array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 170

استراتيجية التعليم المتقدمة تمحو أمية المجتمع الفكرية والقِيَمية والعملية وتقدم مخرجات منتجة

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2022

  • التعليم أهم متغير لبناء الدول .. وتأسيس الحضارات .. وعنوان تقدم المجتمعات، وتشكيل الكيان الشخصي للإنسان. جميع الدول المتقدمة تنفق بسخاء على التعليم، بل قد يأتي التعليم في قمة إنفاق الدول المتقدمة، حتى أنه أحياناً يتفوق على الإنفاق على الدفاع والأمن، ويحظى باهتمام متقدم في سلم أولويات برامج التنمية في مجتمعاتها. التعليم، أيضاً: يحدد مكانة الدولة بين الأمم.. ويُعدُ أساس قواها الصلبة والناعمة.. والدعامة المتينة للذود عن أمنها.. وتأكيد هوية شعبها الوطنية.. والحارس الأمين على ثقافتها.. وتاريخها.. وإرثها الحضاري، والضمانة الأولى والرفيعة لاستقرارها واستمرارها وبقائها.

 

الاستثمار في التعليم

 

الاستثمار في التعليم، قد يكون مُكْلفاً، ومردود عائده بعيد المدى، إلا أن عائده، في النهاية، جزيل وممتد تتضاءل أمام جزالته تكلفة الاستثمار الباهظة فيه. التعليم يبني الإنسان، الذي هو المورد الأصيل في ثروة الأمم والشعوب، وهو عامل الإنتاج الأول، الذي تتوقف على كفاءته ومستوى إنتاجيته، عوامل الإنتاج الأخرى، بما فيها رأس المال، نفسه.

 

الإنسان المتعلم والمتدرب جيداً، هو من يبني المصانع وناطحات السحاب ومظاهر الحضارة والتقدم في مجتمعه ويساهم، بصورة إيجابية وبقيمة مضافة متراكمة في تطور التكنلوجيا، ومن ثَمّ الاستفادة القصوى من إمكانات وموارد الدولة الطبيعية والبشرية، بما يفوق أضعاف ما أُنفق على تعليمه وتدريبه، منذ أن كان طفلاً في مراحل التعليم الأولية، وحتى أضحى إنساناً منتجاً يساهم في تراكم ثروة بلده، كأهم أصول اقتصادها وأنفس موارد ثروتها.

 

الإنسان، بفطرته التي خلقه الله عليها، طاقة مهولة تتواضع أمام إمكاناته الذاتية وتنوع ملكاته وتعدد مواهبه، ما عداها من موارد الطبيعة الأخرى، بما يتجاوز بمراحل ما يتولد عن مصادر الطاقة الأخرى المتوفرة في الطبيعة. الإنسان يولد بإمكانات كامنة حقيقية ومحتملة، لا يمكن الكشف عنها وتقدير مدى ثرائها العبقري كطاقة منتجة، إلا بالتعليم. التعليم وحده، هو الذي يحول خام الإنسانية الكامن في شخصية الفرد، إلى معدن نفيس مبدع وخلاق غزير الإنتاج وافر الإبداع عبقري الخيال مهذب السلوك.

 

الدول تتنافس فيما بينها بمستويات تعليم مواطنيها، وإن كان ذلك يختلف تبعاً لموقف النخب الحاكمة، من فلسفة التعليم واستراتيجيته. هناك أنظمة سياسية تجعل التعليم في صدارة أجندة حكمها، كأهم وظيفة استراتيجية للدولة. وهناك أنظمة سياسية ترى نخبها السياسية تقليص نطاق مسؤوليتها الاجتماعية، بصورة عامة ومن بينها التعليم. لكن معظم الدول المتقدمة، سواء أخذت بتوسيع نطاق الوظيفة الاجتماعية للدولة، أو تقليص تدخل الدولة في العملية الاقتصادية أو أن تنأى بنفسها عن الزج في خيارات الناس وميولهم الاجتماعية والسلوكية، بما يقود إلى تقليص دعم الدولة للعملية التعليمية، إلا أن هناك قاسماً مشتركًا بين هذه الدول حول أهمية التعليم للنهوض بالأمة وتقدمها واستراتيجية مكانة التعليم التنموية لاستقرار وأمن مجتمعاتها.

