array(1) { [0]=> object(stdClass)#12958 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 169

يناير 2021: محطة قطار الفاشية في أمريكا والإقبال على مفترق طرق

الخميس، 30 كانون1/ديسمبر 2021

لعلَ أهم حدث هذا العام ذلك الذي حدث في الولايات المتحدة الأسبوع الأول، من هذا العام. في السادس من يناير الماضي، حدث اجتياح من قبل أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمبنى الكابيتول، حيث كان نواب الشعب وشيوخه مجتمعين للتصديق على نتيجة الانتخابات الرئاسية، التي أجريت في الثالث من نوفمبر 2019م.

 

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لم يعترف بنتيجة تلك الانتخابات زاعماً تزويرها، للحؤول دون بقائه في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية. من وجهة نظره ونظر أنصاره في الحزب الجمهوري وقاعدة عريضة من الجمهور الأمريكي المحافظ، التي صوتت له في تلك الانتخابات: أن نتيجة تلك الانتخابات لم تُزوّر فحسب، بل إن جريمة سرقة كبرى حدثت تسببت في خروجه من البيت ليأتي رئيس ديمقراطي جديد لينزل البيت الأبيض، بدلاً منه. لذا، فإنه لن يعترف بنتيجة تلك الانتخابات، وظل متمسكاً بموقفه هذا إلى اليوم، وربما إلى موعد الانتخابات القادمة نوفمبر ٢٠٢٤م، حيث يأمل أن يعود إلى البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، أو حتى قبل ذلك!

 

الطعن بنتيجة الانتخابات

 

أربعٌ وأربعون رئيساً أمريكياً، قبل الرئيس دونالد ترامب، نزلوا البيت الأبيض، منذ الاستقلال، ولم يحدث أن زعم أحدُ منهم تزوير نتيجة الانتخابات، وإن خرج القليل منهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة عن عرف المشاركة في تنصيب خلفهم من الرؤساء الأمريكيين. بالتحديد، هناك ثلاثة رؤساء تغيبوا عن حفل تنصيب من خلفهم من الرؤساء وهم: جون آدمز (١٧٩٧-١٨٠١) أندرو جونسون (١٨٦٥-١٨٦٩) وجون كونسي آدمز (١٨٢٩-١٨٢٩).  

 

قد يبدو الامتعاض من عدم انتخاب أولئك الرؤساء لمرة ثانية، وهو القاسم المشترك بينهم وبين الرئيس دونالد ترامب، إلا أن التاريخ لم يسجل أن أي مرشح للرئاسة الأمريكية طعن في نتيجة الانتخابات بزعم تزويرها، وتسبب في انقسام كبير في المجتمع الأمريكي وضرر كبير بإرث الديمقراطية الأمريكية العتيد، مثل الرئيس ترامب.

 

كما أنه، لم يبد أي رئيس أمريكي رغبة مستميتة للبقاء في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، كما أبداها الرئيس ترامب. القاعدة العرفية والدستورية في هذا الشأن تؤكد على اختيار الإرادة العامة فيمن يبقى أو يخرج من البيت الأبيض، لا أن يكون ذلك نتيجة لرغبة أو هوىً من قبل أي طامع أو ساعٍ لتبوء ذلك المركز المرموق، الذي تتعدى اهتمامات سياسته العالم بأسره، بوصف الرئيس الأمريكي أقوى شخص في العالم، وليس فقط الولايات المتحدة.

 

  عقدة وهم النجاح المفرطة

 

للرئيس ترامب قولاً مشهوراً له، قال فيه الانتخابات الصحيحة هي تلك التي أفوز بها، وإذا حصل أني خسرتها، فإن ذلك بفعل التزوير فقط، وليس غير التزوير! حتى إن هذا المزاج المسيطر عليه بالفوز دائماً، النابع من "نرجسيةً" مفرطة، ظهر من بداية فوزه الأول بانتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية، ليصبح مرشح الحزب في انتخابات ٢٠١٦م، عندما أعلن: أنه لن يعترف بفوز السيدة كلنتون بتلك الانتخابات لو حدث أن فازت بها، لأن نتيجة الانتخابات عندها تكون مزورة! لكن الناخب الأمريكي حسم تلك الانتخابات وأتى به إلى البيت الأبيض، دون تكلفة الولايات المتحدة عناء الدخول في جدل "موضة" تزوير الانتخابات، التي تعتبر "ماركة" سياسية مسجلة، للرئيس ترامب.

