فات على القوى الاستعمارية الغربية العالمية أن تفعل بالصين ما فعلته بمعظم العالم العربي. فالصين اليوم، بعدد سكانها الهائل، الذي يصل إلى 1.4 بليون نسمة، ومساحتها الضخمة (9.562.842كم2) أمست كاملة السيادة والاستقلال، والكرامة، والتحرر من ربقة النفوذ الإمبريالي العالمي... وتوشك أن تصبح قوة عظمى جديدة. بينما أغلب العالم العربي الآن عبارة عن: دول ودويلات ممزقة، أغلبها متشرذمة، ومتخلفة... وبعضها أضحت نهباً للمطامع الاستعمارية، وباتت فريسة للذئاب الدولية الكاسرة.
لقد تعرضت الصين، عبر تاريخها الطويل، لمطامع أجنبية شرسة وواسعة، لعل آخرها ما أصابها من حركة المطامع الاستعمارية الأوروبية، التي نشطت في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي كان أبرز أبطالها: بريطانيا، فرنسا، هولندا، البرتغال، إسبانيا، ثم أمريكا فيما بعد. ولكن هذه القوى فشلت– على الأصح –في تنفيذ خططها الاستعمارية السلبية في الأرض الصينية. كما عجزت عن منع المارد الصيني من الخروج لاحقًا من قمقمه. فها هو الآن يصعد قمة العالم الاقتصادية – السياسية، وبتصميم وقوة.
لقد تفنن الاستعمار الغربي في استخدام "وسائل" (جهنمية) عدة، هدفها : إخضاع الصين، و تمزيقها وإضعافها، لتسهيل سيطرة القوى الغربية عليها ، وضمان استغلال مواردها المختلفة، في المدى الطويل. و من "الوسائل" التي اتبعتها بريطانيا، الدولة المخضرمة في الممارسة الاستعمارية، وغيرها، لتحقيق هذا الهدف، ما يلي :
- محاولة تفكيك الصين، وتحويلها إلى دول صغيرة ودويلات مستضعفة، على رأس أغلبها أنظمة عميلة، تخدم مصالح المستعمرين، قبل الصالح العام لشعوبها.
- خلق (وتجنيد) طبقة "طابور خامس" واسعة من الصينيين، تندس في كل فئات المجتمع الصيني ... هادفة خدمة المستعمر، والإسهام – بشكل غير مباشر – في إضعاف وإذلال وتخلف أمتها الصينية العريقة... عبر وسائل "فكرية" و"عقائدية"، واقتصادية سلبية مختلفة ...
- ترويج "الأفيون" (المخـــــدرات) ومحاولة نشره، بين أكبر عدد ممكن من أبناء الأمة الصينية. ولعل القارئ يذكر " حروب الأفيون" الشهيرة ... التي شنت ضد الصينيين.
****
ولم يتمكن الاستعمار الغربي من خلق "إسرائيل" في قلب الصين ... لتكون خنجراً، يعيق الأمة الصينية عن النهوض، ويعجزها عن الوقوف على قدميها – رغم أنه حاول عمل شيء من هذا القبيل. فلم تستطع بريطانيا وأمريكا جلب أناس ... يدعون أن إحدى المقاطعات الصينية هي ملك لهم ...؟! لأن أناساً منهم عاشوا فيها، قبل حوالي ألفي عام؟! وأن من حقهم أن يطردوا أهلها – أهل تلك المقاطعة المنكوبة –ويقتلونهم ويشردونهم، لتحل مكانهم عصابات من "البشر"، تأتي من شتى بقاع الأرض؟!
نعم، ساهم المستعمرون في إقامة "تايوان" ... لاستخدامها كقاعدة متقدمة ضد الصين الأم ... وكمنطلق لوجستي موات، لتنفيذ مخططاتهم، التي فشلوا في تنفيذها في الماضي. ولكن الصين تمكنت من عزل تايوان، وربما تستعيدها قريباً، كما استعادت هونج كونج وما كاو ... والغريب أن الصين نهضت بأيديولوجية خيالية، وغير واقعية، ألا وهي الشيوعية، رغم أنها "حورت" هذه الأيديولوجية بما يتناسب والواقع الصيني. الشيوعية الماركسية، كفكرة، لم ولن ترى النور، لكونها فكرة خيالية، مغرقة في اليوتوبية. ولولا تحوير هذه الفكرة، لتصبح اشتراكية، ممتزجة برأسمالية الدولة، ورجال الأعمال (الآن) لبقيت الصين متخلفة، يشبه وضعها وضع جارتها، كوريا الشمالية ("الشيوعية"). ولكان مصير حزبها الشيوعي مماثلاً لمصير الحزب الشيوعي السوفييتي.