 

كلما كان هناك اهتمام بأهمية التعليم فلسفةً واستراتيجيةً، في خطط التنمية، كلما كان هناك توجهاً يكاد يصل إلى الإجماع بضرورة الانفاق على التعليم وبسخاء بتسخير أكبر قدر من موارد الدولة للإنفاق على التعليم للرقي به كماً ونوعاً، مهما كانت الخلفية السياسية للنخب الحاكمة.

 

التعليمُ: علمٌ وتربيةٌ وتهذيبٌ سلوك

 

مما لا شك فيه أن وظيفة التعليم الأولى هي المعرفة العلمية. التعليم يوسع مدارك الإنسان لفهمِ الظواهر الطبيعية والاجتماعية المحيطة ببيئته الإنسانية، وبمكانته بين مخلوقات الله المختلفة، سواءً كانت حيوانية أم جامدة. العلم، في حدِ ذاته تراكم معرفي إنساني تَطَوّرَ تاريخياً بعلاقة الإنسان بمحيطه البيئي، بما فيه من مخلوقات حية وجامدة، سعى الإنسان لفهمها وتفسيرها ووضع نظريات علمية لإدراك كُنهها، بل وحتى لاستشراف حركة سلوكها. عن طريق التعليم، يعرف الإنسان نفسه، كما يعرف بيئته من حوله، وكذا ظواهر الطبيعة ويَطّلع عن طريق التعليم على أسرار الكون، بل وخلفية الوجود نفسه.

 

التعليمُ، هو عملية مستمرة، تهدف أساساً إلى مواصلة التراكم المعرفي في العلوم المختلفة، بهدف الاقتراب أكثر من فهم الظواهر الطبيعية، بما فيها معرفة الإنسان نفسه، بنفسه ولنفسه. العلم، في أيٍ من مجالات العلوم المختلفة، لن يبلغ الإنسان منتهاه، لأن ذلك فوق طاقة البشر وإمكانات مداركه العقلية المحدودة. فقط وعن طريق التعليم وحده، يقترب الإنسان أكثر وأكثر من العلم والمعرفة، لتسخير إنجازاته العلمية لخدمة السلام، وترويض الطبيعة، والاستفادة القصوى من موارد الطبيعة، بل وحتى الاقتراب إيماناً بالعليم الخبير، الذي ليس بعد علمه علم، وليس قبل علمه القديم، علم.

 

بدون التعليم، الفرد لا يمكنه أن يتبصر مصلحته، دعك من توقع تبصره لمصلحة مجتمعه. بل أن الفرد لا يستطيع تبصر حقيقة أن خدمته لمصلحته، هي في الأساس خدمته لمصلحة مجتمعه. الإنسان الجاهل لا يستطيع أن يتصور أن مصلحته الذاتية، هي امتداد لمصلحة مجتمعه. الإنسان الجاهل، بعدم قدرته على فهم هذا الترابط الطبيعي بين مصلحته ومصلحة مجتمعه، لا يمكنه استيعاب حقيقة التعددية في مجتمعه، وأن احترام هذه التعددية هو أساس استقرار أي مجتمع، حتى لا يستبد أحد برأيه ويتحيز لجماعته ويتطرف في فكره ويعتد كبرياءً بإمكاناته المتواضعة بطبيعتها، وكأنه خلق من طينة غير تلك التي خُلق منها بقية البشر، ومنهم من هم من بِضْعِ قومه وحتى أهله.  

 

التعليم يهذب سلوك الإنسان الذي لو ترك جهلاً لطبيعته الأنانية الجشعة، لما كان هناك مجتمعًا ولا عمرانًا ولا دولة. الدولة هي نتاج لهذا التبصر الأزلي بإمكانات الإنسان الخلاقة، وإلا ما غادر عالم الطبيعة الأولى، حيث البيئة المتوحشة، التي تسودها حياة الغابة بكل ما فيها من صراع وحروب على موارد الطبيعة المحدودة، التي بالكاد تسد رمق الإنسان، ولا تمتد إلى إشباع متطلبات جشعه و أنانيته، ولا ترتقي إلى مستوى تطلعاته وطموحه وإبداعه.

