليج، وإن كان ذلك تَغَيّر جذرياً، بعد سقوط نظام الشاه، وانتصار ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران.
جبهة الشمال
القلق الأمني على منطقة الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، بالذات، كان في حقيقة الأمر يتوقع من الشمال، وليس من الغرب أو الشرق، أو حتى الجنوب. ومن قبل أنظمة ملكية، وليست جمهورية في الأساس، بالذات من العراق والأردن، حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي، بسبب تداعيات الحرب العظمى، وفشل الثورة العربية وضياع الهاشميين لملكهم في الحجاز، وتأسيس ملكيات لهم في الشمال في سوريا وشرق الأردن والعراق. ثم أن أول تحدٍ حقيقيٍ لجبهة الشمال على أمن منطقة الخليج العربية، كان تهديد العراق الأول بغزو الكويت، فور إعلان الأخيرة استقلالها في: ١٩ يونيو ١٩٦١م.
إذًا: استراتيجياً، كان الخطر على المملكة العربية السعودية، وبالتبعية منطقة الخليج العربية، يأتِ أساساً، من جبهة الشمال، بالذات الحكم الهاشمي في الأردن والعراق، ثم الحكم الجمهوري الجديد في العراق. تأكد ذلك في بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما غزا العراق الكويت. وقبل ذلك بعشر سنوات (٢٢ سبتمبر ١٩٨٠م)، عندما اندلعت شرارة حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وحاولت الأخيرة اختراق البوابة الشرقية للنظام العربي للوصول إلى مناطق النفط الغنية في غرب الخليج العربي، وجعل الخليج العربي بحيرة نفط فارسية، تحت شعار تصدير الثورة، التي سموها إسلامية.
إذًا: هاجس الأمن كان الدافع الأول لإعادة التفكير جدياً في بدء تجربة تكاملية حقيقية بين الدول العربية الست المطلة على الساحل الغربي للخليج العربي، لتحقق أمناً جماعياً لهم من جبهة القتال العنيف، التي اندلعت شمال الخليج العربي، لكي لا تمتد نيرانها إلى دول المجلس الجديد جنوباً. وأيضاً أخذ الاحتياطات الأمنية اللازمة للتعامل مع نتائج تلك الحرب، بغض النظر عمن ينتصر فيها، فمنطقة الخليج العربي لن تعود لما كانت عليه قبل تلك الحرب.
الإنجازات والعثرات الأمنية
حرب الخليج الأولى
ما كادت الحرب العراقية الأولى تلوح نذرها في الأفق، بتصاعد التوتر على الحدود وتهديد كل طرف بالحرب، وبدء المناوشات العسكرية عبر الحدود، إلى أن بدأت القوات العراقية باجتياح الجبهة على طول الحدود مع إيران. عندها تكاتفت جهود أعضاء التكتل الإقليمي العربي الجديد على الضفة الغربية من الخليج العربي، وحتى بحر العرب (المملكة العربية السعودية، الكويت، البحرين، سلطنة عُمان، قطر، والإمارات العربية المتحدة)، حتى تم الإعلان عن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية في: ٢٥ مايو ١٩٨١م، بعاصمة الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي).
لقد حرص قادة التكتل الإقليمي العربي الجديد على أن مجلسهم، امتداد وليس بديلاً عن الجامعة العربية، وعلى التزامهم بالقضايا القومية الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل. كما عبروا عن قلقهم العميق بفعل الحرب، التي اندلعت شمال الخليج العربي بين العراق وإيران، مع محاولة إنهائها بسرعة. إن كان على المستوى الرسمي أبقت دول المجلس على حيادها بين طرفي الصراع، إلا أن بعض دول المجلس لم تخفِ انحيازها للعراق ودعمه، أيضاً لاعتبارات أمنية قومية، بوصف العراق، آن ذاك، بوابة العربِ الشرقية، وانهيارها، سيترتب عليه خطرٌ استراتيجيٌ ناجزٌ، على أمنهم وأمن العرب القومي، بصفة عامة. وإن كان هناك توجسٌ أمنيٌ، تجاه ما تسفر عنه تلك الحرب، سواء انتصر فيها العراق أم إيران، أم لم يجري حسمها عسكرياً.