 

لم يكن سهلاً على الرئيس ترامب أن يخرج من البيت الأبيض، ولا يبقى فيه لفترة ثانية… بل أنه يمكن الزعم: أنه لن يقبل الخروج منه، مطلقاً، مع ما قد يتطلبه ذلك من تغيير في الدستور الأمريكي، الذي يربط البقاء في منصب الرئيس لفترتين فقط. لقد عبر يوماً عن إعجابه بالنظام الشيوعي الصيني وعن حسده للرئيس الصيني " شي جينبنج "، عندما صوتت الجمعية الوطنية الصينية (البرلمان) في مارس ٢٠١٨م، بالإجماع، عدا نواب لا يتعدون أصابع اليد الواحدة بين معارض وممتنع عن التصويت، لإبقاء الرئيس الصيني في الحكم مدى الحياة.

 

 

محاولة انقلاب فاشلة

 

الرئيس ترامب لم يتقبل خسارته الانتخابات بروح متسامحة تعبر عن الخضوع لإرادة الناخب الأمريكي، الذي قرر في انتخابات حرة استبدال رئيس برئيس آخر، بل حاول أن يلتف حول نتيجة تلك الانتخابات، فيما وصف بأنه محاولة انقلابية على الدستور ومؤسسات الدولة المنتخبة، للبقاء في السلطة، بأي ثمن.

 

لم يكتف الرئيس ترامب وأنصاره ومحاموه، بالطعن في نتيجة الانتخابات، بل أقدموا على محاولات، لاستغلال سلطة الرئيس، في الفترة ما بين ٣ نوفمبر ٢٠٢٠م، وقت إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية والسادس من يناير ٢٠٢١م، موعد المصادقة على نتيجة تلك الانتخابات من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي، لتغيير نتيجة تلك الانتخابات لصالح بقاء الرئيس ترامب في البت الأبيض لفترة رئاسية ثانية.

 

لقد حاول الرئيس ومؤيدوه من الجمهوريين استغلال نفوذهم السياسي في الولايات التي خسرها الرئيس ترامب، فيما فُسر بأنها محاولة انقلاب دستوري، على النظام السياسي والممارسة الديمقراطية الأمريكية. وكان أبرز هذه المحاولات ما طلبه الرئيس ترامب شخصياً في مكالمة تليفونية مسجلة مع وزير الدولة في حكومة ولاية جورجيا للبحث له عن أصوات تفوق ولو بصوتٍ واحد عن تلك الأصوات التي حصل عليها المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن، ليتمكن من الفوز بالولاية.  

 

كانت حينها فضيحة مدوية، تشير إلى منعطف خطير تمر به الممارسة الديمقراطية الأمريكية، لم يحدث لها سابقة منذ إعلان الجمهورية، ولم يقدم عليها أي رئيس أمريكي من قبل، يعبر بهذه "الفجاجة" عن رغبة جامحة وغير متزنة، في البقاء في السلطة، رغم إرادة الشعب الأمريكي.

 

تسييس القضاء

 

القضاء مستقل في الولايات المتحدة، والقضاة ليس عليهم من سلطة إلا الدستور وهم محميون، من حيث بقائهم في مناصبهم العدلية وفيما يتقاضونه من أجور من الحكومة الأمريكية أو بالأحرى دافع الضرائب الأمريكي، طيلة حياتهم من أي تدخل للسلطات في عملهم أو أحكامهم، بأي وسيلة من الوسائل.

