أضحت منطقة الخليج العربي مجالاً مفتوحاً للنفوذ الأمريكي المطلق ولا سيما بعد حرب الخليج الثانية وكذا انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، إلا أن الصعود الصيني كقوة اقتصادية كبرى، سعت الصين به لمد نفوذها عالميًا وبالأخص في منطقة الخليج، بما تملكه من موارد نفطية ومقومات طبيعية واقتصادية مميزة.
يذهب البعض في سياق قراءاته لمسارات الأحداث، إلى أن اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الخليج العربي، لم يعد كما كان، وإن التركيز الآن على منطقة شرق آسيا، حيث يتعاظم النفوذ الصيني هناك، وهو الأمر الذي بدأت تنتبه له الولايات المتحدة الأمريكية. فهناك خلط بيّن في هذه القراءة، فمنطقة الخليج العربي لم تفقد أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للمنظور الأمريكي، لأن ثوابت تلك الأهمية هي ثوابت باقية ولم تتغير، فلا تزال منطقة الخليج العربي هي المنطقة الأغنى في العالم من حيث احتياطيات النفط، وكذلك تضم ممرات مائية دولية وموقع مائي استراتيجي يخدم الخطوط الملاحية الدولية الرئيسية، وكذلك فيما يخص الموقع الجغرافي الذي يعتبر مدخل للقارات الثلاث، آسيا وأوروبا وإفريقيا، مما يجعلها محل اهتمام دولي دائم.
وصعود الصين كقوة اقتصادية كبرى، وكذلك بروزها كقوة عسكرية، يضاعف من قلق الولايات المتحدة الأمريكية على مستقبل التوازنات الدولية القائمة في المنطقة. فمبادرة الحزام والطريق "طريق الحرير" والذي تسعى الصين إلى استكمال مده إلى القارة الأوروبية، سيمر على منطقة الخليج العربي برًا وبحرًاً، وما سيترتب على ذلك من اتفاقيات تعقدها دول المنطقة التي تمر فيها مسارات طريق الحرير مع الصين، مما سيعزز نفوذها بشكل كبير في هذه المنطقة.
وفي ضوء ذلك، فمن المستبعد جداً أن تسمح الولايات المتحدة للصين، بتقويض النظام الدولي القائم، والذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة، وهو ما ورد على لسان وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، في الثالث من مايو عام 2021م، في تصريح أدلى به لشبكة «CBS»: بأن الصين هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها القدرات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، لتقويض أو تحدّي النظام القائم على قواعد نتمسّك بها بشدّة، ومصمّمون على الدفاع عنها.
ونجحت الصين في توظيف إمكاناتها الاقتصادية الجبارة لمد نفوذها السياسي إلى دول الخليج العربي سعياً لمواجهة النفوذ الأمريكي عالمياً، وكانت إحدى المناطق التي تنامى التنافس الدولي حيالها بين الصين والولايات المتحدة هي منطقة الخليج بثرواتها الضخمة ومواردها القيمة إلى جانب موقعها الاستراتيجي.
ومن المتعارف عليه، أن السياسة الخارجية للصين سياسة برجماتية قائمة على المصالح المشتركة مع الدول الأخرى، وفي نفس الوقت فإن الصين تستهدف مزاحمة النفوذ الأمريكي في كل مناطق العالم خاصة الغنية منها بالموارد كمنطقة الخليج.
ففي منطقة الخليج، تشهد حالة تنافس اقتصادي وأمني محتدم إقليميًّا ودوليًّا، وتحوَّل الخليج العربي من خليج مائي عربي إلى ساحة دولية مفتوحة.
كذلك هناك مجموعة من العوامل والمتغيرات التي أدت مد النفوذ الصيني على منطقة الخليج العربي، ألا وهي:
- الموقع الجغرافي وأثره على التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمنطقة، حيث يمثل الخليج العربي ممراً وبوابة للبحر الأحمر وخليج عدن، بالإضافة إلى المحيط الهندي، الأمر الذي جعله محطَّ اهتمام القوى الدولية المسيطرة.
