أدت سيطرة حركة طالبان على الحكم بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان إلى طرح مجموعة من التساؤلات والسيناريوهات الممكنة والمحتملة حول مستقبل جماعات الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية في إفريقيا، خصوصًا وإن الكثير من الأدبيات الإعلامية والسياسية دأبت على إسقاط الحالة الأفغانية على الأوضاع المتأزمة في إفريقيا، فعلى وزن أفغانستان تم إطلاق تسمية "ساحل-ستان" على منطقة الساحل الإفريقي بعد انتشار الجماعات الإرهابية المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود ومبايعة البعض منها تنظيم القاعدة الأم الذي تمركز في أفغانستان، كما تم وصف "جماعة بوكو حرام" النيجيرية ب"طالبان إفريقيا"، لتشابه الأيديولوجيتين باعتبارهما يقومان على تحريم التعليم الغربي والتمسك بتعليم الشريعة الإسلامية بمفهومها الضيق والصارم. كما شكل عودة الأفغان العرب والأفارقة بعد الانتهاء من الدور الوظيفي "للجهاد" ضد السوفيات إلى أوطانهم لتشكيل الجماعات المسلحة والانخراط في العمل المسلح ضد أوطانهم، فإلى أي مدى ستتأثر هذه الجماعات الإفريقية بما يجري في أفغانستان؟
أولاً، القراءة الجيوسياسية لعودة طالبان وتأثير ذلك على جماعات الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية في إفريقيا.
لا يمكن فهم التحولات السريعة والدراماتيكية الجارية في أفغانستان بمعزل عن المقاربة الجيوسياسية التي تقدم لنا سقوط وصعود حركة طالبان في أفغانستان في إطار بيئة الصراع الدولي التي تشكلت ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهزامه الدامي في المقبرة الأفغانية إلى غاية الانسحاب العسكري الأمريكي بعد عشرين سنة من محاربة تنظيم القاعدة لفترة ما بعد 11 سبتمبر 2001م، والمفارقة الجيوسياسية هنا، أن واشنطن تحولت من الحليف الاستراتيجي للجماعات "الجهادية" ضد السوفيات إلى الخصم اللدود للجماعات "الإرهابية"، ولعله من المفيد التذكير بما ورد في مذكرات صناع القرار في تلك الفترة عن حالة التحالف الأمريكي مع الجماعات "الجهادية" الأفغانية والدوافع الاستراتيجية لذلك، حيث تشير بنازير بوتو، رئيسة وزراء باكستان السابقة في سيرتها الذاتية بعنوان " ابنة القدر" بقولها:" بعد احتلال السوفيات لأفغانستان عام 1979م، عملت الباكستان بالشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدة المجاهدين، حيث استغلت واشنطن أفغانستان كوسيلة تعمل من خلالها على استنزاف الاتحاد السوفياتي من موارده، وشنت حربًا ناجحة في نهاية المطاف ضد السوفيات عن طريق استخدام وكلائها من الأفغان والمتطرفين الباكستانيين والجيش، وساهمت هذه الحرب في تفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1990م". وبعد انسحاب السوفيات التقت رئيسة وزراء باكستان، بنازير بوتو، الرئيس بوش الأب بعد صعود الجماعات الأفغانية الأكثر تشددًا وخاطبته قائلة:" السيد الرئيس، يؤسفني القول إننا خلقنا فرانكشتاين، ذلك الوحش الذي سيعود لاحقًا ليقتص منا ويطاردنا في المستقبل"، وتحققت هذه التوقعات بعد صراع الأجنحة الأفغانية على السلطة وظهور حركة طالبان، التي نشأت وترعرعت في أحضان المدارس الدينية الشرعية في باكستان. وبعد تورط تنظيم القاعدة في عمليات 11 سبتمبر 2001م، تحولت طالبان إلى العدو العالمي رقم واحد للولايات المتحدة الأمريكية، بسبب ارتباطها بتنظيم القاعدة وهو ما قدم التبرير السياسي لجماعة