 

لكن القضاء في الولايات المتحدة الأمريكية ليس بعيداً عن السياسة، بصورة مطلقة. صحيح أن الأولية لتقلد المناصب القضائية للفقه القضائي، والخلفية القانونية العلمية، والمهنية الاحترافية اللازمة للجلوس على منصة القضاء، إلا أن هناك متغير سياسي مهم، تُعد ضرورية لبداية الدخول لسلك القضاء. في فترة الترشح للمناصب القضائية، يحتاج القاضي لتزكية وترشيح السلطة التنفيذية والمصادقة على ذلك من السلطة التشريعية، لتتم عملية التعيين في المحاكم الفيدرالية وفي المحكمة الدستورية العليا. من هنا فإن القضاة الفيدراليين وقضاة المحكمة الدستورية يتدخل المتغير السياسي في ترشيحهم وتعيينهم، إلا أن ذلك لا يمتد إلى التدخل في أحكامهم أو توقع خضوع أحكامهم لأهواء مؤسسات السلطة الأخرى، وفي مقدمتها السلطتين التنفيذية والقضائية، التي من سلطتهما ترشيح وتعيين القضاة في مستويات القضاء الفيدرالي والمحكمة الدستورية العليا.

 

من مدخل هذه الخلفية السياسية للقضاء الأمريكي كان الرئيس ترامب يعول على القضاء الأمريكي، خاصة في الولايات التي عين بعض قضاتها الفدراليين ذوو الميول المحافظة في عهده، خاصةً في الولايات ذات الخلفية الحزبية الجمهورية، مثل: جورجيا وأريزونا، ليرفع قضايا بالتزوير فيها. لكن القضاء المحلي في جميع الولايات التي خسرها ورفع فيها قضايا بالتزوير، لم يحكموا له، بالرغم من خلفية القضاة الجمهورية المحافظة… بل إن بعض المحاكم الفيدرالية في تلك الولايات، رفضت قبول دعاوى التزوير التي رفعها محاموه، بمجرد تقديمها.

 

حتى ما كان يأمله في المحكمة الدستورية العليا، التي يتفوق فيها القضاة الجمهوريون، بمعدل ثلاثة إلى واحد، منهم ثلاثة قضاة عينوا في عهد الرئيس ترامب نفسه، لم تلق دعاوى التزوير في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي رفعها أي فرصة، حتى النظر فيها.

 

محاولة تدخل الجيش

 

حتى الجيش، لم يتردد الرئيس ترامب في محاولة إقحامه في معترك السياسة في واشنطن، استغلالا لوضعه الدستوري كقائد أعلى للقوات المسلحة. كان المقربون من الرئيس ترامب يفكرون في إحداث فوضى عارمة في البلاد تعلن فيها حالة الطوارئ ومن ثَمّ يستدعي الجيش للتدخل، بحجة حفظ الأمن. لذا جرت في الفترة الأخيرة الاستعانة بالجنرال مارك فلن، الذي سبق وأدين من قبل السلطات العدلية بتعاونه مع جهات أجنبية للاستعانة بها في انتخابات ٢٠١٦م، وكذا قبول رشاوٍ من جهات أجنبية لخدمة مصالحها، في إدارة الرئيس ترامب. اتهامات وجهت للجنرال مارك فلن في الأسابيع الأولى من بداية إدارة الرئيس ترامب، دفعته لتقديم استقالته من واحد من أرفع المناصب في البيت الأبيض (مستشار الرئيس للأمن القومي).

 

من بين السيناريوهات، التي فكر فيها الرئيس ترامب ومؤيدوه: خلق توتر على مستوى النظام الدولي، بافتعال حروب محدودة في بعض بؤر التوتر مثل الخليج العربي وبحر الصين الجنوبي والبحر الأسود، لخلق حالة طوارئ وطنية، تسمح للرئيس ترامب إعلانها، ومن ثمّ تجاوز نتيجة الانتخابات، لو لفترة مؤقتة، قد تطول حتى لأعوام. وقد دعا رئيس الأركان المشتركة الجنرال (مارك ميني) لوضع الترتيبات للحيلولة دون التورط في حروب خارجية، وكذا محاولة الكونجرس الحؤول دون الرئيس والتحكم في شفرة الرادع النووي. كل ذلك دعا الجنرال مارك ميلي، يتصل بنظرائه العسكريين في الدول الكبرى الخصمة للولايات المتحدة، مثل روسيا والصين، لطمأنتها بأن الولايات المتحدة لا تنوي مهاجمتها، وأنه يتعهد بإبلاغهم بأي تطورات يمكن أن تستجد في هذا الأمر.