- مصادر النفط في الخليج العربي، وهو ما يدفع الولايات المتحدة إلى محاولة الدفاع عن هذه المصادر، وتأمين الوصول إليها، ومن أبرز الأدوات التي استخدمت في ذلك إقامة القواعد العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع دول المنطقة.
- الأهمية الاقتصادية لمنطقة الخليج العربي، ما أضاف بُعداً جديداً للتنافس الدولي، ودخول قوى أخرى جديدة فاعلة بجانب الولايات المتحدة مثل روسيا الاتحادية والهند.
- تأثيرات حرب الخليج الثانية وما بعدها، فقد شكَّل التنافس بين القوى الدولية الكبرى على منطقة الخليج العربي، حيث تمت إقامة قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية، وفرنسية، ومؤخرًا تركية وشبكات اتصال استخباراتية في المنطقة.
ويبدو حاليًا التنافس الصيني- الأمريكي في منطقة الخليج العربي، بأنه سيكون الأصعب والأكثر حدة؛ حيث ينطوي على عنصري الأمن والنفط الذي يُعدان أولوية لدى الطرفين ويؤثران بشكل أساسي ورئيسي على الأمن الاقتصادي.
وقد تبنّت الصين، سياسة الشراكة الاستراتيجية مع الدول الخليجية؛ وتقوم العلاقات الصينية الخليجية في معظمها على مجموعة من المبادئ هي؛ الإخلاص والصداقة والمساواة، المنفعة المتبادلة والازدهار المشترك، التأييد المتبادل والتنسيق الوثيق، الاستفادة من التجارب الثنائية والسعي وراء التنمية المشتركة.
إن التنافس بين الولايات المتحدة والصين، يجعل وضع الدول الخليجية كدول محايدة أكثر صعوبة. وأحد المناطق التي قد تشهد تصاعداً في حدة التنافس بين الجانبين. ولفهم رؤية الدول الخليجية لمصالحها مع القوتين، يجب النظر إلى المؤشرات الأولية الصادرة عن إدارة جو بايدن تجاه المنطقة. فقد بات واضحاً أن الإدارة الأمريكية الجديدة لديها رغبة في إعادة صياغة مقاربتها تجاه المنطقة، لكن من غير الواضح بعد مدى عُمْق تلك الخطوة وتأثيرها على البنية الأمنية الإقليمية برعاية الولايات المتحدة، وخاصةً في منطقة الخليج. فالولايات المتحدة لا تملك بدائل لتقنيات استراتيجية يمكن أن تقدمها لدول الخليج، كشبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، وهي عنصر أساسي في خطط دول الخليج التنموية بعيدة المدى، مثل رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية، والرؤية الاقتصادية 2030 لإمارة أبو ظبي. وفي المقابل، لا تملك الصين بدائل دبلوماسية أو عسكرية قد تمكنها من إزاحة الولايات المتحدة بوصفها الضامن في المعادلة الأمنية الإقليمية.
ومن أهم تطورات المد الصيني في منطقة الخليج وهو ما يثير القلق لدى الولايات المتحدة الأمريكية:
- حدوث تعطل لصادرات النفط من الخليج، انطلاقاً من رغبة الاستمرار في ضمان تدفق الطاقة كأحد أدوات الحفاظ على النظام العالمي.
- قيام الصين بتطوير شبكات الجيل الخامس وتشغيلها في دول المنطقة، وارتباط ذلك بـ "الحرب الباردة" التكنولوجية، وما يمكن أن يُحدِثه من مخاطر على التعاون الأمني بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول المنطقة.
- اتساع نطاق الموانئ الاستراتيجية التي تستفيد منها الشركات الصينية، ضمن مبادرة الحزام والطريق.