المحافظين الجدد بشن حربين متتاليتين واحدة على أفغانستان والثانية على العراق بحجة ارتباط صدام حسين بتنظيم القاعدة، وكان هذا أول موقف للرئيس بوش الابن" لقد اتخذنا القرار بمعاقبة كل من يأوي الإرهابيين، وليس فقط مرتكبي الأعمال الإرهابية". وفي النهاية، فإن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مثله مثل الانسحاب السوفياتي، كانت تكاليفه المادية والبشرية رهيبة جدًا، استنزف قوة وسمعة الولايات المتحدة الأمريكية من غوانتانامو إلى سجن أبو غريب، ووفق تقديرات مشروع تكاليف الحرب التي قدمها معهد واتسون للشؤون العامة والدولية، ببوستن، فإن الحروب الأمريكية في مواجهة الإرهاب في أفغانستان، العراق والشرق الأوسط كلفت الخزينة الأمريكية 8000 مليار دولار منذ 11 سبتمبر 2001م، مع تصاعد الفاتورة في السنوات القادمة، وما يقارب 900 ألف قتيل، ورغم المصاريف المالية الأمريكية التي أنفقت على القوات الأمنية النظامية الأفغانية لمواجهة طالبان، التي قدرت بـ 88 مليار دولار، فإن النظام الأفغاني المدعوم أمريكيا تهاوى أمام قوات طالبان تاركًا وراءه ترسانة من الأسلحة المتطورة تكنولوجيًا، ما يقارب ثلاثة ملايين قطعة سلاح وسيارات مصفحة، وأسلحة خفيفة بذخائرها، والأخطر من ذلك أن طالبان استولت على النظام البيوميتري للجيش الأمريكي الذي يسمح بتشخيص قاعدة البيانات للأفغان المتعاونين مع القوات الأمريكية، وهو ما يفسر موجة الهروب المفزعة في مطار كابول غداة الانسحاب الأمريكي. إن حجم المصاريف الأمريكية على النظام الأمني الأفغاني أعطى الانطباع بالثقة بالنفس بالنسبة للأمريكيين بأن سيناريو سقوط أفغانستان في قبضة طالبان " غير مرجح إلى حد كبير" حسب تصريحات الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ثم عاد ليبرر لوسائل الإعلام على أنه "لم يتوقع أحد انهيار واستسلام القوات الحكومية المدربة والمزودة من قبل الغرب التي بلغ تعدادها 300 ألف جندي". فإذا كانت التوقعات الأمريكية بعيدة عن عامل المفاجأة السريعة لانتشار طالبان، فإن مستقبل الحركة والإمارة الإسلامية المعلنة تطرح سيناريوهات متعددة لمستقبل تعاملها مع محيطها الجيوستراتيجي والمجتمع الدولي من جهة، ومستقبل ارتباطها واحتضانها لتنظيم القاعدة والجماعات الإسلامية المساندة لها، بالرغم من التفاؤل المفرط للرئيس جو بايدن " بأن خطر الإرهاب في أفغانستان قد تراجع مقارنة مع ما كان عليه قبل هجمات 11 سبتمبر 2001م" لاسيما بعد مقتل زعيم التنظيم أسامة بن لادن، مع التأكيد في الوقت ذاته، بأن القاعدة وداعش عرفا انتشارًا كبيرًا وأن الخطر الأكبر على الولايات المتحدة الأمريكية يأتي من سوريا ومن شرق إفريقيا" كما صرح بذلك ج. بايدن. ويمكن بناء السيناريوهات المستقبلية لدور طالبان وتأثيرها على صعود الجماعات الإسلامية والتنظيمات الإرهابية في إفريقيا، انطلاقًا من محدد العلاقات التي ستضبط إيقاعها الحركة مع تنظيم القاعدة، فكلما ضيقت الإمارة الإسلامية في أفغانستان على حركية واحتضان القيادات المحسوبة على تنظيم القاعدة وانفتحت في تعاملها مع دول الجوار والمجتمع الدولي على محاربة الجماعات الإرهابية من خلال التنسيق الأمني بمنطق الدولة لا المنطق القبلي والعصبية الدينية التي ضبطت السلوك السابق لطالبان عندما رفضت تسليم أسامة بن لادن بعد عمليات 11 سبتمبر، كلما كسبت المزيد من الثقة مع القوى الدولية الفاعلة والتعامل معها كحتمية واقعية، لجماعة