 

إجراء اتخذه رئيس الأركان المشتركة، على مسؤوليته الشخصية، تحسباً لإقدام الرئيس ترامب على عمل عسكري قد يضر بالأمن القومي الأمريكي، لا لشيء بل لمجرد الرغبة في البقاء في المنصب! هناك من الجمهوريين من اتهموا الجنرال مارك ميلي بالخيانة العظمى، لاتصاله بأعداء الولايات المتحدة، من خلف ظهر الرئيس وعلمه. وهناك من أشادوا بقراره هذا بأنه كان على حسب قوله: إجراء لحماية الدستور والبلاد، في وقت كان يمر فيه الرئيس الأمريكي بحالة من التوتر النفسي، بسبب نتيجة الانتخابات، ربما تدفعه لعمل أي شيء من شأنه أن يعرض أمن الولايات المتحدة القومي للخطر. أمرٌ يبدو أن الرئيس الجديد جو بايدن أقره، وأكد بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ثقته مجدداً في الجنرال ميلي والإبقاء عليه كقائد للقوات المسلحة الأمريكية.

 

مجرد التفكير في تدخل الجيش في الحياة السياسية، سواء بمبادرة من الحكومة، أو من الجيش نفسه، أمرٌ يثير الفزع، من شأنه أن يهدم أهم مرتكزات الدولة، بسيادة وفوقية السلطة المدنية على المؤسسة العسكرية، وتبعية الأخيرة الدستورية والعقائدية لرموز الدولة المنتخبين. السلطة، في المجتمعات الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة هي تعبير عن سيادة الإرادة العامة، لا مجرد السلطة الغاشمة، التي بيد المؤسسة العسكرية، بحكم امتلاكها وتحكمها في موارد القوة الصلبة للدولة.

 

وقع المحظور

 

في السادس من  يناير ٢٠٢١م، والكونجرس منعقد أو على وشك الانعقاد، للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، التي وردت إلى نواب الشعب وشيوخه في واشنطن، من جميع الولايات المتحدة الخمسين، هجمت جموع غفيرة من الجمهوريين المؤيدين للرئيس ترامب على مبنى الكابيتول بهدف اجتياحه لوقف عملية التصديق على الانتخابات، هاتفةً باسم ترامب ومنددةً بالديمقراطيين، حتى أن البعض حرض على قتل ( شنق ) نائب الرئيس مايك بنس، لأنه وافق على رئاسة جلسة مجلس الشيوخ للمصادقة على نتيجة الانتخابات، التي هي عادةً ما تتم كإجراء متبع، معروف النتيجة سلفًا. حتى أظهرت، بعد ذلك تسريبات أمنية عن محاولة لخطف نائب الرئيس، حتى لا يرأس تلك الجلسة، بعد أن تبين للرئيس ترامب بأن نائبه لن يستجيب لطلبه استغلال منصبه كرئيس لمجلس الشيوخ، بتغيير نتيجة الانتخابات لصالح!

 

هذا كله يحدث وهناك من الحزب الجمهوري والمؤيدين للرئيس ترامب، يحرضون الجماهير الغاضبة، على مواصلة القتال لمنع ما وصفوه بسرقة الانتخابات وإعادة تسمية الرئيس لفترة ثانية! وكان الرئيس نفسه في اللحظات الأولى قد شارك بنفسه على تحريض الجماهير الغاضبة للتقدم نحو الكابيتول، مؤكداً أنه سيكون معهم وأن حقهم في الدفاع عن أصواتهم التي سرقها الديمقراطيون في حاجة إلى القتال لاسترجاعه. إلا أن الرئيس ترامب لم يشارك الجماهير الغاضبة مسيرتهم تجاه الكابيتول، كما وعدهم، إلى أنه اكتفى بمراقبة الموقف عن بعد، رافضاً كل الدعوات، حتى من بين بعض الجمهوريين في الكونجرس الذين كانوا متواجدين داخل مبنى الكابيتول، لتدخله لوقف هذا التمرد، إلا أنه لم يستجب لهم معرضاً حياة نواب الشعب وشيوخه المنتخبين للخطر.

