شاءت الأقدار أن أعاصر إرهاصات الغزو العراقي للكويت عن قرب في الكويت والعراق معًا ، حيث كنت أعمل محررًا صحفيًا في صحيفة السياسة الكويتية قبل الغزو بأربع سنوات زرت خلالها العراق عدة مرات بدعوات من الحكومة العراقية التي كانت تولي الإعلام الخارجي أهمية كبرى لتبرير الحرب مع إيران ولتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي ، خاصة بعد اتهام صدام ونظامه بقصف الأكراد بالسلاح الكيماوي، ولعلني استطيع تسجيل عدة مشاهد على عجالة في هذا المقال التي تؤكد نية صدام لغزو الكويت، وتروي جانبًا من مأساة الشعب الكويتي بعد الغزو حيث بقيت في الكويت حتى يوم 24 أغسطس 1990م، ما جعلني شاهد عيان على ما تعرض له الشعب الكويتي على يد قوات الاحتلال العراقية، وعلى شهامة هذا الشعب واستبساله في الدفاع عن بلاده والتفافه حول قيادته.
**كنت في بغداد يوم 8/8/1988م، أي يوم قبول إيران وقف إطلاق النار مع العراق، وفي غمرة الاحتفالات العارمة بانتهاء الحرب، استقبلني طارق عزيز وزير خارجية العراق آنذاك بمفردي في مكتبه دون بقية الوفد الصحفي الكبير الذي تم توزيع أعضائه لمقابلة وزراء عراقيين آخرين، وكان اللقاء بوجود نزار حمدون وكيل وزارة الخارجية آنذاك ما أشعرني وكأن اللقاء مقصود ويحمل رسائل عراقية كوني أعمل في صحيفة كويتية كانت علاقتها جيدة بالعراق ونظامه آنذاك، وأثناء الحوار الذي بدا فيه طارق عزيز لطيفًا على غير ما كان يظهر على شاشات التليفزيون حيث كان يبدو متغطرسًا مغرورًا، سألته عن تأخر ترسيم الحدود مع الكويت أسوة ببقية دول جوار العراق، فقال: هل من المناسب أن دولة مثل العراق البوابة الشرقية للوطن العربي يكون لها منفذ كيلو متر واحد على الخليج وهو منفذ أم قصر ؟، قلت له : كيف تتوسع العراق على الخليج العربي وهل في اليابسة أم عبر الجزر؟ قال : هذا الأمر متروك لتقدير الأخوة في الكويت، قلت : ما هي الصيغة القانونية لهذا التوسع وهل إيجار لمدة محددة مثلًا؟ قال : أيضًا هذا الأمر متروك للأخوة في الكويت، قلت له : هل تم فتح حوار بهذا الصدد مع القيادة الكويتية؟ قال : سوف يتم فتحه ربما قريبًا، قلت له : ماذا يحدث لو رفضت الكويت التنازل عن أجزاء من أراضيها؟ قال : الأخوة في الكويت يقدرون الموقف جيدًا، وذكرت له أن الشعب الكويتي يقف هو و قيادته مع العراق في حربه مع إيران ونتمنى أن تستمر هذه الأجواء الإيجابية، وانتهى اللقاء بطلب إبلاغ سلامه وما دار بيننا في هذا الحوار المسجل إلى الاستاذ أحمد الجار الله رئيس تحرير صحيفة السياسة التي كنت أعمل بها حينذاك، وقد حدث ذلك بالفعل.
** تغير وجه الكويت تمامًا بعد أن سيطرت عليها القوات العراقية ودخول ما يسمى بالجيش الشعبي وهو عبارة عن مجموعات من الصبية المسلحين وحشود من العراقيين المدنيين والعسكريين الذين اكتظت بهم شوارع الكويت، ونتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي وضع فيها صدام شعبه، فقد انطلقت الجموع العراقية نحو الجمعيات الاستهلاكية الموجودة في جميع أحياء الكويت وتناقصت المؤن الغذائية والخبز ووقفت تشكيلات من الشباب لتوزيع المتاح من الخبز والغذاء، ونظرًا لعدم جمع القمامة فقد تم إشعال النيران فيها ما جعل الأجواء الحارة الرطبة مليئة بالدخان.
**حاولنا الخروج من الكويت عبر الحدود إلى المملكة العربية السعودية بعد أن كنا نسمع نداءات الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح ولي العهد ورئيس مجلس وزراء الكويت آنذاك، عبر الراديو وفهمنا أن القيادة الكويتية بخير وهي في مأمن بالمملكة، ولكن كانت القوات العراقية قد طوقت الكويت ورفضت السماح بالسفر لنا إلى السعودية.
**غادرنا الكويت إلى العراق ومنها إلى الأردن بعد أن أوضح السفير المصري بالكويت أن الرعايا من كل الجنسيات آمنون ، وكانت رحلة شاقة ومضنية خاصة بين المنفذ العراقي والأردني (طرابيل والرطبى) وسط حشود الرعايا من كل الجنسيات التي خرجت من الكويت عبر الأردن.
**كان الوجود الفلسطيني في الأردن مؤيدًا لصدام حسين أكثر مما رأينا في العراق نفسها، اتصلت بالسفير المصري في عمان فطلب مني التوجه إلى القنصلية المصرية المعنية بشؤون الرعايا وقد تم ذلك، لكنه قدم لي نصيحة ثمينة جدًا، حيث قال : المنطقة في حالة حرب ولا تسمح باستفزازك واستدراجك إلى مواجهة مع الآخرين ويبدو أنه كان يعلم توجه الشارع في الأردن وفعلًا هذا ما وجدته على أرض الواقع وانتهت الرحلة بالعودة إلى مصر بحمد الله.