ذات خصوصيات قبلية ودينية محلية في إدارة الشأن العام الداخلي. وعلى هذا الأساس فإن السيناريو الأكثر رواجًا من الناحية الإعلامية والسياسية، أن حركة طالبان ستجنح إلى الاتجاه البراغماتي والواقعي في إدارتها للسلطة السياسية، وتبريرات ذلك أن طالبان جنحت للسلم مع الولايات المتحدة الأمريكية بموجب مفاوضات ماراثونية في قطر انتهت بتوقيع اتفاق الدوحة في فبراير 2020م، الذي وصفه الرئيس دونالد ترامب في حينه أنه "صفقة رائعة"، التزمت بموجبه طالبان على عدم السماح للقاعدة أو أي جماعة متطرفة أخرى بالتواجد في المناطق التي تسيطر عليها، مقابل الانسحاب التدريجي الأمريكي من أفغانستان. كما أن طالبان تبحث عن الاعتراف الدولي بنظامها من خلال مجموعة من التطمينات التي قدمتها داخليًا وخارجيًا، ولعل أهمها، تجاوز القضايا الخلافية التي يثيرها الغرب فيما يخص التعامل مع قضايا المرأة، التعليم، وسائل الإعلام، وكانت أول رسالة بعد الاستيلاء على كابول ما صرح به المتحدث باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد :" لن نسمح باستخدام الأراضي الأفغانية ضد الآخرين، ومنح المرأة الأفغانية حقوقها الكاملة وفقًا للشريعة والسماح لوسائل الإعلام بممارسة عملها بحرية واستقلالية"، وهذه الرسالة الإعلامية الموجهة للغرب خصوصًا، تشير بأن طالبان ما بعد 2021م، تريد تجاوز الصورة النمطية التي لا يزال الغرب يختزنها في ذاكرته لتجربة طالبان الأولى في الحكم (1996-2001م) عندما قاموا بتحطيم تمثال بودا وفرضوا مجموعة من القيود على السلوكيات اليومية للشعب الأفغاني قيدت من الحريات الجماعية والفردية. والملاحظ هنا، أن من بين أهم الدوافع الأساسية التي ستجعل الإمارة الإسلامية العائدة إلى أفغانستان أن تكون أكثر واقعية وبراغماتية، أن خبرتها السابقة ما قبل إدارة الإمارة وما بعدها بتجربة العشرين سنة من إدارة السلاح أعطاها نظرة مصلحية، أن الدول تبنى على مشاريع التنمية والخدمات الاجتماعية في إطار السلم والاستقرار وبناء المصالح المتبادلة مع دول الجوار، وتكاليفها ميزانيات سنوية ومخططات استشرافية، فالمجتمع الأفغاني بحاجة إلى بناء وإدارة المستشفيات، المدارس والجامعات وبناء السكنات، والحاصل أن معظم احتياطات الصرف الأفغانية التي وصلت إلى 9.4 مليار دولار في أبريل 2021م، موجود في الخارج لا سيما في البنوك الأمريكية حيث قامت إدارة بايدن بتجميد أصول الحكومة الأفغانية بعد سيطرة طالبان على الحكم، كما منع صندوق النقد الدولي موارد هيئة الإقراض على طالبان بحجة عدم الوضوح داخل المجتمع الدولي بشأن الاعتراف بحكومة طالبان، وعليه تم تجميد موارد مالية بقيمة 460 مليون دولار كانت في طريقها للنظام الأفغاني السابق في 23 أغسطس 2021م، لمواجهة انعكاسات كوفيد-19. والمعضلة الاقتصادية الأفغانية أنها تعتمد على الإعانات المالية الخارجية التي تغطي ثلاثة أرباع نفقاتها العمومية، ومتنفسها المالي الكبير يبقى مرتبطًا بعائدات مشروع أنبوب الغاز الذي يمتد من تركمانستان عبر أراضيها إلى باكستان والهند، والذي يستوجب الاستقرار السياسي والأمني بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تشارك في تمويل هذا المشروع، فأنبوب "غاز السلام" كما يطلق عليه، يهدف انطلاقًا من سنة 2023م، إلى تزويد الدول المعنية به خلال الثلاثين سنة القادمة بأكثر من 33 ألف مليار متر مكعب من الغاز من ضمنها الحقول الأفغانية في هيرات وقندهار.
