أقول لطلابي حول الثقافة، لها تعريفات كثيرة، ولكن تعريفي يقع كما المثال التالي: عندما تسير في شارع ملئ بالمحلات التي تعرض بضائع مغرية، عادة تكون زجاجات العرض مصقولة، بعضنا من شوق للنظر أكثر للبضاعة ترتطم رأسه بالزجاج! هي تلك الثقافة، هي حولنا تحد أو تشجع سلوكًا ما للإنسان ولكنها غير مرئية، هي تعيش معنا، ونبعت من تاريخ طفولتنا والمحيطين بنا وما نسمع أو نقرأ، كما أن دور الفرد في الثقافة له أهمية قصوى، فنحن تأثرنا بشخص ما، أب أو أم، أو أخ أكبر، أو أستاذ مدرسة وحتى زميل آخر، فدور الفرد في (غرس الثقافة) له أهمية لا تنكر. والقارئ للتاريخ الإنساني يجد بسهولة من الأدبيات المتراكمة حقيقة ثابتة وهي دور الفرد في قيادة التطور الاجتماعي والسياسي والإنساني والثقافي وهو دور مركزي في الكثير من المشاهد الإنسانية. كل تجارب التاريخ تدلل لنا على ذلك، وإن كان لذلك الفرد قناعة ورسالة في الحياة حملها نتيجة تجاربه فإنه لا يألو جهدًا في خوض المعارك والمنازلات في تحقيق تك الرؤية التي يحلم بها، وهنا يأتي إلى دور عبد العزيز حسين في الثقافة والمشروع الثقافي الكويتي، هو من ذلك الطراز الإنساني الذي حول مشروع الثقافة الحديثة، خاصة في المجال الثقافي في المجتمع الكويتي، دون تجاوز شخصيات أخرى من تلك الكوكبة الذين أسميهم (بناة الكويت الحديثة). هو من رحال من رجال زمن التحول كما هو وطنهم، الذي تحول من إمارة صغيرة إلى دولة فتية مكتملة الأركان، حدث ذلك قرب الخمسينات والستينات من القرن الماضي، قبل ذلك التاريخ قليلاً وبعده قليلاً، فقد قدم هو ورفاقه من مجتمع بسيط في التعليم والإدارة إلى أن تحول بجهده ورفاقه إلى وطن يسير في مسار التطور بخطوات حثيثة. لم يكن ذلك سهلاً أو يسيرًا لقد واجه عبد العزيز حسين وصحبه الكثير من العقبات ولكنهم بحكمة وتدرج استطاعوا أن يتخطوها. عبد العزيز حسين كمثال عاش في الجيل المخضرم والذي نشأ على الكفاف وفي اقتصاد محدود إلى فترة الوفرة والعيش الرغيد الذي بدأ من خمسينات القرن الماضي، عاش في تلك الفترة التي بدأت الكويت كمجتمع تفتح ذراعيها للتحديث وتنتقل من خلال تقاليد مجتمع محافظ إلى مجتمع حديث. كان معه رفيق دربه المرحوم أحمد العدواني من أوائل الطلاب الذين ذهبوا للدراسة في الأزهر أواخر ثلاثينات القرن الماضي 1939م، في أول بعثة طلابية كويتية، وكان الأزهر وقتها مكانًا للدين والدنيا إن صح التعبير ، وشهدت وقت ذاك مصر مرحلة مزدهرة تضج بالنقاش السياسي و الاجتماعي، وبرز فيها كتاب و مثقفون نهلوا من المنهج الغربي الحديث، كما شهدت مصر في فترة الحرب العالمية الثانية أحداثا كانت تموج بحمل التغيرات إلى المنطقة العربية وتشهد فورة إن صح التعبير في المناداة بالتحرر من الاستعمار ، في الوقت الذي كان الوطن الكويتي يحبو إلى مدارج التحديث من خلال فتح المدارس واستقبال المعلمين العرب ( فلسطينيين و مصريين) وبدأ تعليم الفتاة الكويتية والانفتاح على العالم، وتزامن ذلك مع أحداث كبرى في تاريخ الكويت وعلى رأسها اكتشاف النفط وتسويقه و ظهور فئة شبابية تنادي بالتحديث و التطور السياسي من خريجي مدارس بغداد وبيروت . وقد وجد عبد العزيز نفسه ورفاقه يواكبون التطور ويعيشون الظرف السياسي والاجتماعي بكل جوارحه، وينقلون التجارب كي يفيدون وطنهم .