مع الأخذ في الاعتبار، أن الأهداف الصينية تجاه منطقة الخليج واضحة وغير معقدة، وتركز على الحفاظ على أمن الممرات المائية، وضمان استمرار تدفق النفط، وضمان مصالح الصين التجارية والاستثمارية الواسعة مع دول منطقة الخليج.
ويمكن اعتبار منطقة الخليج العربي المنطقة الحيوية الوحيدة في العالم التي تلتقي فيها المصالح الصينية الأمريكية، حيث حرية الملاحة والاتفاق النووي الإيراني، والسعي لإنهاء "الحروب الدائمة". والسبب في ذلك ليس فقط رغبة الصين في عدم تحمُّل أعبائها مع الولايات المتحدة، لكن أيضاً تراجع مصالح الولايات المتحدة. ويظل التنافس التكنولوجي والمعلوماتي بين الجانبين منطقة صراع محتدمة بين الجانبين وإمكانية ظهور نظام دولي معلوماتي وتكنولوجي ثنائي القطبية.
طريق الحرير الجديد
تستثمر بكين في بناء مرافق الموانئ والطرق وخطوط القطارات والمراكز التجارية ضمن مشروع استراتيجي كبير تحت اسم "حزام واحد-طريق واحد"، والذي يهدف لإنشاء منطقة اقتصادية متداخلة بإحكام تحت السيطرة الصينية. فمبادرة " حزام واحد- طريق واحد" هي، قبل كل شيء، مشروع جيو-سياسي.
وتقع منطقة الخليج على طول طريق الحرير الجديد، مما سيؤكد سعي الصين إلى تأمين طرق تجارتها عبر خطوط المحيط الهندي البحرية من خلال مبادرة "طريق واحد، حزام واحد" التـي تمثل وسيلة الصين لاختراق الأسواق الغربية والآسيوية عبر طرق ملاحية وبرية استراتيجية التـي تقع عليها موانئ الخليج ذات الموقع الاستراتيجي.
وفي هذا الإطار نجد استمرار الصين في اتباع العولمة البديلة من خلال تقديم نفسها كصديق ليس له تاريخ استعماري سابق، ولا يشترط شروطاً معينة لتدعيم التنمية بل هو يقدم نفسه دائماً في شكل صديق يسعى لتعظيم المصالح المشتركة من خلال دعم التنمية الاقتصادية في منطقة الخليج في مقابل دعم الخليج للنهضة الاقتصادية في الصين بالموارد إلى جانب الدعم الدبلوماسي المتبادل في المحافل الدولية. وهو أمر سيعتبر مقبولاً لدى دول الخليج، كما أن الصين قد تخلت عن توجهها الأيديولوجي القديم والذي كان إطاراً محدداً لسياساتها الخارجية مع الدول الأخرى طيلة عهد ماو تسي تونج الزعيم الصيني. فقد أصبح للصين نموذجها الخاص والذي عملت على ترويجه عالمياً وبين دول الخليج بشكل خاص.
ومن هنا، فإن مصالح الصين تقتضي استمرار ذلك النهج الهادئ والحفاظ على الصورة الجيدة لنموذجها الذي تغلف به رغبتها في مزاحمة النموذج الأمريكي من واحدة من أهم مناطق نفوذه التقليدية في العالم.
من جهة أخرى، تبذل الصين قصارى جهدها لتدعيم استقرار النظم في الدول الخليجية حفاظاً على مصالحها الضخمة، وضمانًا لاستمرارية الصداقة والتعاون مع تلك النظم لها من جهة أخرى، وهو الأمر الذي قد يدفعنا للتنبؤ باحتمالية بداية حرب تكنولوجية معلوماتية باردة جديدة لكنها هذه المرة مع الصين في الملعب الخليجي الذي أصبح ساحة للصراع الدولي المعلوماتي والتكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. كما أن التحرك الصيني الهادئ ونموذجها الجذاب قد يفوت على الولايات المتحدة فرصة قلب النظم الخليجية عليها.