طوال ثمان سنوات من الحرب الضروس بين العراق وإيران نجحت دول المجلس الست في الحؤول دون أن تمتد نيران تلك الحرب وتصل لبلدانهم. عدا بعض محاولات الاستفزاز الإيرانية للتعرض للملاحة البحرية في مياه الخليج العربي، بالذات التعرض لبعض السفن المتجهة لبعض موانئ دول المجلس والمغادرة لها، ناقلةً للنفط أو السلع المستوردة لم تنجح تلك الأعمال الاستفزازية من قِبل إيران الدفع بدول المجلس لأتون تلك الحرب الضروس.
لقد نجحت تلك الخطة الدفاعية، (الفعالة بهدوئها وغير قابليتها للاستفزاز)، التي لم تكن تعتمد أساساً على آلية ردع استراتيجي حقيقية محلية، بل كانت تعتمد على دبلوماسية نشطة من قبل دول المجلس على المستوى الدولي، وكانت تعتمد ثانياً: على تعاطف ومساندة قوى فاعلة في النظام الدولي، وخوف الجميع من أن تصل تلك الحرب إلى أضخم احتياطات النفط المعروفة، في الجانب الغربي من الخليج العربي، فتنقطع إمدادات النفط الضخمة، والرخيصة نسبياً. اشترك العالم جميعه في القلق من تلك الحرب، بما في ذلك المعسكرين المتصارعين في نظام الحرب الباردة، الذي كان في أواخر حرب الخليج تلك يلفظ أنفاسه الأخيرة.
غزو العراق للكويت
ما إن وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها بموافقة طرفيها على وقف إطلاق النار (٢٠ أغسطس ١٩٨٨م)، إلا وشرع قادة دول المجلس في تحليل نتيجة تلك الحرب، واحتمالات تداعياتها السلبية على أمن دولهم. من الناحية التحليلية الموضوعية، لوقف تلك الحرب الضروس بين أكبر قوتين إقليميتين في منطقة الخليج العربي، لم تبتهج دول المجلس بزعم العراق انتصاره في الحرب، ولم يشمتوا بما قاله الخميني بأنه وافق على وقف إطلاق النار وكأنه يتجرع السم. كان التفكير، فيما يحدث بعد صمت الجبهة العراقية الإيرانية، من ضجيج عنيف استمر لثمان سنوات راح ضحيته مئات الآلاف من الجانبين، ومئات المليارات من موارد المنطقة، بما فيها دول الخليج الست.
لم تكن دول المجلس قلقة على المساهمة في تكلفة إعمار العراق بعد الحرب.. ولم يكونوا قلقين على سداد العراق لديونهم عنده، التي أنففت على الحرب، حتى أنهم لم يتلكؤوا في مساعدة العراق على تجاوز أزمة ما بعد الحرب الاقتصادية، حتى لو كان ذلك على حساب حصصهم في سوق النفط العالمية. كما أنهم لم يكونوا واثقين في نظام صدام حسين، بأن يحمل لهم "جميل" مساعدتهم للعراق في تلك الحرب، عسكريًا، وسياسيًا، ودبلوماسياً، واقتصاديا، دعك من توقع نخوة حزب البعث الحاكم في بغداد القومية. لقد كان قادة دول المجلس واقعيين في تفكيرهم، كانت مساعدتهم للعراق، أولاً وأخيراً، تمليها اعتبارات أمن دولهم، لا التزاماتهم القومية تجاه بوابة العرب الشرقية. وكان أعضاء المجلس واقعيين أكثر، بأن صدام حسين كان لديه نفس خط التفكير لمعرفتهم العميقة لشخصيته غير المطمئنة وطبيعة حكم نظام حزب البعث الحاكم في بغداد ومدى قسوة وجبروت شموليته، لذا كان عليهم الاحتياط، في كل الأحوال، حتى لا يُفاجؤوا بما لم يكونوا قد حسبوا له حساباتهم.
كان في خلفية تفكير قادة المجلس، في تلك الفترة، الهاجس الأمني التقليدي تجاه الجبهة الشمالية، التي كان يمثلها في الماضي، عقب الحرب العظمى، المحور الهاشمي في سوريا والعراق وشرق الأردن، ثم الجار العراقي في الشمال في تجربة محاولة العراق الأولى بضم الكويت للعراق، حال إعلان استقلال الكويت ١٩ يونيو ١٩٦١م، بإعلان نهاية الحماية البريطانية للكويت.