ثم أن هذا التحوير يتطلب الآن انفتاحًا سياسيًا، يتمثل في السماح بالتعدد الحزبي، وإعطاء الصيني حرية اختيار من يراه مناسبًا، من هذا التعدد. لقد سمحت الصين بوجود عدد من الأحزاب، شبه التابعة للحزب الشيوعي الصيني. ولكن ذلك غير كاف. ربما لن تجد الصين مفرًا من السماح للأحزاب السياسية التي تمثل مختلف التيارات، للتنافس مع الحزب الشيوعي الصيني، على السلطة. وصعود الصين لمرتبة القطب قد يدفعها للمسارعة بهذا السماح.
ولعل الحديث في موضوع وواقع "الأحزاب السياسية" في الصين يعني الخوض في جوهر النظام السياسي الصيني الحالي، وما يتخذه هذا النظام من سياسات، داخلية وخارجية. وبعد انهيار المعسكر الشرقي، وزوال الاتحاد السوفييتي، بقيت أربع دول يحكم كل منها حزب (شيوعي) واحد، هي: الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، كوبا. ومازال "الحزب الشيوعي الصيني" هو الحزب المهيمن على جمهورية الصين الشعبية. ولكنه حزب مختلف عما سواه من الأحزاب السياسية "الوحيدة"، أو التي تفرض نفسها، بالطرق المشروعة أو غير المشروعة. اذ أصبح هذا الحزب مختلفًا، ومتميزًا، عن غيره من الأحزاب المشابهة، خاصة بعدما تبناه من إصلاحات، بدءًا من العام 2012م. وربما يجهل البعض أن هذا الحزب يسمح لثمانية أحزاب سياسية صينية غير شيوعية، بالتواجد، والتنافس معه على السلطة.
ولأهمية الصين لعالمنا العربي بعامة، ومنطقة الخليج العربي بخاصة، سنلقي، بعد هذه النبذة عن الصين، بعض الضوء على السياسة الصينية الحالية والقادمة نحو منطقة الخليج.
****
وهناك " مداخل " مبسطة، تساعد على فهم " السياسة"، بصفة عامة... والسياسة الخارجية لأي دولة، بصفة خاصة. ومن ضمن هذه المداخل اعتماد تعريف " السياسة الخارجية" (لأي دولة) بأنها: الأهداف التي تسعى تلك الدولة لتحقيقها خارج حدودها – أو تجاه جزء أجنبي معين من العالم – و"الوسائل" (الإستراتيجية) التي تتبعها ... لتحقيق تلك الأهداف.
لذا، فعندما نحاول معرفة السياسة الخارجية لدولة ما معينة تجاه جهة، أو منطقة، خارج حدودها، فإنه يمكن تلمس "الأهداف" المبتغاة، و" الوسائل" المتبعة، للوصول إليها. ومجموع ذلك هو: سياسة تلك الدولة نحو الجهة المعنية. وكثيراً ما يكون هناك تداخلاً بين الأهداف والوسائل ... مما يجعل من الصعب أحياناً التمييز بين الغاية والوسيلة. وسنتبع هذا المدخل المبسط لمعرفة أهم ملامح السياسة الصينية الحالية نحو العالم العربي بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة.
****
ويمكن القول إن: " أهداف " السياسة الصينية نحو المنطقة العربية ظلت شبه ثابتة منذ بدء تفعيل هذه السياسة عام 1975م. أما " الوسائل"، التي تتبعها الصين لتحقيق هذه الأهداف، فهي تتغير من فترة لأخرى. والأهداف الصينية الحالية – بمضمونها الحالي – تتناغم في الغالب مع كثير من المصالح العليا للأمة العربية والإسلامية، وإن كانت تتقاطع، أو تتناقض، مع بعض هذه المصالح في بعض الحالات. ومعروف أن صداقة حقيقية، وتعاون إيجابي، بين الأمة العربية والصين لن ينشأ، إلا إذا ضمنت الأهداف والوسائل تحقيق المصالح المشتركة للأمتين العربية والصينية معًا.