 

في الدولة وحدها، وهي أعلى درجات التجمع الإنساني، عاش الإنسان حالة السلام مع نفسه ومع من حوله، وكان التعليم هو الأداة الوحيدة والفعالة، التي دفعت الإنسان ليس فقط لاستيعاب موارد الطبيعة، بل طور في مراحل متقدمة التكنلوجيا، التي من خلالها توصل إلى مضاعفة عائد موارد الطبيعة وسخر بيئتها الأولية المتوحشة وتمكن من استئناسها. كل ذلك من أجل الرفع من مستواه المعيشي، فبنى السدود واستصلح الأراضي واكتشف إمكانات الزراعة وراقه استقرار المدن والحواضر، وودع حياة البداوة والترحال، وبنى المجتمعات وأسس الحضارات، بل وحتى غزا الفضاء. كل ذلك ما كان للإنسان أن يحققه، بدون التعليم، وليس سوى التعليم.

 

اللغة الثقافة التاريخ الهوية الوطنية

 

قديماً قال أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، لأنه من خلال ملِكة اللغة، يستطيع أن يتواصل مع الآخرين، وفي الوقت نفسه يكتشف مدى اختلافه عن الآخرين، ليس فقط في ملامح شخصيته الفيزيائية الظاهرة، ولكن أيضاً، اختلافه القِيمِي مع آرائهم ومواقفهم ومصالحهم وتطلعاتهم. هذا الأمر ضروري ليس فقط لبناء مجتمع متعاون يهدف لإشباع حاجات الجميع المادية والروحية، كما كان يقول أستاذه أفلاطون، بل لتأكيد تميز شخصية الفرد وتكامل قدراته ورقي إبداعاته، في مجتمعٍ تعدّديٍ يحكمه الاختلاف المادي والنوعي، لتحفيز المزيد من الابداع الخلاق لينتج في النهاية مجتمع مستقر تسوده قيم التعاون والتسامح والمصلحة المشتركة، التي هي في الأساس مصلحة الجميع.

 

اللغة، هي أداة التعليم الأولى، وهي أيضاً رمز الهوية الوطنية، لأي شعب من الشعوب. الأمم خلدت تاريخها كتابة بلغتها، حتى الشعوب الأمية، خلدت تاريخها عن طريق الشعر والقصص، وحتى الأساطير، بتواتر الروايات المنقولة سماعياً من جيل لجيل. كل جيل يستوعب بلغته تراثه وانجازاته وملاحمه وأيامه وفَخَارَه، عما سبقه من أجيال، ليضيف إليها وينقله للجيل الذي بعده، وهكذا يتواصل ويتراكم التراث الحضاري والثقافي للشعوب .. وتتحدد معالم الهوية القومية والوطنية للأمم والشعوب. 

 

بظهور الكتابة، سُجلت الهوية الوطنية للشعوب والخصوصية القومية للأمم. وإن كان التعليم هو التطور التاريخي الذي نتج عن هذا التقدم الوثائقي لتاريخ الشعوب وثقافتها، فإن اللغة هي المِداد الذي كتبت بأحرفه وزينت ببلاغته وتوجت بتجويده، الهوية الوطنية للشعوب والتراث الحضاري للأمم والثقافات.

 

اللغة هي أداة الاتصال المفهومة والبليغة لنصوص التراث ونظريات العلم وتأملات الفلاسفة وكتابة تاريخ الشعوب وتوثيق إنجازات الحضارات. اللغة، ليست فقط أداة اتصال لنقل نصوص التراث وشرح معانيه واكتشاف أسرار الإبداع فيه، اللغة، أكثر: هي رمز هوية الشعب وعنوان وطنية الأمة وفخر إبداعات المُبَرزين فيها. ليس هناك من بين لغات شعوب العالم مثل اللغة العربية في غنى مفرداتها.. وجزالة معانيها.. وإمكاناتها الاشتقاقية الواسعة.. وعمق وأصالة جذورها اللغوية الموغلة في التاريخ، بما لا تجاريها فيها أية لغة أخرى على وجه الأرض.