لقد تأكدت مخاوف قادة دول المجلس الأمنية من عراق ما بعد حربه مع إيران في مؤتمر القمة العربية في بغداد ٢٨ مايو ١٩٩٠م. قبل ذلك في زيارة للملك فهد للعراق (٢٥ -٢٧ مارس ١٩٨٩م)، رداً لزيارة سبق وأن قام بها صدام حسين للمملكة، عرض فيها الأخير اقتراح عقد معاهدة عدم اعتداء بين الدولتين، وهو ما جرى التوقيع عليه في زيارة الملك فهد تلك للعراق، قبيل عقد مؤتمر قمة بغداد في مايو من نفس العام، كما سبق الإشارة إليه.
شرعت بغداد، بعد الحرب مع إيران، ما يمكن وصفه بـ "تحرشات" عراقية بدول المجلس، بدءاً بالكويت والإمارات، بسبب انخفاض أسعار النفط، من قرابة ٢٠ دولارًا في يناير ١٩٩٠م، إلى ما يزيد قليلا عن ١٤ دولارًا في يونيو من نفس العام، تقريباً، بنسبة انخفاض بلغت ٣٠٪ خلال أربعة أشهر. اتهم صدام حسين الكويت والإمارات، دون الإشارة إلى المملكة العربية السعودية، بأنهما وراء ذلك الانخفاض في أسعار النفط، بفعل زيادتهما للإنتاج ومن ثم إغراق سوق النفط العالمية، بهدف خنق العراق اقتصادياً.
كان كل ذلك مقدمة لغزو العراق الكويت العضو المؤسس لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وصاحبة الفكرة الأساسية للمجلس، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي. بالفعل: حدث الغزو في الثاني من أغسطس ١٩٩٠م، وكادت الكويت أن تمحى من خريطة المنطقة والعالم، بل أن صدام حسين كان من بين أجندته الزحف على دول المجلس واحدة تلو الأخرى، لأنه كما يروج في داخل العراق وخارجه، يسلك هذا الطريق، ليصل للقدس! لقد ظهرت مجلة تايم الأمريكي بعد الغزو مباشرة في شهر أغسطس ١٩٩٠م، وعلى غلافها صورة كبيرة لصدام حسين بلباس الميدان العسكري مكتوب بعرض الغلاف جملة صدام يحث المسير (Sadam On The Marsh )
لم يصل التهديد الأمني لدول الخليج العربية الغنية بالنفط، التي أنشأت منظمة إقليمية تكاملية، بهدف أمني بالأساس، لهذه الدرجة من الخطورة الاستراتيجية الكبيرة، التي انتهت بغزو دولة عضو في المجلس والجامعة العربية والأمم المتحدة، بهذه الصورة "الدرامية" العنيفة. كما لم يسبق، في التعامل الدولي، منذ الحرب العظمى ونشوء الدولة القومية الحديثة، أن جرى سلب الهوية الدولية من عضو دولي معترف به، من قبل أي دولة أخرى. حتى أثناء الحرب الكونية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥م)، رجعت جميع الدول التي انتزعت هويتها الدولية مؤقتاً بسبب النزعة التوسعية لدول المحور، إلى سابق هويتها الدولية، قبل الحرب.
حرب تحرير الكويت
نجحت دول المجلس، ليس فقط في وقف الزحف العراقي، تجاه بقية دول المجلس بعد غزو الكويت، لكن، أيضاً: استعادة الهوية الدولية لدولة عضو فيه (الكويت)، بعد أن سيطر عليها الجيش العراقي، خلال ساعات من غزوه لها في الثاني من أغسطس ١٩٩٠م.
لقد كانت تجربة عزو الكويت ذروة ما كان يعتمل من هاجس أمني لدول المجلس تاريخياً، من الجبهة الشمالية. يمكن، إلى حدٍ كبير ودون مبالغة، تشبيه وقوف دول المجلس الست دعماً لعضو فيه، بموقف بريطانيا، عندما وقفت في وجه ألمانيا النازية، عندما غزت الأخيرة بولندا في الأول من سبتمبر ١٩٣٩م، وأطلقت بذلك شرارة الحرب الكونية الثانية. هتلر نفسه، فوجئ بقرار بريطانيا دخول الحرب مع ألمانيا، بسبب بولندا.