مقابل هذا السيناريو البراغماتي لطالبان، فإن التيار المحافظ الأمريكي وتقارير الأمم المتحدة لاتزال تصر على أن العلاقات بين طالبان وتنظيم القاعدة لا يمكن فصلهما فهما توأمان أيديولوجيان، وكان هذا اعتقاد، ميكائيل روبين، أحد الموظفين السابقين في البنتاغون، والباحث حاليًا في مركز تفكير معهد أنتربريز المحافظ :" نحن لا نتحدث عن مجموعتين عسكريتين التي ستقطع العلاقات فيما بينهما، ولكن عن أخوين وأبناء عمومة"، والتركيز هنا، يتم على المبايعة السابقة لأسامة بن لادن، للملا عمر، باعتباره أميرًا للمؤمنين ومن بعده مبايعة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في سنة 2016م، لزعيم طالبان هيبة الله أخوندزاده. ويبقى الحذر بالنسبة للمراقبين الأمنيين قائمًا حول مستقبل العلاقات بين جناح حقاني وتنظيم القاعدة لارتباطاتهما العائلية والتاريخية، وهو ما أشار إليه تقرير الأمم المتحدة الذي قدم في 19 مايو 2020م، وبالحرف الواحد:" لا تزال القيادة العليا لتنظيم القاعدة موجودة في أفغانستان، فضلاً عن مئات من العناصر المسلحة، وتنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية، ومجموعات من المقاتلين الإرهابيين الأجانب المنحازين إلى حركة طالبان، وقتل عدد من الشخصيات الهامة في تنظيم القاعدة في أفغانستان خلال الفترة المشمولة بالتقرير، ولا تزال العلاقات بين حركة طالبان، ولاسيما شبكة حقاني وتنظيم القاعدة وثيقة، تقوم على الصداقة، وتاريخ النضال المشترك، والتعاطف الأيديولوجي، والزواج. وكانت حركة طالبان تتشاور بانتظام مع تنظيم القاعدة خلال المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت ضمانات بأنها ستحترم روابطهما التاريخية، وقد رد تنظيم القاعدة بشكل إيجابي على الاتفاق". وبالتالي، فإن الرهان الحقيقي الذي يترقبه المجتمع الدولي يدور حول درجة الارتباط بين طالبان وتنظيم القاعدة، وهل ستلتزم طالبان بما وقعه الملا عبد الغني برادر مع ممثل الولايات المتحدة الأمريكية زلماي خليل زادة، فيما يخص اتخاذ تدابير مكافحة الإرهاب وعدم احتضان القاعدة ولواحقها. وإن كان المتشائمون متشبثون بأن ما يجري في أفغانستان هو انتصار واضح للقاعدة، كما قال، كولين كلارك، مدير بحث مركز صوفان بنيويورك، "انتصار طالبان يمكن أن يستخدم لتجنيد المقاتلين الجدد لصالح القاعدة وخلق ديناميكية لم تحققها منذ اغتيال بن لادن في 2011م".
وفي الواقع، فإن حركة طالبان تملك ورقة استراتيجية لتوظيفها مقابل الاعتراف الدولي بها، من خلال اتخاذ إجراءات مكافحة الإرهاب ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية- ولاية خرسان- التي تبقى الجماعة الإرهابية المتعددة الجنسيات المتحدية لاستقرار نظام طالبان، فهذا التنظيم الذي تشكل على الحدود الأفغانية -الباكستانية، بعد سنة من إعلان داعش سيطرتها على الموصل العراقية والرقة السورية، وبالرغم من محدودية قدرتها الاستراتيجية بسبب افتقادها للمقاتلين وضعف سيطرتها على مواقع حيوية، فإن فرع داعش في أفغانستان يمكن أن يجند مقاتلين جدد من التنظيم الأم في العراق وسوريا بعد استقرار طالبان، مستغلة فقدان طالبان لعامل حيوي في القتال الذي اعتمدته طيلة عشرين سنة في مواجهة النظام الأفغاني القائم والقوات الأمريكية والأطلسية، والمتمثل في الحركية والمباغتة، وهو ما يعطي تنظيم داعش الفرصة لاستخدام "العمليات الأقل تكلفة" من خلال العمليات الانتحارية في العاصمة كابول أو اللجوء إلى استهداف المؤسسات الرسمية والمنشآت الحيوية باستخدام صواريخ كاتيوشا كما حدث في الهجوم على مطار كابول غداة الانسحاب الأمريكي الذي أسفر عن مقتل 170 شخصًا.