 

كما أن اللغة العربية لغة مقدسة، يُعزى إلى القرآن الكريم خلودها بخلوده وتكفل العناية الإلهية بحفظه، الذي تمتد إلى حفظها هي. لا يمكن لأي لغة في العالم أن تستوعب حكمة وربانية القرآن المجيد، غير اللغة العربية. لا تستقيم العبادات.. ولا تؤدى الفرائض.. ولا تَسْلَم العقيدة الصحيحة، إلا باللغة العربية. الله، سبحانه وتعالى أراد بالقرآن أن تكون اللغة العربية لغة المؤمنين في الدنيا، كما هي لغة أهل الجنة.

 

الغريب ما نشهده، هذه الأيام من عزوف العرب عن لغتهم بما فيها من غنىً لغوي وجزالة في التعبير وقدرة على التطور مع متطلبات العلم والعصر، إلى لغات أجنبية، لا تنافس بل حتى لا تقترب من قدرة وإمكانات اللغة العربية الاتصالية والعلمية والتصويرية، بل وحتى الإبداعية. شعوب كانت طوال تاريخها مهمشة ثقافياً وحضارياً، حتى كادت لغتها أن تندثر، وجدت في إحياء لغتها إحياءً لقوميتها ورمزاً لهويتها الوطنية.

 

اللغة العبرية، على سبيل المثال: منذ مئة عام كانت شبه منقرضة غير متداولة كتابةً بين اليهود، عدا الطقوس الدينية الضيقة بين الحاخامات والكهنة اليهود. إلى أن جاءت الفكرة الصهيونية لتربط بين حلم قيام دولة إسرائيل واستعادة تراث وأبجديات اللغة العبرية، حتى أصبحت اللغة العبرية اليوم، لغة العلم والفن والأدب في الكيان الصهيوني. وارتبطت اللغة العبرية بالهوية الوطنية للكيان الصهيوني في إسرائيل. يحدث هذا في مجتمع عدونا، في الوقت الذي تتسابق فيه الأقسام العلمية والنظرية في جامعاتنا العربية، بتحويل مناهجها من اللغة العربية إلى لغات أجنبية!

 

جدلية حاجة السوق

 

هناك وجهة نظر، قد تتمتع ظاهرياً بوجاهة منطقية وعملية، إلا أنها تنظر بصورة سطحية لقضية ذات أهمية استراتيجية لها علاقة مباشرة بالهوية الوطنية والتميز الثقافي والصلة التاريخية بالتراث القومي للشعوب العربية، بل وحتى بالخلفية العملية المنطقية، التي يجادل بها أنصار الدعوة لمواكبة التعليم بحاجات السوق ومتطلباته.

 

بدايةً، لسنا في حاجة لسرد تجارب الشعوب الأخرى المتقدمة، التي تصر على التمسك بتراثها اللغوي القومي، ومع ذلك تبرز في عالم المال والأعمال وتساهم، بصورة كبيرة في عالم التجارة العالمية، دون أن تغير في مناهجها التعليمية، بلغتها الوطنية، لغة أجنبية أخرى.. أو حتى تتهاون بالاهتمام بلغتها الوطنية في مجالات الأدب والفن والإبداعات النظرية الإنسانية. الصين وألمانيا واليابان وفرنسا وروسيا، وحتى الطليان والأتراك والإسرائيليين، لم يتحججوا بجدلية حاجة السوق، ليتحولوا بمناهجهم التعليمية عن لغتهم الوطنية، ويطلبوا العلم والتقدم وتسخير مؤسساتهم التعليمية للتركيز على ما يزعمون حاجة السوق.