 

لم يستجب الرئيس ترامب لدعوات التدخل بفض التمرد إلا بعد أن جاء الحرس الوطني وتدخل لفض التمرد ورفع الحصار عن النواب والشيوخ المحاصرين، واستئناف عملية المصادقة على نتيجة الانتخابات. عندها طلب الرئيس ترامب من المتمردين وقف تمردهم، مؤكداً أنه يحبهم!؟

 

الفاشية من رحم الديمقراطية

 

ما كان لأحدٍ أن يتصور ما حدث يوم السادس من يناير ٢٠٢١م، في واشنطن، أنه حدث بالفعل. الولايات المتحدة التي كانت تتباهى بأنها زعيمة العالم الحر، يحكمها نظام ديمقراطي مستقر، يقوم على معادلة الفصل بين السلطات مرتكزاً على آلية التداول السلمي للسلطة، يحدث لها هذا الاعتداء من داخلها على تراثها الديمقراطي العتيد، من قبل أعلى سلطة سياسية في البلاد، تأبى أن تحتكم لإرادة الشعب وتصر على البقاء في السلطة، في تحدٍ سافر للدستور والقسم على المحافظة عليه وصونه.

 

مع ذلك مازال الرئيس ترامب مصراً على موقفه من أن الانتخابات زورت وأن البيت الأبيض قد سرق منه. حتى أنه بشر بعودته إلى البيت الأبيض، ليس عن طريق إمكانية ترشحه لانتخابات ٢٠٢٤م، بل حتى قبل ذلك!؟ بل إن الأمر وصل به لتحديد تاريخ معين لعودته "المظفرة" للبيت الأبيض، في شهر أغسطس الماضي، دون أن يفصح كيف يمكن له ذلك، وإن جاء الموعد ولم يحدث شيء.

 

الشعب الأمريكي، وبسبب تلك الأحداث الجسام، التي وقعت في السادس من يناير الماضي، يشهد انقساماً خطيراً في بنيته السياسية والاجتماعية تتحدى بشكلٍ خطير فرضية البوتقة الإنسانية، التي تنصهر فيها التعددية السياسية الاجتماعية والعرقية والطبقية للشعب الأمريكي، لتنتج هوية وطنية أمريكية متماسكة ومتينة.

 

الأنظمة الفاشية ليست وليدة عنف طبقي أو ديني أو اجتماعي أو تدخل وتمرد المؤسسات العسكرية في الدولة، إنها أحياناً قد تولد من رحم الديمقراطية، نفسها. النظام النازي في ألمانيا، جاء إلى الحكم عن طريق الديمقراطية في يناير ١٩٣٣م، إلا أنه لم يكمل الشهر، حتى أشعل النار في مبنى الرايخساغ (البرلمان)، ليتفرد هتلر بالحكم حتى هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وما ترتب على ذلك من احتلالها وتقسيمها وإذلالها.

 

الأنظمة الديمقراطية ليست محصنة من التحول إلى الفاشية. الديمقراطية تكون مقبولة عندما تحافظ الأغلبية على نسبة آمنة تضمن بقاءها في السلطة، وتكرس استبدادها بها. عندما تتراجع هذه النسبة تشعر هذه الأغلبية بخطر داهمٍ على مصيرها، فلا تمانع التحول إلى الفاشية للبقاء في السلطة. البيض الأنجلوساكسون البروتستانت التي يعرفن اختصارا، بـ الـ ( WASP ( بدأوا يشعرون بخطورة تنامي أعداد الأقليات من الأعراق والديانات والأجناس والألوان والثقافات الأخرى، خشية أن يتحولوا إلى أقلية في الولايات المتحدة، أو يفقدوا تفوقهم العددي في منطقة الأمان الحساسة، التي لا يساومون على تخطي حدودها، وهي في ٧٠٪؜ من مجموع عدد السكان. عند الاقتراب من هذه النسبة الحرجة تستعدي الأغلبية البيضاء هذه خلفيتها العنصرية، التي تزعم تفوقها العرقي، وقد تلجأ إلى خيارات "راديكالية" في محاولة مستميتة لاستعادة هيمنتها السياسية والاجتماعية، حتى لو كان الأمر يقتضي التخلي عن الديمقراطية والارتماء في أحضان الفاشية.

