شهد مطلع العام الجاري تطورات دولية متسارعة، لعل من أبرزها وأهمها الأزمة الأوكرانية التي تفاقمت مع بدء العملية العسكرية الروسية فجر يوم 24 فبراير، فعلى مدى ما يقرب من العقدين، منذ الثورة البرتقالية 2004م، أصبحت أوكرانيا في قلب رقعة الشطرنج بين واشنطن وموسكو. من ناحية تحاول الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي دمج أوكرانيا في المنظومة الأمنية الغربية وضمها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتحقق بذلك إنجاز استراتيجي غير مسبوق وتجعل صواريخها قادرة على ضرب موسكو في غضون خمس دقائق دون أن تمتلك الأخيرة سرعة الرد. هذا في حين لا تتصور روسيا أن يقف الحلف على أبوابها المباشرة، أو "على عتبة بيتنا" على حد تعبير الرئيس بوتين، وأن تصبح كييف التي كانت يوماً عاصمة روسيا القديمة وجزء عضوي في امبراطوريتها القيصرية ثم السوفيتية خصماً لها.
ورغم أن واشنطن فازت في جولة الثورة البرتقالية، فإن موسكو فازت بالجولة التالية في الانتخابات الرئاسية لعام 2010م، بفوز فيكتور يانكوفيتش المقرب من موسكو بالرئاسة، وجاءت الجولة الثالثة وإطاحة المعارضة المدعومة من الغرب بالرئيس يانكوفيتش عام 2014م، لتكون طاحنة وتلقي بظلالها على العلاقات الروسية الغربية حتى اللحظة، فقد ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وأعلنت جمهوريتا دونيتسك ولوجانسك (منطقة دونباس شرق أوكرانيا) حيث أغلبية السكان من الروس استقلالهما، واندلعت المعارك بين قوات الدفاع الذاتي في الجمهوريتين وقوات الحكومة المركزية في كييف، وعاد شبح الحرب الباردة في ظل التوتر بين موسكو وواشنطن خاصة في ضوء العقوبات الواسعة التي فرضتها الأخيرة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا على روسيا وإقصائها من مجموعة الثمانية وتجميد مجلس روسيا الناتو وغيرها. وقد مثلت العملية العسكرية الروسية منعطفاً هاماً للأزمة الأوكرانية القائمة بين روسيا والغرب على مدار ثماني سنوات حيث كان التوجه العام الحاكم هو التمسك بالحل السلمي والمفاوضات عبر "رباعية النورماندي"، التي تضم رؤساء كل من روسيا وأوكرانيا وفرنسا والمستشارة الألمانية، و"اتفاق مينسك 2015" الذي تم التوصل إليه في إطارها.
ومن الواضح أن واشنطن هي من تمسك بإيقاع الأزمة حيث شهدت هدوءًا وانفراجاً ملحوظاً خلال فترة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومع وصول إدارة بايدن للبيت الأبيض بدأ التوتر يسود المشهد الأوكراني، ليس فقط للاعتبارات الاستراتيجية السابق الإشارة إليها، وإنما لعوامل موضوعية تتعلق بإدارة بايدن التي تسعى لإثبات جدارتها ومغازلة الداخل الأمريكي في وقت تواجه الإدارة انتقادات حادة بسبب استمرار تردى الأوضاع الاقتصادية والعجز عن السيطرة على فيروس "كوفيد -19" وتداعياته، إلى جانب استمرار الانقسام السياسي والمجتمعي الذى بلغ تصعيد غير مسبوق مع اقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير من العام الماضي. في هذا السياق، فإن تصعيد المواجهة مع روسيا له أهميته خاصة قُبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي المقررة هذا العام والتي يسعى الديمقراطيون لاستمرار تقدمهم بها.
من ناحية أخرى، تعمل إدارة بايدن على تأكيد وحدة الغرب بعد ما أحدثه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ثم صفقة "أوكوس" من شروخ بين واشنطن وحلفائها الأوربيين، وشكوك حول التزام واشنطن بالأمن الأوروبي الذي لخصة بايدن في شعار "America Back". ويعتبر تأجيج المخاوف الأوروبية من موسكو عامل أساسي لتحقيق الاصطفاف الغربي، كما يدعم هذا جهود واشنطن لتقليص النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبي وإتاحة مساحة أكبر لصادرات الغاز المسال الأمريكي لأهم وأقرب الأسواق إليها لاسيما بعد أن أصبحت الولايات المتحدة رابع أكبر مصدر للنفط والغاز في العالم عام 2020م.