ربما يفوق موقف دول المجلس موقف بريطانيا من احتلال ألمانيا النازية لبولندا، أن بريطانيا لم تتمكن من وقف الزحف النازي تجاه أوروبا الغربية والوصول إلى المحيط الأطلسي غرباً، بينما نجحت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في وقف جيوش صدام عند حدود الكويت، وعدم تجاوزها لأي دولة أخرى في المجلس.
كما حال بريطانيا، التي لم تقوَ على إيقاف الزحف النازي لوحدها، وظلت تصارع من أجل بقائها وحدها، فترة طويلة، حتى جاءها المدد من الجهة المقابلة، في المحيط الأطلسي، صمدت دول المجلس، حتى تبلور موقف عربي وأممي، شاجباً للغزو العراقي لعضو دولي من أعضائه، عارضاً المدد الرادع لاستعادة الهوية الدولية للكويت.
لقد تمكنت دول المجلس الست من الصمود والتمسك بأهلية أحد أعضاء المجلس الدولية وشرعية حكومتها. رغم احتلال أراضيها، بقيت الكويت ممثلة بحكومتها الشرعية في جميع المحافل العربية والدولية، مع تجييش العالم، بأسره في قوة ردع جبارة تمثلت في حربٍ أممية سريعة وحاسمة (عاصفة الصحراء ١٧ يناير1991 – ٢٨ فبراير ١٩٩١م). للمرة الثانية، تنجح دول المجلس في اختبار استراتيجي خطير، استهدف أحد أعضائها المؤسسين، وكاد يمحو هويته الدولية، بل كاد يأتِ على المجلس وأعضائه، بفعل عملٍ عسكريٍ خطير، جاء من الجبهة الشمالية، حيث الهاجس الأمني التاريخي الأول لدول المجلس، بالذات دولة المقر العضو المفصلي له (المملكة العربية السعودية).
حرب الخليج الثالثة
نجح المجلس في حرب تحرير الكويت بالمحافظة على أمن أعضائه واستعادة الهوية الدولية لأحد أعضائه المؤسسين (الكويت)، صاحبة الفكرة الأساسية لإنشاء المجلس. لكن خطر الجبهة الشمالية مازال ماثلًا، وربما سيظل الخطر الاستراتيجي الأول لأمن دول منطقة الخليج العربي، لأسباب جيوسياسية وتاريخية، دون استبعاد خطر الجبهة الشرقية (إيران)، التي يكمن خطرها الرئيس ليس من موقعها الجيوسياسي المباشر، بقدر ماهو من خلال اختراق الجبهة الشمالية، وكذا من خلال احتمال التسلل جنوباً، عن طريق اليمن.
جرت هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية، وتوجت بتحرير الكويت، لكن لم يتم بعد التخلص من خطر الجبهة الشمالية، بالذات العراق. انهزم جيش العراق في عاصفة الصحراء، لكن لم يسقط نظام صدام حسين. تعلمنا من تجارب التاريخ، أن الدول لا تُهزم بهزيمة جيوشها، بقدر ما يتحقق النصر عليها بسقوط أنظمتها الحاكمة. روسيا انهزمت في الحرب العظمى وخسرت الكثير من أراضيها في تلك الحرب، عند اندلاع الثورة البلشفية وإسقاط النظام القيصري لسلالة رومانوف ومجيء البلاشفة الشيوعيون في الحكم، الذين وافقوا على الانسحاب من الحرب لتثبيت دعائم حكمهم الجديد، لكنهم مالبثوا واسترجعوا كل ما تنازلوا عنه من أراضٍ في الحرب العظمى لألمانيا، وفوق ذلك نصف أوروبا، بما فيها نصف ألمانيا نفسها، عقب انتصارهم مع الحلفاء في الحرب الكونية الثانية.
كان لابد من حربٍ لاستئصال نظام صدام حسين، حتى يزول هاجس الجبهة الشمالية، أو على الأقل: يخف، لو مؤقتاً. توخياً للموضوعية، غزو العراق أو حرب الخليج الثالثة، لم تكن قراراً خليجياً، بقدر ما هو قرار أمريكي، في معظمه. مع ذلك لا يمكن إنكار أن حرب الخليج الثالثة، التي انتهت بما هو أبعد من إسقاط نظام صدام حسين في بغداد (احتلال العراق)، كانت إلى حدٍ كبير تعكس رغبة إقليمية في تخفيف هاجس الأمن التقليدي من الجبهة الشمالية. بدعوى امتلاك العراق أو سعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل نووية، مهدت إدارة الرئيس بوش الابن، لإكمال ما بدأت به إدارة الرئيس الأسبق بوش الأب في حرب تحرير الكويت. إلى حدٍ ما كانت العملية لا تخرج عن كونها ثأر شخصي لبوش الابن، تَعَزَزَ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، عندما قامت مجموعة إرهابية باختطاف أربع طائرات مدنية في عملية انتحارية في الولاياتِ المتحدة الأمريكية اثنتين منها استهدفتا برجي التجارة العالمي في نيويورك والثالثة مبنى وزارة الدفاع في واشنطن والرابعة سقطت بعيداً عن هدفها المخطط له في العاصمة الأمريكية.
