تُعد نتائج الدورة الحادية والأربعون للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية والتي عُرفت ببيان العلا( نسبة إلى مدينة العلا في الشمال من المملكة العربية السعودية و التابعة إدارياً إلى منطقة المدينة المنورة) والتي عُقدت في الحادي والعشرون جمادى الأولى1442هـ، الموافق الخامس من يناير2021م، والتي كان من أبرزها الفقرة الثامنة" من البيان الختامي الذي أكد فيه المجلس الأعلى حرصه على قوة وتماسك مجلس التعاون ووحدة الصف بين أعضائه لما يربط بينهما من علاقات خاصة وسمات مشتركة أساسها العقيدة الإسلامية والثقافة العربية والمصير المشترك ووحدة الصف التي تجمع بين شعوبها ورغباتها في تحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط بينهما في جميع الميادين من خلال المسيرة الخيرة لمجلس التعاون بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، الذي يؤكد على وقوف دوله صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس".
من خلال هذه الفقرة نستنبط مدى حرص الدول الأعضاء على تماسك واستمرارية مجلس التعاون ودعمه في بيئة تشهد الكثير من المتغيرات السياسية والأمنية في العالم والمنطقة بالأخص والتي تزامنت مع ما عُرف (بالأزمة الخليجية – الخليجية) التي اندلعت في شهر يونيو2017م، أما الفقرة العاشرة من البيان الختامي لبيان العلا فقد كانت بمثابة استشراف لما بعد تلك القمة المباركة من نتائج ملموسة على مسيرة دول المجلس والتي نصت على: " ترحيب المجلس بالتوقيع على بيان العلا والذي يهدف إلى تعزيز وحدة الصف والتماسك بين دول مجلس التعاون وعودة العمل المشترك الخليجي المشترك إلى مساره الطبيعي والحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة".
لقد مّثل بيان العلا خارطة طريق محدثة لمنهج دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية السلمي الداعي لحفظ الأمن في إقليم يشهد متغيرات أمنية متسارعة وخطيرة إن تركت بدون وقفة جماعية موحدة ضد مؤججي الصراعات الإقليمية ومؤيدي وداعمي الإسلام السياسي في المنطقة في الوقت الذي شهد فيه عام 2021م، المزيد من التنسيق الذي يعالج ملفات مهمة كالملفات الأمنية والسياسية في المجلس والأمن العسكري ما بين دول مجلس التعاون من أجل حفظ (الأمن الجماعي) الذي يعزز مسيرة العمل المشترك الساعي إلى الحفاظ على أمن واستقرار دول المجلس، ويمكن حصر بعض تلك الملفات المهمة التي تهم مخرجات بيان العلا كالتالي:
العلاقات الخليجية الإيرانية: لقد شهدت الفترة السابقة بعد اتفاق العلا مزيداً من التوتر على صعيد الملف الأمني الخليجي – الإيراني حيث مثلت المفاوضات ما بين الدول الغربية وإيران حول المفاوضات في الملف النووي الإيراني أهمية بالغة لدول مجلس التعاون مع إنها ليست طرفاً في المفاوضات ما بين الدول الغربية وإيران ولكنها من أهم المعنيين وبالدرجة الأولى بتأثيرات تلك المفاوضات النووية الغربية -الإيرانية والتي دعت دول المجلس في بيان مشترك صادر عن اجتماع المجلس الوزاري في دورته (148) للمجلس في الرياض بتاريخ 16 يونيو2021م، إيران إلى الانخراط في المفاوضات مع الدول الداعية له وتفادي محاولة التصعيد وعدم تعريض أمن المنطقة واستقرارها إلى المزيد من التوتر وكذلك التراجع في رفع نسبة تخصيب اليورانيوم الذي لا يمكن اعتباره برنامجاً مخصصاً للاستخدامات السلمية، كما أكد المجلس الوزاري على استعداده للتعامل وبشكل جدي وفعال مع الملف النووي الإيراني بما يسهم في تحقيق الأهداف والمصالح المشتركة في إطار احترام السيادة وحسن الجوار واحترام القرارات الأممية والشرعية الدولية من أجل ضمان تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
إن ما يهم دول المجلس هو الالتزام الإيراني التام بقرارات مجلس الأمن الدولي رقم (2241) بشأن الاتفاق النووي وما يتضمن من الأسلحة والصواريخ الهجومية البالستية، وكذلك الأنشطة الأخرى المصاحبة لزعزعة الأمن والاستقرار الخليجي ودعم الجماعات الإرهابية التي ترعاها وتدعمها إيران كــ (حزب الله، الحوثي، الحشد الشعبي) مع زيادة وتيرة الهجمات على السفن والناقلات في المضائق والممرات المائية ودعم العناصر والمجموعات الإرهابية المسلحة والتي تستهدف الأمن والسلم الأهلي (البحرين نموذج من خلال إلقاء الأمن البحريني للقبض على إرهابيين بحوزتهم أسلحة مصدرها إيران).