ثانيًا: ساحل-ستان وطالبان إفريقيا .. إلى أين؟
إذا حاولنا أن نأخذ المفاتيح الجيوسياسية لتحليل سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان وانعكاساتها المستقبلية على الجماعات الإسلامية والتنظيمات الإرهابية في إفريقيا، فإننا سنركز حتما على المتغيرات الأساسية الثلاثة، أولها، أن البعد الجغرافي السياسي لأفغانستان سيبقى محددًا للتفاعلات الإقليمية والدولية، بغض النظر عن الفئة الحاكمة في كابول، من النظام الملكي، الشيوعي أو الإمارة الإسلامية، بحيث تبنى استراتيجيات القوى الكبرى في تعاملها مع طالبان بالمنطق الجغرافي باعتبار أفغانستان "الدولة العازلة أو المانعة" التي فرضتها سياسات تقسيم النفوذ في آسيا منذ معاهدة بيترسبورغ بين بريطانيا وروسيا لسنة 1907م، وهو المنطق الذي حكم السلوك الأمريكي في فترة الاستعمار السوفياتي لأفغانستان وما بعده، والقائم على تحييد كل القوى المنافسة التي يمكن أن تهيمن على رقعة الشطرنج الكبرى "أوراسيا"، حيث تشكل أفغانستان منطقة عازلة لتحالفات القوى المستقبلية المتحدية للمكانة الأمريكية، لا سيما الصين وروسيا، وهو ما يجعل من طالبان مجبرة على قراءة الجيوسياسية لأفغانستان ماضيًا، حاضرًا ومستقبلاً للحفاظ على بقائها. وعليه، فإن إفريقيا تشكل في ظل هذه المقاربة الجيوسياسية منطقة الحافة بأوراسيا، تتأثر سلبًا بجوهر الصراع القائم في جبال طورابورا وقندهار وكابول، في إطار التنافس الدولي على المجالات الحيوية والموارد ذات البعد العالمي. ثانيًا، إن التوجه المحلي لحركة طالبان بالرغم من العلاقات الضبابية التي تبقي ترابطها بتنظيم القاعدة ستؤثر على التنظيمات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة لا سيما في منطقتي الساحل الإفريقي والقرن الإفريقي، مع تصاعد حدة الصدام القائم بين طالبان وداعش-خرسان بنفس الحدة التي ستتحرك فيه الجماعات الإرهابية الموالية لداعش في إفريقيا للتنافس على المجالات الحيوية بحثا عن التمويل لتجنيد المزيد من المقاتلين لإضعاف الدولة الوطنية والتنظيمات الموالية للقاعدة. أما المفتاح الجيوسياسي الثالث الذي يمكننا من فهم مستقبل التحولات في إفريقيا، يقوم على قناعة فكرية وهي أن القوى المتنافسة على المجالات الحيوية في إفريقيا ستبقى تتلاعب بتجنيد المقاتلين ونقلهم من بؤرة نزاع لأخرى، لإضعاف الدول الإفريقية المتحدية للنفوذ القائم ومحاولة استبداله بنفوذ آخر، وللتوضيح أكثر، فإن تراجع النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا لصالح الصين وروسيا قد يجعلها تبني تحالفات خفية مع تنظيمات إرهابية لتحييد المنافسة الدولية على موارد تحسبها فرنسا من أمنها القومي، لاسيما اليورانيوم، الذهب والألماس المنتشر في منطقة الساحل الإفريقي التي أضحت نموذجًا لأفغانستان بسبب فراغ السلطة وتكالب الجماعات الإرهابية على تدمير كل المؤسسات السيادية للدولة.