****
لا يجادل أحد في مدى أهمية المنطقة العربية، وما تحظى به من إرث حضاري عريق، وموارد بشرية ومادية هائلة، وإمكانات طبيعية فريدة. وإن كانت معظم هذه الإمكانات، (وما زالت) أحد أبرز أسباب ما تعانيه من أطماع ومحن وقلاقل. في هذه المنطقة قامت اثنتان من أهم وأقدم أربع حضارات إنسانية في التاريخ. وقدمت هذه المنطقة لبقية البشرية الكثير من الإسهامات الحضارية، التي تنتفع الأجيال بها في كل مكان. وكانت المنطقة – وما زالت – مهد الأديان السماوية الثلاثة. ومن حيث "الموقع"، فإن المنطقة تتربع في نقطة الوصل بين قارات العالم القديم، آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتشرف على أهم طرق المواصلات البحرية على الكرة الأرضية. وفى الوقت الحاضر، يعرف العالم أنها تحتوي على مخزون الطاقة الأكبر (نفط، غاز) في كوكب الأرض، إضافة إلى ثروات طبيعية هامة أخرى، لا توجد (بنفس الكم والكيف الإيجابي) في غيرها من المناطق.
ولهذه الأسباب، وغيرها، كانت هذه البقعة – وما زالت – محل اهتمام وأطماع القوى الدولية الكبرى. وكانت (وستظل) ميدانًا للتنافس " الاستعماري" بين هذه القوى. وكثير من أنحاء هذه المنطقة تعتبر أكثر البلاد تعرضًا لما يعرف بـ "الاستعمار الجديد "، كما يقول كثير من علماء السياسة الأمريكيين، وغيرهم. فالهيمنة على هذه المنطقة تسهم في السيطرة على العالم. ولا يمكن لأي قوة أن تكون كبرى، أو عظمى ما لم يكن لها نفوذ قوي بهذه المنطقة.
****
ومع صعود الصين، كدولة عظمى، واحتياجها المؤكد لاستيراد الطاقة، والمواد الخام، وضمان سوق واسع لتصريف منتجاتها المختلفة، كان لا بد أن تهتم بالعالم العربي، وبخاصة منطقة الخليج. وهي تدرك تمامًا أهمية هذه المنطقة، والتنافس الدولي الشرس على بسط النفوذ فيها، خاصة من قبل الدولة العظمى الأولى، أمريكا، وبقية الدول الكبرى: بريطانيا، فرنسا، روسيا، بخاصة.
ويمكن أن نلخص فيما يلي السياسة الصينية الحالية نحو منطقة الخليج، بصفة خاصة، والعالم العربي، بصفة عامة، متبعين إطار الأهداف/الوسائل آنفة الذكر:
الأهــــــــــــداف: يمكن تلخيص أهم أهداف السياسة الصينية نحو المنطقة كالتالي:
1 – تثبيت أقدام الصين بالمنطقة: إن "محور" السياسة الصينية تجاه منطقة الخليج العربية يتركز في: محاولة الصين ضمان انسياب مستورداتها من النفط والطاقة من دول الخليج، وبأقل تكلفة ممكنة. علما بأن الصين تستورد الآن (2020م) ما نسبته 18.6% من إجمالي استيراد العالم من النفط. وفي نفس الوقت، تسعى الصين لضمان سوق واسع ومغر لتصريف المنتجات الصينية المختلفة. وهذا لا يمكن أن يتحقق، على المدى الطويل، إلا عبر الوسائل التي تتبعها الصين، ومنها: دعم العلاقات الصينية مع دول المنطقة. وسنوجز هذه الوسائل أدناه. إن الصين ستظل بحاجة لاستيراد المزيد من الطاقة. وأغلب مصادر تصدير النفط الأخرى تظل أقل ملاءمة لاحتياجات الصين، بما في ذلك إمدادات النفط الإيراني..