أُستغل الحادث، لاتهام العراق، بدعم الإرهاب، لكن التهمة الرئيسية كانت الزعم بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. رغم عدم قدرة واشنطن على دعم اتهامها هذا لنظام صدام حسين بالحصول على شهادة من المفتشين الدوليين، الذين انتدبوا، بعد حرب تحرير الكويت، التفتيش على المنشآت العسكرية العراقية، بما فيها الأنشطة النووية. وعدم تمكن الولايات المتحدة وبريطانيا الحصول على إذن بالتدخل العسكري من مجلس الأمن الدولي، باستخدام القوة ضد العراق، إلا أن واشنطن ولندن ومدريد، شكلوا تحالفا دولياً للقيام بالمهمة.
بعد إنذار لصدام حسين وعائلته مغادرة العراق خلال ٤٨ ساعة، بدأت حرب غزو العراق (١٩ مارس – ١ مايو ٢٠٠٣م). انتهت الحرب بإسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق، لتبدأ فترة طويلة من عدم استقرار العراق لليوم، صاحبتها فترة قلق ممتدة بالنسبة لدول المجلس لتعيش تجربة فترة قلقة من عدم الاستقرار مع انعدام السيطرة على الجبهة الشمالية لدول المجلس ومما فاقم هذه المشكلة الاستراتيجية ما تطور من اختراقات أمنية لهذه الجبهة الشمالية تجسدت في تسلل إيران وتغلغلها في تلك الجبهة الممتدة من شط العرب إلى البحر المتوسط بطول وعرض وعمق الهلال الخصيب ومن جنوب هضبة الأناضول شمالاً إلى تخوم شبه الجزيرة العربية الشمالية، جنوبًا.
التمدد الإيراني شمالًا وجنوبًا
من أهم تداعيات غزو العراق في حرب الخليج الثالثة، الإتيان بأحد خصوم العرب التاريخيين الألداء، الذين يحملون ثارات تاريخية ضد العرب، تمتد من الفتح الإسلامي للعراق وفارس منذ ما يقرب من أربعة عشر قرناً ونصف، إلى اليوم. هذا بالإضافة إلى المرارة المذهبية التي يحملها الفرس، ضد العرب، بالرغم من دخولهم الإسلام. كما علينا ألا ننسى الطموحات التاريخية للفرس، من قبل التاريخ، أيام توسع الهكسوس، الذي وصل إلى كامل شمال إفريقيا، غرباً، أيام ازدهار الحضارة العربية في بلاد الرافدين ومصر الفرعونية.
لقد أدى غزو الولايات المتحدة مع بريطانيا للعراق، إلى تسليم العراق لإيران في طبقٍ من فضة. إيران، بذلك لم تثأر فقط من هزيمة حرب الخليج الأولى، التي شبهها الخميني بتجرع السم، بل فتحت بوابة العرب الشرقية، على مصراعيها، لتتوغل إيران بعرض منطقة الهلال الخصيب وعمقه، من نهر دجلة إلى البحر المتوسط، مروراً بسوريا ولبنان. لقد أكد الغزو الأمريكي للعراق على الخطورة الاستراتيجية للجبهة الشمالية، على أمن منطقة الخليج العربي، ممثلة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالذات العضو الاستراتيجي الأول في المجلس، الذي يتحمل العبء الأكبر وتكلفة استمرار وبقاء المجلس، الذود عن أمن أعضائه (المملكة العربية السعودية)
لقد شجع هذا الاختراق الإيراني للجبهة الشمالية، تهديداً لأمن دول المجلس الست، بالذات المملكة العربية السعودية، ومحاولة الإطباق على المنطقة من ناحية الجنوب، هذه المرة، تسلل الإيرانيون إلى اليمن كأحد تداعيات ثورات ما يسمى بالربيع العربي، التي تمخضت عنها الحرب الأهلية في سوريا، وسيطرة الحوثيين على اليمن، بعد سقوط نظام علي عبد الله صالح، بانقلاب حوثي على السلطة في اليمن ودخولها صنعاء في ١٨ سبتمبر ٢٠١٤م، ومن ثمّ سقوط عدن في ٢٦ مارس ٢٠١٥م، بذلك تمت سيطرة الحوثيين على اليمن، وتمكنت إيران من اختراق الجبهة الجنوبية لمجلس التعاون وأضحت المنطقة، بين فكي كماشة إيرانية فكها الأول في الشمال، وفكها الآخر في الجنوب.