 

قد لا يعرف الكثيرون أن الولايات المتحدة نفسها، ليس لها لغة رسمية، في احترام "سطحي" للطبيعة التعددية للشعب الأمريكي. إلا أنه، من الناحية الواقعية، النخبة الحاكمة في واشنطن ومؤسسات الدولة الرسمية، وحتى التعليمية، تنحاز للغة الإنجليزية، انعكاساً لتحيز الثقافة الأمريكية، بصفة عامة، لثقافة الأغلبية البيضاء البروتستانية ( WASP )، ولكن بعد "أمركتها" نطقاً وكتابة ونحواً وصرفاً، لجعلها لغة قومية لأمة جديدة تحكم العالم الجديد، وتهيمن على العالم.

 

لذا نرى الولايات المتحدة تدفع قسراً باللغة الإنجليزية (الأمريكية) في العالم، وبالذات في مجتمعات العالم الثالث بحجة حاجة السوق، لأسباب توسعية لها علاقة باستراتيجية الهيمنة الكونية التي تنافس من خلالها السيطرة على العالم مع قوىً دولية منافسة، في استعادة تاريخية لتراث استعماري، سبقتها إليه دولٌ استعمارية تقليدية، تتابعت على تقلد مكانة الهيمنة الكونية، في النظام الدولي الحديث، منذ نهاية القرن الخامس عشر، وإلى اليوم. رغم هذه المكانة الرفيعة للغة الانجليزية (الأمريكية)، التي تتجاوز الحدود الدستورية وطبيعة التعددية السكانية للولايات المتحدة، لم تغلق الولايات المتحدة مؤسساتها العلمية العريقة، في وجه العلوم النظرية الإنسانية، بحجة عدم احتياج السوق لها.

 

كرأسٍ نظرية علمية مرموقة، ما زالت تتصدر مجالات التعليم المختلفة في الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع مراكز علمية متقدمة تهتم بالعلوم الطبيعية وتطور التكنلوجيا وأبحاث الفضاء ومعادلات الرياضيات والاقتصاد والتجارة ومجالات المال والأعمال. بل أن هناك جهود علمية متقدمة، في الولايات المتحدة، لاقتراب الدراسات الإنسانية من مناهج البحوث العلمية الكمية سعياً لبناء نظريات علمية، في المجالات الأدبية والإنسانية، من أجل تطوير نظريات اجتماعية وإنسانية لها قوة تفسيرية متقدمة ومقدرة استشرافية دقيقة، لفهم السلوك الإنساني واستشراف حركته وتبصر دوافعه والتعمق في أغوار أسراره.

 

تراث الإنسانية الثقافي والحضاري واللغوي، مازال الاهتمام به كبيراً في الجامعات ومراكز الأبحاث في الولايات المتحدة وبقية دول العالم المتقدمة. فلسفة الإغريق وثقافات الشعوب وتطور الأديان وأصول اللغات وسِيّر العظماء في التاريخ وإبداعات الشعراء والخيال القصصي وروائع المسرح، جميعها مواضيع إنسانية، زاد التطور العلمي في مناهج العلوم النظرية من الإقبال عليها والاهتمام بها ورصد ميزانيات ضخمة لمواصلة التأكيد عليها، كتراث إنساني وإرث حضاري للإنسانية مازال لم يمط اللثام بعد عن أسراره وإبداعاته وسحره وأهميته في الإبقاء على روح الإنسانية نفسها، حتى لا يجرفها المد المادي ويعود الإنسان إلى جهله وبؤسه القديم ويفقد إنسانيته، التي هي عنوان تميزه ومقصد العناية الإلهية وراء تكريمه، دوناً عن مخلوقات الله الأخرى، التي سُخرت من أجله.     

 

ثم أي سوق هذا الذي يتحدثون عنه، ويزعمون أن اللغة العربية ليست قادرة على مجاراة إشباع الحاجة إليه. والأخطر، يطالبون بإعادة تأهيل الأقسام النظرية في الجامعات العربية، لتتواكب مع حاجة السوق، بما يعني عملياً إغلاق أقسام علمية إنسانية (نظرية)، بحجة عدم حاجة السوق إلى خريجيها، ولا إلى إنتاجها العلمي في التراكم المعرفي للعلم، بصورة عامة.