لقد أخذت مثال عبد العزيز حسين كقاطرة للنهضة الثقافية الكويتية الحديثة، لأنه وصحبه وقع على كاهلهم إنشاء وتطوير المؤسسات الثقافية دون كما قلت تجاهل آخرين عضدوا المشروع التحديثي سواء من الأسرة الحاكمة أو من أبناء الشعب. ولعل الأمر لا يستقيم إلا بذكر كوكبة من المثقفين العرب أيضًا الذين أتوا في معية المشروع الثقافي الحديث، بعضهم كانوا أساتذة وآخرون صحفيون وكتاب بعضهم كان مقيمًا يعمل في الكويت، والبعض زائرًا محاضرًا، كان موسم محاضرات (الموسم الثقافي) لدائرة المعارف في خمسينات القرن الماضي غنيًا وقد جمع في كتب أرجو أن يقيض الله أحدًا من شبابنا لكتابة أطروحة أو كتاب عن تلك المواسم الثقافية الغنية.
الثقافة في الكويت
لعل اهتمام عبد العزيز حسين بالقطاع التعليمي والثقافي هو الذي حدد مساره في البداية، فقد تم إنشاء مجلس المعارف في الكويت عام 1936م، و كان يعتمد على التبرعات حتى وقتها، وفي عام 1945م، عين مشرفًا على المركز الثقافي الكويتي المسؤول عن الطلبة في القاهرة بعد نمو عدد الطلاب الموفدين للدارسة، ثم أصبح في عام 1952م، مديرًا لمجلس المعارف في الكويت ، واستطاع في هذا المركز أن يطور التعليم بما فيه تنظيم تعليم البنات والذي بدأ قبل ذلك ، وهي خطوة مهمة في سياق التعليم في الكويت، و ما أن تقدمت الكويت إلى الاستقلال حتى أصبح أول سفير لبلاده في القاهرة عام 1961م، ديسمبر، وفي عام 1963م، أصبح وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء الذي نشأ بعد الاستقلال ، واستمر في الوزارة بين فترة وأخرى حتى تقاعده . من هذه المسيرة نعرف أن الرجل تأثر كثيرًا بأحداث مصر وثورة 1952م، والأفكار القومية والتحررية والتقدمية ومزج بينها وبين الاعتدال والمواءمة بين متطلبات وطنه وبين تلك الأفكار، وأدى أعماله بأمانة ونظافة يد. لذلك طفق عبد العزيز حسين يقدم المبادرات الثقافية المتميزة في الكويت، وقد كنت من رواد ديوانيته مساء كل سبت مع الصديق المرحوم محمد مساعد الصالح لسنوات طويلة وقريبًا منه خاصة بعد أن توليت رئاسة تحرير مجلة العربي في عام 1982م، لقد سعى و تحقق له إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1973م، والذي نظم كمؤسسة العمل الثقافي في الكويت في كل مساراته وتم إصدار العديد من المنشورات الثقافية منها عالم المعرفة وعالم الفكر وإبداعات عالمية، و مجلة الفنون ( والتي مع الأسف أوقفت) كما رعى العديد من الأعمال الثقافية في المسرح و الفن التشكيلي، و بجانب العديد من الإنتاج الثقافي الذي سوف نعرض له في هذه الورقة، لقد كان المجلس الوطني رافعة مؤسسية للنشاط الثقافي في الكويت وأصبحت إصداراته الثقافية الزاد المهم للمثقفين العرب على كل الأرض العربية .