2- المحاولة الصينية الدائمة لتقليص النفوذ الغربي (نفوذ الناتو) بالمنطقة، وخاصة النفوذ الأمريكي فيها: وتلك مهمة يصعب تحقيقها، في ظل التغلغل الغربي العميق بالمنطقة، ووجود "مصالح" أمريكية/غربية هائلة فيها. لذلك، يتوقع أن تكون هذه المنطقة إحدى بؤر الصراع البارد والساخن بين العملاقين الأمريكي والصيني. ويبدو أن اللعبة الصينية – الأمريكية بمنطقة الخليج نتيجتها غالبًا "صفرية". فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أمريكا، والعكس صحيح.
ولكن، هناك احتمال أن يحصل بين الطرفين، الصيني والأمريكي، نوع من التفاهم ... بحيث يترك للصين المجال الاقتصادي فقط، ويبقى المجال السياسي والاستراتيجي أمريكيًا. ولكن هذا الاحتمال ضئيل، بسبب صعوبة الفصل بين الاقتصادي والسياسي.
****
الوســـــــــــائل:
لتحقيق هذه الأهداف، تستخدم الصين الوسائل التالية:
- تدعيم علاقات الصين بدول المنطقة: عبر عقد اتفاقيات التعاون الاستراتيجي بين الصين، وكثير من دول المنطقة. وهناك اتفاقيات شراكة استراتيجية بين الصين، وكل من: الأردن، الجزائر، الإمارات، السعودية، قطر، الكويت، عمان، العراق، مصر، السودان، جيبوتي. وكذلك مشاريع تنمية البنى التحتية، وإقامة المشاريع العملاقة التي تسهم في ازدهار المنطقة، وتطورها. ومن ذلك: السعي لإقامة "طريق الحرير"، وغيره.
في عام 2013م، قدم الرئيس الصيني شي جين بيغ، أثناء زيارته لدولة كازاخستان، المبادرة الصينية التي تسمى: الحزام الاقتصادي وطريق الحرير البحري، للقرن الواحد والعشرين، القائم على فكرة طريق الحرير الذي وجد في القرن التاسع عشر. والمبادرة تهدف إلى: تحقيق مصالح الصين وشركائها، الاقتصادية والاستراتيجية، عبر ربطها بشبكة مواصلات كبرى ميسرة. وتم دعم هذه المبادرة في مؤتمر عقد في بكين، عام 2017م، سمي بـ " منتدى الحزام الاقتصادي والطريق الأول للتعاون الدولي"، بمشاركة 142 دولة. وتغطي هذه المبادرة، التي بدئ بالفعل في تنفيذها، دول الخليج العربية. ومن المتوقع أن تكتمل بحلول العام 2049م.
- الإحجام عن التدخل في الشؤون السياسية لدول المنطقة: وذلك يتضمن عدم فتح الملفات التي لا ترغب دول المنطقة فتحها.
- المحاولة المتواصلة لزيادة التبادل الاقتصادي والتجاري بين الصين، ودول المنطقة: ومنذ العام 2017م، بدأ حجم التجارة الصينية مع العالم العربي يتصاعد، ويفوق حجم تجارة الولايات المتحدة مع العالم العربي. إذ بلغ حجم التجارة الصينية مع الدول العربية 171 مليار دولار، منها 101 مليار قيمة صادرات صينية، و70 مليار دولار قيمة واردات من الدول العربية للصين. بينما بلغت صادرات أمريكا للدول العربية في نفس العام 60.4 مليار دولار.
- اتخاذ بعض السياسات الداعمة لبعض القضايا العربية: ومن ذلك: تأييد الصين للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ومعروف، أن أول من أعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، من غير العرب، هي الصين. ولم تكتف بذلك، بل دعمت المنظمة بالأسلحة، وبتدريب عناصرها المقاومة. ولم تقم الصين علاقات مع إسرائيل إلا عام 1992م، وتحت الضغوط الغربية، وبعد مؤتمر مدريد المنعقد عام 1991م.
****
وختـــامـــًا، نعتقد أن مجرد تواجد الصين بالمنطقة، بهذا الزخم الاقتصادي، يثير التوتر مع بعض القوى الدولية، وبخاصة الولايات المتحدة. ويتوقع أن يتفاقم هذا التوتر كلما توثقت علاقات الصين بدول المنطقة، واستتب نفوذها. الأمر الذي قد يدفع لحصول بعض الاحتمالات الصراعية الجذرية، في مسار السياسة الدولية بالمنطقة العربية. ومن ذلك، احتمال قيام تحالف صيني- روسي، يقلب توازن القوى بالمنطقة رأسًا على عقب.