بالرغم من قيام دول المجلس بمبادرة تلطيف الأجواء تجاه إيران وذلك من خلال قبول الدعوة إلى حضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي هذا العام والتي أتبعها بعد ذلك زيارات لمسؤولين سياسيين خليجيين تلتها مبادرة سعودية تمثل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في إقامة مباحثات جادة ما بين الطرف السعودي ونظيره الإيراني وهو ما عبر عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان آل سعود عن تطلع المملكة نحو المستقبل لتطوير العلاقات الإيرانية – الخليجية إذ عبر في تصريح له بتاريخ 28 إبريل 2021م، بقوله:" نريد لإيران أن تنمو وأن يكون لدينا مصالح فيها ولديها مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار.
لقد جاءت الرغبة السعودية من خلال تصريح سابق في ظل عدم رغبة إدارة الرئيس الأمريكي الحالي (جون بايدن) من أجل توصل بلاده لاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي بينما حصل فتور في ذلك أدى إلى إحالة الموضوع إلى الشركاء الأوروبيين الذين يهمهم تقوية علاقاتهم الاقتصادية مع إيران لما لها من مردود تجاري ومالي واقتصادي على دولهم في سباق اقتصادي مع الصين وروسيا الاتحادية للظفر بالمشاريع الاقتصادية والتنموية في إيران من خلال وقوفهم ومساندتهم لها ولقد كان من أبرز ذلك التعاون هو الاتفاق (الصيني – الإيراني) للتعاون الاستراتيجي الشامل الذي أبرم في شهر مارس 2021م، والذي سوف يمتد إلى ربع قرن قادم بحيث يشمل التعاون الاقتصادي، السياسي، العسكري والأمني وقد تضمن ذلك التعاون استثمارات صينية على الأراضي الإيرانية في مشاريع الطاقة النووية والغاز مقابل حصول الصين على إمدادات ثابتة من النفط والغاز الإيراني.
تحديات العلاقات الإقليمية: اتخذت العلاقات السياسية الجماعية الخليجية أكثر تعاوناً بعد بيان العلا من إعادة بناء جسور الثقة حول التحالفات والمصالح إذ شهدت العلاقات الخليجية انفتاحاً وتطلعات سياسة واعدة نحو تركيا التي تشكل ثقلًا استراتيجيًا في الإقليم من خلال زيارة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد إلى أنقرة بنهاية شهر نوفمبر 2021م، التي شهدت توقيع (12) اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الجانبين وقد صاحب ذلك تأسيس صندوق استثمار إماراتي في تركيا بمبلغ عشرة مليارات دولار والذي سوف يكون هدفه الأكبر التركيز على الاستثمارات الاستراتيجية والتي على رأسها القطاعات اللوجستية والطاقة والصحة والغذاء، فيما سبق تلك الزيارة تنسيق مسبق مهد له مسؤول الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد في شهر أغسطس 2021م، كما تزامنت تلك الزيارة بزيارة وزير خارجية مملكة البحرين لتركيا والتي قام بتسليم رسالة خطية للرئيس التركي من العاهل البحريني، ويمكننا أن نفسر تلك الزيارات بأن تركيا لاعب إقليمي ذو ثقل سياسي لا يمكن إغفال دورها في العديد من الملفات الإقليمية، وقد اعتبرت تركيا نفسها الشريك الاستراتيجي لدول مجلس التعاون الخليج والتي أبدت فيها رغبة أنقرة في تطوير مجالات التعاون مع دول المجلس والمنطقة وقد ظهر ذلك من خلال ما أدلى بِه المتحدث الرسمي للخارجية التركية تانجو بيلغيتش ، فيما يأتي هذا الانفتاح الخليجي نحو سياسة استقطاب الحلفاء في المنطقة واستخدام أدوات القوة اللينة ، أو الناعمة تجاههم لا سيما وأن تركيا تواجه تحديات منها فتور العلاقات الدبلوماسية مع الغرب والاتحاد الأوروبي وارتفاع معدل التضخم وانخفاض غير مسبوق في قيمة عملة الليرة التركية.