الصعود والعقبات: شهر مايو 2021م، كتبت على تويتر أبشر المتابعين بأن (كتاب عالم المعرفة) والذي يصدر شهريًا من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت سوف يصدر قريبًا (في شهر يوليو 2021) وقد توقف قسرًا بسبب الجائحة لمدة أربعة عشر شهرًا، لم أفاجأ بالاستقبال الممتاز للخبر حيث قام عدد من المتابعين بإعادة تلك التغريدة حتى وصلت إلى المئات تقريبًا. كتاب عالم المعرفة هو ربما من أكثر الكتب العربية الشهرية في العقود الماضية طباعة وتوزيعًا، حيث يطبع من كل عدد حوالي خمسين ألف نسخة وفي الأغلب يكون الكتاب مترجم من أصل أجنبي في موضع عام، ويباع بسعر زهيد وفي الغالب تنفذ، الأعداد بسرعة، وفي الوقت نفسه يوضع أي إصدار من السلسلة بعد شهرين على الشبكة الدولية من أجل الاستفادة العامة لقارئ العربية. هذه السلسلة من مجموعة مطبوعات أسست في الغالب في سبعينات القرن الماضي ورعتها الكويت ممثلة في المجلس الوطني للثقافة. في تلك المرحلة (أي في السبعينات) أنشئ بمبادرة كويتية عدد كبير من الإصدارات، و كان قد سبقها بالطبع إصدار مجلة العربي الشهرية، وأول عدد صدر منها كان في شهر ديسمبر 1958م. وقتها أيضًا حدث حدثان مهمان، ربما المهتم بالثقافة اليوم قد نسيهما، الأول احتضان الكويت لمشروع سمي وقتها (الخطة الشاملة للثقافة العربية) وكانت الفكرة نابعة من المنظمة العربية للثقافة و الفنون التابعة للجامعة العربية (الكسو)، و مولتها و نفذتها الكويت، فقد اجتمع على أرضها عدد وافر من أهل الرأي والثقافة العرب في عدد كبير من اللقاءات ومختلف التخصصات وتمت مناقشة الموضوعات وكتابة الخطة ثم الكتابة، حيث صدرت في وسط السبعينات في اثنا عشر مجلدًا (لا زالت موجودة في المنظمة وبعض المكتبات العربية) تلك المجلدات الهامة تم تأليفها وطباعتها برعاية كاملة من الكويت، في نفس الوقت ( منتصف السبعينات) عقدت ندوة لمفكرين عرب احتضن رعايتها المجلس الوطني للثقافة و جمعية الخريجين الكويتية تحت عنوان (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) أبريل عام 1974م، هذه الندوة التي صدرت أعمالها في مجلد كبير رجع إليها العديد من الدارسين و النقاد، و لخصت وقتها أسباب التخلف العربي، ثم عدنا بعد ذلك فنظمنا ندوة في العشرية الثانية من القرن لدارسة ما خلصت إليه الندوة الأولى. وجدير بالذكر أن الكويت ساهمت مع عدد من الدول العربية في إنشاء ورعاية مركز هام تابع لجامعة فرنكفورت يعتني بالتراث الحضاري الإسلامي ذلك غيض من فيض والذي شهدته الكويت من نهضة ثقافية كبيرة في العقدين السادس والسابع ومن القرن الماضي.
أسباب النهوض والكبوة
كانت أسباب النهوض كثيرة و متداخلة، منها أن الكويت شهدت في ذلك الوقت زخمًا سياسيًا وثقافيًا عائدًا إلى قرب خروجها من ظل الحماية البريطانية وأيضًا إقرار و تفعيل الدستور الديمقراطي عام 1962م، ووجود نخبة من المستنيرين الكويتيين التي وصلت طلائعهم المتعلمة إلى البلاد تباعًا من العواصم المختلفة التي بعثوا إليها للدارسة، وتم افتتاح أول جامعة محلية 1966م، وشهدت البلاد تطورًا في الصحافة التي ساهم فيها العديد من الكفاءات العربية، ومن جهة أخرى الضغوط الذي شهدها الفضاء السياسي المصري عند احتدام الخلاف على (التفاوض مع إسرائيل) بعد حرب عام 1973م، مما جعل عددًا من المثقفين المصريين يغادرون بلدهم إلى الكويت، فشكلت نخبتهم الأساس الذي بني عليها مشروع النهضة الثقافية فأفادوا الحراك الثقافي و كان جلهم من أهل الاستنارة والتحرر ، بجانب مجموعة من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين ومن بلدان عربية أخرى والذين وجدوا سقفًا مريحًا للتعبير عن آرائهم بحرية نسبية كبيرة في الكويت، خاصة في إطار عوامل (الدفع) في بلدانهم، و التي كانت تشهد تضييقًا على الحريات وتحريم الرأي خارج الإطار المسموح من الدولة . تلك العوامل سمحت لتكوين تيار (عروبي ومستنير) قاد في كل تلك المرحلة مجالات النهضة الثقافية المتعددة بجانب مساعدة عناصر محلية تفاعلت إيجابيًا مع هذا الوضع وساهمت في تعضيده، ورفدت الصحافة الحرة كل ذلك بالتأييد والدعم. لم يكن هناك أجندة خاصة بالكويت أو الكويتيين، كانت الأجندة عربية تبحث عن أسباب القصور في الوضع العربي وتناصر بقوة القصية الفلسطينية. في هذا الجو من الحرية بدأت أفعال سياسية تتفاعل في الجوار الجغرافي، احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان ( ديسمبر 1979م) و نشوء و تطور حركات تحررية في جنوب اليمن وعبر عمان ( حركة ظفار) و كلاهما متأثر بشدة بالأفكار الاشتراكية و بل بالماوية وقتها، في المقابل فإن احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وتوجس بعض الأنظمة العربية من التيار اليساري المتنامي جعل من إمكانية تطور وتوسع جماعات منتمية إلى الدين تسمى بالجماعة الدينية السياسية، بتنوعها السلفي أو الإخواني، و شد عضد تلك الجماعات الدعم الذي حصلت عليه بشكل مباشر أو غير مباشر من الدولة قاطبة في الخليج بما فيها الكويت، كانت أجندة تلك الجماعات جمع التبرعات للمجاهدين في أفغانستان و تجنيد من يرغب لحمل السلاح أو المساهمة في العمل الخيري، صاحب ذلك حملة ضد كل ما هو مستنير و تقدمي، وتسللت فكرة الصحوة من خلال أعضاء سابقين في حركة الإخوان المسلمين المصرية و الذين فروا إلى الكويت من ضمن الجماعات التي وفدت إبان الحملة عليهم في مصر ، وكان كثير منهم قد عمل في التدريس ووجد أرضًا خصبة في الجيل الجديد الغض الذي تلقى تعليمه منهم. ما لبثت تلك الجماعات التي تكونت من غير كويتيين وكويتيين ، أن قررت خوض غمار السياسية و قدمت في وسط الثمانينات مرشحين لها بجناحيها ( السلف و الإخوان) وفاز بعضهم، الأمر الذي جعل أحد أهدافهم المشتركة تصحير المناخ الثقافي المستنير و قلبه إلى ( فكرة الدعاة) و ( الداعية) للنوع الذي يعتنقونه من الإسلام السياسي، و محاربة أي أفكار تحررية، ولأن المجتمع أصلاً هو مجتمع محافظ وبسبب نمو ( الدعوة ) في المدارس سرعان ما تحول طلاب و طالبات الجامعة إلى ( إرسال الذقن وتقصير الجلباب و الفتيات ارتداء الحجاب) على أن ذلك هو الشكل الصحيح للرجل و المرأة المسلمة، وتعاظمت الخصومة مع الآخر في المجتمع إلى درجة تحريم قراءة الصحف المخالفة أو تتبع بعض النشطاء من المتشددين لما يعرض في معارض الكتب المتعاقبة وشيطنتها، وأشيع جو من التخوف لدى السياسيين الممارسين من كل ذلك، فخضع بعضهم إلى ذلك التيار وشدد الرقابة حتى غير المعقولة وسيطر جو من التشدد حتى بين الشباب مما جعل أي رأي مخالف يتهم بالتكفير ويستحق النبذ، إلى درجة أن أحد الفنانين التشكيليين الكويتيين بعد وفاته مباشرة دخل ابنه إلى ورشته و كان فيها عدد من المنحوتات وأخذ في تحطيمها جميعًا بل منع بعض المبدعين من الأدباء استلام جوائز ثقافية مستحقة لهم، و تراجع المسرح الكويتي الذي ازدهر قبل ذلك كما تراجعت الأغنية والإنتاج الموسيقي لأن التشدد اعتبر كل ذلك من النشاطات الثقافية التي لا تتناسب مع ما يعتنقونه من آراء من خلال تفسيرهم .