يأتي هذا في وقت تشهد روسيا تطوراً مذهلاً في قدراتها العسكرية، واستقرار اقتصادي نسبي رغم ما يواجهه الاقتصاد الروسي من صعوبات، وشراكة قوية مع العملاق الصيني والعديد من الدول في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. إن روسيا الحالية ليست روسيا ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وما قبلته في التسعينات وأوائل الألفية لا تقبله اليوم.
ورغم تعدد القنوات الدبلوماسية لوقف التصعيد بدءاً من قمة الرئيسان بايدن وبوتين عبر الفيديوكونفرس، والتي يمكن اعتبارها "قمة أوكرانيا"، في 7 ديسمبر واستمرت ساعتين لبحث سبل الخروج الآمن من المواجهة، ثم المحادثات الهاتفية بينهما في 30 ديسمبر والتي استمرت خمسون دقيقة، وما أعقب ذلك من ثلاث جولات من المفاوضات المباشرة بين روسيا والغرب حول الضمانات الأمنية التي تقدمت بها موسكو، في جنيف مع واشنطن واستمرت سبع ساعات ونصف يوم 10 يناير، ومشاورات مجلس روسيا - الناتو في 12 يناير في بروكسل والتي كانت الأولى منذ عامين ونصف، ثم اجتماع لممثلي موسكو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في 13 يناير في فيينا، إلا إنها جميعاً لم تنجح في بلورة تفاهمات بين الطرفين. فقد أصرت روسيا على إغلاق الباب رسميا أمام كلاً من أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الناتو ووقف تمدده باتجاهها في حين رفض الحلف ذلك جملة وتفصيلاً وأعاد التأكيد على سياسة الباب المفتوح التي يتبعها، وحق كل دولة في اختيار الترتيبات الأمنية الخاصة بها.
وقد كان إعلان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في مؤتمر ميونيخ للأمن حول إمكانية استعادة الوضع النووي لأوكرانيا وتطويرها للسلاح النووي، الشرارة التي أشعلت الحرب حيث لم يكن من الممكن أن تقبل روسيا قوة نووية على حدودها. وكانت أوكرانيا واحدة من أربع جمهوريات سوفيتية بها أسلحة نووية، وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي تم نقل كل الأسلحة النووية من الجمهوريات الثلاث إلى روسيا.
في هذا السياق، تهدف موسكو عبر عمليتها العسكرية إلى تحقيق خمسة أهداف رئيسية، هي: تدمير البنية العسكرية الأوكرانية وتحييدها والتي تعتبرها روسيا بنية هجومية تم تطويرها من جانب الغرب خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا لتهديد موسكو، والسيطرة على البنية النووية الأوكرانية، ودعم جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك في مواجهة كييف وتوفير مظلة لتقدم قوات الجمهوريتين لاستعادة ما تعتبره أراضي تابعة لها إدارياً، هذا إلى جانب استعادة إمدادات المياه لشبه جزيرة القرم من نهر دنيبر عبر قناة شمال القرم التي كانت تؤمن 85٪ من احتياجات شبه الجزيرة من المياه العذبة وقامت السلطات الأوكرانية بقطعها عبر سد أقامته منذ 8 سنوات، وتأكيد حياد أوكرانيا والتزام النظام الأوكراني بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو السماح بمد بنيته العسكرية باتجاه موسكو، والعودة إلى ما كانت عليه كييف في الفترة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م، وحتى نهاية فترة الرئيس الأوكراني ليونيد كوشما عام 2004م، من حيث التوازن في العلاقة بين روسيا والغرب، ومراعاة المصالح الروسية وضرورات الأمن القومي الروسي بما في ذلك حقوق الروس في أوكرانيا. وقد حققت روسيا معظم الأهداف السابقة، وتستمر العملية العسكرية الروسية رغم العقوبات الموجعة التي فرضتها الولايات المتحدة وشركاؤها، كما تستمر المفاوضات الروسية الأوكرانية في محاولة لبلورة تفاهمات تساعد على إنهاء الحرب.
وتعتبر الأزمة كاشفة للتحولات التي تكتنف النظام الدولي، وتوازنات القوى به، والتحالفات التي يتم تشكيلها. وتتيح هذه التغيرات الدولية الهيكلية فرصاً وتفرض تحديات على دول الخليج لاسيما المملكة العربية السعودية.