 

بالتحديد هم: يستهدفون، بهذا المنطق، علوم اللغة والدين والأدب والعلوم الإنسانية، بصورة عامة، حتى يتولد لدينا جيل، تتبعه أجيال، لا تعرف شيئًا عن ثقافتنا ولا تاريخنا ولا حتى علوم الدين، التي تتعرض هذه الأيام لحملة مسعورة، بدعوى تجديد الخطاب الديني، التي تبحث بعيداً للتشكيك في النصوص وهدم صرح متواتر من التراث الإنساني العلمي والثقافي، للأمتين العربية والإسلامية ، وصل إلينا عبر أجيال من العلماء، ما كان لنا أن نتعرف ونفتخر بإنجازات حضارتنا العربية والإسلامية، بدون اجتهادهم ومنهجهم العلمي المتقدم، الذي اعترف به الغرب وأجلّه، وخصص له أقساماً علميةً متقدمةً في جامعاته ومراكز أبحاثه، بوصفه تراث إنساني لا يستحق فقط الحفاظ عليه، بل الاستفادة منه كأحد حلقات سلسلة التراكم المعرفي للإنسانية، بأسرها.

 

في هذا الإطار، من محاولات التهميش لتراث الثقافة العربية، الذي يصل لدرجة قطع الصلة مع تراث الثقافة العربية والإسلامية التليد، تتزايد الدعوات المشبوهة، التي تنال من اللغة العربية، كتلك الدعوة لاستبدال اللغة العربية، باللغة العامية والتوجه نحو كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية!

 

الأسواق، التي يطالبون باستخدام التعليم لتلبية احتياجاتها متعددة، هي في كثيرٍ من الأحيان متضاربة، وجميعها مؤقتة بحكم تطور التكنولوجية والحاجة لاستبدالها المستمر، وحتى اندثارها. تُرى: ما هو السوق المستهدف من العملية التعليمية، هل هو سوق الإنتاج أم سوق الاستهلاك.. هل هو سوق الصناعات التحويلية أم سوق التكنلوجيا.. هل هو سوق التصدير أم سوق الاستيراد، هل هو سوق السلع أم سوق الخدمات. ما هو السوق المستهدف ؟ حتى تسخر له الطاقة البشرية، التي تضخها دور العلم من أجل إشباع الطلب عليه.

 

ثم إذا وجهنا الطاقة التعليمية للمجتمع لتلبية حاجة السوق، دون أن نعرف بالضبط ما هو هذا السوق بالتحديد، أليس من المحتمل أن يقود هذا التوجه إلى بطالة "سوقية"، مع الوقت قد يتجاوز عبؤها البطالة المقنعة، التي تعاني منها الكثير من مجتمعات دول العالم الثالث. ثم هل هناك من ضمانة أن يتعاون قطاع المال والأعمال، خاصةً في الدول ذات الاقتصاديات الناشئة، مثل مجتمعاتنا العربية، مع منتجات التعليم ومخرجاته، التي يُدفع بها لتبني فرضية مواكبة العملية التعليمية لحاجة السوق. تجربة هذه المجتمعات مع قطاع المال والأعمال بها، غير مشجعة، على الإطلاق. كم من خطط التنمية المتتالية اعتمدت على استيعاب القطاع الخاص للقوة البشرية المتوفرة، رغم تعليمها وتأهيلها، إلا إنها انتهت بفشلٍ ذريع، بل إنها لم تُعطى الفرصة أصلاً ليحكم على جدارتها من عدمه.

 

هناك خاصية، لآلية السوق، تصل لمستوى المسلمة، تقول بجبن رأس المال، بل وحتى جشعه أيضاً. رأس المال لا وطن له، ولا هوية وطنية، بالتبعية. ينتقل من مكان لمكان حول العالم طلباً للربح الساخن والسريع، والكثير منه أيضاً. خاصية لرأس المال يستلهم منها شرعيته، وحتى بقائه، ويجب ألا يستهان بها أو يُستخف بحقيقتها.