عقد الثمانينات في الكويت كان عقدًا عاصفًا بمعنى الكلمة، فيه بدأت الحرب العراقية ــ الإيرانية ( 1980 – 1988م) وكانت الكويت قريبة من مسرح الأحداث جغرافيًا و سياسيًا، فقد كان على الكويت ولو أنها لزمت الحياد المعلن، ساعدت المجهود الحربي العراقي و أيضًا الدبلوماسي، مما ترك شقًا بين أغلبية في الكويت التي تناصر العراق، وأقلية تناصر إيران، وهم جماعات ضاغطة من الكويتيين وغيرهم، وأصبحت الكويت مسرحًا للصراع الخفي بين قوى غير ظاهرة، وعانت البلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية بالتالي ثقافية، في السنوات الأولى من الثمانينات ضغطت جماعات الصحوة من أجل فصل كلية الشريعة عن القانون و أنشئت في عام 1982م، كلية الشريعة منفصلة عن القانون والتي تطورت بعد ذلك لتكون مكانًا للتشدد السني بشكلية ( الإخواني و السلفي) والمدارس المختلفة بينهما، وقد تدفق الخريجون من تلك الكلية فزودت الجماعات السياسية بقدرة شبابية و تنظيمية كبيرة . طوال العقد زاد الاحتقان السياسي والاجتماعي وفي 25 مايو 1985م، تمت محاولة اغتيال لأمير الكويت وقت ذاك المرحوم الشيخ جابر الأحمد الصباح ، وكان المنفذون من الشيعة العرب من لبنان والعراق بسبب ادعاء إيراني أن الكويت من جهة تساعد العراق وفي نفس الوقت تضغط على المكون الشيعي الداخلي، مما ساهم في تصاعد الاحتقان في المجتمع وفي الصحافة أدى كل ذلك لحل مجلس الأمة الذي انتخب في عام 1985م، وكان ذلك في يونيو 1986م، وهذه المرة على عكس السابقة الذي كان الحل مؤقتًا إما الأخيرة فقد كان دون سقف زمني، مما صعد في الاحتقان في النصف الثاني من عشرية الثمانينات، هذا ( الذي سمته القوى السياسية) انقلابًا، وقُدمت جائزة للقوى المتشددة، حيث دخل في الحكومة التي تلت الحل ممثل لجمعية الإصلاح الاجتماعي (إخوان مسلمين) مما شدد في مراقبة النشاطات الثقافية والتي تعتبرها تلك الجماعات خارجة عن ( تعاليم الإسلام) من وجهة نظرها، وبقي ذلك التوتر الاجتماعي حتى نهاية العشرية عندما قام النظام العراقي باحتلال الكويت في 2 أغسطس عام 1990م، و كان بذاك كارثة على الكويت وعلى كل ما تحقق لها في السابق، وأصبح الكويتيون إما اسرى في وطنهم أو مشردين في عواصم العالم. وحتى بعد التحرير بقيت فكرة (التشدد) تُسمع صداها، فقد ظهر في الأفق فكرة تعزز التشدد بأن الاحتلال قد حصل كونه نتيجة طبيعية (لترك الكويتيين لأصول دينهم!) طبعا ذلك قريب إلى الوهم، ولكنه استخدم كرافعة للنيل من المجتمع وخاصة النشاط الثقافي. أخطأ الإسلام السياسي في التعامل مع الاحتلال، فقد قام تنظيم الإخوان الدولي، وكان الفرع الكويتي جزءًا منه، قام بالدعوة إلى وضع (قوات إسلامية) في الكويت إرضاءً لصدام حسين وإنقاذًا له، مما شكل الكثير من المعارضة لهذا التيار في المجتمع الكويتي، إلى درجة أن التنظيم المحلي أعلن انفصاله عن التنظيم الأم وشكل (الحركة الديمقراطية الإسلامية الكويتية). وهو انفصال شكلي فقط ثبت بعد ذلك أن الوصل لم ينقطع!