ولعل من أبرز الفرص المتاحة هي تلك المتعلقة بارتفاع أسعار النفط على خلفية الحرب في أوكرانيا، فقد أدت الأزمة والعقوبات التي فُرضت على روسيا إلى ارتفاع غير مسبوق في الأسعار لتصل إلى حوالى 140 دولار للبرميل، ورغم التراجع النسبي إلى حوالى 112 دولار للبرميل إلا إنها تظل زيادة كبيرة، وهناك توقعات بإمكانية عودة الزيادة لتصل إلى 200 – 300 دولار للبرميل، وسيكون لهذا تأثير إيجابي على الاقتصاد السعودي والخليجي وتعافيها من ظلال أزمة "كوفيد-19" وما خلفته من أضرار على أسعار النفط والاقتصاد عامة، إذ يمثل النفط المصدر الأساسي للدخل. وقد سجّل سهم شركة أرامكو السعودية ارتفاعاً قياسياً، واحتلت الشركة المركز الثاني بعد شركة آبل العالمية من حيث القيمة السوقية، مستفيدة من بلوغ أسعار النفط العالمية أعلى مستوياتها منذ عام 2008م.
وتعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة والسعودية، وثاني أكبر مصدر له بعد المملكة حيث تنتج روسيا 10.5 مليون برميل نفط يومياً، تصدر منها ما بين خمسة إلى ستة ملايين برميل، نصفها إلى أوروبا. ومع إعلان الولايات المتحدة حظر واردات النفط الروسي في 8 مارس، وتعهد المملكة المتحدة بفعل الشيء نفسه بحلول نهاية عام 2022م، ووضع أوروبا خطة للتخلي عن مصادر الطاقة الروسية، حلّقت أسعار النفط عاليًا.
على صعيد آخر، تتيح الأزمة فرصة لإعادة الدفء للعلاقات الأمريكية ــ السعودية، فمنذ وصول إدارة بايدن ساد الفتور العلاقات بين الرياض وواشنطن خاصة مع اتجاه الأخيرة للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني والانفتاح على الحوثيين دون مراعاة للمصالح السعودية والاعتبارات المتعلقة بأمنها القومي. وقام مسؤولو الطاقة والأمن القومي في إدارة بايدن بجهد دبلوماسي مكثف، لزيادة إنتاج النفط العالمي للحد من ارتفاع الأسعار جراء الأزمة الأوكرانية وكان الهدفان الرئيسيان لهم هما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وتقود الرياض منظمة أوبك، الكتلة القوية المكونة من 13 دولة التي تسيطر مجتمعة على 40٪ من إنتاج النفط العالمي، ومن ثم فإن أسرع طريقة للحصول على أكبر قدر من النفط في السوق هي من خلال زيادة إنتاج المملكة العربية السعودية، ولكي يحدث ذلك، يدرك المسؤولون الأمريكيون أنه يتعين عليهم معالجة العلاقة المتوترة بين البلدين. وقد أشار سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة إلى إمكانية دعم زيادة الإنتاج مما دفع أسواق النفط للتراجع النسبي إلا أنه سيتعين على الإمارات الالتزام بقواعد أوبك، وستظل الرياض هي الفاعل الأساسي في هذا الخصوص. ويفسر هذا المكالمة الهاتفية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع سمو الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية، والشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي، والإشارة إلى أن روسيا لن تؤيد زيادة الإنتاج، والتي ستأتي إلى حد كبير على حسابها، وضرورة التمسك بالاتفاقات التي تمت في إطار "أوبك+".
إلا إن الصورة ليست وردية بالكامل، فالأزمة تنطوي على تحديات عدة للعالم بأسره ومنه دول الخليج، لعل أهمها ما يتعلق باحتمالية الدخول في ركود عالمي كان قد بدأ على خلفية أزمة كورونا، وجاءت الأزمة الأوكرانية والعقوبات على روسيا وتداعياتها ليعيد الحديث عن مرحلة صعبة من الركود الاقتصادي العالمي. فعلى خلفية الأزمة الأوكرانية فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومعهم كندا واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، مجموعة من العقوبات على روسيا، لم يسبق لها مثيل حتى في زمن الحرب الباردة، بهدف الضغط على موسكو لوقف عمليتها العسكرية في أوكرانيا. وقد تضمنت العقوبات حزمتين، اقتصادية وثقافية، في استهداف واضح ليس فقط للاقتصاد الروسي، ولكن الروح المعنوية العامة في الداخل الروسي، ورغم أهمية الأخيرة حيث شملت الرياضيين الروس ورموز الأدب والفن الروسي، ووقف بث القنوات التليفزيونية والمنصات الإخبارية الروسية، إلا أن العقوبات الاقتصادية تظل هي الأكثر إيلاماً.