الخاتمة
كان الهاجس الأمني هو المتغير الأساس في إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية... وظل هذا الهاجس الأمني هو المسيطر على سياسات دول المجلس، وربما هو التفسير الأبرز لهذا العمر الطويل، نسبياً لتجربة المجلس الإقليمية، التي طغت على اهتمامات المجلس التكاملية. وربما التفسير الأكثر منطقية لفهم قدرة الأعضاء التي تجاوزت خلافاتهم البينية، التي وصلت في بعض الأوقات إلى درجة القطيعة الدبلوماسية والسياسية، بين بعض دول المجلس، كما حدث فيما سمي بأزمة مقاطعة أو حصار قطر.
هذه الأزمة، التي كادت أن تعصف بتجربة المجلس، وعملت على تجميد عمل مؤسساته لما يقرب من أربع سنوات، إلا أنها لم تنل من أعلى مؤسسة تكاملية في المجلس، فلم تنقطع لقاءات القمة الدورية، في نسختها العادية أو التشاورية، مطلقًا. مع ذلك ظلت الأزمة وما زالت تتفاعل طوال أربع سنوات، وإن خفت حدتها كثيراً، مؤخراً، باتفاق العلا بين المملكة العربية السعودية، ممثلة بولي العهد الأمير محمد بن سلمان ودولة قطر ممثلةً بأميرها تميم بن حمد آل ثاني في: ٥ يناير ٢٠٢١م، بحضور أمير دولة الكويت وولي عهد البحرين وحاكم دبي ونائب رئيس الوزراء العُماني.
المتغير الأمني، إذًا: بإنجازاته وعثراته، كان حاضراً لدى قادة مجلس التعاون وفي صلب حركة مؤسساته، متجاوزاً أهداف تكاملية، في النواحي الاقتصادية والمالية والاجتماعية، حتى تلك التي لها علاقة بتوقعات مواطني دول المجلس، من مخرجات المجلس.
في كل الأحوال، لا يمكن تجاوز إنجازات المجلس الأمنية، التي نجح من خلالها أعضاؤه في تجنيب دولهم الصراعات والحروب، التي نشبت من حولهم، ولم تصل ألسنة نيرانها إلى دولهم، وتمثلت في ثلاث حروب إقليمية، اشتركت في بعضها دول عظمى، وظلت منطقة الخليج العربية، بعيدًا عن دوي مدافعها وتراشق صواريخها وأزيز طائراتها واجتياحات وتقهقر جيوشها. لعلّ الإنجاز الأمني الأبرز، هنا، هو: نجاح دول المجلس في استعادة الهوية الدولية، لعضو مؤسس وهام، في فكرة التجربة والخروج بها إلى أرض الواقع، ألا وهي دولة الكويت.
إلا أن مشكلة التغلغل الإيراني، من أطراف المنطقة، شمالاً وجنوباً، يمثل تحدياً استراتيجياً بيناً وناجزاً، يكاد يكون وجودياً، لأمن دول المجلس، يحتاج لتعامل جدي غير تقليدي، ربما النظر إلى هذا الخطر الاستراتيجي من منظور أشمل وأهم، باعتباره تهديدي لأمن العرب القومي، بشموليته الواسعة بمساحة حماه الواسعة وساحات معاركه الرحبة. تكون البداية بتسوية جبهات ونقاط الاحتكاك المحدودة بين الدول العربية في المشرق، لحشد قوة العرب لمواجهة أعداء وخصوم العرب التاريخيين في الغرب (إسرائيل) والشرق (إيران) والشمال (تركيا). وهذا استراتيجياً لا يتأتى إلا بنصب مظلة استراتيجية شاملة للأمن القومي العربي.