 

الرئيس ترامب، مع صقور الحزب الجمهوري، استغلوا هذه الموجة الشعبوية العارمة بين الغالبية البيضاء من الأنجلو سكسون البروتستانت، ليحيوا تاريخها وقيمها العنصرية، من أجل تحقيق طموحاتهم السياسية، وربما رأى الرئيس ترامب وأنصاره من الجمهوريين المتعصبين في أنفسهم هذا البديل السلطوي لإقامة نظام شمولي في الولايات المتحدة، يضمن بقاءهم في السلطة، للأبد.   

 

هل الولايات المتحدة ممكن أن تتخلى عن الديمقراطية لتصبح دولة شمولية بامتياز تحكمها طبقة سياسية متسلطة منظمة، تعيد إلى الأذهان حكم النازيين في ألمانيا والفاشيين في إيطاليا والشيوعيين في الاتحاد السوفياتي والعسكر في اليابان. احتمال، وإن كان بعيداً، إلا أنه وارد. ما يؤشر إلى احتمال هذا التحول السلبي، تجاه التوجه نحو الحكم الشمولي السلطوي في الولايات المتحدة رغم تجذر القيم والممارسة الديمقراطية في سلوك وضمير الشعب الأمريكي واستقرار مؤسسات الحكم بها، ما حدث في السادس من يناير ٢٠٢١م.

 

ذلك الحدث الجلل يظهر مدى هشاشة الديمقراطية وعدم ترسخ جذورها عميقاً في ضمير الشعب الأمريكي، خاصةً الأغلبية البيضاء، التي مازالت تؤمن بتفوقها العرقي. هذا الشعور بالتفوق والسمو العرقي، عن باقي أجناس الأرض، ليس حكراً على الأنظمة والمجتمعات الديمقراطية التقليدية في شمال أمريكا وغرب أوروبا واليابان، بل أنه موجود في ديمقراطيات العالم الثالث، أيضاً. الهند، التي ينظر إليها على أنها أكبر ديمقراطيات العالم، تجتاحها، هذه الأيام، حملة حكومية ممنهجة يقوم بها حزب جاناتا الحاكم ضد المسلمين في البلاد، لأن المسلمين في الهند بدوا يقتربون من النقطة الحرجة (حاجز الـ ٣٠٪؜ من السكان)، وهو ما يعتبر من قبل الهندوس خطراً على الأغلبية، التي يتمتعون بها في الهند. ما ذهب إليه المفكر الفرنسي أليكسس دي توكوفيل (١٨٠٥ – ١٨٥٩م)، الذي أبدى إعجابه بالتجربة الديمقراطية في كتابه "الديمقراطية في أمريكا"، حيث استبعد تطور أي شكل من أشكال استبداد الأغلبية بها، مما قد يحدث في الديمقراطيات التقليدية في أوروبا، فالخطر على الديمقراطية، يأتي من الممارسة الديمقراطية، كما يجادل.     

 

ما تظهره تحقيقات الكونجرس، هذه الأيام، في لجنة كشف حقيقة ما جرى في واشنطن يوم ٦ يناير الماضي، ستعطي صورة عن مدى كفاءة وفاعلية النظام السياسي الأمريكي، في الدفاع عن قيم وحركة الممارسة الديمقراطية في البلاد. المقياس هنا: مدى قدرة الشعب الأمريكي على تجاوز اختبار ما حدث في ذلك اليوم، أم أنه سيعمق الانقسام المجتمعي في داخله، الذي أحدثه ذلك الحدث الجلل.

 

الوقت، هو الاختبار الحقيقي، لمعرفة إلى أين تتجه التجربة الديمقراطية الأمريكية، التي يُقبل قطارها هذه الأيام على مفترق طرق، دون بوصلة إرشادية آمنة ودقيقة.

 

 

 

مقالات لنفس الكاتب