ولعل أكثرها تأثيرًا تجميد ألمانيا منح تصاريح لخط "نورد ستريم2" الروسي لتصدير الغاز إلى أوروبا، وإقصاء روسيا عن نظام سويفت الذي يسمح بتحويل الأموال بين الدول المختلفة، وتجميد أصول مملوكة للبنك المركزي الروسي وبنوك روسية للحد من إمكانية وصول روسيا لمواردها المالية بالخارج، ومنع الشركات والحكومة الروسية من الحصول على أموال من الأسواق الأمريكية والأوروبية، وتتبع الأصول الروسية والعمل على تجميدها، سواء كانت مملوكة لأشخاص أو شركات. وتعليق تراخيص التصدير للسلع التي يمكن استخدامها في أغراض مدنية وعسكرية، ووقف تصدير السلع ذات التقنية العالية، ومعدات تكرير النفط لروسيا. وهي بذلك تستهدف 70% من البنوك الروسية أي حوالي 600 بنك، و70% من الأسواق المالية الروسية والشركات الكبرى المملوكة للدولة بما فيها الشركات المملوكة لوزارة الدفاع، إلى جانب قطاع الطاقة الروسي الذي يعد العمود الفقري للاقتصاد الروسي، كما إنها المرة الأولى التي يتم فيها فرض عقوبات على البنك المركزي لإحدى دول مجموعة العشرين الكبرى. يضاف إلى هذا، إغلاق 36 دولة أوروبية والولايات المتحدة وكندا مجالها الجوي أمام روسيا، وفرض عقوبات على مسؤولين وشخصيات روسية بارزة، منهم الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف، والمتحدث باسم الكرملين ديمتيري بيسكوف، وعدد من رجال الأعمال الروس، وأكثر من 300 من البرلمانيين الروس.
والعقوبات على هذا النحو تهدف إلى إحداث ركود اقتصادي، وفوضى في القطاع البنكي الروسي، وإثارة حالة من عدم الرضا وعدم الاستقرار في روسيا. في ضوء ذلك، من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 2.6٪ عن التوقعات السابقة بحلول نهاية عام 2023م، وهناك حالة من الارتباك في التعاملات مع روسيا، كما انخفضت قيمة العملة الروسية (الروبل) مقابل الدولار بنسبة 41.50% ليصل إلى 112 HYPERLINK "https://www.skynewsarabia.com/keyword-search?keyword=%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%84&contentId=1504961"روبل لكل دولار، وارتفعت معدلات التضخم إلى 20٪.
وتعمل روسيا جاهدة للتصدي لهذه العقوبات وتعزيز ما وُصف بأنه "دفاعات موسكو الاقتصادية"، وذلك منذ فرض عقوبات غربية ودولية عليها بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014م. وتضمن هذا استمرار روسيا في تعزيز احتياطياتها من النقد الأجنبي للتخفيف من حدة العقوبات وتوفير السيولة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة المتوقعة، وامتصاص الصدمة الأولى للعقوبات. وقد بلغ احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي الروسي 643.2 مليار دولار في 18 فبراير من العام الجاري، وهو بذلك رابع أكبر احتياطي نقدي في العالم. كذلك اتخذت روسيا خطوات لتخفيف تداعيات استبعادها من نظام السويفت، إذ أنشأت موسكو نظام الدفع الخاص بها "إس بي إف إس" (SPFS)، ويشمل 400 مستخدم، وفقاً للبنك المركزي الروسي، ويتم من خلاله 20% من التحويلات المحلية. وأعلن حاكم بنك روسيا المركزي عن أن هذا النظام يمكن لجميع المتعاملين في الداخل والخارج استعماله، وهو مرتبط بنظام البنوك في الصين. كما يمكن لروسيا إجراء التحويلات المالية باستخدام أنظمة أخرى، ومنها على سبيل المثال، نظام "كروس بوردر" الصيني للتحويلات المالية.
وتأمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن تؤدى العقوبات إلى انهيار الاقتصاد الروسي، إلا إن الاقتصاد الأوروبي والعالمي سيتضرر أيضاً. ففي تحليل أجرته وحدة المعلومات الاقتصادية ((EIU، البريطانية المستقلة، فإنه من المتوقع أن يتعرض نمو الاقتصاد العالمي لضربة كبيرة جراء الوضع المرتبط بأوكرانيا ولخسائر بما لا يقل عن 400 مليار دولار. كذلك، حذر تقرير للمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، من أن الاقتصاد العالمي قد يخسر ما يصل إلى تريليون دولار هذا العام جراء الصراع في أوكرانيا، وحذر التقرير من ارتفاع معدلات التضخم بنسبة 3% في العام الحالي نتيجة الأزمة في سلاسل التوريد التي تتعرض لمزيد من التصدع، وقد يصل متوسط معدل التضخم في المملكة المتحدة 7٪ هذا العام. وحث المعهد البنوك المركزية على زيادة أسعار الفائدة "ببطء فقط أثناء تقييمها لتأثير المواجهة على الدخل الحقيقي".
وسيكون لذلك ارتدادات على دول الخليج خاصة فيما يتعلق بارتفاع أسعار المواد الخام والغذائية. وعلى سبيل المثال، تجاوز سعر الألومنيوم أثناء التداول في بورصة لندن للمعادن رقم قياسي تاريخي حيث ارتفع إلى 3850 دولارًا للطن. كما أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لأن كل من روسيا وأوكرانيا من كبار منتجي المواد الغذائية، وينتجان معاً 14% من القمح العالمي وتمثلان مصدر 29% من صادراته العالمية، وتعتبر روسيا أكبر مصدر له عالمياً، كما إن كلا البلدين من المنتجين الكبار لزيت الذرة وزيت عباد الشمس، وتُعد روسيا أكبر مصدر للأسمدة التي تُستخدم في الزراعة، وستؤثر الحرب والعقوبات على أسعار هذه المواد وزيادة التضخم، إذ يحصل نصف سكان العالم على الغذاء نتيجة الأسمدة، وإذا لم يتم تسميد بعض المزروعات، فإن المحصول سينخفض بنسبة 50%.
ولا تعد دول مجلس التعاون الخليجي استثناءً من هذا حيث أنها تعتمد في موادها الغذائية على الاستيراد بشكل شبه كامل. وبالتالي فإن زيادة أسعار النفط ستحمّل هذه الدول مزيدًا من الإنفاق لأن تكاليف الإنتاج الصناعي والزراعي سترتفع عالميًا. وقد يخفّف من تداعيات هذه الأزمة على الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي، إن الدول الخليجية تستورد موادها الغذائية من شتى دول العالم وليس فقط من أوكرانيا وروسيا وبالتالي ليست لديها مشكلة في تأمين احتياجاتها الغذائية، حتى لو ارتفعت أسعار هذه المواد.
من ناحية أخرى، للعقوبات على روسيا وتراجع قيمة عملتها والقيود المفروضة على البطاقات الائتمانية للروس آثار على قدرة الرياض على جذب السياحة الروسية، وما تتطلع إليه في ضوء انفتاح المملكة أمام النشاط السياحي، في إطار رؤية 2030، وتخفيف إجراءات الحصول على تأشيرات الزيارة لمواطني عشرات البلدان، بينها روسيا، والتي أطلقت آفاق واسعة في هذا الخصوص خاصة مع التوجه لتعزيز التعاون بين موسكو والرياض في مجالات مختلفة، إلى جانب جاذبية المملكة لمسلمي روسيا.
على صعيد آخر، ومن بين التحديات المحتملة تلك المتعلقة بتطبيع وضع إيران الدولي حيث تقدم حاجة الولايات المتحدة إلى ضخ مزيد من النفط في السوق قوة تفاوضية أكبر لطهران، وتدفع للعمل على التفاصيل النهائية للاتفاق النووي الإيراني مما يعزز من احتمال التوصل إلى اتفاق وشيك مع إيران. إلا إنه من ناحية أخرى، قد يؤدى انشغال القوى الكبرى بالأزمة الأوكرانية إلى تأجيل مفاوضات فيينا، وربما عرقلة التعاون النووي الروسي الإيراني في ضوء العقوبات على روسيا.
إن التطورات الجارية في أوكرانيا لها تداعيات عدة على بنية النظام الدولي وهيكله الاستراتيجي والاقتصادي، بعضها تأكد والبعض الآخر مازال في طور التبلور، وسيختلف عالم ما بعد الأزمة حتماً عما قبله وسيكون أكثر تعددية سياسياً واقتصادياً، وبقدر ما تكون قراءة دول الخليج للمشهد الدولي مبكرة بقدر ما سيعظم هذا من فرصها ويقلل من المخاطر والتداعيات السلبية عليها.