وبغض النظر عن المواقف الحماسية المعبر عنها من قبل الجماعات الإرهابية الإفريقية المقربة من تنظيم القاعدة التي سارعت لمباركة "النصر المبين" الذي حققته طالبان على القوات العسكرية الأمريكية-الأطلسية، فإنه باستثناء الدافع المعنوي الذي يمكن أن يحرك تلك الجماعات لمواصلة قتالها لا سيما في منطقة "ساحل-ستان" ضد التواجد الفرنسي الذي بدى بنفس المنطق الأمريكي، إعلان انسحاب قوات برخان المنتشرة في خمس دول ساحلية، فإنها لا يمكن أن تستفيد ماديًا أو لوجيستيا من حركة طالبان، ربما باستثناء إعادة المقاتلين التابعين للقاعدة في أفغانستان نحو المناطق الإفريقية لإثبات حسن نية طالبان تجاه المجتمع الدولي، بأنها قد تخلت نهائيًا على كل المقاتلين التابعين للقاعدة. وفي هذا الإطار، فإن صراع الولاءات بين الجماعات الإرهابية سيطفو للسطح أكثر من خلال العمليات الإرهابية، ويبدو الاتجاه المستقبلي سيكرس التوقعات الميدانية للإرهاب العالمي، كما جاء في التقرير السنوي الصادر عن مؤشر الإرهاب العالمي في نهاية 2020م، من أن تنظيم داعش سيبقى من أكثر التنظيمات الإرهابية تدميرًا في العالم، حيث نفذت جماعته ما يقارب 3 آلاف هجومًا إرهابيًا منذ تأسيسه في 48 دولة حول العالم، ويصنف تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا في المرتبة الأولى من حيث خطورتها وقدرتها على تنفيذ العمليات الإرهابية، كما تليه فرع داعش في طرابلس وبرقة وفزان والدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى في مالي، النيجر وبوركينافاسو. وبذلك سنشهد توقعات التقرير العالمي للإرهاب لسنة 2019م، الذي أشار إلى انتقال مركز ثقل داعش من الشرق الأوسط إلى القارة الإفريقية، وقد تساعد التطورات الحاصلة في أفغانستان في حالة التوجه الواقعي والبراغماتي لحركة طالبان بمحاربة التنظيمات الإرهابية الموالية لداعش وإبعاد القاعدة من الواجهة الميدانية لأفغانستان، إلى تعزيز هذه التوقعات استنادًا إلى المقولة الفزيائية التي تقول أن الجماعات الإرهابية مثل البالون البلاستيكي إذا ضغطت في جهة تنتفخ في الجهة الأخرى، بحثًا عن الهواء الفارغ، وتؤشر الكثير من التوقعات الأمنية أن القارة الإفريقية ستكون تلك الملاذات الآمنة التي تتنفس فيها الجماعات الإرهابية بعد الضغط عليها في العراق، سوريا وأفغانستان. وتمثل "بوكو حرام" النيجيرية التي يطلق عليها "طالبان إفريقيا" نموذجًا لسيطرة داعش على حساب تنظيم القاعدة، فبعد الصراعات الدموية بين جماعة بوكو حرام وداعش غرب إفريقيا، بايع التنظيم بعد مقتل زعيمه أبوبكر شيكاو داعش. وتمثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التي يقودها إياد أغ غالي، في شمال مالي والمرتبطة بتنظيم القاعدة أقرب الجماعات التي يمكن أن تحاكي نموذج طالبان، مستفيدة من ضعف السلطة المركزية في باماكو والانسحاب الفرنسي لعملية برخان العسكرية، مستغلة السخط الشعبي في منطقة الساحل ضد التواجد العسكري الفرنسي، مع احتمال توسيع دائرة تحالفاتها القائمة بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كتيبة المرابطون، جبهة تحرير ماسينا وجماعة أنصار الدين. إلا أن هذا السيناريو يبقى ضعيف جدًا لمحاكاة الإمارة الإسلامية الأفغانية في شمال مالي، لعدة اعتبارات، أهمها ضعف عدد المقاتلين والصراع المفتوح مع تنظيم داعش فرع الصحراء الذي ينتشر في منطقة غاو لمنافسة تمدد جماعة إياد أغ غالي، فضلاً عن المساحة الجغرافية الصحراوية المنكشفة التي عمقت من الصدامات الدموية ضد المدنيين والعسكريين فيما يعرف بالمثلث الحدودي الدامي بين مالي، النيجر وبوركينافاسو أين تتصادم فروع القاعدة بفروع داعش. وفي كل الحالات فإننا سنعود لمقولة بنازير بوتو وهي تخاطب الرئيس الأمريكي:" سيدي الرئيس لقد خلقنا فرانكشتاين الذي سيقتص منا ويطاردنا في المستقبل".