 

الأخطر: أن هناك بعد أخلاقي خطير في الدعوى لإخضاع العملية التعليمية لحاجة السوق، ينال من النظام القِيَمي للمجتمع ويفرغه من تراثه الثقافي وتاريخه ينتهي بتطور سلوكيات مادية مجردة من أي بعد روحي ومعنوي له صلة بتراث المجتمع الثقافي وإرثه الحضاري، بل وخلفيته الدينية والأخلاقية. إذا ما تمت عملية توجيه العملية التعليمية لتتلاقى حصرياً مع حاجة السوق، نكون قد حددنا التركيز على الحاجات المادية للفرد، دون الاهتمام بالجانب الروحي والأخلاقي لحياة الإنسان، حتى ليصبح المواطن مشغولاً، بل مسكوناً، بإشباع حاجاته المادية، لتزول الفوارق بينه وبين الحيوان، بل يتحول إلى ترس في آلة رأس المال، تتجاذبه قوى السوق هبوطاً وارتفاعاً على هوى اتجاهات الأسواق العالمية المتقلبة، بل والعاصفة.

 

تطور خطير، ذلك الذي يدعو لجدلية ربط التعليم بحاجة السوق، يفقد معه الفرد في خضم سعيه للحصول على لقمة العيش، التي بالكاد تسد رمقه، هويته الوطنية، بل وحتى آدميته. عندما يتحول الفرد إلى أداة إنتاج جامدة لإشباع حاجات السوق، يفقد ملكته الإبداعية وتتمكن منه أنانيته الغريزية، التي تكون قد جُردت من أي وازعٍ أخلاقي أو روحي، فيحل الصراع في داخل المجتمع، ويزول السلام المجتمعي، الذي برر قيام الدولة في الأساس، وكأن الإنسان عاد إلى الحياة الطبيعية الأولى، بل إلى ما هو أقسى منها.  

 

على الأقل في الحياة الطبيعية كان الإنسان يمارس حريته وعنده فكرة عن حقوقه الطبيعية بوصفه بشراً. حريات وحقوق لا يعرف عنها الفرد شيئاً، في مجتمع السوق المادي، المفرط في قساوته والمتطرف في وحشيته. في مجتمع تسود فيه قيم السوق لتلبية حاجته، يستتبع التجرد والبراءة من فطرة الإنسان السوية فيفقد حريته ويتنكر لحقوقه، ليصبح إمعةً فاقد الإرادة يتصرف ببلادة وبلا مبالاة وبلا إدراك تجاه ما يحدث في مجتمعه، حتى أنه يفقد ملكته الأصيلة في تبصر الخير من الشر والظلم من العدل والعيب من الحياء والحلال من الحرام والحرية من العبودية والرزق الحلال من السحت الحرام.

 

فقدان بوصلة التنمية

 

 

صحيح العملية التعليمية، في حاجة إلى تطور مستمر لمواكبة متطلبات التنمية، بما فيها حاجة السوق نفسه لقوىً عاملة عالية التدريب والكفاءة والتخصص. وقد يتطلب الأمر لتوجيه جزء من العملية التعليمية للمهن والخبرات التي تطلب مهارة متخصصة، بشرط ألا يتحول ذلك، مع الوقت، إلى بطالة مقنعة، تصل في وقت ما إلى حد الإشباع، بل وحتى أحياناً لحد الفيضان.

 

قد يحتاج المجتمع والسوق إلى الأطباء، لكن تلبية هذه الحاجة لا تكون التوسع في بناء كليات الطب، على حساب التخصصات الأخرى، ليأتي وقت نجد فيه سوق الخدمة الصحية يعاني من بطالة مقنعة أو حقيقية، مع تدهور حال الخدمة الصحية، في نفس الوقت. وكذا، بالنسبة للمهن الأخرى، مثل: المحاسبة والمحاماة والهندسة وقطاعات المال والأعمال المختلفة الخدمات السيبرانية المتخصصة، وما إلى ذلك من الخدمات المتخصصة التي تحتاجها المجتمعات الحديثة. رواج سلعة ما في فترة تاريخية معينة لا يعني تحول السوق إلى إنتاج هذه السلعة، بلا دراسات جدوى لحالة السوق نفسه، والتفريط في قاعدة اقتصادية واجتماعية استراتيجية محورية تدعو لمراعاة تنوع مصادر ومخرجات القاعدة الإنتاجية للمجتمع، توخياً لاستقرار مستدام في السوق، وكذا كفاءة وفاعلية لبرامج التنمية.