وإن كان للوجود الصيني في منطقة الخليج سمات ودلالات اقتصادية خلال الفترة الماضية، فإن الفترة المقبلة ستشهد توظيفًا سياسيًّا للصين في مشروعها كقوة دولية قادمة في مواجهة القوة الأمريكية القائمة. وتهدف إلى تأسيس بُعد صيني عالمي مؤثِّر في مسار السياسة والاقتصاد العالميين.
لكن دول المنطقة تتردد في توسيع العلاقات الأمنية مع الصين خصوصاً. وتتصل هذه التحفظات بعدم إمكانية الوثوق بالصين التي تصر على النظر إلى دول مجلس التعاون وإيران على قدم المساواة. وفوق ذلك، تدرك الدول الإقليمية الرئيسة محدودية إمكانيات الصين، وغياب الإرادة للقيام بدور كبير في الشرق الأوسط.
ويمكن استنتاج أن دول الخليج خصوصاً لا ترغب باستبدال الولايات المتحدة بأي قوة أخرى، لكنها ترى في اتساع نطاق دور الصين الاقتصادي والاستثماري في المنطقة عنصر ضغط على الإدارة الأمريكية لإعادة رفع مستوى التزامها بقضايا المنطقة، ودعم سياساتها. ولكن تملك الولايات المتحدة الأمريكية سلاحاً لا تمتلكه الصين فيما يخص منطقة الخليج العربي، ألا وهو التحالفات.
وبالطبع، فإن مستقبل التواجد الصيني في الخليج عمومًا يجمع بين الربح والخسارة في آن واحد، خصوصًا أنه يأخذ أبعادًا استراتيجية. لكن المعطيات تشير إلى مزيد من التطور للصين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاقتصاد والاستثمار. وكذلك خلق العديد من الفُرص والخيارات أمام دول الخليج العربي، وهي:
- خلق نوع من أنواع توازن القوى الجديد، والتخلص من قيود الأحادية القطبية، فمن مصلحة الدول أن يكون النظام الدولي ذو سمة التعددية، بدلاً من حالة الأحادية، وربما تجد دول الخليج في صعود الصين فرصة للدفع بتأثيرات النظام الدولي التعددي على المستوى الإقليمي، وهذا من شأنه أن يخلق مساحة أكبر للحركة والتفاوض، كما يخفف من القيود والضغوط.
- إمكانية احتفاظ دول المنطقة بعلاقات متنوعة بين القوتين الصينية والأمريكية، وحاجة تلك الدول إلى شركاء تجاريين. فالولايات المتحدة تعتبر شريكًا تجاريًا فضلاً عن كونها شريكًا أمنيًا وعسكريًا، وهو ما يمكن من الإسهام في استمرار التعاون لاستقرار المنطقة، ومجابهة التحديات الأمنية والعسكرية المستقبلية.
- توفير عميل بديل للنفط بعد تراجع أهميته بالنسبة للولايات المتحدة، فالصين تعتبر أكبر مستورد للنفط من الخليج، وتشير الدراسات المستقبلية إلى أن الصين في حاجة مستمرة وماسة للنفط الخليجي؛ مما يجعل من الصين عميلاً مجديًا لدول الخليج.
- الاستفادة من موقف القوتين الصينية والأمريكية من ضمان الاستقرار الإقليمي وأمن منطقة الخليج. حيث تشترك كل من الصين والولايات المتحدة فيما يتعلق بالبُعد الأمني في منطقة الخليج، وضرورة تخفيف حدَّة النزاعات الإقليمية في المنطقة؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى البحث عن أرضية مشتركة تضمن للصين تحقيق مصالحها الجيو-اقتصادية والجيو- سياسية في المنطقة. وكذلك يمكّن الولايات المتحدة من المحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة.
- ضمان الدول الخليجية لوجود شريك تجاري لدعم خطط التنمية. فالصين تعتبر من أكبر الشركاء التجاريين لعدد كبير من دول المنطقة، من الممكن أن تلعب دورًا كبيرًا في إنجاح هذه الخطط.