ربما كانت المحطة المهمة في السياسة الخارجية مؤخراً مد خطوط التواصل مع الجمهورية السورية في محاولة لإعادة احتواء سوريا ضمن إطار جامعة الدول العربية، لذلك كانت زيارة الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية الإماراتي لتعطي دلالات واضحة بأن القطر السوري مهم جيوبوليتيكياً لدول مجلس التعاون الذي سبق تلك الزيارة إعادة افتتاح سفارتي الإمارات والبحرين في دمشق، إن ما يهم دول المجلس هو وحدة الأراضي السورية وأمنها وقد أكدت ذلك في مواقف دول المجلس وقراراته الثابتة بشأن حل الأزمة السورية وفقاً لمبادئ جنيف 1 في 3يونيو2012م، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم (2254) بتاريخ 18 ديسمبر2015م، والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا، تحرص دول مجلس التعاون على إعادة سوريا إلى مواقفها العربية الثابتة وأن لا تُستغل الأراضي السورية لتكون مرتعاً للأحزاب والمنظمات الإرهابية غير الحكومية، لقد كان الموقف الجماعي للسياسة الخارجية لدول مجلس التعاون تجاه لبنان واضحاً وجلياً حيث أثبت الموقف الخليجي بعدم قبول ما صدر من التصريحات اللبنانية المجافية للحقيقة تجاه دول المجلس وأن تدخل الدولة اللبنانية الشرعية في إدارة مرافقها هو ما تأمل منه دول المجلس وليس التعويل على المنتمين للأحزاب والمليشيات الخارجة عن نطاق الدولة، حيث أعتبر الموقف الموحد للسياسة الخليجية الخارجية بلا أدنى شك هو تماسك السياسة الخارجية لدول المجلس تجاه ما يمس أمنها وسلامة أراضيها ومازالت الدولة اللبنانية عاجزة عن ضبط ما يحدث على أراضيها من استغلال الأحزاب الإرهابية من توجيه الإساءة للدول الشقيقة والصديقة وأكبر دليل ما تم بخصوص التسهيل على بعض الهاربين من الأمن البحريني والمسقطة جنسيتهم من إقامة ملتقى لتوجيه الإساءة لدولة شقيقة وإيواء كل من شأنه أن يؤثر على الأمن البحريني.
لقد اتخذت دول المجلس مبدأ تعدد الأحلاف في توسيع دائرة تحالفاتها في منطقة الشرق الأوسط مما يخدم مصالحها السياسية والأمنية التي اتسع حيزها وأخذت حيزاً أوسع من خلال الاتفاقات الدبلوماسية التي وقعتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل في شهر سبتمبر2020م، والتي شكلت تقدماً في العلاقات السياسية في المنطقة في حين أن إسرائيل ومنذ عقد التسعينيات من القرن الماضي كانت تحتفظ بمكاتب تمثيل تجارية في بعض الدول العربية ومنها الخليجية (عُمان، قطر).