 

متطلبات التنمية المستدامة تقتضي توخي التوازن في العملية التعليمية، مواكبة لتطور عملية التنمية، والبعد عن التحيز المنهجي والعقائدي، لأي مسار تعليمي، على حساب مسار تعليمي آخر .. ويكون التركيز دائمًا على نوعية المنتج التعليمي، التخصصية والأخلاقية، لا على التباهي بتخريج جحافل من المتعلمين لتزيين "غرافات" إحصائية، لا تعبر إلا عن هدر، قد يكون متعمداً، لموارد ثمينة.  

 

تجهيل التعليم

 

أخطر ما يمكن أن تتجه إليه أي عملية تعليمية، البعد عن هدفها الأساس وتكريس آفة الجهل في المجتمع. هدف التعليم ليس تعليم الناس القراءة والكتابة، بحجة محو أمية المجتمع، بل جعلهم يفهمون ويستوعبون ما يقرؤون ويعبرون بحرية وأريحية وإبداع عما يكتبون أو يقولون.

 

استراتيجية التعليم المتقدمة تهدف إلى محو أمية المجتمع الفكرية والقِيَمية والعملية، لننتهي إلى مخرجات تعليمية تتمثل في مواطن منتج يساهم في زيادة ثروة مجتمعه، مسلح بثقافة إنتاجية تترسخ بها عقيدة الإنتاج الإيجابية ليكون الإنتاج ليس من أجل الاستهلاك فقط، بل أكثر: المساهمة الإيجابية في زيادة ثروة المجتمع، لخلق فائض مادي وروحي ومعنوي يزيد من متانة استقرار المجتمع والرفع من شعور الفخار بتميز ثقافة وقيم مجتمعه ومعرفته بتاريخ أمته والنظر باحترام وتقدير في كل من ساهم قبله في الصرح الذي يساهم هو في بنائه وتشييده اليوم، ليواصل إنجاز من سبقوه ويسلم الراية خفاقة لمن يأتي من بعده من أجيال، لتتواصل مسيرة الوطن وإنجازات الأمة، من جيل لجيل.

 

الحماس المتزايد لربط العملية التعليمية باحتياجات السوق، دون إعطاء بقية مخرجات العملية التعليمية نفس الأهمية الاستراتيجية التي تستحقها، تنتج لنا في النهاية مجتمع مسخ يتكون من أفراد جهلة (أميون) فاقدي الصلة بثقافة مجتمعهم يلحِنون في لغتهم كما يلحدون في دينهم منقطعي الصلة بتاريخ أمتهم وقيم ثقافتهم عديمي الإحساس بهويتهم الوطنية.

 

التركيز المتحيز لفكرة ضرورة ربط العملية بحاجة السوق، يمكن الجدل بوصفها بأنها دعوة حق أُريد بها باطل، وقد يكون عمداً. عندما تسود ثقافة ربط مخرجات التعليم حصرياً بحاجة السوق تتطور سلوكيات سلبية في المجتمع، لها أضرار بعيدة المدى وخطيرة على أمن المجتمع واستقرار الدولة. عندها يفقد المواطنون ملَكة الاتصال ببعضهم البعض، ليصبحوا أنانيون لا يفكرون إلا في مصلحتهم ولا يعيرون اهتماماً بمصلحة مجتمعهم وتنخفض مستويات طموحاتهم لتوفير لقمة العيش ولن يكون لديهم وقت لاكتشاف مواهبهم وتطور ابداعاتهم. ومعها تنخفض مساهمتهم الحقيقية في تراكم ثروة مجتمعهم وتحقيق معدلات تنموية حقيقية لبرامج التنمية.

 

أخطر ما يمكن أن تواجهه استراتيجية التعليم في أي مجتمع المساهمة في تجهيل المجتمع وتكريس أميته العلمية والأخلاقية، برفع شعارات مثل: ربط العملية التعليمية بحاجة السوق، مع إهمال الجانب المعرفي والأخلاقي والإنساني والتربوي للعملية التعليمية.

مقالات لنفس الكاتب