بعد التحرير دخل المجتمع والدولة في دوامة الإعمار والتقاط الأنفاس، فلم يكن الوقت و لا المزاج الشعبي له قابلية للعناية بالثقافة وأدواتها، إلا أن العمل الثقافي التقليدي استمر من خلال المطبوعات المختلفة، مع خروج عددًا كبيرًا من العرب من الكويت أثناء الاحتلال وبعد التحرير لأسباب اقتصادية أو سياسية أو شخصية أثر سلبًا على سوية الكوادر وسوية المنتج الثقافي، وسرعان ما بدأت المؤسسات الثقافية تبتكر برامج جديدة منها ( ندوة القرن السنوية) الثقافية والتي كانت تضم برنامجًا طويلاً لمدة 21 يومًا في كل عام تتخلله مجموعة نشاطات ثقافية مختلفة و يدعى إليها من المثقفين العرب من كل الدول العربية، كما قامت مجلة العربي أيضًا بمبادرة وهي ( ندوة العربي السنوية) إلا أن تلك الجهود أخذت وقتًا طويلاً للوصول إلى مرحلة التعافي
ظهور المنافسة
تزامن ذلك الجو الخانق للثقافة في الكويت مع ظهور مشروعات ثقافية أخرى مؤثرة في الجوار، فقد أصدرت مثلاً دولة الإمارات العربية المتحدة مشروع ترجمة وتوزيع المجلة الثقافية الأشهر في العالم وهي المجلة الجغرافية National Geographic magazine وهي مجلة أمريكية بالغة الأهمية و صدرت من جديد مجلة الدوحة في قطر ، كما قدمت المملكة العربية السعودية مجموعة من المشروعات الثقافية المتميزة زادت في الفترة الأخيرة غنىً و كثافة، و في البحرين وعمان ظهرت مشروعات ثقافية ملفتة، كل ذلك بجانب تطور التقنية والتي قامت وتقوم بدور متعاظم سواء في النشر أو نقل الأفكار بسهولة ويسر ، حتى أصبحنا في زمن لا تنفع فيه ( الأسوار العالية) من الرقابة المختلفة الوسائل .
مرحلة التعافي:
يمكن القول بعد ثلاثة عقود من الاحتلال أن العمل الثقافي في الكويت بدأ يتعافى جزئيًا ولكنه لا زال يعاني من ثقل تأثير ( قوى الإسلام السياسي) والتي زاد تمثيلها في الندوة المنتخبة ( مجلس الامة) و في تأخر أولوية العمل الثقافي في أجندة الدولة بشكل عام، كما أن التطور التقني الضخم الذي تم في العقدين الماضيين قد فتح أبوابًا للاتصال و النشر و التواصل لم تكن موجودة في السابق، وقد تم في السنوات القليلة الماضية إقامة منشآت ومراكز ثقافية عديدة منها ( مركز جابر الثقافي ) وهو مركز ضخم متعدد الصالات والمسارح تقام فيه فعاليات كثيرة، و كذلك مركز ( عبد الله السالم ) و الذي ضم متحفًا وصالات متعددة الأغراض و ضخم المساحة، كما أنشئت المكتبة المركزية ( كان مخطط لها قبل الغزو وتم إكمالها بعده) وفيها العديد من الصلات والمسارح بجانب كونها بيتاً للكتب وضمت عددًا من الكتب النادرة و مكتبات عدد من الكويتيين من الجيل الأول وتحتوي على عدد ضخم، وفي القطاع الخاص بُنيت مكتبة البابطين للشعر العربي و أيضًا مؤسسة البابطين الثقافية و كذلك مؤسسة سعاد الصباح الثقافية للنشر ، وربما تحتاج الكويت لعمل وجهد استثنائي للعودة إلى مركز إشعاعها في سبعينات القرن الماضي، وهناك من أبنائها الراغبين والقادرين على تحقيق ذلك .كما شهد العمل الجامعي في الكويت نهوضًا ملفتًا بالسماح لفتح الجامعات الخاصة، والتي بدأت تساهم أيضًا في الفضاء الثقافي ولا زالت تفعل .
الخلاصة
العمل الثقافي نشاط لا يستغنى عنه المجتمع ويحتاج دائمًا إلى رعاية من الدولة والمؤسسات الخاصة إلا أنه يقدم إن فعل بالشكل الصحيح رافعة هامة للتنمية في البلاد وأيضًا يعمل على تلاحم المجتمع ويشيع جوًا من الألفة والتعاضد، ومن جهة أخرى يمكن للنشاط الثقافي أن يعمل كرافعة للتنمية التي يرجوها المجتمع.