أن المُتتبع لسياسات دول المجلس الخارجية خلال العقد المنصرم و بعد اتفاق العلا تحديداً يكتشف بأن تلك السياسة تتجه إلى تعدد الأحلاف أو تعدد القطبية التحالفية في ظل تراجع الدور الأمريكي في المنطقة والذي كان قائماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بفعل نجاحها في تحقيق التواجد الفاعل في الإقليم حين كان هناك منافساً ونداً قوياً تمثل في الاتحاد السوفيتي السابق، وتم التحول من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية في فترة التسعينيات من القرن الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق حتى دخولنا في مرحلة بروز قوى جديدة منافسة للولايات المتحدة الأمريكية كالصين ودخول منافسين تجاريين كروسيا الاتحادية، الهند وأوروبا، إن هذا النظام الجديد المتعدد القطبية يدعو دول المجلس إلى تقوية اتصالاتها البينية واتباع سياسة خارجية واضحة المعالم تكون لها أهداف ومصالح تجنباً لعدم الركون إلى قطب واحد معين وعدم جعل الساحة الخليجية مسرحاً للصراعات ما بين قوى دولية وقوى نووية في ظل تراجع الدور الأمريكي الواضح في المنطقة أو ما يطلق عليه التقييد الاستراتيجي بفعل الإرهاق الاقتصادي، إن مفهوم نظرية توازن التهديد لـ ستيفين والت الذي أكد فيها بأن الدول في سعيها للحفاظ على بقائها وضمان أمنها القومي وذلك باعتبارهما الهدف الأسمى للدول في النظام الدولي الفوضوي تميل للتوازن وليس للتبعية أو تفضيل السلم على الحرب. وهذا يأتي من شعور الدول بالتهديد الخارجي في محيطها الإقليمي وهذا التهديد يكن بصور متعددة ومؤشرات واضحة في حجم القوة الإجمالية للدولة المهددة مقارنة بجيرانها، وكذلك من مصادر التهديد هو القرب الجغرافي والقدرات الهجومية العدوانية لتلك الدولة (التهديد النووي) وسوء النوايا(تصدير الثورة مبداً) لذلك تكون ردة الدول التي تشعر بذلك التهديد الموجه لوجودها وأمنها القومي أن تنتهج كافة الأدوات الاستراتيجية المتاحة لها لمواجهة ذلك التهديد الذي يكون بإقامة نظم تحالفات مع أطراف خارجية من أجل تشكيل تكتل دولي لمواجهة تلك التهديدات أو يكون بتوحيد الجبهات العسكرية تحسباً لأي مواجهة مع الدول أو الدولة المعتدية.
تأخذ دول المجلس الوضع الاستراتيجي الحالي موضع الجد وبعناية كبيرة وهو ما يخلق تحديًا لها للتعامل مع التهديدات الأمنية القائمة في المنطقة مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاتفاق الصيني – الإيراني يخلق لها هواجس أمنية مؤثرة على أمن المنطقة في ظل تعاملها مع الشرق الأوسط بعد الولايات المتحدة في ضوء تخفيض الولايات المتحدة تواجدها العسكري في منطقة الخليج العربي والتي أظهرتها تجربة ما سُمي بالربيع العربي وضعف مبدأ الاعتماد على القوى الخارجية لتوفير مظلة دفاعية فاعلة وقت الحاجة لها.
إن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في خضم مرحلة انتقالية في بنية النظام الدولي وذلك بسبب عدم الالتزام الغربي بأمن منطقة الخليج العربي الأمر الذي شجعها على تطوير الاستراتيجية الدفاعية العسكرية الخليجية المتمثلة في الدفاع عن النفس وذلك من خلال تنسيق السياسة الخارجية والسعي لاقتناء أحدث الأسلحة القتالية مع تنوع مصادرها من أجل زيادة كفاءة فاعليتها وعدم الاعتماد على مصدر واحد، وما يبرهن على ذلك هو الزيارات المكوكية التي قام بها ولي العهد السعودي ووزير الدفاع في شهر ديسمبر2021م، والتي تصب في توجه دول المجلس نحو سياسة خليجية نحو المستقبل وهو ما أسفرت عنه قمة مجلس التعاون 42 التي عُقدت في 14 ديسمبر2021م، في العاصمة السعودية الرياض من قرارات مهمة كتوحيد المواقف السياسية وتطوير الشراكات السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، وتنسيق المواقف السياسية لما يعزز التضامن واستقرار دول المجلس حفاظاً على مصالحها وتجنبها الصراعات الإقليمية والدولية ويعزز دور دول المجلس على الصعيدين الإقليمي والدولي، والسعي لاستكمال مقومات الوحدة الاقتصادية وتعزيز المنظومة الدفاعية والأمنية المشتركة، فيما أكدت دول المجلس في تلك القمة بأن تنفيذاً لما تضمنته المادة الثانية من اتفاقية الدفاع المشترك بأن الدول الأعضاء في مجلس التعاون تعتبر أن أي اعتداء على أي منها هو اعتداء عليها كلها وأن أي خطر يتهدد إحداها إنما يتهددهم جميعاً، وما نصت عليه الاتفاقية بشأن التزام الدول الأعضاء بالعمل الجماعي لمواجهة كافّة التهديدات والتحدّيّات.